مصطلحات الصحافة
الصحافة — في عموم المعنى المقصود بلفظها — مظهر من مظاهر التطور في رصد الحوادث ونشرها. وقد أخذ الناس يرصدون حوادثهم وينشرونها منذ وُجِدوا، وإنْ اختلفت فيهم وسائل الرصد باختلاف نوع الحياة التي يحيونها، وتراوحت بينهم أساليب النشر بتراوح الحضارة بين البساطة والتركُّب؛ فذهبت وسائل الرصد من الحفظ في الصدور، إلى النقش على الحجر والصنع في الحديد، إلى التدوين على صحف الآجر والأردواز ورُقَع الجلد وقِطَع الخشب، إلى الكتابة على الورق، إلى الضغط بالخشب والحجر، ثم إلى الطبع بالحروف الرصاصية والآلات الحديدية، وأخيرًا إلى الأخذ بالصور الشمسية، والتسجيل على الأسطوانات الفوتوغرافية والأفلام السينمائية والأشرطة الأثيرية. كما ذهبت أساليب النشر من القصص والرواية إلى التعليق على جدران الهياكل وعند مداخل المقابر، إلى العرض بالدق والصياح في الأسواق والمجامع، إلى التبليغ الفردي، ثم إلى تداوُل نتائج الرصد ومظاهره بالتبادل والبيع والنقل بجميع طرق المواصلات في البر والبحر والجو، من الحيوان إلى العربات والقطارات والسيارات، ومن الروامس إلى السفن والبواخر، ومن الحمام الزاجل إلى الطيارات، ومن السكك إلى الأثير.
وكذلك ذهب الرصد والنشر كلاهما من الأمور الشخصية إلى الشئون العائلية، إلى مسائل الفخذ ومشاغل البطن ومشاكل القبيلة، إلى حاجات الشعب وأنظمة الأمة ومهام الدولة، لا فيما يقف عند كلٍّ من هؤلاء على انفراد فحسب، بل فيما يتصل بعلاقاته مع غيره داخل حدود معلومة وخلال العالم كله أيضًا.
- أولًا: إنَّ الصحافة لم تكن قبل أن تظهر المطبعة.
- وثانيًا: إنَّ الذي جرى على العالم بشأن رَصْد الحوادث ونَشْرها وصدور الصحف بعد ظهور المطبعة، هو الذي وقع مثله تمامًا في مصر مع ما يرجع من فارق إلى ما تتميز به من خصوصٍ في الحياة راجعٍ إلى طبيعة أرضها، وشرائط جوها ووسائل عبادة أهلها.
ولما كان لظروف صدور الصحف المصرية دَخْل كبير في استعمال لفظ «الصحافة»، فإنَّا نسوق بإيجاز حديث تلك الظروف التي ستعيننا كثيرًا على تلمُّس التعريف الذي ننشده لذلك اللفظ.
والواقع أنَّ وسائل رصد الحوادث وأساليب نشرها في مصر منذ العصور القديمة حتى الحملة الفرنسية كانت هي طرائق النقش على الحجر، والكتابة على البردي وسائر أنواع الورق التي عُرِفَت على مرِّ السنين، والتعليق على مداخل المعابد وفي أمكنةٍ ظاهرةٍ منها، وفي الميادين العامة والمقابر، والتبليغ عن طريق الإدارات المحلية ومجالس السراة في الأقاليم ومندوبي الفراعنة والمحافظين إلى أقصى الريف، والإعلان في الطرقات، وفي المجتمعات التي يتكاثر فيها الناس لمناسبة المواسم والأعياد، ثم كانت طرائق الخطب المنبرية في المساجد، والمناداة في الشوارع، والدق على الطبول في القرى والدساكر، والنقل بالبرد المتداولة والأفراد المتجانبين في صفوف الجيش، وعلى جسور النيل أيام الفيضان، وأخيرًا عن طريق الصياح من فوق المآذن، واللصق على الجدران عند مفارق الطرق ورءوس العطف وأبواب المساجد.
ولم تعرف مصر المطبعة إلا على يد الحملة الفرنسية، التي زودها «بونابارت» فيما زوَّد بحروف مطبعية فرنسية وعربية لحقت بها حروف يونانية، استُعْمِلَت لإذاعة ما كان الجيش والإدارة يُصدِران من أوامر وبلاغات.
