ديوان العقاد
فى حومة السياسة الآن ركدة قصيرة الأجل، يرصد فى خلالها كل فريق أهبته، ويحشد لما بعدها قوته، وغدًا سنشبع من الطبل والصيال، ومن أبواق الدعوة إلى أقدس النضال. فما علينا لو اهتبلنا هذه الفرصة وأركضنا الفكر فى حلبة الأدب؟ فى ميدان خالص لوجه الإنسانية قاطبة، لا تعتلج فيه إلا القوى النزاعة إلى الكمال، ولا تشرئب فيه العيون إلا إلى مثل الجمال والجلال؟! نعم ماذا علينا وأى بأس من ذلك؟ أليست حياة الأدب خاصة، والفنون عامة، هى طليعة كل نهضة سياسية واجتماعية؟ أين فى التاريخ أمة وثبت إلى الحياة القوية دون أن يهيئ لها الأدب أسبابها؟ أليس الواضح الذى لا يحتاج إلى إبانة أو تدليل أنه لا بد من أن يفطن المرء إلى وجوده، ويعرف نفسه، ويدرك صلتها بما حولها، ويطلع على جوانب حياته، قبل أن يسع مجموع الأمة أن يقدر وجوده وحقوقه بين أمثاله وأنداده؟ لا ريب فى أن هذا كذلك!
وإنها لمن أعجب القسم أن يضطر أحدنا إلى الدفاع عن نفسه وتسويغ عمله فى مستهل كلام له يهم به على الأدب حتى فى وقدة المعمعة السياسية!! وكان حسب كل منا أن يسأل نفسه: بأى حيلة شاعت مثل الحياة العليا بين الجماهير الساذجة؟ وكيف شغلت من النفوس كل خلية؟ وما الذى أعد القلوب لاستيلاء الاَمال القومية على هواها؟ ولعمرى إن هذا لبعض ما يؤديه الأدب لأنه عالمى فى اثاره كما هو إنسانى فى بواعثه الأولى. ومن يا ترى ينكر علينا قولتنا هذه ممن يعلمون أن مرد انتفاء الأمية بانتشار القراءة والكتابة يكفل للشعوب الأخذ بأسباب النهوض؟
وكأنى بالقارئ قد طالت به الفاتحة وشقى صبره فأحب أن يخلص منها إلى الخاتمة، والعبرة بها! أليس كذلك؟ فهو يقول «وماذا بعد؟»
بعدُ أن أخانا العقاد أصدر الجزء الثالث من ديوان شعره فى نيف ومائة صفحة بالحرف الدقيق. وليس هذا كل ما قاله مذ ظهر جزؤه الثانى ولكنه طائفة كبيرة منه لا يسعنا أن نتناولها كلها قصيدة قصيدة ولكنا مجتزئون بواحدة منها لغاية سنجلوها للقارئ.
لأول مرة فى تاريخ الأدب المصرى — والعربى أيضًا — يرى القارئ عملًا فنيّا تامّا قائمًا على فكرة معينة تدور على محورها القصيدة وتجول. ولعل هذا من أظهر مميزات الأدب الحديث وأكبرها. فقد كان الرجل يقول القصيدة مسوقًا إلى قرضها بباعث مستقل عن النفس، ولكنك هنا ترى بناءً مشيدًا نبتت فكرته لسبب مفهوم وعلة طبيعية مشروحة وأعمل الشاعر ذهنه فى جملتها وتفاصيلها ثم أفرغها فى قالب تخيره لها بعد الروية، وعرضها فى أسلوب فنى موسيقى أبدعه لها.
