القسم الرابع
أغلقت تلك المدونة والتفتت إلى ابنتي، كانت نائمة، لقد تعلمت ابنتي عن تلك العربية لُغتها، وتعلمتْ لونًا من ألوان الشقاء، عرفت أيضًا معنى أن يكون الإنسان سعيدًا، كانت أحكَمَ منِّي في أمور البشر وكنتُ أحكَمَ منها في أمور ما فوق ذلك، هي فهمت ألعاب القدَر الغريبة، لكنها لم تكرَه القدَر، ولسببٍ ما، لم تكرَه الوجود. كان يجب أن أُنقذ تلك العجوز العربية، لكنني الآن علمتُ أنني أنقذتُها بعدَم إنقاذها، فهي كانت تُفضل الموت على إمضاء دقيقةٍ أُخرى على هذا الكوكب، ما كان بإمكاني إتمام تلك القصة، وتساءلت مرارًا كيف لها أن تقبل بكل ذلك؟ كيف لها أن ترضى أن تعيش تلك الحياة؟ والأهم، كيف لها ألا تتمرَّد على تلك السلطة العُليا؟ ثم تذكرتُ شيئًا، أنا أهتم الآن، وبعد أن قرأتُ قصتها، قبل مدة، حينما كنتُ أجلس إلى جانب المُشرد، لم يكن يُهمني أمرَها، كنتُ أودُّ إنقاذها فقط، كانت وسيلةً لإغاظة القدَر فقط، أن أظهر له أنني قادر على إيقاف ألعابه، لم تُهمني كإنسان، على خلاف ابنتي التي اهتمَّت لها، وها هي كتبت قصتها كلها، كنتُ أجهل هذه القصة، مثلما أجهل قصص كل هؤلاء الركاب، ومن المؤكد أن بعضًا منهم هنا يحاربون من أجل شيءٍ ما، مثلما أفعل أنا، أو أنهم يُعانون من شيءٍ ما مثلما عانت تلك العربية، وترسَّب بعقلي فكر جديد:
«إنَّ جهلنا لحقائق الأمور لهو حُجة عظيمة لتلك الهيئة العُليا في استعبادنا، وما كان يجب أن نتمرَّد لأننا نجهل الكثير، جهلنا للبشر هو ما جعلنا عبادًا لما فوق البشر.»
توقف الباص ونزلتُ رفقة ابنتي لنتوجَّه إلى المنزل، كان أقربَ بكثير، فما علينا سوى السير خمسة عشر مترًا مرورًا بالمقهى الذي جلستُ به صباحًا، ركضتِ ابنتي إلى المنزل، لم تكن تودُّ أن تُحدثني أو أن تسير إلى جانبي، أو ربما هي فكرت أنها يجب أن تلِجَ غرفتها وتُغلق على نفسها، وتدَّعي أنها نائمة، حتى لا أُزعجها، وهكذا تُنقذ نفسها من مُجالستي لها ومن الإزعاج الذي أحيطها به. تقدَّمتُ في خطوات وأنا أراقب تلك المدوَّنة الزرقاء، والتفتُّ بعد ذلك ومن دون وعيٍ إلى المقهى، كان فارغًا هذا المساء إلا من ذلك المُشرد، الذي يجلس هناك وحيدًا، يراقِب تلك الكأس الفارغة، كان يستند إلى الكرسي وعلى الأرجح هو دفع مالًا ليجلس هناك كل هذه المدة. بعد تفكيرٍ وددتُ أن أتقدَّم نحوَه، كان شيءٌ ما يدفعني إليه، وتذكرتُ لحظتها زوجتي، تذكرتها للمرة الثانية، تذكرتُ تلك الرسالة التي طلبَتْ فيها المال مِني، وقد خطَّتْها لي بكلماتٍ غريبة عنها، أحسستُ عبر كلماتها أنها أوقدتْ تلك النار مُجددًا؛ النار التي انطفأت بداخلها لمَّا تزوجْنا، لقد عادت إليها تلك الفتاة التي أحببتُها، لم أكن أعلَم أن مُحرك الطائرة سيُعيد حياتها، أنه سيُحرك الفتاة بداخلها، أنه سيُشعل النار الجليلة، وقد ذكرَتْ في رسالتها أنَّ المال الذي طلبَتْه مني، سيُغيرني كثيرًا، على الأقل في يومٍ من الأيام، أنه سيجعلني أكتشِف الذات بداخلي، لقد كتبَتْ لي أيضًا أنَّ بداخلي قدَر يجب أن أُحاربه، وأن أتخلَّى عن مُحاربة قدَر الناس، أنَّ بي رجلًا لا يمكن لأحدٍ أن يُحركه، أن القدَر الذي أعرفه لا يُغير الرجل الذي يستقرُّ ثابتًا بداخلي، ليس لأنه لا يقدر على ذلك، بل لأنه يودُّ أن أفعل بنفسي ذلك، أن أختار ذلك التغيير، القدَر يُغير البشر الذين يؤمنون به، أنا لا أومن، لذا لن يهتمَّ لي، هو يُفضل من يتقرَّب إليه، أما أنا فمجرد حجرة أخرى بوادي الملوك، أو فراشة على جذع شجرة بغابةٍ في أستراليا، فكيف له أن يهتم ببشري لديه بداخله رجل لا يمكن تحريكه؟ وفكرتُ بكلامها لوهلة.