•••
عرفت مصر المطبعة، وعرفت الدوريات المطبوعة، لكنها عرفتهما أجنبيتين عنها، وعرفتهما فترة قصيرة من الزمان اختفت بعدها آثارهما اختفاءً إلى أن أنشأ محمد علي مطبعة بولاق سنة ١٨٢١، وزوَّدها بالحروف العربية والتركية واليونانية والفرنجية وبأصناف الورق المختلفة، إلى جانب مطابع صغيرة كمطبعة مدرسة المدفعية بطرة، ومطبعة مدرسة الفرسان بالجيزة، ومطبعة مدرسة الطب بأبي زعبل، ومطبعة القلعة. وقد اختصت كلٌّ من الثلاث المطابع الأولى بسد حاجات المدرسة التابعة لها، واختصت مطبعة القلعة بطبع «جرنال الخديو»، الذي يُعتبَر أولى الدوريات المطبوعة المصرية حقًّا، والذي يرجح صدور العدد الأول منه في سنة ١٨٢٧. وإنما نقول «يرجح»؛ لأن البحوث والتنقيب في دور المحفوظات لم يُسفِرَا بعدُ عن العثور على نسخة من ذلك «الجرنال»، ولو أنَّ الوثائق التي تتحدث عن «الجرنال» في ذاته، وعمَّا أُنشِئ له من ديوان، وما رُسِم من خطة لجمع أخباره ومواده؛ عديدةٌ تعمر بها دار المحفوظات بقصر عابدين. وتدل هذه الوثائق على أنه كان هناك ديوان من دواوين الحكومة أنشأه محمد علي، وسماه «ديوان الجرنال»، يرأسه موظف كبير يُلقَّب «بجرنال ناظري»، وأنه كان لهذا الديوان المركزي فروع في عواصم الأقاليم، تتصل به عن طريق «ناظرَيْن عامَّيْن»، يختص أحدهما بالوجه القبلي، ويختص ثانيهما بالوجه البحري. كما كانت الدواوين الإقليمية ترسل تقاريرها متضمِّنة ما يجري في منطقتها من حوادث، وما يصدر عن الإدارات فيها من نشاط إلى الناظر العام الذي يتبعه، وكان الناظران العامان يرسلان ما يتلقيانه من تقارير مع ملاحظاتهما إلى الديوان المركزي، فيعدُّها تحت إشراف «ناظر الجرنال» ويرفعها إلى محمد علي، فيُصدِر في صددها أوامره، ثم يُطبَع الجرنال ويُوزَّع. وكان «الجرنال» يُرفَع إلى الباشا يوميًّا متضمنًا أخبار الحكومة الرسمية وحوادث الأقاليم، وأنباء القاهرة والإسكندرية، وبيانات أسبوعية عن مقدار المال المتحصل وكميات الغلال والأصناف الأخرى المبيعة والباقية في شون الحكومة ومخازنها، كما كان يتضمن بعض قصص من ألف ليلة وليلة. وكان يُطبَع منه يوميًّا باللغتين العربية والتركية مئة نسخة تُوزَّع على رجالات الحكومة ومأموريها.
ووضع (أيْ محمد علي) ديوان الجرنال قاصدًا من وضعه أن ترد الأمور الحادثة الناتج منها النفع والضرر إلى الديوان المذكور، وأن ينتخب ويتنقح فيه منها ما منه يحمل الضرر، وهذه الإرادة الصالحة الصادرة من حضرة سعادة ولي النعم، وإن كانت قد جرت في ديوان الجرنال إلى الآن، إلا أنها لم تكن عمومية.
وقائع مصرية
ومهما يكن من أمر «جرنال الخديو» ومنزلته من الدوريات الصحفية، فممَّا لا شك فيه أنَّ «الوقائع المصرية» التي صدر عددها الأول في اليوم الثالث من شهر ديسمبر لسنة ١٨٢٨ كانت دورية صحيحة بالمعنى الصحفي المعروف، وكانت هي الدورية الصحفية الأولى التي عرفها حوض البحر المتوسط على شاطئيه الأفريقي والآسيوي، فقد كانت هي الأولى في بلاد العربية من المحيط الأطلنطي إلى الخليج الفارسي، وكانت هي الأولى كذلك في الدولة العثمانية وفي بلاد إيران، وإنْ كانت المطبعة قد عُرِفَت في الأستانة وعُرِفَت في بيروت قبل أن تُعرَف في الإسكندرية والقاهرة.
