الحرب القرطجنية الأولى
كان هنيبال قائدًا قرطجنيًّا أحرزَ شهرته الطائرة كأعظَم الكُماة بتهالُكِه في محاربة الرُّومانيِّين، ومن المعلوم أن رومية وقرطجنة نشأَتا معًا على جانبَين مُتقابلَين من بحر الروم، وظلَّتِ الحروب الطاحنة مُستعِرةَ الضِّرام بينَهما مدة مائة سنة. وعدد الحروب التي نشِبت بينهما ثلاثٌ، خرجَتْ رومية من ساحاتها ظافرةً منتصرة في آخر الأمر، ودكَّت قرطجنة إلى أَساساتها.
ولم يكن ثَمَّ من باعثٍ حقيقي على اقتتال تينِكَ الأُمَّتين، فالنزاع بينهما قد تأتَّى باختيارهما عن المزاحمة والشحناء، فاختلافهما الأصليُّ نشأ عن تبايُن في اللغة والأصل، وعن استيطانهما جهتين متقابلتين من البحر الواحِد، وبهذا كرِهتْ إحداهما الأخرى وعمِلتْ على سَحْقِها وإبادتها.
والذين قرءُوا تاريخ الإسكندر الكبير يذكرون دون ريبٍ الصعوبةَ الكلية التي عاناها في محاصرة مدينة صور والتغلب عليها، وهي مدينة بحرية يبعد موقعها عن الشاطئ نحو الميلين، قائمة على الجانب الشرقي من بحر الرُّوم، وابتنى قرطجنةَ جماعةٌ من ماهِدي المستعمرين نزحوا عن صور، وبنوا المدينة الجديدة فأصبحتْ قوة بحرية وتجارية عظيمة كأمِّها، وابتنى القرطجنيون المراكبَ العديدة التي مكَّنَتْهم من اكتشاف مجاهل بحرِ الروم، وزاروا على مُتونها كلَّ الأمم الساكنة على شواطئه، واشتروا منهم كل الحاجيات المختلفة التي كانوا يتَّجرون بها، ويحمِلونها إلى الشعوب الأخرى ويبيعونها منها بأرباحٍ وافرة، وبهذا أحرزوا غنًى وقوة في مدى قصير.
وكانوا يستأجرون الجنود ليُحاربوا حروبَهم وليمكِّنُوهم من الاستيلاء على جزائر بحر الرومِ وعلى بعض الأماكن الداخلية في بعض الأحيان، مثال ذلك: أنهم في إسبانيا التي مخَرَتْ إليها مراكبُهم وجدوا المقادير الكبيرة من رِكاز الفضة والذهب، استخرجوها من معادن بادية على وجه الأرض تقريبًا، وقد كان القرطجنيون في بادئ الأمر يحصلون على الذهب والفضة بالمقايَضة، فيعطون الوطنيين حاجيات متنوعة كانوا اشتروها من بلادهم بثمن بخس جدًّا، بالنسبة إلى ما كانوا يتقاضونه الإسبانيين ثمنًا عنها.
واستولوا أخيرًا على ذلك القسم من إسبانيا الذي توجد فيه تلك المعادن، وصاروا يستخرجون كنوزها بأنفسهم متعمِّقين في الحفْر كثيرًا، واستخدموا لذلك الغرض جماعةً من المهندسين ابتدعوا المضخات؛ لكي ينظفوا المعادن مما يتسرَّبُ إليها من الماء، ولكي تتوفر لهم الوسائل العلمية والآلية التي تمكِّنُهم من التغلُّب على سائر العوائق، وهناك ابتنوا مدينةً أطلقوا عليها اسم قرطجنة الجديدة — نوڨا كرثاجو — وحصَّنوا هذه المدينة وأقاموا فيها حامية عسكرية، واتخذوها مركزًا لأعمالهم في إسبانيا، ولا يزال اسم تلك المدينة قرطجنة إلى هذا اليوم.