«هل حقًّا سأقتل يومًا ما الرجل الذي بداخلي؟ هل سأقتُل ما أُحِب؟ هل سأتغيَّر؟»
كل شيء مُقدَّر له التغيُّر، كل شيء فانٍ على هذا الوجود، كل شيء عبد للزوال، هل سأتغيَّر إن أنا أقرضتها المال، كان ذلك قبل شهرٍ من الآن، ربما هي قامت ببناء مدرسةٍ في النيبال، أو رمَّمت ديرًا قديمًا في كوالالمبور، ولم أجد الرابط المقدس بين الدير في كوالالمبور والتغيُّر الذي سيطرأ على حياتي، مع أنَّ السبب الوحيد الذي يجعلني أهتمُّ لهذا التغيُّر هو الفضول الذي يدفعني للتساؤل، إذا تغيَّرتُ فماذا سأُصبح؟ إلى أي مدًى يُمكنني أن أتغيَّر؟ وهل سأقبل بكل تلك النتائج؛ كل تلك المخاطر؟ هل سأرضى إنْ أنا أصبحتُ شخصًا آخر، شخصًا يهتم، أو هل سيُرضيني إنْ أنا صرتُ القدَر نفسه؟ وكان التفكير في ذلك مُرعبًا. تملَّكتني وقتها رعشةٌ وأنا أقرأ تلك الرسالة، وأعتقد أن تلك الرعشة هي ما دفعتني لأرسل المال لزوجتي، المال الذي جمعتُه طيلة حياتي، مُدخراتنا كلها؛ لأنه وببساطة كان يجب أن أُراهن، أن أخاطر بكلِّ شيء، إما أن أصير مجرَّد فردٍ آخر في قطيع هذه الحياة، أو أن أتحوَّل إلى القدَر نفسه، القدَر الخاص بي، قدَري أنا، فبداخلي رجل لا يمكن تحريكه من طرف أي قدَرٍ كان.
اقتربتُ من المشرد وجلستُ إلى جانبه، لم يرفض ذلك، بل ابتسم لي، وأخرج مُجددًا تلك النقود التي رفضتُها صباحًا، حاول أن يُقنعني بأخذها، ما كان بإمكاني أن أُفهِمَه ما أقول وما كان بإمكاني أن أفهم كلامه العربي، وأشرتُ إلى النادل العربي وطلبتُ منه أن يجلس إلى جانبنا، وضعتُ المدونة الزرقاء وطلبتُ من النادل: أخبِرْه أنني لستُ بحاجةٍ إلى المال، أنا فقط أودُّ أن أجلس إلى جانبه.
وتكلَّم النادل بلسانه العربي بما قلت، أرجع المُشرد ماله وابتسم لي، ثم تحدَّث إلى النادل، لم أكن أفهم ما يقول، لكن النادل قام بترجمة حديثه وقال لي: هل تودُّ أن أُقدِّم لك شيئًا؟
– لا شكرًا، أخبِرْني فقط بما قاله لك الآن.
ابتسم النادل وقال لي: أخبَرَني أنه سيدفع لي مبلغًا مُحترمًا إن أنا قمتُ بخدمتك هذا المساء، أثناء بقائك هنا.
– أنا أودُّ أن أتحدَّث إليه، وسأحتاج إلى مُترجم.
وقف النادل مكانه وقال: حسنًا، انتظرني رجاءً، سأنتهي من بعض الأمور وأعود، لن تأخذ مني سوى دقائق.
ثم نادى على صبيٍّ اسمه عُمر وحدَّثه بالعربية قليلًا ثم دخل إلى المقهى، بينما جلستُ أنا إلى المُشرد أُراقبه ويُراقبني، وكان في كل مرةٍ يهزُّ رأسه مُبتسمًا وكأنه في كل لحظةٍ يرحب بجلوسي إلى جانبه. لم أكن أعرف لِمَ أنا أجلس إلى هذا الغريب، فهو لم يطلُب ذلك، ولو كان بمقدوره التساؤل لسألني عن السبب الذي دفع بفرنسي من الطبقة الراقية أن يجلس إلى جانبه، لكنه لم يفعل بل جلس يبتسِم لي، وكأنَّ كل تلك الفوارق انضمرت أمام الانتماء الوحيد الذي يشملنا جميعًا؛ الإنسانية.
