معاهد الصحافة
اعتاد المشتغلون بالصحافة والمتصلون بها أن يتساءلوا: هل هي مهنة تستدعي من العامل فيها نوعًا من الثقافة التي يُؤهَّل لها في المعاهد العلمية، أو هي موهبة تتوافر مَلَكَاتها دون علاقة محتومة بالدرس والتحصيل؟ والواقع أنَّ تاريخ الصحافة مملوء بذكر صحفيين لم ينشئوا نشأة علمية منتظمة، امتازوا على غيرهم ممَّن حصلوا العلم في المدارس والجامعات، وقد دعا هذا الواقع الكثيرين ممَّن عرضوا لذلك السؤال إلى أن يجيبوا عليه بأن الصحافة موهبة أكثر منها دراسة، وأنَّ العمل الصحفي هو الذي يكوِّن الصحفيين دون حاجة إلى معاهد. ومن هؤلاء الكثيرين مَن لا يتردَّدوا في تقرير أنَّ الصحفي لا تخرجه المدارس والمعاهد، وإنما هو يُولَد صحفيًّا بالطبع، على أنَّ ذلك الواقع في عالم الصحافة وعند غير واحد من المتصلين بها يقابله اتجاه يرى أنَّ الصحافة لا تخرج عن كونها مظهرًا من مظاهر النشاط العقلي، ونوعًا من أنواع الاختصاص الذي يخضع لمبدأ تقسيم العمل وتوزيعه، وهو مبدأ اجتماعي تنطبق عليه قواعد الاجتماع الحديث التي تقول بضرورة الإعداد للمهنة عن طريق الدرس والتحصيل قبل التمرن العملي في بيئة المهنة الفعلية.
وإذا كان الرأي المستند إلى ذلك الواقع الأول هو الذي ساد البيئة الصحفية عادةً، فإن الاتجاه الثاني هو الذي يبدو الآن تفوقه، وهو الذي ستكون له الغلبة آخِر الأمر في وقت قريب؛ فقوانين المطبوعات الحديثة في مختلف أنحاء العالم، تنص على شروط ثقافية بالنسبة لمصدري الصحف ورؤساء التحرير، لا يمكن توافرها إلا فيمَن درس دراسة نظامية، وحصل على إجازات جامعية أو علمية عالية معينة. وقانون نقابة الصحافيين المصري الجديد ينص على ضرورة تحقُّق مثل ذلك الشرط فيمَن يطلبون القيد في جدول النقابة. ولا شك أنَّ الأمر سينتهي إلى تنظيم الصحافة في مصر وغير مصر تنظيمًا علميًّا، بحيث يصبح اشتراط إجازة علمية صحفية معيَّنة أمرًا واجبًا بالنسبة للصحفيين، كما هو واجبٌ الحصولُ على إجازةٍ علميةٍ قانونيةٍ بالنسبة للمحامين، وطبيةٍ بالنسبة للأطباء. وكانت أمريكا هي السابقة إلى السير في ذلك المضمار، فقد لاحت فيها فكرة الدرس الصحفي منذ سنة ١٨٦٩؛ إذ عرضها الجنرال لي القائد السابق للجيش على مجلس إدارة كلية واشنطون، الذي كان قد أصبح هو رئيسه، ونتج عن هذا العرض أن أنشئ في الكلية المذكورة كرسي لتاريخ الصحافة، أنشئ مثله من بعدُ في بعض جامعات أمريكية أخرى، لكن معهدًا للصحافة تُدرَّس فيه مادة الصحافة في ذاتها إلى جانب تاريخ الصحافة والمواد المعاوِنة على تحقيق الثقافة الصحفية الخاصة، لم يوجد إلا في سنة ١٨٩٩؛ إذ أنشئت مدرسة الصحافة في باريس، وقد اندمجت منذ العام التالي — مع بقائها العنصر الأساسي بين سائر العناصر الأخرى — في مدرسة العلوم الاجتماعية العالية التي لا تزال قائمة إلى الآن، ومنذ قيام ذلك المعهد الأول أخذت أمثاله تنشأ في فرنسا وأمريكا وغيرهما من الدول، وتراوح الإنشاء بين أن تكون مدارس الصحافة ومعاهدها منشئات خاصة تستند إلى مجهودات أفراد من الأساتذة والصحفيين، أو مجهودات نقابات الصحافة وجماعات الصحفيين، وبين أن تكون منشئات عامة تشرف عليها الجامعات ووزارات المعارف.
أما في فرنسا فقد قامت إلى جانب قسم الصحافة في مدرسة الدراسات الاجتماعية العالية، وهي منشأة خاصة، مدرسةُ صحافة أخرى تابعةٌ للكليات الكاثوليكية في مدينة ليل، كما أنشئ في سنة ١٩٣٧ معهد للصحافة تابع لجامعة باريس، فتغلب عليه بحكم هذه التبعية المسحة النظرية، وتنطبع دروسه بالطابع العلمي، ومدة الدراسة فيه سنتان، كما هي في المدرستين الأوليين.