أمَرَ محمد علي بإصدار الوقائع المصرية صحيفة عامة، فيها المقالات والبحوث في المسائل المالية والصحية والأخبار الخاصة، إلى جانب الأنباء الرسمية والبيانات المستقاة من تقارير الأقاليم، ولا تقتصر قراءتها على الباشا ومائة من كبار موظفي حكومته فحسب، بل فَرَض قراءَتها فَرْضًا عن طريق الاشتراك الإجباري على كل ضابط وكل موظف يبلغ مرتبه الألف قرش ويزيد، وعن طريق الإهداء والتحية على الأمراء والعلماء وكبار رجال الدولة، وكذلك على طلبة المدارس العسكرية والمدنية دون أن ينسى المقيمين من هؤلاء وأولئك في السودان وكردفان، حيث كان بريد الحكومة يحملها إليهم في انتظام.
وكان للوقائع ديوان خاص كما كان لجرنال الخديوي، ثم أحيل الاضطلاع بأمرها إلى ديوان المدارس ذاته، لكن المعية كانت لها الهيمنة الكبرى على تحريرها وإدارتها، فكانت توعز بالموضوعات التي تتناولها الافتتاحيات، وكانت تلاحظ على الهفوات التي تُرتكَب في التحرير وفي التصحيح وفي نشر ما لم يكن نشره مرغوبًا فيه. ويظهر أنَّ محرِّري الوقائع في أول عهدها كانوا كغيرهم من الصحفيين، لا يرضخون بسهولة للتدخل الإداري، فكانوا لا ينفذون أوامر محمد علي بدقة على الرغم من تكرار ملاحظاته لهم، إلى حد أنه قرَّر أن تُراقَب «أصول» الوقائع قبل نشرها.
وصدرت الوقائع أول ما صدرت في أربع صفحات كبيرة، طول الواحدة سبعة وثلاثون سنتيمترًا، وعرضها اثنان وعشرون، ولم تصدر في ثماني صفحات إلا قليلًا. وكانت الصفحة منقسمة إلى نهرين، يُنشَر أحدهما باللغة التركية والثاني بالعربية.
وكان اسمها الرسمي «وقائع مصرية»، يظهر في رأس الصفحة الأولى، ومن شماله رسم أَصِيص زرع يرمز لشجرة القطن، ما لبث ثلاثة أشهر حتى حلت محله صورة الهرم وراءه شمس تتهيأ للشروق، وشجرة نخل مطلة، وإلى جانب ذلك كله ميزان الحرارة ومقياس النيل.
وكانت الوقائع تصدر عادةً ثلاث مرات في الأسبوع، وإن مرت بها فترات كانت لا تظهر فيها إلا مرَّة واحدة في كل أسبوع، بل في أكثر من أسبوع.
وتقدَّم العدد الأول من «الوقائع» بافتتاحية تضمَّنت خطتها وبرنامجها.
وظلت الوقائع سائرة على منوال ما تضمنته افتتاحية العدد الأول الصادر في ديسمبر من سنة ١٨٢٨ إلى سنة ١٨٤٠؛ إذ صدر قرار من لجنةٍ مؤلَّفَةٍ برياسة مدير المدارس غيَّر من خطتها.
وكان المشرف على تحرير الوقائع الشيخ حسن العطار، وقد أصبح شيخ الجامع الأزهر بعد اشتغاله بالوقائع سنوات. وكان الشيخ رفاعة الطهطاوي من المشرفين على تحريرها كذلك في أول صدورها، وكان الشيخ رفاعة من الذين ذهبوا إلى باريس إمامًا للبعثة الدراسية المصرية، وكان هو من الدارسين في الأزهر. ولا شك أنَّ المدة التي قضاها رفاعة بك في باريس، وقرأ خلالها عدة من الصحف الفرنسية، قد أثَّرت في تحرير الوقائع المصرية وفي نظام صدورها تأثيرًا كبيرًا؛ لما اقتبسه من الصحافة الفرنسية وأدخله في مصر. وقد خَصَّ الصحافة الفرنسية بفصل من فصول كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز».
