سيادة الأمة
قابل شعب وادي النيل حركة الجيش بالتأييد، بل الحماسة؛ لأنه رجا أن تُسفِر عن ردِّ سيادته إليه، بعد أن حرمه النظام الملكي الفاسد من تلك السيادة، وبعد أن أصبحت عبارة «الأمة مصدر السلطات» ألفاظًا خاوية لا تحمل أي حقيقة، فكان الملك هو الذي يعين الوزارات، وهو الذي يقيلها، ويحل البرلمانات، ويتحكم في الأداة الحكومية كلها؛ يمنح من يشاء ويحرم من يشاء، ويحابي ويعادي بحسب هواه، حتى أصبح العالم أجمع يتحدث عن وجود حزب في مصر يسمى «حزب السراي»، وكان الإنجليز بنوع خاص يرون أن مصر لا يقوم فيها غير حزبين لا ثالث لهما؛ وهما: «الوفد» و«حزب السراي»، وذلك قبل أن يضطر الوفد في حكمه الأخير إلى مهادنة الملك. وكان المفهوم أن يؤدي طرد الملك من مصر إلى أن تعود السيادة إلى الأمة بعد زوال مغتصبها، وأن يصبح رضا الأمة وثقتها الوسيلة الوحيدة لتولي الحكم في البلاد، وتوجيه مصيرها.
ولكن هذا الحلم الجميل لم يتحقق حتى اليوم؛ وذلك لأن الدستور والقوانين هما وعاء سيادة الأمة، وكان من الواجب أن تبدأ حركة التطهير بتناول ذلك الدستور وتلك القوانين.
ولكن الحركة وقفت حتى اليوم عند الأشخاص، فهي قد عزلت شخص الملك، ولكنها لم تعزل النظام الملكي، وهي تركز جهدها اليوم في تطهير أجهزة الدولة من بعض الأشخاص، ولكنها لم تطهر تلك الأجهزة من القيود والثغرات المخيفة القائمة في الدستور، وفي القوانين والنظم المتراكمة من العهد المنقرض، والتي ربما كان الأفراد موضوع النقمة اليوم هم أيضًا من ضحاياها.
ولا بد لكي تتحقق آمال الشعب من تلك الحركة المباركة، أن يروا الثورة تصلح النظم لا الأفراد فحسب، ونحن في بلاد أصابها الاستعمار والاستبداد خلال سنين طويلة بأمراض عميقة، لم تستقم معها أخلاق ولا تقاليد يمكن الاعتماد عليها في تلافي العيوب والثغرات الموجودة في النظم، كما ينظمها الدستور والقوانين؛ ولذلك لا بد لنا من الاعتماد أولًا وقبل كل شيء على الدستور والقوانين وإحكام صياغتها؛ حتى يتكون في ظلها المواطن الصالح.
والبون شاسع بيننا وبين البلاد ذات التقاليد السياسية والأخلاقية المتينة التي تكونت على مدى السنين والتجارب؛ ففي مثل تلك البلاد لا يعلِّقون أهمية كبرى على نصوص الدستور والقوانين المكتوبة؛ لأن التقاليد والأخلاق عندهم هي دستورهم الأعلى الراسخ المتين.
وفي فجر التاريخ عندما أخذ الإغريق يصنعون أسس الحكم الديمقراطي، بلغ بهم الحرص على تأكيد معنى سيادة الأمة وكونها مصدر السلطات حدًّا جعلهم لا يقبلون مبدأ التمثيل النيابي، بل يعطون حق حضور الجمعية العمومية للشعب — أي البرلمان — لجميع المواطنين على السواء، بدلًا من أن يمثلهم نواب كما هو الحال اليوم. وقد استطاعوا تحقيق هذا المبدأ؛ لأن كل مدينة كبيرة من مدنهم كانت تعتبر دولة مستقلة بجمعيتها الشعبية العامة ونُظم حكمها. ولما كانوا قومًا عمليين دقيقي الفهم للحقائق، فقد خشوا أن تكون المساواة بين المواطنين في حضور الجمعية العامة حقًّا نظريًّا لا يتمتعون به فعلًا، وذلك بحكم أن فقراءهم قد تضطرهم ضرورات كسب قوتهم إلى الانصراف إلى عملهم بدلًا من حضور جلسات الجمعية التي توضع فيها القوانين المنظمة لأدوات الحكم. وقد رأوا أن تلتزم الدولة بدفع تعويض لكل مواطن فقير عن كل جلسة يحضرها، وبذلك تضمن حضورهم، وتُمكِّنهم عمليًّا من استخدام حقهم في المساهمة في إدارة وطنهم.
