الحريات العامة
وإذا سلمنا بأنه من الواجب أن تصبح الأمة حقيقةً مصدر السلطات، فإنه يتحتم أن نمنحها الوسائل التي تستطيع بها تحقيق تلك السيادة؛ حتى لا تعود فتجد نفسها في حاجة إلى القوة المادية وإلى العنف لرد الاعتداء على سيادتها، أو استردادها إذا اغتُصبت منها.
والديمقراطية لا تعرف وسيلة لتحقيق سيادة الأمة غير إطلاق حرياتها، بحيث يستطيع كل مواطن أو كل جماعة من المواطنين أن يبدوا آراءهم، وأن يدلوا إليها في حرية عن طريق الاجتماع والخطابة والنشر، والتظاهر السلمي، والحق في الامتناع عن العمل؛ حتى لا يصبح إلا الإكراه على الاستمرار فيه نوعًا من السخرية البغيضة، التي تخلَّص منها الجنس البشري كآخر أثر من نظام الرق القديم.
وهناك ظاهرة لا تغيب على أحد؛ وهي أن القوانين قد تطورت باستمرار نحو تقييد الحريات؛ حيث رأينا كافة العهود تضيف قيودًا جديدة إلى القيود السابقة، وقلما رأينا حكومة تلغي شيئًا من تلك القيود، حتى ولو كان فرضها قد استوجبته ملابسات عابرة انقضت، وكان يجب أن تنقضي معها تلك القيود. ولسوء الحظ، كانت الحكومات المختلفة تجد في الدستور نفسه سندًا واهيًا تستند إليه في سن تلك القوانين الرجعية، فإذا وجدت حكومة نصًّا في الدستور يكفل للمواطنين حرية الاجتماع مضافًا إليه عبارة «في حدود القانون»، لم تفسر هذا القيد بالروح الديمقراطية السمحة، بل اتخذت منه سندًا لتقييد حق الاجتماع بقيود تعتبر بمثابة إعدام لهذا الحق من أساسه. وكذلك الأمر في النص الدستوري الذي يحرم إنذار الصحف أو تعطيلها إداريًّا، فقد استغلت إحدى الحكومات السابقة القيد الوارد على هذا الحظر والقائل بإباحته في حالة لزوم ذلك لحماية النظام الاجتماعي؛ لكي تنكل بالصحف عن الطريق الإداري، فلم تنذرها أو تعطلها فحسب، بل ألغتها إلغاء تامًّا، ومحتها من الوجود تحت شعار حماية الدولة من الشيوعية، مع أن الأمة كلها تعرف أن ذنب كل تلك الصحف كان عندئذٍ معارضتها القوية في إبرام معاهدة صدقي-بيفن.
وكذلك الأمر في كافة الحريات الأخرى، فإن دستور سنة ١٩٢٣ ترك باب العصف بها مفتوحًا عن طريق القيد الذي أخضعها له، وهو عبارة «في حدود القانون»، وهو قيد يجب أن نطهِّر منه الدستور الديمقراطي الذي تتطلع إليه البلاد؛ بحيث لا يكون هناك قيد على الحريات العامة إلا ما توجبه طبيعة تلك الحريات، وضرورة تمتع الجميع بها دون اعتداء من أحد على حرية الغير؛ فالشيء الوحيد الذي يجب أن يُحظر في مجال الحريات هو استخدام العنف لإملاء رأي، أو الاعتداء على حريات المواطنين الآخرين.
وإذا كان هناك رأي يقول بوجوب الحد من حريات الأفراد للتوفيق بينها وبين سيادة الدولة، فمن الواجب أن تُفهم تلك السيادة على أنها توكيل من الأمة للدولة لكي تعمل على تحقيق حريات المواطنين، وكفالة حقوقهم عن طريق القانون بدلًا من طريق القوة الذي كان يسود في عصور الهمجية قبل أن ينشأ نظام الدولة. وعلى هذا النحو يكون التوفيق بين الحريات العامة وبين سلطة الدولة محصورًا في عدم السماح باستخدام العنف في مجال الحريات. والمقصود بالعنف هو طبعًا أعمال الاعتداء الإيجابي؛ بحيث لا يمكن أن ينطوي تحت العنف حق الفرد في الامتناع عن العمل، مثلًا، إذا كان لا يتقاضى عنه الأجر الممكن العادل، أو كان يزاوله في ظروف تأباها كرامة البشر، فإن مثل هذه المقاومة السلبية يجب أن تُعتبر مشروعة، وإلا اعتبر الإكراه على العمل — كما قلنا — فرضًا لنوع من السخرية البغيضة.