فأما موضوع القصيدة — كما هو ظاهر من عنوان هذا المقال — فترجمة شيطان:
فهوى الشيطان إلى الأرض ليضل فيها من يشاء فحار بادئى الرأى أين يمضى:
فهبط أول ما هبط فى أرض الزنوج حيث:
فاحتقرهم الشيطان اللعين المزهو، وسخر من قسمته «ومشى ينغم فى غير طرب» إلى أن استقر به المقام «حول بحر الروم أو بحر العجم»:
وتمادى اللعين فى شره «كلما أنبت زرعًا ينعا».. غير أنه استهدف للتلف لمداخلته الناس من جهات الضعف فى نفوسهم، ثم أنف من فتنته أممًا هو يأنف من إهلاكها:
فكفر الشيطان بالشر الذى تبذره كفاه، وذلك كفر شر من الكفر بالخير «لأنه يرى الخير أهون من أن يستحق العناية بإزالته ورصد المكائد له، فالراشد والغاوى عنده سيان». وعد الله منه ذلك ندمًا وأدخله جنته:
فنزل الشيطان من الجنة «منزلًا يرضى به الفن الجميل»:
على أن الشاعر مع ذلك لا يسعه إلا أن يطيع قوة خياله وإلا أن ينزل على حكم الشاعرية الضخمة، فألم بصورة خلابة من إبداعه فى عشر مقطوعات. غير أن الشيطان لم تخلد نفسه الخبيثة إلى الخلد، فكان «يزداد على التسبيح قبضًا». ونظرت الملائكة إلى وجهه فرأت شيئًا عجبًا لم تألفه، وكان راكبًا فى رفقة منها فوق السلسبيل «مركبًا يزجيه سلسال النغم». فلما تمادى الأمر سئموا وناموا نوم الأطفال غلب عليهم الملال، وتساءلوا لدهشتهم وطهارة قلوبهم: «هل الويل الذى يصيب أهل وادى جهنم هو هذه الفترة التى تجلب النعاس للعيون»؟
وسأل الملائكة: كيف تروننا ها هنا؟ فقال أحدهم: إننا للفائزون:
فذعروا «كالجيش فى هول الفرار» وساءهم ألّا يحسدهم فى الجنة وأن ينكر عليهم السعادة ويسلبهم إياها بإنكارها، وينغص عليهم مقامهم فى الفردوس، ويعلمهم ما لم يعلموه من الغضب. ولطف الله فلم يرجموه بالنجوم. ثم أوحى الله الوحى فى جنته:
وانجلى الموقف «عن جلال الله فردًا فى علاه»:
وحاقت اللعنة بالجانى الذى لا يندم، وجهر اللعين بعصيانه، وأخذ يبرره بكبرياء لا تسمح له أن يطلب العفو أو يصغى حتى للوم، «وجعل يستصغر الفردوس لأن له رجاء فوقها ولذلك لا يسميه فردوسًا ولا يعد الرضا به نهاية السعادة، كما أن الضب يرضى بجحره وليس جحره بأقصى ما ترتقى إليه الآمال.. وجعل يتسخط قيمته ويقول: كيف يرضى بهذه القسمة الخالدون؟ أيعافون ذلك الشأو الذى فوقهم وهو لا يعاف؟ أو يجهلونه والجهل نقص فى مرتبة الخلود؟ أو يطلبونه فلا ينالونه فيكونون من المحرومين؟». فرأى الله من الرحمة بالخلق أن يخمد جذوته:
فمسخه صخرًا! ولكن هل يزول الطبع؟ إنه لا يزال يستهوى العقول فى الدمى والتماثيل. ولم يأسف عليه إبليس، بل عجب كيف طاش لسانه وأخذته الغيرة على الصراحة وشك فى أنه شيطان صميم:
وليس ما أوردناه من خلاصتها إلا هيكلًا عارًيا لهذه القصيدة التى تقع فى أكثر من ثلاثمائة بيت على هذا النسق البديع الرائع، وقد كان الباعث على وضعها ما انتاب الشاعر فى أواخر الحرب وفى إبان الحوادث المصرية الأولى من الشك والغيظ اللذين رجّا عنده «كل قواعد الرأى وشوّها كل حالات الوجود الإنسانى فوقر عنده أن الحياة، كما قال سليمان الحكيم بعد تجربتها «قبض الريح، وباطل الأباطيل»، ولكن هذه الغيمة انجلت فعاد إلى رأيه الأول «فى الحق والعدل معتقدًا أن الحق كائن فى صميم الأشياء وأن الوجود والباطل نقيضان لا يتفقان إلا كما يتفق الوجود والعدم».
أما نحن فإنا نحمد غيمة هذا الشك التى دفعته إلى صوغ هذه الاَية الفريدة فى لغة العرب والتى يحق لنا أن نباهى بها براعات الغرب. وإن فى ظهورها لدليلًا على انتهاء دور التمهيد الذى اضطرنا إليه ركودُ اللغة قرونًا عدة، وإننا الآن فى دور البناء الفنى. وإذا كانت اللغة قد اتسعت للشعر القصصى على هذا النسق فهى لن تضيق عن غيره من فنون الشعر بحمد الله ثم بفضل العقاد.