التصوف فى الأدب
نريد «بالتصوف» ما يطلقون عليه فى بلاد الغرب كلمة «مستيسزم»، وهى كلمة من أشق الأمور أن يعالج المرء تعريفها على وجه الدقة، إذ كانت تدل على حالة من حالات الفكر، أو الإحساس، تبدو مقرونة بمحاولة العقل الإنسانى أن يتغلغل إلى حقائق الأشياء وأن يستجلى صفاتها الربانية، أو الاستمتاع بنعمة الوصول إلى الذات العلية والاتصال بها والتسرب فيها، ومن هنا ظهر التصوف فى الفلسفة والأدب، وفى الدين كذلك.
«كل من حاول فى ليلة مظلمة أن يستجلى ظاهرة بعيدة يستطيع أن يحضر لنفسه الصورة التى يرسمها عالم الفكر لذهن الرجل الضعيف. انظر ثم! كتلة مظلمة! أى شىء هى؟ شجرة؟ كوم من الدريس؟ لص؟ حيوان مفترس؟ أينبغى أن أفر؟ أم يجب أن أحمل عليه؟ ويعود العجز عن استبانة الشىء — الذى يحرزه ولا يراه — مدعاة لإشاعة الخوف والقلق فى نفسه. وهذه هى الحالة التى يكون عليها عقل الرجل الضعيف تلقاء ما يأخذه وعيه، فيروح يعتقد أنه يرى مائة شىء فى وقت معًا، ويصل ما بين الصور التى يخيل له أنه يتبينها وبين الخاطر الذى كان مثارها.. على أنه يحس مع ذلك أن هذه العلاقة لا مفهومة ولا معللة، ولكنه مع هذا يؤلف من أشتاتت ما فى ذهنه، فكرة تناقض كل تجربة ولكنه مضطر إلى أن ينزلها من الصواب منزلة غيرها من آرائه وخواطره إذ كانت كلها قد نشأت على هذا النحو. وهذه الحالة الذهنية التى يحاول المرء معها أن يرى، ويحسب أنه يرى وهو لا يرى، ويضطر إلى أن يؤلف فكرة من خواطر تضلله وتسخر من وعيه، وتخيل له أنه يدرك علاقات مستسرة بين الظواهر الواضحة والظلال الغامضة الملتاثة — هذه هى الحالة العقلية التى تسمى التصوف».
فهى حالة مرجعها إلى ضعف الإرادة ضعفًا تمتنع معه القدرة على «الالتفات» أى مواصلة الملاحظة والتمييز.. ولكن هناك نوعًا اخر من التصوف لم يفت نورداو أن يلتفت إليه، وقد عزاه بحق إلى الاضطراب فى حساسية الذهن والجهاز العصبى، وهو اضطراب يُنتج التصوف العملى ويفضى إلى الهذيان والغيبوبة حين يبلغ من عنف حركة الجزء المهتاج من الذهن أن يتعطل عمل سائره. ويعود المرء وهو لا يحس ما حوله لاستغراق خاطر واحد أو طائفة من الخواطر للوعى كله وتمتزج الغبطة والألم. ولا شأن لنا بهذا الضرب من التصوف.
وقد لا نخطئ كثيرًا إذا قلنا إن التصوف فى بلاد الشرق متفرع من فلسفاتها السائدة، وإنه عبارة عن الإحساس الدينى فى حيثما ظهر، ولكنه فى الهند غيره فى فارس مثلًا. وذلك أن البرهمية التى تقول بتأليه الكون ووحدته، والبوذية التى تذهب إلى العدمية — كلاهما ينكر حقيقة العالم الظاهر وتدعو إلى التسرب فى الغاية العليا، وكلاهما يعصف بالإحساس بقيمة الشخصية الإنسانية. وقد علل الأستاذ أندرو برنجل باتيسون شيوع التصوف فى الهند بطبيعة الإقليم وما يغرى به المناخ من التسليم والفتور، وبأن فرط الخصب فى حياتى النبات والحيوان هناك يبلد الإحساس بقيمة الحياة.