وهكذا كان القرطجنيون يتمون العظائمَ بقوة المال، فتوسَّعوا بأعمالهم في سائر أنحاء البلاد، وكانت كل ناحية تُدِرُّ عليهم كنوزًا جديدة، فتوفر لهم الوسائل المساعدة على زيادة التوسع، وكانت لهم، عدا السفنِ التجارية التي هي مِلكُ أفراد الشعب، بوارجُ حربية للحكومة، كانت في تلك الأيام تُعرف بالسفن الواطئة، وتسير بمئات المجذفين يقيمون فيها صفوفًا الواحد بعد الآخر، حتى إنك لتجدُ في السفينة الواحدة من هؤلاء أربعة أو خمسة صفوف يتناوبون التَّجذيف.
وكانت لهم جيوش جرَّارة مجنَّدة بالأجرة من بلدان مختلفة ومنظَّمَة بحسَب براعةِ رجالها في فن معلوم من فنون القتال والتوماديان؛ مثلًا: الذين كانوا يقطنون أقطارًا متدانية من قرطجنة على الشاطئ الأفريقي كانوا مشهورين بالفروسية؛ لأن بلادهم ذات سهول واسعة خصيبة التربة كثيرة الكلأ، وفي مثل هذه البلاد يكثر كما لا يخفى عددُ الذين يربون الخيول الصَّافنات، ويُجيدون ركوبها ويتلقَّنُون فنون الفروسية.
ثم إن سكان جزائر بلياريك — المعروفة اليوم باسم ماجوركا ومينوركا وإيفاكا — اشتهروا بحِذْقهم في رمي الحجار بالمقلاع، وعلى هذا النمط كان القرطجنيون يجرون في ترتيب جيوشهم، فيأتون بالفرسان من نوميديا وبرُماة المقلاع من جزائر بلياريك، وللأسباب نفسِها كانوا يستأجرون المُشاةَ المشهورين بالإقدام من إسبانيا.
وكان اتجاه الشعوب المتنوعة إلى استنباط طرقٍ حربية مختلفة وتقليد غيرهم فيها والقيام عليها في الأزمنة الذاهبة أعظم منه في هذا الزمان، فجزائر بلياريك في الواقع قد اتخذت اسمَها هذا من الكلمة اليونانية «بليان» التي معناها الرميُ بالمقلاع؛ لأن الأحداث فيها كانوا يتمرَّنون إلى حدِّ الإجادة على إتقان هذا النوع من السلاح من أوَّل عمرهم، حتى قيل: إن الأمهات كُنَّ يضعن الخبز لإفطار أولادهن على أغصان الأشجار العالية، ولا يسمَحْنَ لهم بتناوُله للأكل إلا بعد أن ينزلوه بحجر يُرمى بمقلاع.
وعلى هذا النسق من الاختبار والتنظيم امتدَّتْ صولة القرطجنيين واتَّسعَ مجال سيطرتهم، على أن حكومتهم بجُملتها كانت منحصرة بجماعة قليلة العدد من سراة الأسر الغنية «الأرستُقراطية» في الوطن، فكانت مُماثلة من هذا الوجه للحكومة الإنكليزية في هذا الزمان، إلا أن سراوة «أرستُقراطية» إنكلترا مبنية على السلالة العريقة في النسب وعلى ملكيَّة العقار، أما في قرطجنة فقد كانت مستندة إلى العظمة التجارية، متحدةً في الواقع مع ميزة الأُسر الوراثية.
وكانت سراوة «أرستُقراطية» قرطجنة مسيطرة ومُسلَّطة على كل شيء، فلم تكن وظائف القوة تُعطى لغير أبنائها إلا فيما ندَر؛ ولهذا أصبحت بقية العامة من الأَهلين في حالة الاسترقاق والعبودية. جرَتْ قرطجنة على هذا النمط كما جرت عليه إنكلترا في هذا الحين، وهو أمر بعيد عن العدل ومؤلم للمنبوذين، على أن النتيجة كانت يومئذٍ — كما هي كائنة في إنكلترا اليوم — حسنةً جدًّا، وصالحة من وجه أنها عملت على إيجاد حكومةٍ نشيطة منزهة عن الدَّنَايا ولوثات التلاعُب، ومن المعلوم أن حكومة الأعيان تساعد في بعض الأحيان على إيجاد دولةٍ غنية وقوية، ولكنها في الوقت نفسه تجعل بقية الشعب شقيًّا، وغير قانع بما هو فيه.
