القسم الخامس
ثم توقف العربي عن الكلام وتوقف النادل بدوره عن الترجمة. التفت إليَّ النادل وقال لي: هل تُصدق أنه يمكن أن يحدُث هذا لشخصٍ ما، وأنا اعتقدت أنه مجرد مجنون يملك بعض المال؟
كانت حكايته قد دفعتني إلى الصمت، لم يكن بمقدوري أن أتكلَّم، كل ما فعلته هو أنني نظرتُ إليه بعينين ذابلتين مدةً ثم قلت للنادل: قل له إنني أشعر بالأسف لما حدث معه.
مع أنني أعلم أن قولي هذا لا يعني بالضرورة أنني كذلك، فلن أوفِّيه من الأسف حقَّه مهما فعلت، وجلستُ أنظر إلى كلِّ مكانٍ من حولنا وفكَّرت: «هل هذا ما أقام مجد البشرية؟»
وكان من المؤكد أن ما حدث له، أو ما حدث قبل آلاف السنين، أو حتى ما سيحدُث من القصص الغريبة بعد هذا العصر، كل هذا شارك وسيستمر في بناء هذه الحضارة التي تناشد البشر بالحرية والأخوة والمساواة؛ المساواة التي يمنحونها لي وليس لهذا المشرد العربي، الأخوة التي شعر بها مع ذلك السيد الفرنسي، وفي مكانٍ لا يعرف الأخوَّة، بينما لم يشعُر بها حينما عذَّبه بنو جلدته، الحرية التي سلبوها منه باسم إلهٍ يتبرأ منهم، إله آمنوا به لأنه يحمي أُسس الحرية ويصونها على خلاف مَن آمن به. ثم دنوتُ من النادل وقلت له: اسأله كيف تمكن من الحصول على حريته.
– على الأرجح هو فرَّ منهم.
– سيدي أنت لم تصغِ جيدًا، فقط اسأله كيف أصبح حرًّا.
وباشر النادل الترجمة بعد طرحه للسؤال.
– كان ذلك قبل مدة، التقى الشيخ مبارك بجماعةٍ من الفرنسيين، كان قد جلس معهم رفقة رجالٍ من العرب، خمسة فرنسيين وامرأة تُرافقهم، وبلغ العرب من القرى ستة عشر رجلًا، حضروا الجلسة حتى إن بعض الأطفال كانوا على بُعد يراقبون الاجتماع المُهم. كان الفرنسيون بحاجةٍ إلى التزوُّد ببعض المؤن لرحلتهم، وقد طلب مني حمل أشيائهم رفقة بعض العبيد ممَّن يملكهم مبارك، وقد بدوتُ عاجزًا بعض الشيء، فأنا قد كبرتُ على حمل الأشياء، وتأسَّف الفرنسيون على ذلك، حتى إنهم طلبوا من مبارك أن يتركني لأعدَّ الشاي لهم فقط، وقد لبثتُ أخدمهم حتى تقرَّبَتْ مني المرأة الفرنسية، تُعجَب بشجاعتي، ترى بداخلي السعادة التي نسِيتُها، ترى الأمل الذي فقدَه الآخرون، وكانت تقول لي بينما جلس معنا مُترجمها.
– هل لك زوجةٌ تنتظرك في الديار (تُمسك بكأس الشاي بكلتا يديها).
– مولاتي، أنا لا يجب أن أُحدثكم (قدمت الشايَ للمترجم)، سأموت إن فعلتُ ذلك (ترجم المترجم كلامي للفرنسية).
– أخبرِه ما يلي: لا تقلق، فإنَّ مبارك صديقنا، وصداقتنا أهمُّ من حديثي إليك بالنسبة له.
نظرتُ إلى المترجم، ثم فكرتُ وأنا أراقبها، أضافت على لسانه: إذن هل لك عائلة، اسمك «زنيم»، هذا اسمك؟
– أجل مولاتي.
– وهل هي تنتظرك (ابتسمَتْ لي).
– لا أعتقد أنه يُهم ذلك، أعتقد أنني شخصٌ لا يجب انتظاره.
أخذَتْ وقتًا لتفهم ترجمة المترجم، ثم أشارت بيديها لي لأطمئن.
– ربما ستتغيَّر الأمور.