وانضم إلى تحرير الوقائع في أول عهدها مع مَن انضَمَّ جماعةٌ من أهل المغرب وأهل الشام، تتلمذوا على الشيخ العطار وعلى رفاعة بك، وكان منهم فارس الشدياق الذي ذاع صيته فيما بعدُ في عالم الأدب وعالم الصحافة في البلاد الشرقية.
أخذنا الطباعة إذن عن الغرب، وأخذنا الدوريات المطبوعة عن الغرب، فهل أخذنا عن الغرب أيضًا التعبير عن هذه الدوريات، والتعبير عن صناعة إصدارها كذلك.
ذلك هو ما كان من أمر الغرب تسميةً للدوريات بنوعَيْها الرئيسيَّيْن. فهل أخذت مصر حين أصدرت دورياتها الأولى شيئًا من تلك الاعتبارات التي سادت التسميات الغربية، أو أنها شقَّتْ لنفسها طريقًا خاصًّا يتمشى مع مميزاتها الفكرية أو اللغوية مثلًا؟
وتواتر التعبير عن الدوريات بالجرنال والغازته ثلاثين عامًا، من عهد صدور «جرنال الخديو» سنة ١٨٢٧، إلى عهد صدور «برجيس باريس» سنة ١٨٥٨، وإن كانت هذه الفترة قد تخلَّلها استعمال بعض ألفاظ أخرى لم يُكتَب لها التوفيق، ولم يكن لها الاستقرار كلفظ «نشرة»، التي عبَّر بها القس لويس صابونجي وجماعة الأمريكان في لبنان، وعبارتي (الورقة الخبرية) و«الرسالة الخبرية» التي عبَّر بهما بعض الناشرين في بلاد الجزائر المغربية.
وقد صدرت «برجيس باريس» باللغة العربية في العاصمة الفرنسية سنة ١٨٥٨ لصاحبها رشيد الدحداح، برعاية من سعيد باشا والي مصر، فخرجت على التعبيرين التقليديين «جرنال وغازته»، ووصفت نفسها تحت اسمها بأنها «صحيفة»، ثم نشرت للسيد «قبادو» التونسي قصيدةَ ترحيبٍ بها وبصاحبها جاء بين أبياتها:
وما كاد التعبير الجديد بالصحيفة ينتشر عن طريق جريدة «رشيد الدحداح»، حتى أقره الأدباء والكتَّاب في مصر وفي لبنان، فجَرَتْ به أقلامهم على نحو ما كان من أمر الشاعر التونسي، ثم أخذه أصحاب الدوريات أنفسهم وسموا به دورياتهم، وقد ورد ضمن تعليق على افتتاحية الوقائع المصرية الصادرة في ٢٥ نوفمبر لسنة ١٨٦٥ نصه: «بادرنا بسرد صورة المقالة العربية في هذا المحل؛ لكونها جمة الفوائد كثيرة الفرائد، ولأنها تفصح عما تكون عليه صحيفة الوقائع المصرية.»
المرجو ممَّن انتهت مدة مرتبه من صحيفة وادي النيل لغاية شهر جمادى الأولى الجاري، وهو يرغب الاستمرار؛ أن يبادِرَ بما يفيد استمرار عادة ترتيبه قبل انقضاء مدة الشهر المذكور، إذا كان لم يَزَلْ يرغب في أنَّ نسخة هذه الصحيفة تتردد عليه بالزيارة إلى حد الدار؛ وبذلك لزم الإشعار على سبيل التذكار.
وانتقل اللفظ إلى الاستعمال الرسمي يومَ أصبَحَ في أخريات عهد إسماعيل للمشرف على «الوقائع» حق الإشراف على الدوريات والمطبوعات، فأذاع إخطارًا رسميًّا — وكان هو علي جودت بك — نشرته جريدة «التجارة» في عددها الثاني والستين بعد المائة الصادر في ٨ يناير سنة ١٨٧٩، جاء فيما جاء فيه: «نشر مقالات ببعض صحف الحوادث الأهلية»، كما جاء لزم «إدارة المطبوعات إصدار هذا الإخطار الرسمي للصحف المذكورة إنذارًا بعدم العودة لمثل هذا …»
لا يجوز لأحد من أرباب المطابع أن يطبع صحفًا قبل أن يقدِّم لإدارة المطبوعات بنظارة الداخلية كتابة معلنة بعزمه على طبعها. وكذلك لا يجوز بأية طريقة كانت بَيْع أو نَشْر تلك الصحف بعد طبعها، إلا بعد أن يقدم خمس نُسَخٍ منها للإدارة المذكورة.