فليتحول القارئ الآن إلى الخارطة، ويجد فيها المكان الذي كانت فيه قرطجنة، وليتصور مدينة عظيمة وافرة الثروة هناك بأرصفتها العظيمة ومرافئها، ومخازنها الكبرى الخاصة بالمتاجر الواسعة، وهياكلها وأبنيتها العمومية الجميلة المشيدة لدوائر الحكومة وللمعابد، والقصور الفخمة والدور الشائقة التي كان يسكنها أرباب المال والحسب والنسب، وكذلك الأسوار والأبراج المرتفعة في الجوِّ لأجل الدفاع عن الكُل.
وليتصور بعد ذلك بلادًا خلفية تمتدُّ مئات الأميال إلى داخلية أفريقيا المشهورة بخصبها ووفرة خيراتها، وما تنتجه من مقادير الذرة والخمر والثمار اللذيذة المتعددة الأنواع، ولينظر بعد هذا إلى جزائر سيسيليا وكورسيكا وسردينيا والبلياريك، ويدرك بالتصور أنها كانت جميعًا بلدانًا كبيرة الثروة كثيرة الخصب، وكلها تابع للسيادة القرطجنية.
وانظر أيضًا إلى الشاطئ الإسباني — انظر بعين التصور — مدينة قرطجنة هناك بحُصونها وجيوشها، ومعادنها الذهبية والفضية التي يشتغل فيها عشرات الألوف من الأرِقَّاء، وتصور أساطيل السفن تمخر على الدَّوام، من بلاد إلى أخرى على شواطئ بحر الروم ذهابًا وإيابًا إلى صور فقبرص فمصر فجزيرة سيسيليا فإسبانيا، تحمل الذُّرَة والكتان والصباغ الأرجواني والبهارات والعطورات والأحجار الكريمة والحِبال والشُّرُع للمراكب، والذهب والفضة في أشكال مختلفة، وبعد هذا ترجع بالدور إلى قرطجنة؛ لتفرغ في الخزائن ما احتملَتْه من أنواع الثروة، فتزيد الموجود منه عند القرطجنيين أضعافًا. ليتصورِ القارئ كل هذا والخارطة مفتوحة أمامه؛ لكي يرى جليًّا العلائق الجغرافية التي تربط تلك الأماكن بعضها ببعض، فترتسم في ذهنه من ذلك صورة إجمالية صحيحة تمثل له القوة القرطجنية، حينما بدأت في حروبها الهائلة مع رومية.
أما رومية فتختلف في موقعها وحالتها عن ذلك، فقد ابتنى روميةَ أناسٌ من تروادة هاموا على وجوههم في هاتيك الأنحاء، فنمَتْ زمانًا طويلًا بهدوء وبطء متمشية على مبدأ الحياة والنشاط الداخليين، وكانت الأقاليم المختلفة في شبه الجزيرة الإيطالية تنضمُّ إلى رومية واحدها بعد الآخر، فتألَّف من عَشائرهم شعبٌ كان على الغالب فطريًّا زراعيًّا، فحرَثوا الحقول واقتنصوا الوحوش الضارية وربوا المواشي على تنوعها، وقد بدا منهم ما دلَّ على أنهم جنس — خليط من الأجناس البشرية — حائز على نظامٍ بديع متفوق، سعى بالتدريج لإيجاد صفات الثبات والنشاط والقوة فيه جسديًّا وعقليًّا؛ الأمر الذي استوجب إعجاب الجنس البشري كلِّه به.
