القسم الثاني
في مساء ذلك اليوم تُوفيت تلك العجوز، لم تأتِ الحافلة الثانية قطُّ وتأخَّرتُ بالفعل، وفي طريق العودة كنتُ أجلس بالباص إلى جانب ابنتي حينما فكرتُ بذلك، كرهَتْني ابنتي بسبب ما فعلت، ولم يكن هناك من طريقةٍ لأخبرها كم أنا مُتأسف، لكنني كنتُ حتمًا سأكذب بخصوص ذلك، وكنتُ أكره أن أفعل ذلك، فأنا لم أشعر بالأسف، ليس بشكلٍ رئيسي، بل بالغبطة، الإحساس الوحيد الذي يتملَّكني في هذه الأثناء هو غضبي تجاه القدَر، هزمَني مرةً أخرى، وأخذ مني إنسانًا آخر، التفتَتْ إليَّ ابنتي، وأخبرتُها أن أمَّها بالصحراء وهي تشتاق إليها في آخر رسالةٍ منها — كانت تسند رأسها تنظُر عبر النافذة — لم تكلِّمني ابنتي حول الأمر، هي تشتاق إليها أيضًا، وهي تفكر على الأرجح أن والدتها كانت ستنقذ تلك المُربية العربية، أو على الأقل ستفعل ما بوسعها، تعتقد أنني لم أفعل ما يكفي، كنتُ مُجرد حقير آخر، بل ربما أول حقير تلقاه بحياتها، حقير تتصِل به في رباطٍ أُرغمت عليه يوم أطلَّت على هذا الوجود، وأنا متأكد أنها تُفضل أن يكون لها والد غيري، فأنا حسبُها من سيئ، وهي لا تذكر أنني أمضيتُ وقتًا إلى جانبها، وهي مُحقة، حتى إنني لا أذكر ذلك، فقد كان يجب على أحدنا أن يحصل على مالٍ لتغطية تكاليف حياتنا المُترفة، لكنها أصغر من أن تعي ذلك، عدا أنني وفرتُ لها كل شيءٍ وهي على الأقل لم تُنكر ذلك، كانت تُحب هذا المكان برغم حرارته العالية، وقد فهمت ذلك الحب، هي وُلِدت هنا وهي تُشارك العربَ حُبَّهم لهذا الوطن، حب لا يمكن أن يشعر به أحدٌ آخر، كانت تحنُّ على العرب، وكانت تُقدِّر تلك العجوز العربية، لدرجة أنها لم تتوقف عن البكاء عند وفاتها، حتى إنها ألحَّت على مرافقة العرب إلى المقبرة، وكان للعرب عادة تمنع سَير النساء معهم إلى الدفن، وقد أجاز لها أحد شيوخ العرب أن تُرافقهم من دون دخول المقبرة، لا أعتقد أنها ستبكي بذلك القدْر يوم وفاتي، فلستُ سوى والدٍ بيولوجي بالنسبة لها، وكنتُ أمقتُ حالتي هذه، لكنني فُطِرتُ على هذا، حتى إنَّ والدتي أخبرتني أن جدي كان بمثل طباعي وأنني أُشبهه لدرجةٍ مُخيفة. لم تُصدِّق والدتي كيف تكرَّر حدوث ذلك، كيف يمكن أن أكون أنا ووالدها بوجهٍ واحدٍ وفِكرٍ واحد وبروح واحدة، جعلها ذلك تفقد رُشدها وكانت تقول لوالدي أنَّ جدي لم يمُت قبل زمنٍ وإنما هو يعيش بجسدي، وكانت تسألني دومًا إن كنتُ أذكر الحروب النابليونية، كان ينعتُها والدي بالمجنونة، كان يأخذني بعيدًا وهو يقول: لا تُعِر والدتك اهتمامًا، إنها مريضة بعض الشيء (يحضنني).
– بابا (أمسح دموعي)، لمَ والدتي مريضة؟ (أفعل ذلك وأنا أحمل رسمةً لجدي.)
– لا تقلق، ستكون بخير، إنها تشتاق إلى جدِّك.
(يُشير إلى الرسمة.)
لكنك أنت وحدك، أنت فريد من نوعك.
(بإصبعه على جبيني.)
ربما تُشبه جدك قليلًا، لكن الأمر طبيعي، إنها الوراثة، كان جدك رجلًا حاسمًا، لكنك فريد من نوعك، لم يكن بإمكان أحدٍ أن يدفع جدَّك عن تحريك رأيه.
