تحقيق الديمقراطية السياسية
لقد أعلن قائد الثورة — بعد كتابة ما تقدم — سقوط دستور سنة ١٩٢٣، وعزم الدولة على وضع دستور جديد، وعلل رجال العهد الجديد هذا الإعلان بأن الدستور القديم كان يتضمن قيودًا على حق الأمة في تعديل بعض أحكامه، وخاصة فيما يتعلق بنظام الحكم ونظام توارث العرش كان الدستور القديم يحظر المساس بهما، والمصريون يأملون أن يكون معنى هذا الإجراء تركهم أحرارًا في اختيار النظام الذي يريدونه.
وليس من شك في أن هناك إجماعًا أو شبه إجماع على اختيار النظام الجمهوري، وإن يكن هناك اختلاف في شكل الجمهورية، وهل تكون جمهورية رئاسية، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، أم جمهورية برلمانية، كما هو الحال في فرنسا مثلًا؟ ورئيس الجمهورية في النظام الأول ينتخبه الشعب انتخابًا مباشرًا، فيتمتع بسلطات واسعة في توجيه سياسة الدولة، بينما ينتخب البرلمان الرئيس في النظام الثاني، ويكون عمله قاصرًا على تنفيذ أحكام الدستور المنظم لسيادة الشعب وسيطرته على سياسة وطنه بواسطة ممثليه وحكامه المنتخبين.
وإذا كان الدستور الجديد سيضمن للمواطنين حرياتهم وحقوقهم الأساسية، فإن مهمة اللجنة التي ستتولى وضعه يجب أن تمتد إلى كافة القوانين المقيدة الحريات المتراكمة من العهود الماضية، فتطهر البلاد منها؛ حتى لا تظل تلك القوانين قائمة لشل الحريات والحقوق التي يكفلها الدستور الجديد.
ومن الواجب أن يتبين المصريون أن وضع دستور جديد للبلاد ليس عملًا فنيًّا، قانونيًّا، فقهيًّا، وإنما هو عمل سياسي يجب أن يتم لتحقيق آراء الشعب في طريقة حكمه لنفسه، وكفالة حريته، وتنظيم الدولة التي يعيش في ظلها، والقول بترك هذه المهمة لرجال الفقه أو القانون؛ أي لآلات فنية، قول لا يمكن أن يستسيغه مواطن مدرك، ولا يمكن أن يترك للفنيين صياغة الدستور إلا بعد أن يحدد الشعب أو ممثلوه المبادئ السياسية العامة التي سيقوم عليها ذلك الدستور؛ ولذلك يجب البدء بتحديد المبادئ الأساسية لا أن يأخذ الفنيون في وضع دستور، ثم يعرض هذا الدستور فيما بعد على الشعب أو ممثليه، وإلا كان في ذلك قلب للأوضاع، ووضع للعربة أمام الحصان.
والذي لا شك فيه، أن استجلاء رغبات الشعب واتجاهاته السياسية لا يمكن أن يتم إلا إذا أطلقنا الحريات من كافة القيود، وأبحنا تكوين جميع الأحزاب بلا قيد ولا شرط، ولا اعتراض، ولا ترخيص؛ ولذلك ينبغي أن يصدر قائد الثورة قانونًا بإلغاء جميع النصوص القانونية المقيدة لحريات الرأي، فتزول جرائم الدعوة لقلب نظام الحكم وما إليها، وتنتشر في البلاد الدعوة إلى كافة المذاهب السياسية، ثم تجري بعد ذلك انتخابات للهيئة التأسيسية على أساس هذه المذاهب والآراء الحرة. والأحزاب التي تنال الأغلبية في الجمعية التأسيسية يكون لها الحق في وضع الدستور الجديد على أساس الآراء والمذاهب التي تقدمت بها إلى الأمة، فنالت ثقتها وتأييدها.
وهكذا يتضح كيف أنه لا يجوز أن يعهد بمهمة وضع الدستور إلى لجنة فنية، كما لا يجوز الالتجاء فورًا إلى انتخاب جمعية تأسيسية سياسية، وأن من الواجب هو أن تلغى أولًا الأحكام العرفية، وأن تطلق الحريات من عقالها، حتى تستنير الأمة وتتبين ما تريد، وبذلك يمكن أن تجري انتخابات على أساس الآراء والمذاهب المتعارضة، حتى إذا استقرت أغلبية الرأي العام على اتجاه سجَّل الدستور هذا الاتجاه؛ وبذلك نضمن استقراره، وإمكان تنفيذه، واحترام الجميع له، ولا يكون كتلك الدساتير العديدة التي وضعت في شرق أوروبا، في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين الأخيرتين، أو في الدستور المصري القديم، فكلها دساتير ظلَّت حبرًا على ورق منذ مولدها، ولم تُطبَّق يومًا التطبيق السليم؛ لأنها لم تكن تستند إلى رغبات الشعوب الحقيقية، ولا تتمتع بتأييدها، وإنما استندت إلى نزعات فردية أو أقلية أو سلطات خارجية، وكان من نتيجتها القلقلةُ المستمرة وعدم الاستقرار لحياة البلاد التي نُكبت بها.