أما الصوفية الفارسية فأقل حدة، وهى ألطف وأرق، والصيغة الأدبية فيها أعم. والمطلع على تاريخ الأدب الفارسى يجده بعد القرن التاسع مشبعًا بروح البانثيزم (وحدة الكون وتأليهه).. ولكن الإدراك الصوفى لوحدة الأشياء وألوهيتها يزيد ويضاعف التذاذ الجمال الطبيعى والإنسانى ولا يفتره أو يصرف عنه. وهذا ملحوظ فى شعر حافظ والسعدى وغيرهما ممن كثر فى شعرهم التغنى بالخمر والغزل تغنيًا خرَّجه المفسرون تخريجًا اَخر وأولوه بغير المستفاد من لفظه فزعموا ما فيه من ذكر لذاذات الحب رمزًا لغبطة الاتصال بالذات العلية، وادعوا أن الخمارة اسم مستعار للمعبد وأن نشوة الخمر هى ذهول الحس. ولا شك فى أن لهؤلاء الشعراء قصائد بعث عليها الإحساس الدينى فى أول الأمر، وهذه تغلب عليها البانثيزم، وتحس فيها حرارة الرغبة فى خلاص الروح واتصاله بالله. ولعل هذه الحالة التى تعتريهم أحيانًا وتغريهم بعدّ الطبيعة والجمال ومتع الأرض عبثًا وباطلًا — رد فعل للإغراق فى التماس اللذاذات وإفراط فى إرضاء الجسم، أو لعلها الجانب الاَخر للصورة.
ومن شعراء الفرس الذين ذاع صيتهم وسار ذكرهم فى الشرق والغرب عمر الخيام. وقد حاول بعض النقاد أن يزج به فى زمرة المتصوفة من شعراء الفرس وأن ينفى عنه ما يدل عليه ظاهر ألفاظه، وأن يخرِّج كلامه على نحو ما أسلفنا، وأن يدفع عنه تهمة الأبيقورية جهلًا كما سترى. ولكن الواقع، كما قال مترجمه إلى الإنجليزية فتزجرالد، أن عمر لم يكن أبغض إلى أحد منه إلى متصوفة عصره الذين كان يسخر منهم ويركبهم بالدعابة والتهكم «وأنه لما عجز أن يهتدى إلى شىء سوى القدر أو دنيا غير هذه — بالغًا ما بلغ خطؤه فى ذلك — قنع بحظه المقسوم له، واَثر أن يرفه عن نفسه من طريق الحواس على أن يرهق نفسه باستجلاء الغوامض».
على أنه كانت له موهبة تنأى به عن التصوف، ذلك أنه كان رياضيا! بارعًا. ومما يذكر له فى هذا الباب تنقيحه التقويم السنوى تنقيحًا أظهر فيه من الحذق والأستاذية ما أطلق لسان جيبون المؤرخ الإنجليزى بالثناء عليه. وله كذلك طائفة من الجداول الفلكية ومؤلف فى علم الجبر بالعربية. والذهن الرياضى مجاله وعمله ضبط الحدود والحصر، وتعليق النتائج بأسبابها، والمعلول بعلته، وهو عمل يتطلب من الدقة والعناية والترتيب والتبويب ما لا يطيقه أو يقوى عليه ذهن المتصوف. ومن العجيب أن فتزجرالد لم يفطن إلى دلالة هذا ولا خطر له أن يسوق هذه الحجة فيما ساقه لتبرئة الخيام من التصوف.
«ذهبت أيام العمر القليلة كالماء فى الوادى، أو الريح فى البيداء.. أنا لا أغتم ليومين من الأيام، اليوم الذى لم يأت واليوم الذى مضى».
«الا تذكر اليوم الذى مضى، ولا تجزع من غد لم يأت بعد — طب نفسًا ولا تنغص عيشك».
ويظهر أن فتزجرالد راقه قول الخيام إن أيام العمر القليلة ذهبت كالماء فى الوادى أو الريح فى البيداء، ورأى هذا المعنى مكررًا فى بعض ما ينسب إلى الخيام — وهو كثير — فنظم فيه رباعية تحرى فيها أن يصدر عن روح الخيام، فقال:
«سمعت هاتفًا فى السحر من حانتنا يقول: إيه يا أخا الشراب المفتون، قم لنملأ الكأس بالخمر قبل أن يملئوا كأسنا».
وقد نظمها رامى فى هذه الرباعية:
فنقحها وجعلها هكذا:
ولا شك فى أن نضوب الحياة أشبه بمعنى الموت من امتلاء كأسها.