وهكذا استقر لفظ «الصحيفة» الذي كان رشيد الدحداح أول مَن استعمله، وإن لم يكن هو خالقه ومبتكره؛ إذ الكلمة عربية أصيلة معناها القرطاس المكتوب، وهي واردة في القرآن بصِيَغ الجمع: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ، ولكن هو الذي كان له على التحقيق فَضْل السبق إلى استعماله استعمالًا فنيًّا للدلالة على معنى الدورية، وكان له حظ التوفُّق إليه — وهو لفظ عربي صريح قضى به على التعبير باللفظين الفرنسيين — في العاصمة الفرنسية ذاتها، وفي عصرٍ تميَّزَ باجتهاد فقهاء اللغة العربية في تعريب المصطلحات وتحديد المعاني، عن طريق مَن كانوا سيولون البحث اللغوي منهم في مصر وفي ربوع الشام.
وقد استساغ هؤلاء الفقهاء والأدباء اللفظ الذي جاءهم من باريس، فاحتضنوه وعملوا على ترويجه من حيث هو اللفظ المراد، لكنهم كانوا على عادة أهل الأدب في كل زمان وفي كل مكان منقسمين شيعًا وأحزابًا. وكان رشيد الدحداح زعيم جماعة تنافسها جماعة أخرى من أركانها أحمد فارس الشدياق، الذي كان قد تتلمَذَ في مدرسة «الوقائع المصرية»، وكان قد ذهب إلى الأستانة، وأنشأ فيها جريدة «الجوائب» العربية سنة ١٨٦٠. فما إن عبَّرَ الدحداح عن دوريته التي أصدرها في باريس بالصحيفة، حتى راح الشدياق يبحث عن لفظ آخَر يناهِض به لفظ الدحداح، وكان قد عرف في مصر لفظ «الجريدة» قائمةً لتسجيل الحساب وضبط الأموال، فقاس على تسجيل الحساب تسجيل الحوادث، وأطلق على دوريته اسم «الجريدة»، وأنشأ يعارض به اسم «الصحيفة» الذي أذاعه الدحداح، ونجح في ترويج اللفظ الجديد الذي طغا أول الأمر على اللفظ السابق، ثم مَاشَاه على قَدَمِ المساواة بعد حين.
ولم يكن الشدياق هو الآخَر — كما لم يكن الدحداح من قبلُ — خالقًا لفظًا جديدًا لم يسبق وجوده، فكلمة «الجريدة» درج عليها الاستعمال المصري من زمانٍ للدلالة على قائمة الحساب وأسانيد الأموال، وهي كلمة عريقة في العربية من جرَدَ الشيءَ قشَّرَه، وجرد السيف من غمده سَلَّهُ، وهي الجماعة من الخيل جردت عن سائرها، وهي البقية من المال، وهي الصحيفة التي يُكتَب عليها، أو هي الصحيفة المكتوبة.
ودخلت الكلمة في الاستعمال الرسمي — كما دخلت أختها من قبلُ — فنَصَّ قانون المطبوعات كذلك على «الدوريات» و«الجرائد»، كما كان قد نَصَّ على «الصحف».
على أنَّ أغلب ما انصرف إليه المعنى المقصود بالصحيفة والجريدة إنما كان هو معنى الدوريات اليومية. وكان «يعسوب الطب» الصادر في سنة ١٨٦٥ هو أولى الدوريات متباعدة مواعيد الصدور التي ظهرت في مصر باللغة العربية، تُشْرِف عليها الحكومة المصرية، وتُطْبَع في المطبعة الأميرية، ويرأس تحريرها محمد علي باشا الحكيم رئيس الأطباء المصريين، ويساعده في إخراجها إبراهيم الدسوقي الأديب المصري المعروف، تختص بالمباحث الطبية والفوائد الصحية، وتحمل شعارًا: يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ. وقد أطلق عليها مصدروها اسم «مجلة»، والمجلة في القاموس «سِفْر فيه الحكمة»، وعن لسان العرب في حديث سويد بن الصامت، قال رسول الله: «لعل الذي معك مثل الذي معي. فقال: وما الذي معك؟ فقال النبي: «مجلة» لقمان. يريد كتابًا فيه حكمة لقمان.» فكان التعبير بالمجلة عن دورية طبية من أنسب التعبيرات وأوفقها، ولعل هذا التوفيق الأول — وقد أيَّده التعبير باللفظ ذاته عن مجلة الطبيب التي صدرت ببيروت سنة ١٨٨٤ — هو الذي عقد الإجماع على الأخذ به للدلالة على الدوريات غير اليومية، أسبوعيةً كانت أو شهريةً أو حوليةً أو نصفيةً أو ربعيةً، دون أن يعارضه لفظ آخَر كما كان الشأن بالنسبة للدوريات اليومية.