ووعدتْني المرأة أن تساعدني، فقد أخبرتُها حكايتي تلك الأمسية، كنتُ أجالسها والفرنسيين ليلًا، أطبخ لهم بعضًا من الخبز والشاي، وأخدمهم خير خدمة، وقد طلب منِّي الشيخ مبارك أن أفعل ذلك، وأعتقد أن السيدة الفرنسية قد طلبت منه ذلك، كان يودُّ أن يتحصَّل منهم على صفقة؛ تزويد رجاله بالذخيرة أمرٌ مهم له، لذا كان قد طلب منهم البقاء لليالٍ أخرى، فيحصلون على المؤن ويزوَّدون بالماء ثم يغادرون بعدها، وقد سألتُ السيدة عنهم: ألا تخشونهم؟ إنهم ثوار.
كانت قد ضحكت وأردفَتْ: مبارك ورجاله من الثوار، هاهاها، إنهم مجرد مرتزقة وقطاع طرُق، هم ليسوا أعداء فرنسا، هم أعداء جميع البشر، ولهم مصالح مع فرنسا تدفعهم إلى القضاء على الثوار الحقيقيين إن تطلَّب الأمر ذلك. أخبرتني أيضًا: سأساعدك على المغادرة، زوجتك تنتظرِك وقد طال غيابك عنها، وقد طلبت السيدة الفرنسية من الشيخ مبارك أن يبيعني لها، رفض في بداية الأمر، وتحجَّج بأنني العبد الأغلى سعرًا، وأنه لن يبيعني، أذكر أنه عرَض عليها عبيدًا آخرين، وقد فعل ذلك فقط ليُظهر لها مدى أهميَّتي، لم تكن لي قيمة، لكنه استعملني لرفع السعر، وقد عرضَني للبيع على كل العرب، كان قد أخبرها أن العرب هم الأولى بي، وقد رفض كل الأسعار التي عرضتْها، سبعون ألف فرنك لم تكن كافية، وجلس ثلاثة وعشرون شخصًا يساومون عليَّ، قال الشيخ مبارك: إن هذا العبد أشبه بآلةٍ حديدية، وهو قد بنى كل أيامي، ولن أبيعه مقابل سبعين ألفًا.
وقد كنتُ وسط حلقةٍ من البشر، أجلس على ركبتي، خافضًا رأسي. تحسَّسني الجميع في مزايدة على السعر، قلب البعض منهم أسناني، وتحسَّس البعض الآخر ما تبقَّى من جسدي، كنتُ أشبه ببهيمةٍ يودُّون الحصول عليها.
– يبدو مُسنًّا.
– لكنه يُخفي يا سيدي خلف هذا الجسد المُسن، قلبًا حديديًّا، إنه لا يتوقَّف عن العمل أبدًا.
– لن أدفع فوق خمسة وسبعين مُقابله.
– إذن لن أبيعك هذا العبد، أنا أُفضل قتله على أن أبيعه بخمسة وسبعين.
ومكثوا لساعاتٍ يساومون على الأسعار، كنتُ أنتظر بتلهُّفٍ أن ينطق الفرنسيون، على الأقل بأي ثمن، أن يُظهروا أنهم يودُّون شرائي، فأنا أكره أن يشتريني العرب، على الأقل فإنَّ الفرنسيين لم يتحسَّسوا جسدي، كانوا يشعرون أنني ما زلتُ بشرًا، ربما في جزءٍ من روحي، ولبثوا يراقبون الأسعار، وبعد مدةٍ كره العرب أن يشتروني من مبارك، ولتعنُّته، كرهوا أن يشتروا منه عبدًا عجوزًا بسبعين ألفًا، حتى ذكرت الفرنسية على لسان مُترجم محلي اسمه عبد القادر: خمسةً وتسعين ألفًا.
– لو قلتِ مائة ألف لقبلتُ بيعه لكِ.
نطق أحد الرجال للشيخ مبارك بينما اندهش الجميع: سيدي بِعه لها، لن تجد أحدًا يُقدِّم مبلغًا كهذا.
فكَّر الشيخ مبارك، بينما استغرب العرب أمر الشيخ. رفعتُ رأسي أراقبها، كانت متأكدة أنها ستشتريني، لذا لم تُضف كلمةً أخرى، كانت تودُّ ذلك بشدة.
لا أدري.