«نحن ألاعيب أطفال، والفلك هو اللاعب بنا، ذلك أمر حقيقى غير مجازى، لقد لعبنا مدة فى ساحة الوجود ثم ذهبنا إلى صندوق العدم واحدًا بعد واحد».
وترجمها رامى هكذا:
فتناولها فتزجرالد، وزاد التشبيه وضوحًا فجعله هكذا:
ولا شك فى أن المعنى فى رباعية فتزجرالد، أتم وأشد منه فى الترجمة الحرفية النثرية لرباعية الخيام، وأوضح منه فى رباعية رامى، والتشبيه مستوفى من جميع نواحيه، وهو فوق ذلك أجمل وأبرع، وإن كان عيبه أننا لا ندرى أى ثان للقضاء أمام هذه الرقعة؟ أم ترى القضاء عنده عابث يلاعب نفسه؟
«كأس، وخمر، وساق فى روضة، خير من الجنة التى وعدتها. لا تسمع من أحد حديث الجنة والنار — من ذا ذهب إلى الجحيم؟ ومن ذا جاء من الجنة؟».
ويظهر أن هناك رباعية أخرى تشبهها فى الفارسية، فقد وجدنا بين ما اختاره الشاعر رامى هذه الرباعية:
ورباعية فتزجرالد صنو رباعية رامى إلا أنها أكثر اتزانًا:
والرغيف كنصف الرغيف فى الدلالة على الكفاف، وليس وجوده كاملًا بالترف حتى يكون تنصفه رقة حال.. وتخيل المرء أن القفر انقلب شبيهًا بما تشتهيه النفس من نعم الجنة والعيشة الراضية، أقرب إلى طبيعة الإنسان وأشبه بروحه من أن يذهب يفضل اجتماع هذه الثلاثة على الملك المنيف والعيش الرغيد. وقد اكتفى فتزجرالد بتصوير ما ينشده الشاعر الخيام — كما فهمه هو — فى حياته، زق خمر يسرى به عن نفسه فتخرس ألسنة الهواتف التى لا تفتأ تذكره بالحياة والموت والقضاء والقدر. ورغيف يرمز به إلى الصناعة ويدل به على أنه ليس مبطانا همه المعدة وما تكظ به. وديوان شعر أو كتاب فى ذكره إشارة كافية إلى حياته العقلية والنفسية وإلى أن القائل — وهو شاعر — ليس مجرد حيوان.. واحتفظ فتزجرالد بالساقية، أو المؤنسة، ولكنه تلطف وارتقى بها ولم يذكر صفتها، وجعلها أشبه بالحبيبة تغنيه.. والموسيقى غذاء الروح، وهى صنو الشعر ومن معدنه، ثم آثر الاعتدال فى التعبير فقال: إذا اجتمع هذا صارت البيداء (كأنها) الفردوس المشتهى.
وهناك رباعية قوية ترجمها كل من فتزجرالد ورامى، ولم نعثر عليها فى ترجمة الأستاذ الصراف. أما رامى فصاغها هكذا:
أما فتزجرالد، فتناولها من اَخرها ليزيد المعنى بروزًا وتأكيدًا وليقويه فهو، يقول:
والابتداء هكذا أروع فى تصوير القدر: فالقلم يخط فى اللوح، فإذا خط مضى شأنه ونفذ الحكم ولم يُجْد فى رد القضاء لا ورع ولا بكاء!
وثم رباعيات لم نجدها فى ترجمة الصراف ورامى وإن كانت قوية، وهى هذه كما نظمها فتزجرالد:
يعنى الإنسان — لا رأى له فى حياته ولا إرادة.
ثم هذه الصرخة الخارجة من أعماق القلب:
أى يا ظماَن.
فماذا هو هذا الخيام؟ ما الصورة النفسية التى تخلص لنا من رباعياته هذه وأمثالها؟
الخيام الذى يصوره فتزجرالد فيما اختار من رباعياته، شاعر، لا يرتقى إلى الطبقة الأولى ولا يقاربها، ولكنه شاعر له نظره وروحه وإلهامه. أما فى الترجمتين العربيتين عن الفارسية، فهو يقصر عن ذلك ولا يرتفع إلى مستواه.. فهو مثلًا ينهض إذا انبثق الفجر ليسكر، أو كما يقول الشاعر رامى:
ولكن فتزجرالد يهمل هذا الصبوح ويضرب عن ذكر الخمر كراهة منه لاستقبال الشاعر جمال الفجر وهو مخمور. وللخمر فى كل رباعية مما ترجم فتزجرالد علتها المفهومة الراجعة فى مرد أمرها إلى أسلوب تفكير الشاعر.. فهو يشرب لأن الحياة وشيكة الزوال، وكأس العمر ككأس الشراب ما أسرع ما تنضب: ولأن المقام فى هذه الدنيا قليل، والذاهب لا يرجع، أو لأن الشراب ينعش النفس ويشعرها بهجة الربيع ويطرح عن العاتق ثوب الندامة الشتوى الذى يقوس الظهر ويحنى القناة، أو لأن الخمر تزور له الحياة وتحلى مرارتها وتخفف وقعها، وتخيل إليه نشوتها أنه متمتع بما تشتهيه نفسه وما هو محروم منه، أو لأنها تبدو له أحيانًا كالنقد، وهو خير من نسيئة الخلد، أو لأنها تجلو الصدر من الأسف على ما مضى أو الخوف مما هو آت، وتوقيه التفكير فى الغد، وما الغد؟ قد يلحقه الغد بالأمس الذى ينطوى فيه سبعة اَلاف سنة، أو لأنه يريد أن يغتنم فرصة هذه الحياة أو ما بقى منها قبل أن يصبح ترابًا فى تراب.. فهو يضع الحياة أمام الموت فيعصر قليه قصر الأجل، وتهوله رقدة الموت الأبدية فيصيح:
أو لأنه اقتنع بعبث الجدل لبحث يعد بحب أن يعنى نفسه بمعاودة هذا العبث:
أو لأنه يريد أن يغرق فى الكاسات ذكرى فضول التساؤل: من أين جىء به؟ وإلى أين به؟ ولأن التفكير لم يفتح له الباب الذى عالجه ولم يرفع الستر الذى حاول أن يبارحه، أو لأنه، يئس من قدرة عقله المحدود أو فهمه الكفيف عن استكناه سر الحياة، فهو يصبح:
ولهذا عاذ بالكأس:
ولا خير بعد ذلك فى تساؤل أو تفكير، ولماذا يطيل عناءه ويعذب نفسه بالجدل والمحاولة؟ أليس الأولى به أن يسكر ويطرب؟ أليس هذا خيرًا من أن يخرج بالكآبة والأسى وبلا محصول، أو بالمر من الثمر؟ ولهذا طلق العقل وباعد ما بينه وبين التفكير والبحث:
وإذا كان النبيذ الذى تشربه، والشفة التى تلثمها يصيران إلى «اللاشىء» الذى هو نهاية كل شىء — فما عليك ما دمت حيّا إلا أن تتصور أنك ما أنت صائر إليه — لا شىء — فلن تكون أقل من ذلك.
وإذا كان قد انتهى إلى اليأس فهو لا يرى خيرًا فى أن ترفع بصرك إلى السماء مبتهلًا، ملتمسًا المعونة، فإن السماء مثلك لا حول لها ولا قوة، ولا هى تملك من أمرها إلا كما تملك أنت.
فهو يشرب الخمر، لا لأنه عربيد مستهتر، أو بليد كثيف مغلق النفس، بل لأنه، عالج لغز الحياة فأعياه وأضناه، وحرقه، وأرقه، وأطار صوابه.. واحتياجه للخمر فى رباعيات فتزجرالد اعتذار على الحقيقة، ينطوى على إدراك صحيح لقيمة هذه التعلة وأنها ليست أكثر من مسكن يخدر الحس ويفتر الشعور وينيم العقل وتقلب نسب الأشياء أو يضعف مايجده المرء من وقعها.
وليس كذلك شرب الخيام للخمر فيما ترجم الصاحبان: الصراف نثرًا، ورامى شعرًا — عن الفارسية، فهو هنا سكير «عاقر الكأس فى مجلس الحبيب ليلًا» كما يقول صديقنا رامى فى مقدمته: «فى ضوء القمر، وسحرًا عند طلوع الفجر، ومساء عند غروب الشمس على نغم الناى والرباب فى الربيع، على شفا الوادى وعلى ضفاف الغدير بين الزهر المفتر والجو العبق.. فإذا ذكر حرمانه من الخمر بعد الموت طلب أن يغتسل بها، وأن يقد نعشه من كرمها حتى إذا بلى جسمه تمنى لو تصاغ منه الدنان والأقداح.. فإذا خاف ألسنة السوء قال: لا تهتم بالناقدين. أرض نفسك قبل أن ترضى الناس. لا تظهر التقى واسخر من المتزهدين واعلم أنه ليس فى العالم إنسان كامل. وقد أحب من الخمر حتى طعمها المر ولونها الصافى، وأحب كأسها الشفافة ودنها الملاَن. وكان يجد السعادة فى مجلس الشراب بين الصاحب والنديم».