على أنَّ التعارض بين «الصحيفة» و«الجريدة» في الاستعمال لم يلبث أن زال بفضل العناصر المثقفة الحديثة التي دخلت ميدان الكتابة والنشر، وهي تعرف لتحديد المعاني ما تعرف، وتقدر لدقة التخصيص ما تقدر، فاستقرت على يديها التعبيرات، وأصبحت «الصحيفة» تُستعمَل للدلالة على الدوريات عامةً، والجريدة للدلالة على الدوريات اليومية، والمجلة للدلالة على الدوريات الأسبوعية وما إليها ليس غير.
وهذه التعبيرات الثلاثة إنما ترجع كلها إلى اعتبارات القرطاس والكتابة والحكمة، وهي اعتبارات متصلة أحكم اتصالٍ بأقرب ما يتبادر إلى الذهن من معاني الدوريات، وأسمى ما يود المصلحون للصحافة من رسالة، وهي رسالة التهذيب والتثقيف. بخلاف التعبيرات الغربية وهي متصلة على العموم باعتبار الوقت في الدوريات العمومية، وبفكرة العرض في الدوريات الأسبوعية وما إليها.
وإذن، فإذا كانت الطباعة قد أخذناها عن الغرب، وكانت الدوريات قد عرفناها عن الغرب، فإن الاصطلاحات التي عبَّرْنا بها عن الدوريات المطبوعة قد كانت من مبتكراتنا، وكان تعبيرنا بها أكثر توفيقًا من التعبيرات الغربية ذاتها.
وكذلك كان الحال في التعبير عن صناعة إصدار الدوريات، فقد أطلق عليها اسم «الصحافة» بكسر الصاد، على وزن المصادر المستعمَلة للتعبير عن سائر الحِرَف والصناعات، كالتجارة والزراعة والحدادة وغيرها. وكان طبيعيًّا، وقد استقرت الأمور عند استعمال لفظ صحيفة للدلالة على الدوريات المطبوعة في عمومها، أن يلجأ إلى هذا اللفظ ذاته وإلى المادة المشتق منها لينتخب منهما المصدر الجديد. والصحيفة عربية عريقة — كما قدَّمنا — وجمعها صحائف وصُحُف، والمصحف قديم من أصحف، أيْ جعلت فيه الصحف، والتصحيف الخطأ في الصحيفة، والصحَّاف مَن يخطئ في قراءة الصحيفة، والمصحِّف الذي يروي الخطأ عن الصُّحُف. كل ذلك في اللغة، وإنْ كان قد درس زمنًا فقد أحياه أدباء عهد سعيد وعهد إسماعيل، وأحيته بخاصةٍ «دار العلوم»، التي كانت قد أُنشِئت لرعاية اللغة العربية وبَعْث مصطلحاتها، فانكَبَّ رجالُها وانكَبَّ مشاهير كتَّاب العصر أمثال المويلحي، واللقاني، وأحمد سمير، والشيخ محمد عبده، والشيخ عبد الكريم سلمان في مصر، وأمثال اليازجي والأحدب في الشام، وانتهوا إلى إقرار لفظ «الصحافة» للدلالة على صناعة إصدار الصحف. وأخذ اللفظ عنهم أصحابُ الصُّحُف ومحرِّروها يضمنونه كتاباتهم، وكان أول مَن استعمله في مقالاته الصحفية الشيخ نجيب الحداد مُنشِئ جريدة لسان الحال بالإسكندرية، وكان ذلك بعد ظهور جريدته بسنةٍ واحدةٍ أيْ سنة ١٨٩٥.