بعد مدةٍ تقدَّم النادل وهو يحمل صينية الشاي، رتَّب الأمور على الطاولة، ثم جلس إلى جانبنا، قدَّم لنا الشاي، ثم عرض عليَّ سيجارة، أخبرته أنني طبيب وأن هذه ستقتله عمَّا قريب، ضحِك وهو يُشعل سيجارته وقال لي إنَّ الربَّ هو الذي يُحيي ويُميت البشر، وليس سيجارة صغيرة، لم أعبأ بفلسفته تلك بل قلتُ له: اسأله إن كان مريضًا، وأخبره أنني أملك عيادة بالقُرب من هنا.
اقترب النادل برأسه إلى المُشرَّد وأخبره بما قلت، ثم أشار إليَّ، لم أفهم ما قاله له لكنني رأيتُ المُشرد العربي يرفُض مُبتسمًا، أشار بيدِه مُعبرًا عن امتنانه، قال النادل لي: إنه ليس مريضًا، ولكنه بحاجةٍ إلى المساعدة، إن أردتَ ذلك، وهو يعرض عليك المال لقاء ذلك.
نظرتُ في عيني المُشرد جيدًا، وأخبرتُ النادل أنني أُصغي لكلامه، وربما إن استطعتُ فإنني سأساعده من دون مقابل. كان النادل قد ترجم كلامي، وشرع يروي لي ما يقصُّه المشرد.
قبل زمن من الآن أو في حياة سابقة
… كنتُ سيدًا على نفسي، وكنت أملك حياتي هذه، فأنا لم أُولد يومًا كعبدٍ لأحد، كان في ما مضى، وبأحد الأماكن مَنزل طوبي لي، كان لي عائلة به، عائلة لم أهتم لها، كان لي اسم أيضًا، محمد العلاوي، اسم رجُل حُر، اسم لم يكن له شأنٌ وسط العرب، لكن على الأقل كان العرَب ينظرون إليَّ كرجلٍ شريف، والرجل الشريف عندنا هو رجل حُر، يملك قراره وله كلمة اختياره، وقد كنتُ أشتغل بكل شيء، فقد منَّ عليَّ الربُّ بقوةٍ أُحسَد عليها من قبل أقوى الرجال، فلم يَخُنِّي جسدي في أي عمل، عملتُ حمَّالًا، وتجولتُ في رحلات وكانت تلك مهنة والدي، أخذتها عنه وعملتُ راعيًا أيضًا، وقد افتخر سكان العرب بصنيع يدي، وقد اشتُهِرتْ صفة الرجولة والمروءة التي أمتلكها بين كل أسياد العرب، وقد تسابقوا للظفر بخدماتي، حتى إنَّ بعض الفرنسيين لجئوا إليَّ في أيامهم الصعاب، وقد كنتُ أعلم منذ صغري بخبايا الأراضي كلها، وقد جُلت الصحاري مع والدي، كان حمَّالًا بدَوره، وقد أمضيتُ طفولتي إلى جانبه، نتَّجه إلى الصحراء في رحلات، لم يكن لنا بيت نرتبط به، بل ولم يكن يجب أن يكون لنا واحد، فقد أخبرني والدي أن المنزل من دون ربَّتِهِ ليس بمنزل، علمتُ منذ طفولتي أن والدتي تُوفِّيت أثناء إنجابي، وأن والدي حزن عليها حزنًا جعله ينسى المنزل الذي جمعهما يومًا. ولمَّا كنت أسأله عن المنزل الذي عاشا به سابقًا، كان يقول: بُني، حبيبي، إنَّ منزلنا رُفع إلى السماء مع والدتك، هي هناك تنتظرنا به.
وكان يُشير بيده إلى أحد النجوم القريبة، كان يُخبرني أيضًا أننا سنشيخ بعد دهر ونلتحق بها في الجنة أين والدتي والمنزل، وقد طلب مني أن أنسى منازل الدنيا كلها وأن أتنقَّل رفقته، أنْ نشيخ معًا في رحلاته، أن نحمِل الأشياء إلى كل الأراضي، إلى كل المنازل التي لن نعيش بها، أن نساعد الآخرين على الحفاظ على تلك المنازل، أن نحمِل الأدوية إليها لحماية ربَّات المنازل، لكيلا يُرفَعْن رفقة المنازل إلى السماء، وبلغتُ أشُدِّي وأنا أتنقَّل إلى جانبه ومضى على ذلك زمن، إلى أن شاءت الأقدار أن يُتوفَّى والدي بإحدى الرحلات، بعد أن سِرنا ٣٤٠ ميلًا احتضر بين يدي وهو يقول: إنها أفضل رحلةٍ من بين كل الرحلات.