ويخيل إليك وأنت تقرأ رباعياته المترجمة إلى العربية عن الفارسية كأن الخيام «كأولاد البلد» أبناء الجيل الماضى فى مصر، ممن كان همهم أن يحيوا الليل بالشراب والطرب والأنس، فإذا تنفس الصبح عادوا بمخادعهم وأسدلوا الأستار وحجبوا الضوء وألقوا رؤوسهم على الوسائد وناموا. ولا تعدم من هؤلاء أيضًا فلسفة، فقد تسمع منهم قولهم إن العمر قصير، وإن المنايا راصدة، وإن العصفور فى اليد خير من ألف عصفور على الشجرة، وبعد رأسى لا كانت الدنيا.. إلى اخر هذه الكلمات التى تخطر بكل بال وتكاد تجرى على كل لسان، والتى هى من الشيوع والابتذال بحيث لا تستحق تكريم الارتفاع بها إلى مستوى النظرات فى الحياة.
فهو يقول مثلًا فيما ترجم رامى:
أو يقول:
أو يقول:
أو يقول:
أو يقول:
أو يقول:
إلخ …
فهل ترى أن معانى هذه الرباعيات ترتفع عن طبقة المواويل والموشحات التى كانت تغنى فى ليالى «الضمم» فى الجيل الماضى؟ وهل ترى الخيام فيها إلا «ابن بلد» قح من ذلك الطراز الذى عفى عليه العصر الحاضر؟ وهل ذكر الأيام والفناء والأقدار هنا وفى أمثال هذه الرباعيات يشعرك لفح الحرارة التى تحسها من رباعيات فتزجرالد، وألم الجنون من عجز الشاعر عن حل الألغاز التى يعالجها وفك المعميات التى يعانيها وكشف الأسرار التى يغوص عليها؟
والخيام فى رباعيات الصاحبين، سكير ظريف، وأنيس حصيف، وجليس خفيف، وذكر الموت على لسانه معسول لا يفزع، والكلام على القضاء والقدر لا تحس أنه يدور على غير اللسان.. ولكن الأمر فى رباعيات فتزجرالد غير ذلك، والحال على خلافه.. هناك الخمر ملجأ من مخوف الهواجس ومرعب الخواطر، وحمى من الجنون الذى أحسه وهو يواجه عالم الفناء اللانهائى، أو «اللاشىء» الذى هو ماَل الأحياء فيما هداه تفكيره، ولسخره لذعة تحس أنت أنه هو أحسها، ولعبثه المتكلف كى أليم، وهو يضعك أمام ما انتهى إليه من الحقائق المرة.. ولعل فضل فتزجرالد أنه أضاف إلى الخيام روح الاتزان فتعادلت المرارة والتهكم، وتكافأ الهم والاستخفاف ونضح على كآبة النفس ماء الورد، وأطلق إلى جانب الفزع ضحكة، ليعتدل الميزان.
ونقول بإيجاز إن الخمر فى رباعيات الصاحبين هى الأصل، ولكنها فى رباعيات فتزجرالد هى النوط الذى يعلق عليه الشاعر آراءه. ولعل الخيام لم يكن كذلك، ولكنه هكذا أحلى وأشعر، ولا ذنب للشاعر رامى ولا للأستاذ الصراف، وإنما الذنب للأصل، وهما خليقان بالشكر على أمانتهما، غير أنا نستأذنهما فى أن نقول إننا نؤثر تصرف فتزجرالد.