أقدم بعض الرعاع على نشر جرائد اتخذوها آلةً لنهش الأعراض، والحطِّ من كرامة العائلات. ولما كانت الجرائد ركنًا من أركان التمدن، وكان الغرض منها تنوير أذهان الجمهور والحكومة، فالجمعية العمومية تطلب من الحكومة إما أن تتفق مع وكلاء الدول على سَنِّ قانونٍ عامٍّ للصحافة يزيل هذه الحالة المشئومة، وإما أن تُصدِر أمرًا عاليًا بمعاقبة كلِّ مَن يرتكب جرمًا من هذا القبيل.
واطَّرَدَ استعمال لفظ «الصحافة»، وتجاوز المعنيين الأولين: معنى الصناعة ومعنى مجموعة الصحف، إلى معنى ثالث هو معنى الفن الصحفي ذاته، بل صدرت به جريدة يومية لصاحبها مصطفى توفيق الجراحي سنة ١٩٠٥، وظل الاطِّرَاد قائمًا إلى أن دخل ميدان إصدار الصحف والتحرير فيها صفوةٌ من المثقفين، مجاهدين عن طريقهما في سبيل القضية المصرية سنة ١٩١٩، وحاملين لواء النهضة القومية فيما تلاها من السنين، فجاءوا معهم بطرائق التفكير الحديث وأساليب البحث العلمي، واعتَزُّوا بحرفتهم الجديدة الكريمة، فخرجوا بها من اعتبار الصناعة الفنية والفن الفطير إلى اعتبار الفن الراقي والوظيفة الاجتماعية السامية، وتولوا ميدان عملهم ومصطلحاته بالتصحيح، فشقوا طريقًا للفظ «الصحافة» (بفتح الصاد)، وميَّزوا بينه وبين «الصحافة» (بالكسر)، فقصروا «الصحافة» (بالكسر) على معنى الصناعة ومعنى الفن، وخصَّصوا «الصحافة» (بالفتح) لمعنى مجموع الصُّحُف ومعنى الوظيفة الاجتماعية التي تقوم بها الصحف.
وكما كان للتعبير عن الدوريات في مصر وفي بلاد العربية تاريخ، وتطوَّرَ إلى أن استقر عند الصحيفة والجريدة والمجلة، وكان للتعبير عن إصدار الدوريات وفكرتها تاريخ، وتطوَّرَ كذلك إلى أن استقَرَّ عند الصِّحافة (بالكسر) والصَّحافة (بالفتح)؛ فقد كان للتعبير عن العاملين في الصحافة هو الآخَر تاريخٌ وتطوُّرٌ وصَلَا إلى استقرار أيضًا. وقد بدأ التعبير عن أصحاب الصحف والمحرِّرين فيها بلفظ «الصُّحُفِيِّ» نسبةً إلى صُحُف جمع صحيفة، ثم تطوَّرَ إلى صِحَافِيٍّ (بالكسر) نسبةً إلى صِحَافَة، وإلى صَحَافِيٍّ (بالفتح) نسبةً إلى صَحَافَة. ولما كانت كلمتا صِحَافة (بالكسر) وصَحَافة (بالفتح) منحوتتين من الصحيفة، فقد رؤي بعد جدل تناولتْ موضوعَه الجرائدُ والمجلاتُ أن يرجع للتعبير عن المشتغل بالصحف إلى أصل النحت والاشتقاق، وذلك بالنسبة إلى لفظ «الصحيفة». وكانت النسبة إلى الجمع معتبرة خطأ في العهد الذي قام فيه ذلك الجدل — ولم يكن المجمع اللغوي بعدُ ولم يكن قد صدر عنه قراره بإباحة هذه النسبة — فقُضِي على التعبير بالصُّحُفِيِّ «بضم الضاد»؛ لأنه نسبة إلى صُحُف، ووقف البحث عن حد النسبة إلى صحيفة. وكان ذا حظوة في ذلك العهد أيضًا طراز حذف الياء من النسبة إلى فعيلة، بل كانت الصرخة عالية بخطأ القول «بطبيعي» وضرورة القول «بطبعي»، فساد هذا الطراز ما كان قائمًا من جدل، وانتهى الأمر إلى لفظ «الصَّحَفِيِّ» (بفتح الصاد)، واستقر عنده هو الآخَر استقرارًا.