حتى إنه خسر ١٠٠ رجل في إحدى المعارك جرَّاء صرامته … وقد لُقِّب بالرجل الذي لا يمكن تحريكه، لكنك واحد في هذا العالَم، أنت فريد بُني. بعد مدةٍ طلَّق والدي والدتي، كانت مريضةً وازداد مرضُها حينما أصبحت تُناديني بوالدي، ما تحمَّل والدي ذلك الأمر، واتجه يُعاقر الخمر لينسى، كنتُ قد جعلت والدتي مجنونة، لسببٍ ما كنتُ أنا من دفعها إلى الجنون، وجعلَنا ذلك نخسر والدي، تُوفيت والدتي بعد أن انتحرت بغرفتها، فعلت ذلك حينما منعها الجميع من مُقابلتي، ما تحمَّلتْ فقداني، أو فقدان والدها — حسب ما اعتقدت — واتجه والدي ليختبئ بمكانٍ ما في هذا العالم، تخلَّى عن كل شيء، واختفى فقط، وعشتُ رفقة جدَّتي بفرنسا، ولسببٍ ما كانت تعي ما أنا عليه، لم تُحدِّثني يومًا عما حدث لنا، لم تُحدِّثني عن جدِّي بشكلٍ مُفصل، بل اكتفت ببعض الأمور، قالت فقط إنني وإن كنتُ أُشبه جدي، فالأهم أن أعيش حياتي بكل ما تحمله كلمة الحياة من معنًى، إن كنتُ حقًّا جدِّي، فإنه إن حدث ذلك، فيجب أن أعيش أيضًا الحياة، وبأخطاءٍ أقل، كنتُ قد جهلتُ كجهل الأطباء مرض والدتي، صدَّقتْها جدتي بطريقةٍ خفية، صدَّقَتْ أنني زوجها كذلك، لكنها كانت ولغايةٍ ما تُخفي ذلك التصديق لنفسها، أما البقية فصدَّقوا قول الأطباء بخصوص مرض والدتي، لم أُصدق أنا ذلك، وشاركتُ والدتي وجدَّتي ما تُصدِّقان، ليس لأنني كنتُ أعرف شيئًا، وكيف لي أن أعرف شيئًا وأنا بالخامسة؟ لكنني آمنتُ أن والدتي كانت على حق، وفعلتُ ذلك لإنقاذها، أو هذا ما وددتُه، وأعتقد أن هذا السبب في اختياري للطب، أردتُ دومًا أن أفهم ما حدث لوالدتي؛ لذا لم يكن لي اليوم حيلةٌ ما، لا أحد يمكنه أن يتفهَّم وَضْعي، فأنا لا أكره البشر بل أكره القدَر، هو يُعاقبني بالبشَر فكرهتُهم ليس إلا لأنهم العقاب، مثلما يكره العبد أداة السوط فيشمئزُّ عند رؤيتها.
الكولونيل دي لا بوت
كثيرًا ما قصَّت لي جدتي عن الكولونيل دي لا بوت، أو المعروف بالرجل الذي لا يمكن تحريكه، وهو مثل العديد من الرجال الذين لن يذكُرهم التاريخ، سيندثر اسمه من بعدي؛ فأنا لا أودُّ أن أذكره لابنتي أو لأي شخصٍ آخر، وسيبقى مجرد شخصٍ خيالي بذاكرتي مِثلما كان في طفولتي، كانت روايتها مُركبة بعض الشيء؛ ذلك أنها كانت تجهل زوجها، أشبَهَ بجهلي له، وأخذتُ زمنًا قبل أن أفهم شخصَ دي لا بوت، جدي الكولونيل المجنون. كانت تُجلسني إلى جانبها، ثم تقصُّ لي أعظم إنجازاته، لم تكن عظيمةً إلى ذلك الحد، لكن جدتي رأتْ ذلك نتاج الشهامة التي عُرف بها دي لا بوت، احترام رجاله له مكنه من الحصول على منزلةٍ رفيعة بقلب جدَّتي، مع أنه لم يكن يُعِر الأمر اهتمامه، وأحبَّته جدَّتي بعد مدة، جدَّتي التي تزوَّجته كخطةٍ خاطتها كِلتا العائلتين، أضافت جدتي أنها اختارت ذلك أيضًا مع أنها كانت تُحبُّ شخصًا آخر، لكن مُغريةٌ هي فكرة الزواج من كولونيل مرموق، لورد دي لا بوت كان صفقةً جيدة لتأمين مُستقبل العائلتين. اعترفت جدتي خلال حكاياتها بخيانة ما أحسَّتْ به مع الرجل الآخر، اعترفت بتمرُّدها على الحبِّ الذي جمعها بعاشِقها الأول وعلَّمتني بذلك درسًا عن الحب، أن تتحدَّث لطفلٍ في الخامسة عن أشياء أشبه بالخيانة والحب والأنانية أمرٌ غريب ونادر الوجود، لكنَّ جدَّتي تلوَّنت ببعضٍ من طباع دي لا بوت الرجل الذي لا يُهمُّه سوى ما يؤمن به، حتى إنها أخبرتني بأنه فقد ١٠٠ رجل في إحدى معاركه من أجل فتاةٍ أُخرى أحبَّها أيام زواجه بجدَّتي، لو لم تُخبرني جدتي بأن ارتباطهما كان خطةً لا أكثر، لتساءلتُ كيف لها أن ترضى بما فعل. أذكر أنني سألتُها إن كانت حزينة، فضحكت وأخبرتْني أنها أحبَّت دي لا بوت لدرجةٍ دفعتها إلى تقبُّل كل الخطايا التي ارتكبَها. إن تلك الخطة تحوَّلت بعد سنواتٍ إلى حكاية حب. من المؤكد أنَّ جدي دي لا بوت ما كان يشعُر بمثل ما شعرَتْ به جدتي، إلا أنه سايرَها في تلك العملية حفاظًا على كلمته، أن يُنهي حياته إلى جانبها وأن يشيخ معها. كان من أعظم وأقدس القرارات التي اتَّخذها، والرجل الشهم بعقل جدِّي دي لا بوت هو رجل لا يتراجَع عن قراراته وإن اختلفت النتيجة عمَّا توقع. أعتقد دومًا أن القوة تكمُن في تحمُّل نتائج الاختيار، وحسْبُه أن يتحمَّل نتائج اختياراته على اختلافها فهو رجل قوي، لذلك تحمَّل دي لا بوت وفاة ١٠٠ من رجاله، تحمَّل كذلك وفاة تلك الفتاة مُنتحرةً في غرفتها بقلعة زوجها، بعد أن حاصرَهم جدِّي ورجاله لمدة ٢٠ يومًا، تحمَّل كذلك فكرة أنه قُتِل على يدِ مزارعٍ شابٍّ بعد سنواتٍ حينما اتجه إلى ديرٍ في الجنوب.
