الأرستقراطية والديمقراطية
قلنا إن الإغريق مخترعي الديمقراطية قد بلغ حرصهم على تمكين جميع المواطنين من استعمال حقوقهم السياسية حدَّ تعويض دهمائهم عما يفقدونه من رزقهم لترك عملهم، وحضور جلسات الجمعية الشعبية العامة؛ أي البرلمان. وبالرغم من تتابع القرون وتطور النظم، فإن هذه النظرة الإنسانية الواسعة هي التي لا تزال محك الديمقراطية الصحيحة، كما لا تزال أنجح وسيلة لاستقرار حياة الهيئة الاجتماعية وسعادة أفرادها؛ ولذلك يجب أن يظل وعاء سيادة الأمة أوسع ما يكون نطاقًا، بحيث يتمتع بالحقوق السياسية الكاملة كل مواطن شريف، غنيًّا كان أو فقيرًا، عالمًا أو جاهلًا، فلا يجوز أن يحرم أحد من حق المساهمة في تقرير مصيره، وإلا نزلنا به إلى مستوى الجماد أو الآلة التي تستغل. وهذا وضع لا يقبله البشر إلا مرغمين، وما إن تسنح لهم الفرصة حتى يحطموه، فتضطرب الحياة العامة، وتفسد القلاقل انسجامها وقدرتها على التقدم والإنتاج.
والفقير من حقه على الدولة أن ترعاه، والجاهل من حقه أن يتعلم، والدولة ملزمة بأن تعوضهم عن خطئها وتقصيرها في تركهم فقراء أو جاهلين، فكيف يجوز القول بأن تحرمهم من حقوقهم السياسية أيضًا؟ وبذلك نرتكب في حقهم خطأ جديدًا يوجب مساءلتها عنه، وبخاصة إذا فهمنا الفقر على أنه اضطرار الفرد إلى العمل اليومي لكسب قوته، وإذا فهمنا الجهل على أنه عدم الإلمام بالقراءة والكتابة، فضرورة العمل ليست مظهر الفقر. ومن المعلوم أن العمل هو المصدر الأول إن لم يكن الوحيد للإنتاج، كما أن الجهل لا يأتي من عدم الإلمام بالقراءة والكتابة والأمية، وإنما هي آفة العقل. وكم ممَّن نسميهم أُمِّيين يجيدون فهم الناس والأشياء! وصحة تقدير الأمور على نحو خير مما يستطيع مَن يقرءون ويكتبون! بحكم ممارسة أولئك الأميين للحياة، ومخالطتهم لمختلف الأوساط. وهناك قدر كبير أساسي من العقل مشترك بين البشر. وإذا كان التعليم النظري يزيد من قوة هذا القدر، فإن الحرمان من ذلك التعليم لا يعني عدم وجوده.
ولقد منيت مصر منذ فجر نهضتها؛ أي منذ عام ١٩١٩، على الأقل، بنفر من أبنائها، كانوا يسيئون دائمًا الظن بصغار مواطنيهم، وكانوا يسمونهم أحيانًا بذوي الجلاليب الزرقاء، وأحيانًا بالرعاع، وأحيانًا بالدهماء، وذلك لا لشيء إلا أن هذا النفر كان يملؤه الغرور، وكان يظن أن مواهبه لا مثيل لها، وأن الشعب إذا كان لا يوليهم ثقته، فليس ذلك لعيب فيهم هم، وإنما لعيب فيه هو؛ أي لبلاهة وغباء وعجز عن تقدير قيم ذلك النفر الممتاز. وكان هذا مصدر بلاء للحياة السياسية الديمقراطية في مصر؛ وذلك لأن هذا النفر الطموح المغرور عندما عجز عن أن يتحكم في مصير الوطن وتحقيق أهوائه عن طريق ثقة الشعب، أخذ يلتمس السبيل: إما عن طريق المستعمرين الذين يملكون القوة المادية، وإما عن طريق السراي التي لم تكن أحسن ظنًّا منهم بسلامة الفطرة الشعبية، وكان يسرها أن تتخذ هذا النفر الطامح المغرور سوط عذاب للتنكيل بالشعب وزعمائه، ولكننا وقد تخلصنا من طغيان السراي، وأوشكنا أن نتخلص من نفوذ الاستعمار، يجب أن نحرص الحرص كله على توسيع نطاق الرقعة الشعبية، وأن نرغم جميع رجال السياسة على ألا يلتمسوا سلطانًا إلا عن طريق مصدر تلك السلطات؛ وهو الشعب وحده.
وأما القول بأن ما يسمونهم «صفوة الأمة» و«الأخيار»، أو «المثقفين» أو «الفنيين» هم وحدهم الذين لهم الحق في توجيه سفينة الدولة، والسيطرة على قيادتها، فتلك هي النزعة الأرستقراطية البغيضة، التي لم تتمخض في تاريخ الإنسانية إلا عن نظم «الأوليجاركية»؛ أي نظم حكومات الأقليات. وقد باءت كلها بالفشل، سواء استندت هذه الأقلية إلى نبالة الدم، أو سيطرة المال، أو سيطرة العقل نفسه؛ وذلك لأنها لم تقم إلا على الأثرة وحب النفس، والرغبة الآثمة في احتكار خيرات الوطن، واستعباد طائفة قليلة لجماهير الشعب، وأن منح الحقوق السياسية لكافة المواطنين وسيلة فعالة لرفع مستواهم المادي والثقافي، بينما حرمانهم من تلك الحقوق يتركهم عبئًا ثقيلًا على الدولة، يعوِّق تقدُّمها، وتحقيق الانسجام والتقارب بين طبقاتها الاجتماعية المختلفة، بما في ذلك من قلقلة لأسس الحياة العامة.
ولقد نكبت مصر بعدد كبير من حكومات الأقليات، ولم تجن من تلك الحكومات غير الوبال، ولو لم يكن من أذاها غير وقوف جماهير الشعب منها موقف الحذر المتوجس، وما يستتبع ذلك من ركود في النهوض والإنتاج؛ لكفى ذلك لإدانتها، فما بالنا وقد كانت جماهير الشعب تنفق أكبر جهودها في محاربتها، وتحطيم كافة مشروعاتها، ولو كان من بينها ما لا يخلو من نفع؛ وذلك لأن قيام تلك الحكومات بغير رضا الجماهير كان في ذاته داعيًا لكرهها، وعدم الاطمئنان إلى نياتها.
وليست العبرة في نجاح الحكومات بتوفير الكفايات لأعضائها؛ وذلك لأن أي كفاية مهما كانت فذة لا تستطيع أن تنتج شيئًا في بيئة معارضة ساخطة، وكفاءة أقل امتيازًا قد تأتي بالمعجزات إذا أحاطتها بيئة محبة مطمئنة واثقة متعاونة. ومجموع الأمة هو الذي ينتج العبقريات الفردية؛ لأن الأمة هي التي تعمل وتنفذ، وليست للخطط والمشاريع أية قيمة عملية إذا لم تلق استجابة حماسية من جماهير الشعب، والشعب لن يمنح هذا التأييد وتلك الاستجابة إلا إذا أحس بأنه مساهم في تلك المشروعات، عن طريق اشتراكه في توجيه سياسة الدولة العامة، بمزاولته لحقوقه السياسية. وأيه حركة إصلاحية منعزلة عن الشعب لا يمكن أن تؤتي ثمارها كاملة، ولا أن يُضمن لها البقاء.