كنتُ أبكي عند وجهه أُقبل جبينه وأنا أقول: أنت تكذب، كيف تكون أفضل رحلةٍ وأنت لا تستطيع أن تُتمَّها.
– بُني أنا لا أتحدَّث عن هذه الرحلة.
أدار وجهي بيده الضعيفة إلى السماء، وجعلني أنظر إلى النجم القريب وقال: أتحدَّث عن رحلتي إلى هناك، إنها أفضل رحلة.
– توقف، أرجوك، أبي.
– ششش، كن قويًّا بُني، سأنتظرك ووالدتك بالمنزل.
ضحك والموت يأخذ منه الأنفاس الأخيرة وقبل أن تنطفئ شمعة روحه قال: سنُجهز لك غرفتك، ثم سنراقبك تكبُر هناك، بيننا.
لم أنسَ كلماته يومًا، وقد دفنتُه دفنًا يليق به، وجُلت بعدها البلاد بحثًا عن والدٍ آخر، فكل ما تعلمته في هذه الحياة كان من والدٍ لي، وقد رافقتُ أحد الفرنسيين إلى إحدى القُرى التي يعرفها، كان يعرف والدي معرفةً جيدة، وقد ارتحل معنا في كثيرٍ من المرات، إلى أن تُوفي والدي في إحدى تلك المرات، كان قد رأى أن شابًّا مثلي سيختفي وسط فساد العالَم الذي أوجده البشر، لذا توجَّب عليه — حسب ما رآه من المنطق — أن يُنقذني، كانت له فلسفة مُخالفة عمَّا عرفته يومًا من والدي، بيد أنه اشترك ووالدي في شيءٍ واحد، كان كلاهما يُحسن معاملتي، وكأنني أهم بكثيرٍ من كوني مجرد حمَّال أو رحَّالة، كنتُ أشبه بنبيٍّ يقوم الآخرون بحمايته. واختار الفرنسي أنَّ أخْذ نَبيِّهِ إلى القرية ليساعده في تسيير أموره الخاصة هو أفضل طريق لحمايته، وفي تلك القرية، وهناك فقط، هناك فقط تغير كل شيء، وبذلتُ من جهدي ضعف ما أقدر، كان يجب أن أُظهر للرجل الفرنسي أنه لم يُخطئ حينما آمن بنجاتي من هذا العالَم، وفي كل مرةٍ كنتُ أسترجع ما قدَّمه لي والدي من دروس وعِبَر، علَّمني أن أعيش بين الفرنسيين وبين العرب، كان قد جهزني لِما هو قادم، كان يعلم أنه سيُرفع إلى منزلنا في السماء في يومٍ ما، وما أراد أن يصعد إليه شارد العقل، كان يجِب أن يضمَن ضمانًا تامًّا أنني سأكون من بعده الرجل الذي لطالما تخيَّله، وفعلتُ ذلك بتذكُّر ما علَّمني إيَّاه، تذكَّرت كل ما علَّمه لي والدي، وأهمُّ ما علمني والدي هو الحُب، أحبني لدرجةٍ جعلتني أحبُّ الحياة بكل أشكالها، ولمَّا كان لاسمي من صفة الرجولة نصيب، زوَّجني أحد الرجال بابنةٍ له بوساطة من السيد الفرنسي، وعشتُ إلى جانبها ما تقدَّر لنا أن نعيشه، وقد أحببتها مثلما علَّمني والدي، مِثلما أحبَّني، فذلك هو شكل الحُب الوحيد الذي عرفته يومًا، فرعيتُها مثلما رعاني والدي، كنتُ والدًا لها، وزوجًا أيضًا، وقد عاهدتُها أن أعيش الحياة من أجلها، وأنه لا شيء في الحياة يُبقيني حيًّا، غيرها وحدَها، فمنزلي ووالداي في السماء، وأنني أنشد الحياة إلى جانبهما، وأن الشيء الوحيد الذي يدفعني إلى التشبُّث بهذه الحياة إلى جانبها، هو القلب الذي هيَّأه والدي، قلب ليُحبها وحدَها، مثلما كان لوالدي قلب هيَّأه ليُحب والدتي وحدَها، وقد أخبرتها أن والدي أقام قلبًا ليُحب فتاةً واحدة، وأن هذه الفتاة هي زوجتي، قلب لا يصلح إلا لها، وكأن والدي قد التقى بها في حياةٍ أخرى عاشها الجميع، وخاطني بقلبٍ يليق بها، بقلبٍ لا يتَّسع إلا لها، وقد آمنتُ في تلك القرية بشيءٍ واحد، آمنتُ بها، كنتُ قد كفرتُ بكل شيء، يستيقظ الجميع كل يومٍ ليعيشوا ما قُدِّر لهم من الحياة، وأستيقظ كل يومٍ فقط لرؤيتها، أخبرتُها أنه سيملك الربُّ قدَري في هذه الأيام وسيملك روحي بعد هذه الأيام، ستأخذ الأرض نصيبها مني لأنها تملك جسدي، سيتسارع الزمن باندثاري بعد أن تأخُذني الأرض، سيملك الزمن وقتي، لكنه لا أحد، لا شيء، ولا حتى أنا نفسي كنتُ لأملك الوجود الذي عرفته يومًا، أخبرني والدي يومًا أن الإنسان الذي لا يتدبَّر الوجود لن يكون موجودًا، لكنني فكرتُ مرة أخرى، هل يمكن أن يُخطئ والدي؟ استيقظتُ كل صباح لأتأكد من ذلك، أجلس قبالتها أراقبها أتأمَّلها لمدة طويلة، عادة ما كانت تستيقظ وأنا على تلك الحال، لم يتغيَّر شيء، إنها سبب وجودي، ووحدَها فقط ستملك سبب وجودي. أخطأ والدي مرةً واحدة، حينما نسي أن يُخبرني أنه لم يكن لوجودي معنًى من دونها، وأنه لا يجب أن أتدبَّر في شيءٍ آخر، سوى مُراقبتها. زوجتي أحبتني بدورها، كانت تقدِّس كياني في أبسط صورِه، كانت تُحب رائحتي، كانت تعشق اللعب بشعري الأشعث، وكنَّا قد عشنا معًا في سلام، وكان ذلك الزمن ليكون النهاية الجميلة لقصتنا، كان ليقول الناس، وعاشا سعداء ما تبقَّى من عمرهما، لكن لم يحدُث شيء من ذلك، فالقدَر لم يُعجبه قصر القصة وبساطتها، كان له قرَّاء يفضلون القصص المُعقَّدة وأراد أن يتفنَّن بقصتنا، أن يجعلنا لوحته الأكثر تعقيدًا.
وقد كان لي في يومٍ من الأيام أن التقيتُ بأحد الفرنسيين الذي كان قد رافق الرجل الذي ساعدني في مرةٍ من المرَّات التي ارتحلا فيها، فطلب منِّي أن أُرافقه بإحدى رحلاته إلى الجنوب الشرقي، كنتُ قد رفضتُ ذلك العرض منه، لكنه رفع السعر ليلامِس أحلامي، ثم إنني لم أود أن أُخيب ظنَّ السيد الفرنسي الذي ساعدني، فقد كان مُشتركًا في الرحلة بدوره، وقد أغراني رفيقه بجائزةٍ لم أكن لأنال مثلها في أي رحلةٍ أخرى، وقد خرجْنا بعد ليلتَين في قافلة مُحمَّلين بما اختار السيد الفرنسي أن نحمله إلى الجنوب، كنتُ قد تركت عائلتي، وارتحلنا جنوبًا إلى أقصى ما يمكن أن نبلغه، وقد تغيرت أشكال الحياة حولنا واختفت خضرة الأرض واصفرَّت السماء، كان أقصى حدٍّ وقعت عليه قدماي، وازدادت الأرض سخونةً حتى إن بعض الحمَّالين ادَّعوا أننا نتَّجِه إلى الجحيم، كان رجال منهم يتحدَّثون عن لعنة التوجُّه إلى الجحيم، وكيف أن الربَّ وضع بابًا للجحيم على الأرض، وأنه يلعَنُ من يقترب منه، وبلغنا مرحلةً لم تكن العودة فيها مُمكنة لأي شخصٍ يُقرِّر الاستسلام، لأي شخصٍ يحاول العودة بمُفرده، وقد قُدِّر لهذه القافلة أن تعود إن هي أرادت، فقط إن كانت كاملةً دون أن تفقد أي فرد، ولو كان بإمكان أي شخصٍ أن يبلُغ ما بلغْنا، فإنه كان سيموت لو هو حاول النظر إلى الخلف. لقد كانت طريق عودتنا هي استمرارنا نحوَ التقدُّم جنوبًا. كنتُ أعلَم أن الجوَّ سيبرد مُجددًا، على خلاف العديد من الرجال الذين اعتقدوا أنَّ ما ينتظرنا جنوبًا هو باب الجحيم في الأرض، أما أنا فعلمتُ أننا سنتوغَّل إلى الحر، سيموت كثير منَّا، أو ربما لن نصِل أبدًا، لكنه يُوجَد بمكانٍ ما بالجنوب شيء