ذكرتْ لي جدتي أن والدة دي لا بوت حكت لها هذه الحادثة بعد أن سمعتْها من شخص دي لا بوت نفسه؛ معركة جوانا.
ثم تجهَّز الكولونيل للمعركة بعد أن استعجل التخطيط لها وتحرَّك إلى قلعة رجل آخر كان قد أحبَّ دي لا بوت إحدى زوجاته (جوانا) وعلى رأس جيشٍ صغير كان قد بلغ الكولونيل القلعة وأحاط بها يُحاصرها لأيام، كان قد طلب من اللورد أن يُسلمه جوانا، وأن تلك هي الوسيلة الوحيدة لبقاء سكان القلعة في أمان، ومنح دي لا بوت اللورد أيامًا قبل أن يهجم، أخبره أنه رجل له كلمته، وأنه إن قال أنه سيسمح له بالعيش فإنه سيحدُث ذلك، وإن هو قرَّر قتل الجميع فإنه لم يَخلُق الربُّ بعدُ شخصًا سيمنعه من فعل ذلك. كرامة اللورد دفعته إلى الامتناع عن تلبية طلَب الكولونيل، فكيف له أن يُقدِّم زوجته جوانا كثمنٍ مقابل حياته، وكان له رجال من حوله يدفعونه إلى مُجابهة الكولونيل، يملئونه شجاعةً وقوة للتصدِّي لهذا المجنون الذي أتى ليأخُذ جوانا، بعد أيامٍ رأى اللورد أنه لا مجال للبقاء خلف الأسوار وأنه يجب أن يخرج إلى دي لا بوت، كانت النساء داخل القلعة قد اخترنَ أن ينتحِرنَ إنْ هو انهزم اللورد، واعتزمْنَ أنه لن يبلُغهنَّ الكولونيل وهنَّ على قيد الحياة، وقد شهد سكان القرية القريبة من القلعة على حدث المعركة، حتى إنهم ذكروا أنهم لم يرَوا يومًا جثثًا تملأ المكان من قبلُ على نحوٍ مُخيف مثلما حدث في معركة جوانا، خسر دي لا بوت ١٠٠ رجل قبل أن يتمكن من قطع رأس اللورد، واتجهوا يُبيدون كل حياةٍ خلف أسوار القلعة، وفي المساء دلف دي لا بوت إلى داخل القلعة وسط صيحات الرجال، الكل يُنادي بعظمة اللورد، يتحرك بعضهم لجمع الجُثث بينما اشتغل الآخرون في حمل مُمتلكات اللورد المهزوم، وتبع الكولونيل بضعةٌ من خِيرة رجاله إلى داخل القصر ودلفوا جميعا، بعد مدةٍ اقترب الجميع من غرفة الفتاة، إحدى زوجات اللورد المهزوم، الفتاة التي أحبَّها دي لا بوت، مع أنها لم تلتَقِهِ من قبلُ سوى أنها سمعتْ في كثيرٍ من الأحيان أن الكولونيل المجنون قادم من أجلِها، كان الجميع يقف قبالة الباب الخشبي المُزدوج، شهروا أسلحتهم وصرخوا صرخةً واحدة يُخبرون الكولونيل باستعدادهم لكسْر الباب، وغرابة القصة تكمُن فيما حدث بعد الصرخة، جدتي كانت دومًا ما تقصُّ لي الحكاية بنفس الشكل، مع أنني تخيَّلتُ دومًا أن ما حدث مُغاير لذلك، وكأنه حدث معي، رأيتُ ما حدث بعد الصرخة، حتى أنها وفي كل يومٍ تُكرِّر قصَّ الحادثة، أسمع تلك الصرخة، صرخة الرجال الواحدة، وأتخيَّل نهاية الحكاية بما شعرتُ أنه حدث، كان يتملَّكني إيمان قوي أن ما حدث لا يعرفه سوى دي لا بوت وحدَه، ربما ليس وحده، لكنه احتفظ بما حدث لنفسه، وما رُوي لي كان شيئًا آخر.
