الديمقراطية والاستقرار السياسي
والذي لا شك فيه أن الاستقرار الاقتصادي إن هو إلا مظهر آخر للاستقرار السياسي، وتحقيق الديمقراطية بمعناها السليم هي الطريق الوحيد إليهما؛ وذلك لأن مجتمعنا يقوم على مصالح متفاوتة، وأحيانًا متعارضة، والتفاعل الديمقراطي هو الكفيل بخلق توازن بين تلك المصالح يهيئ السبيل للتقدم القومي العام بزيادة الإنتاج، وأحكام العدالة في التوزيع.
ولقد خطا العهد الجديد خطوة طيبة بإصدار قانون الإصلاح الزراعي، ولكن بقيت مهمة شاقة، وهي توجيه ثمرة هذا الإصلاح نحو زيادة الإنتاج في البلاد، سواء في الميدان الزراعي أو الصناعي أو التجاري، وإذا كان هذا الإصلاح الخطير قد حققته ثورة، فإننا نطمح إلى تنمية الإنتاج، وتصنيع البلاد، واستغلال منابع الثروة فيها؛ وذلك لأن مثل هذه المشروعات الضخمة لا يمكن أن تتم إلا برضا المواطنين واتفاقهم، ومراعاة مصالحهم أجمعين، فلا بد من أن يطمئن صاحب رأس المال على مصيره، كما لا بد أن يطمئن العامل على ثمرة عمله، ولا بد أن يقوم توازن بين مصلحة المستهلك الذي يطلب الرخاء من كل سبيل، وبين مصلحة المنتج الذي يلتمس الربح، ويطلب من الدولة حمايته ضد المنافسة الأجنبية.
وإطلاق الحريات الديمقراطية هو السبيل الذي يؤدي إلى قيام التوازن بين هذه المصالح المتعارضة، على نحو يرفع عن الجميع أكبر ضرر ممكن، ويحقق لهم أكبر نفع مستطاع.
ولقد كان من المتوقع أن يؤدي قانون الإصلاح الزراعي إلى توجيه رءوس الأموال نحو الصناعة، فيقبل المواطنون على شراء الأسهم الصناعية الموجودة في السوق المالية، أو على تأسيس شركات جديدة، ولكنا حتى اليوم لم نر أثرًا محسوسًا لمثل هذا الاتجاه، وإذا بنا نسمع عن تفكير في علاج هذه الحالة عن طريق تعديل قانون الشركات، وقانون استغلال المناجم، وعقد معاهدات مالية وتجارية مع الدول الأجنبية، وبخاصة الرأسمالية منها؛ لفتح أبواب بلادنا أمام رأس المال الأجنبي، والاستغلال الأجنبي. ولا نظن أن هذه هي الحلول الموفقة لإنقاذنا مما نحن فيه من ركود اقتصادي، وإنما الحل هو البحث عن الوسائل الكفيلة بإغراء رأس المال المصري وتجنيده لتصنيع البلاد، واستثمار موارد ثروتها الطبيعية؛ وذلك حتى تظل خيرات بلادنا لبنيها، وحتى لا ننكب باستعمار اقتصادي لا يقل في خطورته عن الاحتلال العسكري، إن لم يَفُقْه أذًى.
والاستقرار السياسي على أساس ديمقراطي سليم هو العامل النفسي الأول في إغراء المستثمرين على الاستثمار. ومن هنا تظهر الحاجة الملحة إلى ضرورة الإسراع في إرساء الأسس الصالحة لنظام الحكم الديمقراطي المستقر في البلاد. ومن الواجب ألا نكتفي بحلول مؤقتة، وألا نرجئ البت في شكل الدولة العام إلى أية فترة أخرى؛ وذلك حتى تستقر سفينة الوطن على بر الوصول، ولا يطول تقاذف الموج لها بما يستتبع ذلك من قلقلة، وعدم استقرار، وانكماش في الإنتاج والتداول والمعاملات بوجه عام، انتظارًا لما تستقر عليه الأمور، على نحو ما نسمع كل يوم في كل مكان.