يُشبه الشمال، وقد سِرنا لأشهُر ندفع تلك الإبل إلى الغَوص بأعماق القارة، وكنَّا نلتفُّ بالتفاف الصحراء، حتى إننا كنَّا نتَّجِه غربًا لأيامٍ بحثًا عن مياهٍ للإبل، أو نستقر في انتظار القوافل المحلية، عادة كانت تلك التي تتَّجِه شرقًا أو غربًا، لم يكن أحدٌ يجرؤ على التوجُّه إلى الجنوب، ننتظِر قافلة تدلُّنا على الماء، أو تُزوِّدنا به إن أمكن، مُقابل بعضٍ من حمولتنا، لم تكن مَسيرتنا رحلةً تجارية كما اعتقدتُ سابقًا، كانت رحلةً عقائدية، أشبَهَ برحلةٍ روحانية. كان السيد يؤمِن بشيءٍ ما، أنه يُوجَد شيء ما بالجنوب غير الحَر والرمال، غير باب الجحيم الخُرافي، غير المكان البارد الذي أعتقد أنه ما بعد هذا الاتساع الحار. كان يعتقد أنه يُوجَد شيءٌ ما، شيء يستحقُّ العناء، عناء الرحلة، عناء لعنة باب الجحيم، يستحقُّ التوجُّه جنوبًا من أجله، وكان بالقافلة بعض الفرنسيين من الجنود، وذلك السيد الفرنسي ورفقاؤه من النبلاء، وكان البقية من العرب. كنتُ أصغر الجميع سنًّا، كنتُ صبيًّا مقارنة بالبقية، بجسمٍ ضخم وإرادة صُلبة، ثم مرَّت علينا الأيام مرورًا لم نلحظه، وكنَّا نتقدَّم في الصحراء، كأنَّنا لم نفعل قط، وفي كل خطوةٍ نخطوها أو نتقدَّمها كانت تظهر الصحراء مُتنامية الأطراف، كانت كل خطوةٍ تبدو وكأنها الخطوة الأولى، لم نكن نشعُر أننا نغُوص نحوَ مكانٍ ما، وكأن الصحراء تتمدَّد بتطاول خطواتنا، فلا تنتهي حتى نكاد نيأس نهايتها، أذكر أنَّنا كنا نتوقَّف ببعض القُرى فلا نشبع فيها من الأيام البشرية حتى نعود مُجددًا إلى ما كنَّا فيه، بل نُغادرها بسرعة إلى الجنوب مُجددًا، لم يُخبرنا السيد الفرنسي لِمَ نقوم بالرحلة، بل كان يسجل على دفاتره كل شيء، كان يحسب كل شيءٍ وكأنه يعلم كل شيء، وفي غالب الأحيان كان يجلس إلى جانبي، نتحدَّث ليلًا، بينما يحرس الحارسان القافلة حول نارٍ يُقيمانها، كان يسألني عن حياتي، كانت تجمعنا علاقة تمرَّدت على سنوات العداء التي جمعَتِ العرب بالفرنسيين، لم أكن أهتمُّ لِلَون عينيه أو لشعرِه الأشقر أو حتى للكنته الأجنبية، كان يتحدَّث لُغتي، بل يُجيدها تمامًا، ولم يكن يعبأ بعروبتي، كنَّا أخوين وكان صديقي بل صاحبي، صاحب لم يكن لي في حياتي من قبل.
وكان لنا في ليلةٍ من الليالي، أن جلسْنا حول نار الحراسة، نحرس القافلة، وقد طلب السيد من الحارسَين أن يناما ويأخذا قسطًا من الراحة، مع أنه كان يجب على الجُنديَّين أن يحرسا القافلة ليلًا، لكننا رأينا أننا لن ننام الليلة، وجلستُ أحاوره ويُحاورني. تكلَّمنا حتى رأيتُ نارًا على بُعد منَّا، أشبه بنُقط متجمعة، أشبه بنار مُخيم أو أشبه بقافلة تستريح في مكانٍ ما في تلك الصحراء، كان يجب أن أخبر السيد عنها، لكنني لم أفعل فقد اختفت بسرعة، حتى كدتُ أجزم أنها ما كانت موجودة، ثم إنني اعتقدتُ أنه قد لا يُهمه الأمر، بدت أشبه بسرابٍ ما، أو تخيُّلات تراودني، تكلَّمنا كثيرًا واستهلكنا جراء كلامنا كثيرًا من الشاي، شاي منحَنا شعورًا باليقظة فازدادت أحاديثنا حلاوة، وكان يقول لي: لِمَ يتوجَّب علينا القدوم إلى هنا؟ (قدَّم لي كأس الشاي.)