قد يتساءل الجميع عن السبب الذي دفع بجدتي لتقصَّ عليَّ حكاية الكولونيل، حتى إنني تساءلتُ بدوري، واكتشفتُ السبب لاحقًا، حدث الأمر في الثالثة من عمري، كنتُ يومَها بإحدى الغرف ألعب ببعض الدُّمى الخشبية حينما دلفتْ عليَّ والدتي، كنتُ أعيد حكاية القصة بواسطة تلك الدُّمى، يومها كنتُ أجهل القصة، حكاية دي لا بوت كانت مجرد تخيُّلات طفلٍ في الثالثة، تخيَّلتُ دومًا أن بعضًا من الدُّمى هاجمت قلعة لإنقاذ الفتاة المُنتحرة، وبلعبةٍ خاطها القدَر دلفتْ والدتي لتسمعني ألعب القصة وعلى لسان دي لا بوت الجبار. جلست إلى جانبي كأي أمٍّ عادية، جلستْ تُراقبني، ثم انتبهتْ إلى أن اللعبة هي ما حدث مع والدها الكولونيل، ثم تساءلتْ في بادئ الأمر، كانت تسألني في كل مرةٍ أُحرك فيها الدُّمى عن سبب فِعلي لذلك، واتضحت لها القصة وكأنها تعيشها من جديد، أو أنَّ والدها يحكي لها الحادثة، أذكر أنها ركضت بعيدًا عني، لم ألاحظ لحظتَها مدى تأثُّرها بلعبي للقصة، مع أنني كنتُ أجهل يومها أن ما ألعبه كان قد حدث قبل سنواتٍ من مولد والدتي، بعد دقائق امتلأت الغرفة بكل العائلة، حتى إنَّ بعضًا من الخدَم تسلَّلوا لرؤية الأمر، دنت مني والدتي وطلبت من الجميع أن يُصغي للعبي، وأعادت طرح الأسئلة في كل حركةٍ أقوم بها، كان الجميع ينظُر في ذهول، استغرب الجميع معرفتي للقصة، وببراءة طفلٍ اعتقدتُ أنهم يودُّون اللعب معي، أو أنه يعجبهم ما أفعل، فأكثرتُ من سرْد القصة، أُحرك دي لا بوت وجيشه من الدُّمى، أجعله ينتصِر، ويصل إلى غرفة الفتاة المُنتحرة، كانت الفتاة دُمية رجل خشبي جعلتُها تبدو أشبه بأميرة، التفتت والدتي إلى الجميع ثم سألتني من أخبرني بالقصة، أذكر أنني رفعتُ رأسي أجول ببصري في كل الزوايا، أنظر في وجوه الحضور، أحاول أن أجد شخصًا قصَّ لي الحكاية، وما كان بمقدوري أن أُخبرها أنها مجرد قصة ألعبها من نسج خيالي، لم يذكر لي أحد قبل هذا اليوم اسمَ دي لا بوت، ثم اكتفيتُ بالقول إنني أعرف القصة، التفتت والدتي في حيرةٍ إلى والدي، واتجهت ببصرِها إلى جدتي، أنكَر كلاهما الأمر، لم يروِ لي أحدٌ ما حدث مع الكولونيل، أذكر أن والدتي لم تتجاوز الأمرَ قط، ثم صرختْ في أنحاء المنزل لأيامٍ تخبرهم أنني مجنون، ثم ترسَّب بعقلها أن المجنون ليس بمقدوره اكتشاف حادثةٍ في الماضي، خاصة وإن لم يكن هناك توثيق لها، ثم فكرت مُجدَّدًا في كل الاحتمالات، إن كان هناك توثيق لما حدث فأنى لطفل بالثالثة أن يحصُل عليه، وأكثر ما أرَّقَ والدتي هو تجسيدي لنهاية الحادثة والتي تخيَّلتُها مخالفةً لما حدث مع دي لا بوت في رواية الجدة، وتساءلتْ: كيف لصبيٍّ أن يعرف القصة، وأن يروي النهاية بشكلٍ آخر؟ إن أخبره أحدُهم عنها فإنه سيعيد قصَّها بنفس الشكل، ربما سيتخيَّلها بطريقةٍ طفولية، لكنه لن يُغير القصة أبدًا، فتغيير القصة، سيُحطِّم سنواتٍ من الاعتقاد بأن جدِّي رجل لا يمكن تحريكه، بأنه من دون قلب، بأنه عاد إلى جدتي حينما وجد الفتاة مُنتحرة. ستتغير نظرة جدتي لدي لا بوت، سيكتشف الجميع حقيقة ما حدث، إذن كيف لي أن أعرف القصة وبنهايةٍ أخرى؟ حملتني جدتي إلى غرفتها وقصَّت لي القصة، أخبرتْني لأول مرةٍ عن دي لا بوت، شعرتْ هي أنه يجب أن أعرف هذا الشخص، وأنه من واجبها أن تتحقَّق إن كان ما تقصُّه لي هو حقًّا ما حدث. أخبرتني أن رجال دي لا بوت صرخوا جميعًا صرخةً واحدة، ثم تجهزوا لفتح الباب عنوة، ثم أمرَهم الكولونيل بالتريُّث قليلًا. ذكرتْ أنه نزع سلاحه وقدَّمه إلى أحد الرجال ولم يبقَ سوى سكينته إن هو حدث شيءٌ ما ثُم أمرهم بالانتظار هنا، وطرق الباب، لم يفتح له أحد، إلا أنه دلف إلى الداخل بعد أن فتحه بنفسه، انتظر الرجال لمدة، أطال دي لا بوت مكوثه بالغرفة، حتى إن الرجال استغربوا ذلك، اعتقدوا أن أحدًا قتلَه بالداخل، أرادوا بشدة الدخول إلى الغرفة، لكنه أمرهم بالبقاء خارجًا قبل أن يدخل، وكان الرجال يخافون عدم إطاعة الأوامر، خاصة أوامر رجلٍ مثل دي لا بوت، ثم بعد مدة فتح الباب على مصراعيه، وخرج ببطءٍ وهو يحمل حبلًا، خرج في صورةٍ غريبة، شيء ما حدث غير انتحار الفتاة، بدا وكأنه شارد العقل، طأطأ رأسه، وأخذ من الرجل سلاحَه ليُعيده إلى حوضه، نفس الرجل الذي انتبه للجُرح الذي أصيب به دي لا بوت في يده، وخلفه رأى الجميع فتاةً مُعلقة، وبعد صمتٍ غريب تكلَّم دي لا بوت بصعوبة، كان شارد العقل، لم يُطِل البقاء وطلب منهم أن يستعدُّوا للرحيل في الحال، كان قد استدار إلى الباب وأغلقه وذكَّرهم أنه لن يدخل أحدٌ هذه الغرفة مُطلقًا، توعَّد بقطع رأس كل شخصٍ يفكر في فعل ذلك، كان الجميع يفكر أنه يتوجَّب على دي لا بوت أن يدفن محبوبته، وألَّا يتركها مُعلقة بذلك الشكل، لكن من يتجرَّأ على قول ذلك أو حتى اقتراح الأمر، سيقطع رجليه لأنه قال ذلك وسيقطع رأسه لأنه فكَّر بذلك، وختمتْ جدتي القصة بأن الكولونيل والرجال غادروا القلعة إلى الأبد من دون رجعة، حتى إنها سمعت إشاعات أنَّ سكان القرية القريبة من القلعة قد اتخذوا القصة أسطورة، وأن العديد منهم ما زال يعتقد أن الفتاة المُنتحرة مُعلقة هناك، وأن دي لا بوت الرجل الذي لا يمكن تحريكه يحرُس غرفتها بانتظار من يتجرَّأ على الدخول.
لكن ما حدَث لم يحدُث يومًا برأس ذلك الصبي الذي كنتُه، وأحسستُ لسنواتٍ أنه إن حدث ذلك فإنه سيتغير الكثير ممَّا حدث بعد ذلك، ثم اكتشفتُ شيئًا لاحقًا؛ بعد سنواتٍ من الآن، حينما سأجلس بتلك المحكمة المُعلقة بين السماء والأرض، حينما سأنتظر لتسعة أشهر، سيُخبرني أحدُهم عن حكاية دي لا بوت، وسأكتشف ما حدث، سأكتشف علاقتي بالفتاة المُنتحرة.