•••
كلا! ليس الخيام أبيقوريا ولا شبهه، وعلى أن الناس كثيرا ما يركبهم الخطأ والوهم فى أمر «أبيقور» أيضًا، فلعل هذه المقابلة الوجيزة التى سنجربها بين الرجلين تكشف عن الحقيقة. ويعنينا هنا منها على وجه أخص عقيدتهما ومذهبهما الأخلاقى. لا ينكر أبيقور ما دان له الناس فى عصره من الأرباب، لكنه ينكر تدخل الاَلهة، ويقول إنها لا تحمل على عاتقها عبء هذه الدنيا، ولا تكلف نفسها حكمها وتسيير أمورها، وإنها (أى الآلهة) ليست إلا ما ينتجه نظام الطبيعة، أى إنها ليست سوى نوع راق من الإنسانية لا تتحكم فى الإنسان، ولا هى خلقت الدنيا ولا وكلت بحفظها وتسيير أمورها.. وهذا عند أبيقور لا يستوجب أن يكف الإنسان عن عبادتها غير أن هذه العبادة إن هى إلا إجلال للمثل العليا للنعيم التام، ولا ينبغى ألّا يكون الباعث عليها لا الأمل ولا الخوف، والخيام يذهب إلى عكس ذلك ونقيضه ويقول إن القلم سطر على اللوح كل شىء وإن الأقدار صاغت اخر إنسان من أول طينة للأرض وبذرت فى مبدأ الخليقة اَخر ما يحصد فى هذه الدنيا، وكتبت فى أول صبح للوجود ما سوف يقرؤه اخر فجر «للحساب» ولا حيلة لأحد فى تغيير كلمة واحدة مما جرى به القلم.
ويرفض أبيقور نظرية القضاء المحتوم الذى لا مهرب منه، ويأبى أن يعتنق مذهب القائلين بأن لهذا العالم نظامًا مقدرًا لا يتغير ولا يسع الإنسان إلا امتثاله والإذعان له، وهو فى هذا يخالف «زينون» الذى يدين بالقضاء والقدر. ولا يقف أبيقور عند هذا الحد، بل يتعداه إلى رفض الاضطرار فى دائرة العمل الإنسانى، وإلى القول باستقلال البشر عن الآلهة، واستطاعة الإنسان — كالآلهة — أن يقف بمنجاة من المؤثرات الخارجية، وأن «يعيش إلهًا بين البشر».
والخيام يقول بالقضاء والقدر، ويذهب إلى أن أساس الكون ومحور نظامه هو الاضطرار والجبر، وأن القدر أزلى والقضاء أعمى، وأننا اَلات بأكف الأقدار تحركنا كما تشاء أو رخاخ فى رقعة شطرنجها.
وليس لنا من إرادة ولا فى وسعنا أن نستقل أو يكون لنا رأى فى حياتنا. إنما نحن كرة يلعب بنا من ألقانا فى الميدان.
على أنهما اتفقا على شىء، وهو أن الإنسان إذا مات فنى وانقضى أمره، وأنه ليس له حياة غير هذه، ومن هنا لا يخاف أبيقور أهوال الآخرة ولا يرجو ثوابها.
ويقول الخيام:
ولا شك فى أن مذهب أبيقور مناقض للعلم، وعلة الخطأ فيه أنه لم يستطع أن يهتدى إلى انتظام الارتباط بين الظواهر الكونية ارتباطًا يجعل كل واحدة منها رهنا بما عداها، ولا يجعل فى الوسع أن يفصل المرء إحداها عن سائرها وأن يفهمها على حدة.
أما فلسفة أبيقور الأخلاقية فضرب ملطف من الهيدونزم أى القول بأن السعادة هى الخير فى الحياة، وهى نتيجة منطقية لعقيدته، بيد أنه لم يدع قط إلى الشهوانية البحتة الصريحة، وإنما فعل ذلك أتباعه فيما بعد حتى صارت الأبيقورية والشهوانية الإباحية مترادفتين، وليست اللذة عنده ما يقتنصه المرء من متع الساعة الحاضرة بل هى أقرب إلى أن تكون عادة من عادات الفكر تلازم المرء طول حياته، وحالة سلبية لا إيجابية ولا فعالة، أو إذا شئت فقل إنها أشبه بالسكون والاطمئنان منها بالاستمتاع، ومحك الاستمتاع عند أبيقور هو زوال كل دواعى الألم وتحرر الجسم منه واستراحة العقل من التعب، فكأن السعادة عند أبيقور لذة جليلة رزينة — راحة القلب، وخلوّ البال، وانتفاء الآلام الجسمية والعقلية.