– هل تقصد أنه ما توجَّب أن نقوم بهذه الرحلة؟ (أنظر إليه في تساؤل.)
كان يبتسِم ويقول لي: لا، أنا لا أقصد الرحلة (يتردَّد بخجل) لكن، ما كان على حكومتنا أن تقوم بالحملة العسكرية.
أخبرته أن الأمر لا يُهم، سواء حدث أم لا، وقلت: إنها طبيعة البشر، وحتى إن لم يأتِ الفرنسيون لفعل ذلك، لقام به آخرون، أو لتسيَّد علينا سادتُنا من العرب، أو ربما كنا سنفعل بكم مثل هذا! إن استعمار الشعوب للشعوب لفطرة إنسانية، ولا أحد مُستثنًى منها، فإما أن تكون تابعًا أو متبوعًا؛ لذا أنا لا ألومكم، على الأقل أنا لا ألومك أنت.
ثم سألني قائلًا: لِمَ لم يساعدكم إله العرب، أقصد إلهك، أنت مُتدين، صحيح؟
ضحكت وقلت: أجل، مُسلم.
وأضفتُ قائلا: وهل تعتقد أن إله الفرنسيين قد بارك هذه الحملة العسكرية.
ضحك وقال: لا، لا أعتقد أن الربَّ يرضى بقتل الأبرياء، قتلهم لأنهم لا يجيدون الفرنسية.
ضحك كِلانا وأضفت: وما الله بأقل حكمة، لكنه يرى أنه لا يغير بنا شيء لا نود تغييره، إنه لا يُغير ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم، إن الله عادل، ولن يدعم جانبًا من البشر خلقَهم مقابل بشرٍ خلقهم أيضًا، لاختلاف ألوانهم، أو كونهم عربًا أم عجمًا، الله يدعم عباده الصالحين من البشر، ثم توقفت، كان السيد يكتب ما أقول.
– ماذا تكتب؟
– ما يفعله إله العرب.
ابتسمتُ وقلت: أعتقد أنه منحنا حقَّ الاختيار، وما آلت إليه الأمور هو خيارنا، لا خياره.
ثم أضفت: خياره الجنة، وليس هذا.
وحملتُ بعضًا من الرمال وتركتها تنسال بين أصابعي لتعود إلى مكانها، أصابعي التي باعدْتُ بينها.
ثم سألته: لِمَ تقوم بهذه الرحلة؟ أقصد إلى أين نتجه؟
– أنت تعلم أن خلف كل رحلةٍ أسطورة (ينظر إلى السماء)، لنقل إنني أومن بواحدة.
– حسنًا، على الأقل أنت تسير خلف إيمانك.
واستمرَّ حديثنا إلى أن غفونا، في تلك الليلة المُظلمة هاجَمَنا جمعٌ من الرجال العرب، كانوا ضعفنا، رجال مسلحون بالكراهية والعداء، ضِعف تسلُّحِهم بالسيوف والبنادق. قتلوا العديد من الرجال ولم يستثنوا العرب من الفرنسيين. كنت قد ساعدت السيد الفرنسي على الفرار. أطلقوا النار عليه مرارًا، لكنهم لم يُسقطوه من على ظهر الناقة، كنتُ قد ساعدته على ركوبها وأنا أقول: أنا أعرف أنك تؤمن أنَّ إلهك سيساعدك، لكنني سأدعو الله أن يحفظك. لم تكن هذه معاركنا يومًا، وما كنا لنكون أعداءً أبدًا، ثم وخزتُ الناقة فتحرَّكتْ مبتعدة إلى المجهول، لم يعبأ به المرتزقة، فقد كان همُّهم الأول الحصولَ على حمولتنا من الحوائج والبشر، وأمسكوا بنا يجرُّوننا إلى أماكن نجهلها، ثم باعني بشر يتكلَّمون لغتي، يؤمنون بإلهٍ أنا أومن به، إلى مجموعةٍ من الثوار في سوق إحدى القُرى، واستعبدَني شيخ كان اسمه مبارك، كان قائد جماعة من المقاومة أو هذا ما اعتقدتُ في بادئ الأمر، أجلسني أمامه، اقترب مني وقال: أنت خنتَ الإسلام، وقد ولدتك أمُّك مُسلمًا، وباسم الله الذي خنتَه، وما كنتَ لتخون إلا نفسك، فإنني أسلبك باسمه الجليل حُريتك التي منحها لك، فأنت لا تستحقُّها بعد الآن.