بعد خمس ساعات من وفاة العجوز
تمددتُ إلى الكرسي، ونظرتُ إلى الطريق، كانت الحافلة تسير ببطء، وابنتي تبكي إلى جانبي، كان الركاب يعتقدون أنني ضربتها، لكن لا يُهم ما يعتقد الآخرون، فالبشر يحكمون دومًا على ظواهر الأمور بخبايا أنفسهم، وأنا الآن لا يُهمني ما يعتقدون، حتى إنني لم أهتم لبكاء ابنتي، جلستُ وكأنَّ شيئًا لم يحدث، التفتُّ إليها مُجددًا وأخبرتها أننا لن نغادر الجزائر كما كان مُقررًا، فقد طلبتْ مني والدتها قبل شهرٍ مبلغًا من المال، مبلغًا كبيرًا، كانت بالجنوب وأخبرتني بأنها في حاجةٍ إليه، لذا أرسلتُ لها مدخراتنا، لم يكن يجِب أن أفعل ذلك، فقد طلقتُها ولم يكن على عاتقي نفقاتٌ كهذه، لكنها وعدتْني أنها ستُعيد لي المال بعد ثمانية عشر شهرًا، وهكذا كنتُ قد أغظتُ ابنتي فهي كانت تودُّ بشدة زيارة جدتها صوفي بفرنسا، وقد أحبَّت جدتها صوفي أكثر من حُبها لي، كانت ترى أن جدتها — ربما حتى جدَّيها — أفضل بمراحل منِّي ووالدتها؛ ذلك أنها عاملتها دومًا بمودة لم تكن لتعامل بها زوجتي، أحبَّت ابنتي في العائلة الجيلَ السابق لأمورٍ عديدة، جهلتُ الكثير منها لانشغالي بمعرفة أمورٍ أخرى غير ما تُحبه ابنتي أو ما تكرهه، وأعتقد أن الانشغال عنها هو أحد الأسباب التي دفعتها لتُفضِّل جيل العائلة الذي سبقَنا، وتساءلتْ دومًا عن الأفراد الذين لم تتمكن من الالتقاء بهم، كوالدتي ووالدي، أفراد العائلة الراحلين، من لم تستطع مُقابلتهم كشرطٍ وضعه القدر لتتمكن من القدوم إلى العالَم، أفراد من العائلة الكبيرة رحلوا عنها قبل أن يكون لصوفي وجود، وكان والدي أحد أفراد العائلة الذين أكثرت صوفي السؤال عنهم، والدي الذي أذكُره الآن وأتذكَّره ما بعد ذلك بأشواطٍ من الزمن، اعتدتُ أن أتذكَّره في صفة تساؤلات، كان أشبه بسرابٍ أبلغه في مرحلةٍ مُعينة من التذكُّر، ربما كان يشغل بالي بعض الوقت، ليس لأنني أشتاق إليه، لكن لنُسمِّه الفضول في معرفة أين هو، إلى أي مدًى قد ابتعد، تساؤلات عن كونه ميتًا أو على قيد الحياة. وعلى خلاف الجهد الذي بذلتُه في التفكير به، لم أفكر يومًا في البحث عن أجوبة لتلك الأسئلة، كانت مجرد أفكارٍ مجردة برأسي، وكأنها تمرين لي لتقوية حسِّ الفضول بي، لم أبذل جهدًا في البحث عن الأجوبة، وبمِثل ذلك لم أبحث عن والدي قط؛ فقد فكرتُ دومًا أن البحث عن الأجوبة لهو جزء من البحث عن والدي، ولم أكن أودُّ أن أبحث عنه، ليس لأنني أكرهه، وكذا ليس لأنه يصعُب عليَّ أن أفعل ذلك، لكنني لم أُرد أن أفعل ذلك ببساطة، وقد كان مجرد شعور بأنه لا يهم إنْ أنا بحثتُ عنه، وفكرت أن والدي ابتعد لأنه لم يُرِد أن يجده أحد، وإنْ أنا اعتزمتُ فعل ذلك فإنني ومن دون وعيٍ سأكون قد جعلته يفقد الهدف من ابتعاده عنَّا.
أن أجِده فعل مُخالف تمامًا لما أراده والدي، ولن أبحث عن والدي إنْ هو أرادني ألَّا أفعل ذلك، ولم يكن لي مُتسع بعقلي لحشوه بكل هذا الاهتمام بما حدث أو حتى بما سيحدُث مع والدي، ربما لأنه ترسَّب بعقلي أنني لا أملك مُتسعًا من الوقت لترجمة ذلك الفضول والاهتمام إلى رحلة بحثٍ ستأخذ كثيرًا من الوقت، ثم إنني انشغلتُ بمحاربة القدَر أكثر من اهتمامي بإيجاد الرجل الذي اختار ألا يجِده الآخرون، وكنتُ أتذكَّره فقط في مناسبات متفرقة، وكانت إحداها حينما أرادت ابنتي أن تعرف أكثر عن جدِّها، أكثر قليلًا من فكرة أنه أنجبني، أذكر أنها الفكرة الوحيدة التي حصلت عليها عن جدِّها قبل أن تسأل مرةً أخرى، كنتُ وبسذاجةٍ منِّي اختصرتُ وجود الجد في كونه أنجبني، ثم سألتني مرةً أخرى، لا أُنكر أنني أُصبتُ ببعض من الذهول يومها، لا أُنكر كذلك أنني ارتجفت، سرَتْ بجسدي رعشة خوف، لأن ما حدث مع ابنتي كان قد حدث معي سابقًا مع والدتي، حينما سألتُها عن دي لا بوت، تمالكتُ نفسي، وفكَّرتُ أنه لا طائل من التفكير في كل شيءٍ بخصوص ما حدَث أو حتى بخصوص ما سيحدُث بعد هذا، لذا أجبتها: ماذا تودِّين معرفته بالتحديد بخصوص جدك؟ (كانت تلك نفس الإجابة التي حصلت عليها من والدتي.)
– ربما البعض من كلِّ شيء.