ولقد تراكمت في مصر منذ سنين مشروعات الإنتاج المختلفة، والمصريون لا يشكون من عدم وجود المشروعات، والتفكير فيها، والدعوة إليها، وإنما يشكون من عدم التنفيذ. ومن المعلوم أن من واجب الدولة أن تحدد أولًا سياستها الاقتصادية، وموقفها من عمليات الإنتاج، وهل تريد أن تتولى هي كل أو بعض تلك العمليات، أم أن تكتفي بالإشراف القريب أو البعيد، تاركة للنشاط الحر القيام بهذه العمليات، أم تريد في النهاية أن تجمع بين التدخل والنشاط الحر، فتساهم في تلك العمليات.
وليس من شك في أن إيضاح هذه السياسة سيدعو إلى الطمأنينة، ويمكن رجال الأعمال من الإقدام عن بينة، وبذلك تبدأ حركة تصنيع جديد واسعة النطاق تدر الخير على جميع المواطنين.
وجميع رجال الاقتصاد يرون أن المسألة السياسية في الإنتاج هي مشكلة التمويل؛ لأنه إذا وجد المال أمكن العثور على الخبرة في داخل البلاد وخارجها بسهولة، ومن نشرات البنوك وصناديق التوفير والبريد. يتضح أن في البلاد رءوس أموال طائلة معطلة، ولا شك أن أصحابها يتمنون أن لو أتيحت لهم فرص مأمونة لاستغلال تلك الأموال، والاستفادة من ثمراتها، والاستقرار السياسي — كما قلنا — السبيل الأول لإغراء تلك الأموال على النزول إلى ميدان الإنتاج، إما بشكل أسهم أو في شكل سندات وقروض. ومن الواجب أن نسارع إلى خلق هذا الاستقرار والاطمئنان، حتى نستطيع تجنيد كل تلك الأموال المعطلة. ومن المعلوم في عالم الاقتصاد أن سرعة تداول الأموال لا تقل أهمية عن كمية تلك الأموال، فالقرش الواحد الذي يستخدم عدة مرات في عدة عمليات قد يثمر عن ثمرة إنتاجية لا تحققها عدة قروش لا تتداول غير مرة واحدة. وسرعة التداول أساسها الثقة. ولن ينتفي هذا الخوف إلا بالاستقرار السياسي، ووضوح أهداف الدولة، وخططها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
والاستقرار الاقتصادي لا تستوجبه الحاجة الملحة إلى زيادة الإنتاج في بلادنا فحسب، بل تستوجبه أيضًا ضرورة تلافي القلاقل الاجتماعية التي قد تحدُث إذا انتشرت البطالة في البلاد، وبخاصة بين الطبقات المتوسطة والمثقفة، فضلًا عن الطبقات العاملة، وقد أخذت بوادر تلك البطالة تطالعنا بالفعل في كافة الميادين. والدولة مسئولة عن فتح ميادين للعمل لكافة المتعطلين، وإلا التزمت بتمكينهم من الحياة بالتأمين ضد البطالة. ومصلحة الوطن والشعب تقتضي تفضيل استخدام قوى الأفراد المعطلة على إعانتهم مع تركهم متعطلين، وذلك حرصًا على زيادة الإنتاج وتوفير الرخاء، فضلًا عن صيانة كرامة الأفراد كبريائهم الإنساني.
وقد أصبح حق العمل وحق التحرُّر من الفقر والقلق والخوف من الحقوق التي تلتزم به الدول إزاء رعاياها، ومن الواجب أن ينص على تلك الحقوق الإنسانية في دستور كل أمة متحضرة، وأن تعمل كل دولة على جعل هذه الحقوق عملية نافذة. وكل هذا لا يمكن تحقيقه بغير الاستقرار السياسي، الذي يستتبعه الاستقرار الاقتصادي؛ لفتح ميادين جديدة للعمل والإنتاج المثمر.