وأين من هذا الخيام؟! إنه رجل لا يستقر على حال من القلق والتبرم ومن التساؤل والتفكير، لا البحث يهديه ولا الكأس تسليه ولا الكتاب والرغيف وزق الخمر، وغير ذلك مما ذكر فى شعره، بمؤتيه راحة النفس وفراغ الفؤاد وانتفاء الاَلام. ولقد صار الموت عنده خاطرًا مخامرًا ينغص عليه كل لذة ويكدر له صفو كل نعيم. والفزع من الموت هو أساس تفكيره والذى تقوم عليه كل نظراته. ومن ذا الذى يقرأ له هذه الصرخة الخارجة من أعماق قلبه ويخطر له بعدها أنه استشعر الراحة لحظة واحدة؟!
نعم قد يمزح فى بعض شعره ويتهكم بالعقل ويقول:
ولكنه تهكم الموجع الذى آلمه ألّا يهتدى إلى شىء وألّا يحل لغزًا واحدًا، وسخرية البائس الذى لا يرى إلا رحى دائرة على الناس بإلإرداء، وضحك الساخط على عجزه عن تخليص رجليه من شباك الأقدار وعن لمح بارقة واحدة تجلو له بعض ما خبأه الغد، ومزح الآسف لاضطراره إلى أن يرتد إلى اليوم الزائل حتى ليتمنى أن يقف على سر نظام هذا الكون ليمزقه ثم يعود فيصبه فى قالب أدنى إلى رغبة قلبه وهوى نفسه!
وعلى طالب السعادة الأبيقورية أن يروض نفسه على توخى الحكمة واستهداء الحزم فى الموازنة بين اللذات والاَلام المقدرة، وأن يتلمس طريق الاستمتاع وأن يخطو فيه بحذر.. ومن هنا كان الحزم هو رائد السعادة الذى لا يكذب، وهو لهذا عند أبيقور أسمى الصفات وأساس الفضائل، بل هو كما يقول: «قوة أنفس من الفلسفة». ولا بد منه فى التماس الملاذ وفى تحرى نظام للحياة يكون أداة للسعادة. ومع أن الإحساس عنده هو واسطة التمييز بين الخير والشر إلا أنه يخضع للعقل ويدع له الفصل فى قيم اللذات بغية الفوز بهدوء النفس والجسم وراحة العقل.
والعقل عند الخيام لا يغنى عن الإنسان شيئًا لأنه كفيف أعمى:
وأحسب الناس لما عجزوا عن إثبات استهتاكه على كثرة ذكره للخمر ومحاسن التفرد والخلوة بقمره «الذى لا يعرف الأفول» كثرة ليس أدل منها على وحشة صدره والامه، ذهبوا يزعمونه صوفيّا وينفون أن الخمرة التى يذكرها «من عصير الكرم، وأن ساقيه من اللحم والدم».. واستشهدوا بكلام له يقول فيه: إنه يعاقر الخمر لعله يرشف من شفتها سر ينبوع الحياة وإنه يلمح بارقة من سنا الحق فى ألحانه يخطئ مثلها فى المعبد المظلم. ولا شبهة فى أن نشأته وكثرة غشيانه مجالس الفقهاء والصوفية، وتعلقه فى صدر أيامه بالجدل الذى كان فاشيا فى عصره — كل ذلك مضافًا إلى استعداده الفطرى — ترك فى نفسه أثرًا من التصوف مظهره نزوعه فى شعره إلى البحث فى إحساسه الدينى.. غير أنه على هذا استطاع أن يخرج سليم العقل موفور الصواب، وأن يفطن إلى عبث الكلاميات. وقد أشار إلى ذلك فى كثير من رباعياته منها:
•••
فهو فى الحقيقة رجل حر الفكر لا يزال يحتج فى شعره على تحجر العقول وضيقها وعلى تشدد المتعنتين من أهل عصره، وعلى شذوذ الصوفية وهذيانهم. وإذا استعمل شيئًا من عباراتهم فإنما يتخذها أداة للنيل من التصوف الذى ضيع فيه خير شطرى عمره، والذى لم يستطع أن يعيش مع ذلك بريئًا منه.
غير أنه مع هذا رجل متشائم يئوس أعياه البحث فنكص وفر من الميدان ولم يشعر بأن عليه مهمة فى هذه الحياة، ورسالة يؤديها إلى أبناء الدنيا. ولو أنه أحس شيئًا من هذا لأغراه ذلك بالبقاء فى الميدان كغيره من المتشائمين الذين يشبههم من بعض الوجوه مثل بيرون وشوبنهور.