ثم فكرت، الزمن يُعيد نسج نفسه ببطء، ارتعشتُ مرةً أخرى؛ أيمكن أن يحدُث ذلك، أم هو مجرد صدفة غريبة؟ ثم خفتُ أن يحدُث ذلك مع ابنتي، وأرهقني التفكير فيما إن كان هناك علاقة خفية بين ما حدث قبل أربعين سنة وما حدث مع ابنتي، لكنَّني اكتشفتُ بعد زمن، أن ذلك كان مجرد مُصادفة ليس لها معنًى سوى أنها حدثت في صورةٍ مُخيفة.
– حسنًا، أول ما يجب أن تعلميه بخصوص شخص جدك، أنه كان أرستقراطيًّا فرنسيًّا، أحد الذين أحسنوا استغلال الفُرص، وكان جدك جيدًا في التعامُل مع الفرص، الجزائر كانت فرصة أُخرى أحسَنَ استغلالها، عشنا بفرنسا لكنه اعتاد دومًا على زيارة الجزائر، حتى إنه كان يدفعني إلى مُرافقته في كل مرةٍ يأتي إلى هنا، وإحدى ثمار تلك الفرصة، هو أنه امتلك الكثير من الأراضي بالجزائر، وأحسن التعامُل مع كل تلك المُمتلكات، حتى إنه كان محبوبًا في كل تلك المزارع المنتشرة في حدود المدينة، وأحبَّه رجال العروش الذين شاركوه تسيير تلك المزارع، كان بدوره يُبادلهم ذلك الحب، ربما بادلهم الاحترام والاهتمام، أخبرني في كثيرٍ من المرَّات أنه يجب على السيد المحترم أن يُحسن معاملة هؤلاء الرجال، إن هو أراد أن يحافظ على ما يملك من أراضيهم، أخبرني كذلك أن أولئك الرجال يملكون هذه الأرض وسيخلدون على هذه الحال، حتى وإن تسيَّدْنا عليهم، ففي الأخير نحن خُلِقنا بفرنسا وهم خُلقوا هنا، وأهمُّ ما جهد والدي في بنائه، لم يكن المزارع ولا تلك المُمتلكات، امتلك والدي شيئًا أقوى من كل تلك الأشياء، امتلك ثقة شيوخ العروش والقرى، وكانت تلك الثقة كنزَهُ الخاص الذي يخلق ما تبقى من كنوز والدي، أذكر أننا اعتدنا المكوث في مسكن أحد الشيوخ كان قد اختاره والدي كرفيقٍ له وفي كثير من المرات كنا نسكن منزلًا إسبانيًّا امتلكه والدي ووالده قبله، ولا زلتُ إلى يومنا هذا أذكُر كل زاوية، كل منعطف، كل رابيةٍ من تلك القرية التي تحتاط بها أراضي والدي، أحببتُ تلك القرية لسببٍ ما، سابقا بالتأكيد فقد توقفتُ عن زيارتها بعد اختفاء والدي، سبب فقدتُه قبل زمن، واعتاد جدك على طبيعة العرب، وأخذ عنهم بعضًا من طباعهم، يستيقظ في نفس الوقت لمُراقبة تلك الأراضي والتعامُل معها مثلما يفعل العرب، كان يشاركهم الأعمال كذلك، وفعل ذلك ربما لأنه كان واحدًا منهم، أكثر من كونه أحد أولئك الأرستقراطيين الفرنسيين، كان والدي عربيًّا في الصميم وقد أحبَّ هذه الأرض أكبر من حُبِّه لأي أرضٍ أُخرى، كانت الجزائر المكان الوحيد الذي يجد فيه ضالَّته من الإنسانية والبساطة، اعتاد القول كذلك.
الرجل الذي لا يتساقط عرقُه من أجل أملاكه هو رجل لا يملك شيئًا، ثم دفعني في كل تلك العُطَل التي قضيتها في الجزائر إلى العمل، يُعلمني شدة وقوة العرب، بساطة عيشهم، تلاحُمهم المُقدس. وكانت كل دقيقةٍ في تلك القرية أشبَهَ بدرس أتلقَّاه، كنتُ المُتعلم الوحيد فيها، وكان البقية جمع المُعلمين الذي يُرشدني، وكنت أختلف إلى كل مكانٍ هناك، وعرفني جميع العرب، كان والدي يحرص على أن أرافقه في كل ما يفعل، حتى إنني كنتُ أجلس إلى جانبه حينما يجتمع برجالٍ من القرية، أذكر ذلك وكأنه حدث بالأمس، حينما اقترب أحد الرجال من والدي، كان قد طلب والدي رحَّالةً ليتجه إلى الأراضي الجنوبية ليكتشِفها في الشتاء، وقد أحضر له العرب رجلًا عرف القارة كمعرفته لابنه الذي جلبه معه، كان والدي يقف إلى جانب العربي، وكنتُ أراقب الشاب، كان يُراقبني بدوره، لم ينبس أحدنا ببنت شفة، اكتفينا بالمراقبة، مراقبة بعضنا البعض، وقد علمتُ من والدي أن اسمَه محمد، طلب منهما والدي المبيت بالقرية لليلةٍ أخرى، فإنه لا يجب أن يُغادرا حالًا، أذكر أنني أمضيتُ تلك الليلة قرب الشاب محمد، أحاط به رفاقي من العرب يجلسون معنا، نسمع قصص تجوُّله مع والده.