ولهذا اللفظ ذاته وبِوَزْنه ذاته أصلٌ في اللغة، وذُكِر في القاموس. وقد ورد أنَّ الصحفي هو مَن يُخطِئ في قراءة الصحيفة كالصحَّاف الذي تقدَّم ذكره؛ ثم ورد أنَّ الصحفي هو مَن يأخذ العلم عن الصحيفة لا عن أستاذ.
على أنَّ التشريع المصري جاء يقحم نفسه أخيرًا في هذا التطور اللغوي، الذي استدعى استقراره كل ذلك الذي ذكرنا من جهود طوال قرن كامل. فقد صدر في شهر أبريل من سنة ١٩٤١ قانون نقابة الصحفيين؛ ويقضي هذا القانون بقَصْر التعبير بالصحفي على أعضاء النقابة وحدهم، وبمعاقبة مَن يحمل لقب «الصحفي» من غير هؤلاء الأعضاء بالحبس وبالغرامة. ويحصر هذا القانون الترشيح لعضوية النقابة في فئاتٍ معيَّنَةٍ من الذين يتصل عملهم بإخراج الصحيفة، ثم هو يفرض توافُر شروط خاصة فيمَن يختار من هذه الفئات المعينة. ولكن من المشتغلين بالصحف مَن لا تتوافر فيه هذه الشروط، ومَن لا يكون من تلك الفئات، وإذن مَن لا يحق له حَمْل لقب صحفي، وإن اشترك في صميم العملية الصحفية، واحترف واقعًا بالمهنة الصحفية. فهلا يصح أن يُستأنَف الاجتهاد اللغوي في سبيل الوصول إلى أسماء تُطلَق عليهم، ويكون لها اتصال بالمادة الصحفية، كما أنَّ لهم اتصالًا بالحرفة الصحفية؟
إنهم في الواقع فئة من ثلاث: ملَّاك الصحيفة، والصانعون التابعون للصحيفة، والمساهمون غير الملحَقين بهيئة الصحيفة.
وعندي أنه يصح أن نعبِّر عن مالك الصحيفة بلفظ «صاحف» على وزن تاجر، وعن العامل في صناعة الصحيفة فنيًّا عن طريق التحرير وما إليه أو إداريًّا بلفظ «صَحَّاف» على وزن تجَّار وحدَّاد وفلَّاح، وفيه معنى الإكثار والاستمرار، وعن المساهِم في تحرير الصحيفة من الخارج بلفظ «مصاحِف»، وتكون هذه التعبيرات قائمة بذاتها حين لا تتوافر في أصحابها شروط القيد في جدول النقابة التي يقتضيها القانون، وتكون دالَّةً على أنواع الصحفي إذا توافرت هذه الشروط. فيكون هناك صحفي صاحف، وصحفي صحَّاف، وصحفي مصاحِف، ويكون هناك صاحف غير صحفي، وصحَّاف غير صحفي، ومصاحِف غير صحفي. وبهذا يتم التوفيق بين اعتبارات القانون الجديد واعتبارات الواقع في العمل الصحفي القائم، ويعود الاستقرار إلى أسماء العاملين في الصحف، كما كُتِب الاستقرار إلى التعبيرات الخاصة بالصحف وبالصحافة.
على أنَّ هناك إلى جانب هذه الفئات التي اجتهدنا في التعبيرات التي نُطلِقها عليها فئة من الموهوبين الممتازين، الذين لا يدفع بهم إلى الاشتغال بالصحافة واحد من دوافع هذا الوجود العادية التي يتسابق أصحابها إلى كسب المال أو الجاه أو النفوذ، أو مجرد العمل للابتعاد عن مضار البطالة التي تهددهم إذا هم اتجهوا إلى ميدان عمل آخَر، بل يدفع بهم دافع الملكات الملهمة والبذل في سبيل الشيء العام، وعدم الاكتراث لما يصيبهم لأجل هذا الشيء العام من شرٍّ أو يحرمونه من خير؛ لأنهم يحسون في أنفسهم رسالة يجب أن يؤدوها مهما تكلف.
ومن ثَمَّ فإنَّا ننتقل إلى تعريف «الصحافة» مطمئنين إلى استقرار ما اجتهدنا في سبيله من تعبيرات قدَّمنا بها لمبادئ الصحافة العامة.