وفي أمريكا أنشئت أولى مدارس الصحافة سنة ١٩٠٨ في مدينة كلومبيا بولاية مسوري، وقد أسَّسها أستاذ في جامعة مسوري، وجعل مدة الدراسة فيها أربع سنوات، فأينعت وكان إيناعها دافعًا جامعة كلومبيا بنيويورك إلى إنشاء مدرسة ثانية سنة ١٩١٠، تبعتها مدارس أخرى في جامعات أمريكية أخرى، أنشئت بين سنة ١٩١٠ وسنة ١٩١٧، واستندت دائمًا إلى روح التعليم الجامعي وطبيعة الدراسة العلمية. وكانت الحرب العالمية قد جعلت للأخبار وجلبها والصحف وإصدارها مقامًا اجتماعيًّا ممتازًا، فزاد إنشاء معاهد الصحافة، لكن اصطبغت هذه المعاهد الجديدة بالصبغة العملية التي كان اعتبار السرعة وليد الحرب الكبرى قد نشرها على كثير من أنواع النشاط البشري، وكان من شأن ذلك الإقبال أن سجَّل إحصاءٌ جرى سنة ١٩٢٧ أنَّ ٢٣٠ جامعة وكلية في الولايات المتحدة تدرس الصحافة، وأنَّ ٥٥ منها تتبعها مدارس صحافة كاملة أو معهد جامعي مخصص.
أما في ألمانيا فينطبع تعليم الصحافة بطابع الجمع بين العمليتين الأمريكية والتحقيق العلمي الفرنسي، يضاف إليهما اعتبار رد الفعل الذي بدا صارخًا بعد الانهزام في الحرب العالمية الكبرى سنة ١٩١٨، والذي أرجع إلى عدم كفاءة الصحافة، وقد أهملت التنظيم، وأمعنت في الأكاذيب جانبًا غير قليل من تبعة الهزيمة والانكسار، فاتجه الرأي إلى تدعيم دراسة الصحافة تدعيمًا علميًّا نظريًّا، وتدعيمًا عمليًّا واقعيًّا، عن طريق انتقاء المدرسين بين أساتذة الجامعات المعدودين أمثال كارل بوخر الاقتصادي ذي الشهرة العالمية في جامعة لبزج، والاجتماعي كيغ في جامعة هايدن برج، وكبار الصحافيين أمثال زايلنجر أحد رؤساء التحرير في جريدة دتيش الجماين سيتنج، وقد عهدت إليه جامعة برلين سنة ١٩١٩ بتدريس علم الصحيفة، ودوفي فات الصحفي الرحَّالة الذي كان مراسلًا خاصًّا لعدة صحف ألمانية من إنجلترا وأمريكا.
وفي غير فرنسا وأمريكا وألمانيا وإنجلترا محاولات في سبيل تأسيس معاهد خاصة للصحافة تُشرِف عليها الحكومة كما هو الشأن في تشيكوسلوفاكيا، أو الجامعات كما هو في زيوريخ بسويسرا، أو جماعات الصحافة كالحال في بلجيكا. وقد أنشأت روسيا السوفيتية عدة معاهد للصحافة، وراحت في تنظيمها إلى حد التخصيص بالموضوعات أو بالمناطق والبلاد. أما إيطاليا فليس فيها معهد خاص بدراسة الصحافة، لكن في كلية العلوم السياسية في بيروز كرسيًّا لتاريخ الصحافة وتشريعها.
وعلى الرغم من قيام كل تلك المدارس والمعاهد، فلا تزال الآراء منقسمة من حيث ضرورتها الحتمية للصحافة أو عدم ضرورتها، وإن كان هناك إجماع على الاعتراف لتلك المنشئات بفضل إبعاد العناصر الجاهلة عن الصحافة، وبفضل زيادة المعلومات ورفع المستوى الذهني عند الذين يتقدمون إلى العمل فيها، وقد قام بعضهم بتحقيقٍ سئل خلاله كبار المشتغلين بالصحافة والمتصلين بها من المفكرين والقادة: هل تُخرِج معاهد الصحافة صحفيين أحسن من غيرهم وأقدر على أشغال الجمهور؟ فكان الجواب نعم، فيما يُشبِه الإجماع من ناحية الأمريكيين، وأجاب كثيرون من الصحفيين المحترفين في فرنسا وإنجلترا أنهم لا يزالون عند اقتناعهم بأن للغريزة الصحفية أهمية أكبر من الإعداد المنظَّم، وهي إجابة غير قاطعة؛ إذ لو اتصلت الغريزة الصحفية بالإعداد المنظم لأفادت الغريزة من الإعدادية بلا ريب، وَلَدَلَّتْ هذه الإفادة على فضل الإعداد، ثم إنها إجابة من محترفين لم يُعَدُّوا إعدادًا صحفيًّا منظَّمًا، فيصعب عليهم أن يعترفوا بنقص في التكوين الذي تتطلبه الحرفة. والرأي عندنا هو أنَّ للموهبة الصحفية فضلها العظيم بلا مراء، ولكن صقلها بالإعداد العلمي المنظم يُنتِج بلا ريب أقرب الصحفيين إلى الكمال وأقدرهم على القيام بأعباء المهنة. على أنه لم يَقُلْ أحد إنَّ الغريزة الصحفية متوافرة لدى كل العاملين في الصحف، بل إنَّ كثرة الصحفيين تنقصهم تلك الغريزة التي لا يحظى بها إلا الأقلون، فيجب أن تعوض عليهم عن طريق الإعداد المنظَّم في معاهد الصحافة، التي نعتقد أن سيتوالى تقدُّمها ونفعها مع الزمن في جميع البلاد، بحيث تصبح إجازتها العلمية هي التي يشترط توافرها في الصحفيين المقبلين، كما انتهى الأمر إلى اشتراط توافر إجازة الحقوق في المحامين، والطب في الأطباء، والتعليم في المعلمين، بعد أن مرت المحاماة والطب والتعليم بأدوار مخضرمة كالتي تمر بها الصحافة هذه الأيام.