لقد قلنا إن الحركة التي قام بها الجيش هي فرصة ذهبية قلما يتاح مثلها لتطهير بلادنا من هذه النظم الفاسدة، وكلما فعلنا في تطهير الأشخاص، يجب أن تنهض بتطهير تلك النُّظم؛ وذلك بغربلة الدستور، وغربلة كل تلك القوانين المقيدة للحريات، والتخلص منها نهائيًّا، بحيث لا يصبح هناك على الحريات العامة أي قيد، غير قيد حظر العنف خدمةً للحريات ذاتها، بحيث يستطيع جميع المواطنين التمتع بها دون اعتداء مواطن على آخر، أو من هيئة أو حزب على آخر. وليس من شك في أن إطلاق الحريات سينفي عن الأمة كل حاجة إلى استخدام العنف لرفع ما تشاء من ظلم، أو ما ترتع فيه من بؤس؛ وبذلك تستقر النظم، وتطمئن النفوس، وتنشط قوى الأمة ومواهبها للعمل في سبيل الإنتاج المثمر، والرقي المادي والأدبي والأخلاقي. والحرية هي خير مدرسة للأخلاق، بل وللنبوغ وللازدهار، وهيهات أن ينهض شعب بليد، شعب ذليل مستعبد …
وإذا كانت قوانين العقوبات العادية لم تعد تكفي في نظر المفكرين ورجال الإصلاح للقضاء على الجرائم مهما اشتدت العقوبات التي تفرضها تلك القوانين، بحيث أصبح هؤلاء المفكرون يدعون إلى محاربة الجريمة بالبحث عن أسبابها وبواعثها، ومعالجة تلك الأسباب، فكيف يمكن الظن بأن فرض عقوبات على حريات المواطنين المشروعة يمكن أن تحملهم على التخلي عن حقهم في التمتع بتلك الحريات، وجميع المفكرين يقررون بحق، مثلًا، أن الفكرة أشبه ما تكون بالمسمار الذي كلما ضربته فوق رأسه ازداد توغلًا في الخشب؛ ولذلك نرى الحركات التي تقاومها بعض الحكومات المستبدة برأيها لا تختفي، بل تغوص تحت الأرض لتعمل. والعمل في الظلام لا شك أنه أكثر خطرًا من العمل في وضح النهار. وليس من شك في أن الأمة المصرية قد اختبرت هذه الحقيقة اختبارًا مرًّا؛ فقد جاء وقت لم يكن مواطن يستطيع أن يفكر مجرد تفكير في شيء من مفاسد النظام الملكي في مصر، ومفاسد الملك، فضلًا عن الجهر بها، ومع ذلك انتشر السخط على هذا النظام وعلى ذلك الملك انتشارًا نحمد الله على نتيجته الرائعة.
وليس من شك في أنه لو كان للمصريين حق انتقاد الملك وتصرفاته، على نحو ما نشاهد في إنجلترا مثلًا؛ حيث يقف الخطباء في هايد بارك، فضلًا عن الصحف والبرلمان، لكي يوجهوا ما يشاءون من لوم للملك وأسرته، وتصرفاته العامة والخاصة، ويطالبون بمؤاخذته على تلك التصرفات، ولو كانت شخصية بحتة. نعم لو أن المواطنين المصريين كان لهم شيء من هذا الحق؛ لثاب الملك السابق إلى رشده منذ حين، ولما استطاع أن يستمر في فساده وطغيانه وانحلاله إلى هذا النحو الفاضح.
إن هذه الحركة التي حررتنا من طغيان فاروق يجب أن تحررنا أيضًا من طغيان القوانين التي وضعت في ظل فاروق وأبيه، وفي ظل الإنجليز من خلفهم، وإلا ظل الوباء منتشرًا في البلاد، وكما فسد الأشخاص الذين طهَّرنا البلاد من شرورهم، سيفسد غيرهم في ظل نظم العبودية القائمة، وسنضطر عندئذ إلى مواصلة تطهير الأشخاص؛ أي إلى القضاء على الأمة كلها.
إن خير وسيلة لحمل المواطنين على احترام القانون والنظام هي منح المواطنين حقوقهم وحرياتهم، فالرجل الحر لا يتمرد، وإنما العبد هو الذي يتمرد، فعلينا أن نخلق من المواطنين رجالًا أحرارًا، وعندئذ سنرى في كل منهم جنديًّا من جنود النظام، ومدافعًا عن القوانين التي يتمتع في ظلمها بحقوقه وحرياته. أما أن نطالب المواطنين باحترام قوانين رجعية ظالمة، فهذا هو الوهم السخيف.