ومن البديهي أن مثل هذا النظام لم يعد — لسوء الحظ — ممكنًا في البلاد الحديثة، حيث يبلغ عدد المواطنين الملايين، ولا يمكن بالبداهة إعطاءهم جميعًا حق الحضور في الجمعيات الشعبية العامة؛ أي البرلمانات، ولكن لا أقل من أن يتمكنوا عن طريق التمثيل النيابي من استخدام حقهم في توجيه سياسة وطنهم بواسطة برلمانهم المنتخب انتخابًا حرًّا.
نعم، إن النظام النيابي منذ أنشئ في مصر سنة ١٩٢٤ حتى اليوم لم يؤتِ ثمرته المرجوة، ولكن هذا الفشل لا يرجع إلى فساد ذلك النظام في ذاته، وإنما يرجع إلى وجود السيطرة الاستعمارية من جهة، والاستبداد الملكي من جهة أخرى، فهذان العاملان قد كان لهما أثر بعيد في وجود العيوب والثغرات القائمة في دستور سنة ١٩٢٣، وفي القوانين التي تراكمت بعد صدوره، ووسعت من تلك العيوب والثغرات. وجاء التطبيق العملي لنصوص الدستور والقوانين فزاد الطين بلَّة، وأفسد الصالح من كل تلك النصوص، بينما بالغ في أذى المعيب الفاسد منها.
وإنه وإن يكن الاستعمار لا يزال جاثمًا على صدر الوطن، ولا يزال وجوده قيدًا ثقيلًا على سيادة الأمة وحريتها في أن تختار ما تريد من نُظم، وأن تطلق ما تصبو إليه من حريات، إلا أن وطأة هذا الاستعمار قد أصبحت غير مباشرة، وبخاصة في حياتنا الداخلية، كما أن زوال آخر ملك مستبد قد حرر الأمة من قيد ثقيل، وأصبح من الممكن اليوم أن تقوم تلك الأمة بحركة تطهير واسعة في نظمها.
ذلك أنه من الثابت أن هذه النظم إذا ظلت سائدة، فسوف تفسد أشخاصًا آخرين، وهكذا نظل ندور في حلقة مفرغة، والذي يجب أن يؤمن به كافة المواطنين هو أن الفساد قد كان في النظم بقدر ما كان في الأشخاص، بل ربما تقضي العدالة المطلقة بألا يتحمل الأشخاص من ذلك الفساد إلا القدر الذي أضافوه إلى الفساد الناتج عن النظم ذاتها.
لقد بني دستور سنة ١٩٢٣ على أساس أن الأمة مصدر السلطات، ومع ذلك نص ذلك الدستور نفسه على مسائل حرَم الأمة من حق تعديلها أو اختيار غيرها، وهي مسائل كبرى إذا خرجت من نطاق سلطة الأمة أصبحت هذه السلطة لفظًا خاويًا، ومِن بينها عدم جواز تعديل ذلك الدستور فيما يختص بشكل الحكم في مصر؛ أي إنه ملكية دستورية، كما نص على عدم جواز تغيير نظام وراثة الملك.
إن الدستور ليس إلا مصدرًا لسيادة الأمة، ولا يجوز أن يحد من تلك السيادة، بل يجب أن يكون خاضعًا لها، وما هو في جوهره إلا عقد ضمنيٌّ بين جميع المواطنين، وهو لا يستمد قوته إلا من موافقة الأمة العامة، أو على الأقل موافقة أغلبيتها، فإذا اتفقت الأمة على نظام وأرادته يجب أن ينفذ هذا الاتفاق وذلك الرضا، وألا يقوم في سبيل ذلك أي عائق.
إن مبدأ سيادة الأمة لا يجوز أن يظل حبرًا على ورق، وفي بلد سياسيٍّ ناشئ كمصر لا بد من أن يستند هذا المبدأ إلى نصوص صريحة دقيقة، بحيث يصبح حقيقة واقعة يأخذ بها الجميع إلى أن تنشأ في بلادنا تقاليد وأخلاق سياسية سليمة؛ ولذلك لا مفر من وجوب الإسراع في مراجعة كافة القوانين العامة؛ لتخليصها من كل القيود الواردة على سيادة الأمة، بل وتنفيذ تلك السيادة تنفيذًا عمليًّا.