لم أنبس ببنتِ شفة، لكنه التفتَ إلى رجاله وقال: اقتلوا السيد بداخله، اجعلوه ينسى الرجل الحُر بداخله، وسارع الرجال إليَّ فربطوني بجذع نخلة ونزعوا عني الجلد بسياطهم، يضربون كل جزءٍ من جسدي، وفعلوا ذلك أيامًا، ولمَّا كان ينتهي النهار، كانوا يتركونني وسط الصحراء ليلًا، مع قليلٍ من الماء، ووضعوا حولي صخورًا ضخمة أحضروها وكان بينها مُتسع كبير، اعتقدت في الليلة الأولى أنهم أطلقوا سراحي بفعلهم هذا، ثم اكتشفتُ أنني مُخطئ بعدَها، اكتشفت ذلك لما وجدوني صباحًا بمكانٍ ما مرمي، فأعادوني إلى جذع النخلة وأشبعوني ضربًا بالسياط، ثم تعلَّمتُ ألا أتجاوز الصخور، وكانوا يذهبون ليلًا إلى مكانٍ ما، كانوا يعلمون أنهم سيجدونني بين الصخور، فلا مكان أتجه إليه، ولا يكفيني الماء إن أنا اكتشفتُ وجود مكانٍ أذهب إليه، ثم يعودون صباحًا، يأخذونني إلى جذع النخلة، يربطونني مُجددًا. كنت أتوسَّل لهم ولكن ما كان يكترِث الجزء البشري بداخلهم، ثم يعيدون ضرب الجلد الذي تشكَّل بتخثُّر الدماء التي حاولَتْ غلقَ الجراح، فأخسر من الدماء مقدار ما شربتُ من الماء ليلًا. كانت معادلة سهلة لأحفظها، الماء ليلًا مقابل الدم صباحًا، وأبقَوا على ذلك أيامًا عديدة، حتى نسيتُ اسمي، فبدَّلوه باسمٍ آخر، «زنيم».
ثم حملوني إلى مكانٍ آخر، وجعلوني أخدمهم خير خدمة، وما تكاسلتُ في فعل شيء، إلا وعادوا إلى تأديبي بالضرب والجلد، يفعلون ذلك حتى يخرَّ ما فيَّ من قوة، فيبلغون الروح بسياطهم، ولم أرَ في حياتي عذابًا كعذابهم لي، وبقيت على تلك الحال عددًا من السنين أجهله، وما كنتُ أعلم أنني أكبُر في العبودية، إلا بعد سقوط شعري، أو إحساسي بالتعَب وأنا لم أعرف له طعمًا من قبل، أو نسياني لِما توجَّب عليَّ ألا أنساه. وبعد مدةٍ قتلوا ذلك الرجل بداخلي؛ قتلوا محمدًا العلاوي، وأنشئوا زنيمًا العبد القادم من الشمال، ثم نسيتُ حُريتي، نسيتُ أنَّ لي عائلة، نسيتُ كل شيء، كانوا يُقرِّرون ما أفعل، ما آكل وما ألبس، كانوا يختارون وقت راحتي ووقت عملي، وأصبحوا الملك الذي يجب أن أخشاه، جعلوني أنسى الربَّ فوقهم جميعًا، نسيتُ إله الفرنسيين ونسيتُ إله العرب، ثم تذكرتُ فجأة زوجتي، تذكرت عائلتي، وكنتُ أتخيلها كل ليلة، كنتُ أشيخ في الصباح، ثم أنتظر الليل، لأعود صبيًّا من جديد، أنسى أنني عبد شيخ، أنسى أنني زنيم، أراها ليلًا فتاة شابة، وأرى مدخل منزلي الطوبي، هي لم تكبُر أبدًا في اعتقادي، وتصورتُ دومًا أنني عندما أصير طليقًا، يومًا ما، فإنني سأتوجَّه إليها، فأجدها شابة تنتظرني عند المدخل، سأركض نحوَها وأنا أصير أثناء ركضي شابًّا من جديد، أنني سأعود كاليوم الذي اعتقلوني فيه، كانوا قد قتلوا المنطق الذي أعيش به، جعلوا حياتي مجرد كابوس طفل مُرعب، حلم لا يمكنني الاستيقاظ منه، وأمضيتُ ما تبقى من حياتي كعبد اسمه زنيم.