وقطعت صوفي سلسلة أفكاري حينما وخزتني بيدِها، لم يعجبها عدم اهتمامي بما حدث، كيف لشيءٍ ما أن يجعلني (شارد العقل) أُفكر؟ كان يجب أن أُكلمها على الأقل، أن أسألها عما تشعر به — كان ذلك منطقها.
ولم أعتقد أن سؤالًا سيُعيد العجوز إلى هذه الحياة، لذا ما كان يجدُر بي أن أفعل شيئًا سوى أن أفكر في شيءٍ من الماضي، التفتتْ إليَّ دامعةً وقالت لي بصوتٍ سمعه الجميع: تبًّا لك، متى ستُصبح إنسانًا؟
(لم أُجبها.)
لا شيء، تبًّا لك (سرعان ما عادت إلى مراقبة الطريق).
ضحكتُ رغم أنني لم أُظهر ذلك، فكيف لفتاةٍ في الثامنة عشرة أن تعرف معنى الإنسان، أو حتى أن تحكُم عليَّ، أو تتَّهِم إنسانيتي فقط لأنني لا أشاركها حُزنها، أو لأنني لا أبكي؟ فأخبرتها أنني إنسان، وأنني بعد ذلك أكون والدها، ولا يجدُر بها أن تُعاملني بحقارة، وأنها يجب أن تحترم طبيعتي. أذكر أنني أخبرتها أنها محظوظة، لأن لها والدًا لا يضربها، لكنها فاجأتني حينما أخبرتْني أنها تتمنَّى أن أموت وأن يكون لها والد يضربها، وأن يهتمَّ بها بعد ذلك، ثم أخرجت مُدونةً زرقاء كانت تكتُب فيها ما كان يجول برأسها، وقالت لي وهي تُقدِّم لي تلك المدونة: أتمنَّى أن تتعلم كيفية الاهتمام بالآخرين، لأنك إن لم تفعل فستخسرني عمَّا قريب.
وفكرتُ للحظة فيما قالته ابنتي وانتهيت إلى استنباطٍ منطقي؛ ابنتي ستتركني يومًا ما، سواء اهتممتُ أو لم أفعل، سيأتي يوم أتحوَّل فيه إلى آخِر اهتماماتها؛ لذا ليس من المُفيد أن أفكر بتهديدها لي، هي لن تتركني الآن فأنا لم أخطئ في شيءٍ، ثم إنها مُرغمة على البقاء إلى جانبي، كانت ابنتي قد نامت إلى جانبي، وأنا أُمسك بتلك المُدونة، أُراقبها من دون سبب، استدرتُ إلى ابنتي ولأول مرة أحسستُ أنني أجهلها، وقد قلتُ لها إنني أحبها — بصوتٍ يكاد يُسمع — أعتقد أنني أتشجع حينما تنام، بالتأكيد هي لم تسمعني، راقبتها لمدةٍ وأنا أتمسَّك بمُدونتها الزرقاء، ثم التفتُّ إلى المدونة، وفتحتُها وقد كتب بأول صفحةٍ فيها: «جليستي امرأة من حديد.»
كان الخطُّ رديئًا، مجرد خربشاتٍ هنا وهناك، وقد أُرفق النص ببعض الرسومات الصبيانية، رسومات وخربشات مُراهقة في كل مكان، التفتتْ إليَّ ابنتي، كانت قد فتحت عينيها بعد مرورنا على مطبٍّ زلزل الباص، سألتُها عن المدونة، أخبرتْني أنني يجب أن أقرأها، وحاولت إقناعي بأن عدد الصفحات صغير، وأنه سيكفيني الوقت الذي سنقضيه في الحافلة لإنهاء قراءتها، وقد قالت لي: ستنتهي قبل وصولنا إلى المحطة.
ابتسمتُ لها، نظرتُ إلى السائق، كان يُكثر الحديث إلى أحد الركاب، وفكرتُ هو لا يركز على الطريق، لذا من المؤكد أننا سنتأخَّر، إذا وصلْنا على قيد الحياة، لذا يبدو أنني إذا أضعتُ بعضًا من الوقت لقراءة ما يجول برأس هذه الصغيرة، فلن أشعُر بالرحلة، وسأكتشف على الأقل طريقة تفكيرها، وشرعتُ في القراءة، تبًّا، كم كان الخط رديئًا!
كانت قد كتبت حتى حوارها مع تلك المُربية، وأرفقتِ الكتابات بتاريخ كتابتها ومكان جلوسها رفقة المُربية، حتى إنها رسمت بعض الشخوص لتوضيح ما كتبت، وقد بدا أن لابنتي موهبة في قصِّ الحكايات، أو حتى شرحها، إلا أن خطَّها كان صعب القراءة، وقد جهدتُ في فَهم ما كتبت، واشتغلتُ بقراءة ما كتبتْ كلَّ الطريق.