وفكَّرت: «هل أنا بقيمة مائة ألف فرنك؟ أخُلِقت لهذا السعر؟»
وقام الرجل بوخز الشيخ مبارك، فقد كان يرى أن بيعي أهمُّ بكثيرٍ من تعنُّته، وقال: اللعنة على هذا العبد، سيموت بعد أيام، وستخسَر كل شيء، ستخسره وستخسر التسعين ألفًا. بِعه بهذا السعر، واشترِ للرجال ذخيرةً أخرى؛ القوافل تتوغل، والفرنسيون يقتربون منَّا، حتى الثوار أصبحوا تهديدًا لنا.
كان الشيخ قد فكر بقول صاحبه مدة، ثم قال: حسنًا، خُذيه بخمسة وتسعين ألفًا.
وأضاف المُترجم: بشرط أن تتمَّ مُرافقته إلى أقرب مدينةٍ من هنا، سيدتي ستدفع ألف فرنك لمن يُرافقه إلى المدينة.
كانت تلك الفرنسية قد اشترت حُريتي، وقدَّمت لي المال، طبختُ لها الشاي لآخِر مرة، وكلَّمتُها مرةً أخرى، كان دَورها لتقصَّ لي حكايتها، حكاية أخيرة، وجلس معنا المُترجم، ككل مرةٍ، جلستنا الأخيرة، قالت لي في آخر كلماتٍ لها، آخر كلمات أذكرها عنها: ابحث عن عائلتك، أنت رجُل حُر الآن، مثل كل وقت، لا تتوقَّف عن البحث، ولا تنظُر خلفك.
لم أنبس ببنت شفة، انخفضتُ على رُكبتي أبكي، كانت قد وضعت يدَها على رأسي تُخبرني أن كل شيءٍ على ما يُرام، ثم انخفضَتْ بانخفاضي، رفعتُ رأسي إليها، قبَّلَت جبيني، كانت تبكي بدورها، تبكي مُبتسمةً وهي تقول: أخبره، اجعل كلماتي حقيقية، أخبره ما يلي: جعلتَني أبكي أيها العربي (ترجَم المُترجم عنها).
– آسِف سيدتي (بصعوبة ترجم كلامي).
– فقط، عُد إليها (كان قد قالها بصفةٍ أخرى).
واتجهت تلك الفرنسية رفقة قافلتها نحوَ مكانٍ ما، وعدتُ إلى هذا المكان لأبحث عن عائلتي، فقد غادروا قريتنا قبل زمن، وتأكدَّت أقوال العرب؛ كان ذلك المكان باب الجحيم في الأرض، لكنهم أخطئوا في شيءٍ واحد؛ لم يكن الله من أنزل ذلك الباب، كان الشيطان من أقامه، لم تكن تلك أسطورة بابٍ أُنزل من الجحيم أو رُفع منه، كانت تلك حقيقة بشَر أقاموا بابًا للشيطان، وتحدَّثوا باسم الرب لتغطية أعمالهم، وتصوَّر لهم الشيطان في صفة الرب، والربُّ غني عن التصوُّر بأي صورة. افترقتُ عن أصدقائي، ربما مات السيد الفرنسي، أو هو أكمل التوغُّل في الصحراء وحدَه يبحث عما يؤمن به، ربما صادف قطَّاع طرُق آخرين، لكنني أعلَم أنه على الأقل اكتشف شيئًا من هذه الرحلة، لا أعلم إن استمرَّ في رحلته أو هو بدأ رحلةً جديدة، وتلك السيدة الفرنسية لا أعلم إنْ هي لقيت مُرادها، وكان مُرادها أبسطَ شيءٍ سمعته، والأكثر تعقيدًا، ولا أعلم أين هي عائلتي في هذا العالَم، وها أنا أبدأ رحلتي، أعظم رحلة، رحلة كنتُ لأخبر بها والدي، ولأول مرةٍ فهمتُ لمَّا قال لي والدي يوم وفاته أن تلك رحلته المقدسة، كان يُلاحق حُبه، كان يتبع عائلته، وها أنا اليوم أخوض رحلة أشبَهَ بتلك، ها أنا أبحث عن عائلتي، مثل والدي، ها أنا أُلاحق حُبي الوحيد. ومرة أُخرى صدَق والدي فيما علَّمني، ومرة أُخرى أكتشف أن والدي وككل الأيام التي عشتُها إلى جانبه، كان والدي على حق، ككل مرة.