خُص القرطجنيون بالذكاء — والرومانيون سموه دهاءً — وبالنشاط والإقدام على الأعمال الكبرى وبالثروة الطائلة، وكان مزاحموهم من الجهة الأخرى موصوفين بالنبوغ والشجاعة والقوة، يصحبها جميعًا تصميم أكيد هادئ راسخٌ ونشاط غريب أصبح بعد ذلك، في كلِّ جيل وفي أذهان الشعوب، ملازمًا لكلمة «الرومانيين» عينها، وكان رقي الأمم بطيئًا في الأزمنة القديمة أكثر منه الآن، وبقيت هاتان الدولتان المتزاحمتان مثابرتين على النمو المتتابع والتوسع في الملك، كلٌّ منهما على جانبها الخاص من ذلك البحر العظيم الذي فصَلهما عن بعضهما مدة خمسمائة عام قبل أن تدانتا من الاصطدام. أخيرًا حدث التطاحن المنتظر وكان ابتداؤه كما يأتي:
يرى الناظر إلى الخارطة أن جزيرة سيسيليا منفصلة عن جسم البرِّ ببوغاز ضيق يسمى بوغاز مسينا، واسم هذا البوغاز متخذ من بلدة مسينا على الجانب السيسيلي، وقبالة مسينا على الجانب الإيطالي قامتْ في ذلك الزمن بلدة اسمها راجيوم، وحدث أن جماعات من الجيوش غير المنظمة استولت على كلتا البلدتين، فأتى الرومانيون وأنقذوا بلدة راجيوم، وأنزلوا بالجنود التي احتلوها عقابًا أليمًا، وأقبلت حكومة سيسيليا لإنقاذ بلدة مسينا، فلما رأت الجنود التي كانت فيها أنها مهددة على تلك الصورة أرسلتْ إلى الرومانيين، تقول لهم إنهم إذا أتوا لنجدتهم وحمايتهم يسلمونهم مسينا.
فالجواب على هذا السؤال استلزم رفع القضية إلى مجلس الشيوخ الروماني، وسبَّبَ لذلك المجلس إشكالًا وارتباكًا عظيمين؛ إذ بدا لأعضائه أن التحيُّز لخوارجِ مسينا ليس من الأمور الملائمة، في حين أنهم هم الرومانيون قد عاقبوا خوارجَ راجيوم بصرامة، ومع ذلك فإن الرومانيين كانوا مدة الأعوام الطوال ينظرون بعين الغيرة والحسد إلى تعاظُم صولة قرطجنة وامتدادها، ورأوا أن الفرصة قد سنَحتْ لهم لملاقاتها ومقاوَمتها، وكانت حكومة سيسيليا إذ ذاك تراسل قرطجنة طالبةً منها النجدة لاسترجاع المدينة.
وكان في تلبية قرطجنة ما طلبته حكومة سيسيليا منها ما يؤدي إلى إقامة جيشٍ قرطجني قبالة الشاطئ الإيطالي؛ وعلى مرأًى منه وفي نقطة يسهل عندها على ذلك الجيش أمر القيام بحركات عدائية والاعتداء على البلاد الرومانية، وبالجملة فإن المسألة كانت مما يُسمَّى في لغة السياسة ضرورة سياسة. وبعبارة أخرى: إنها مسألة متعلقة بمصالح أحد الجانبين التي وجد فيها حقها قويًّا إلى حدٍّ يحمل على تضحية كل اعتبارات العدالة واللياقة والشرف في سبيل الاحتفاظ بها، ومن المعلوم أن قضايا عديدة من نوع الضرورة السياسية، كثيرًا ما تحدث في إدارة شئون الشعوب في كل أدوار العالم.
فالنزاع من أجل مسينا كان في آخر الأمر مُعتبرًا في نظر الرومانيين مجردَ علة أو عذر، أو بالحرَى فرصة سانحة للابتداء بالكفاح الذي كانوا منذ زمن طويل راغبِين في الإِقدام عليه، وقد برهنوا على عظَمتِهم ونشاطهم الموصوفين بالخطة التي اتخذوها في بدء العراك، فهم كانوا يعرفون جيدًا أن قوة قرطجنة قائمة بالأكثر على سيادتها البحرية، وأنه لا رجاء لهم في خوض غمرات الحرب معها على شيء من الأمل بالنجاح، إلا إذا حاربوها وقهروها في ذلك الميدان.
ولم يكن عندهم في ذلك الحين سفينة واحدة أو بحار واحد، في حين أن بحر الروم كان غاصًّا بسفن القرطجنيين وبحارتهم، على أن ذلك لم يثبِّطْ من عزائمهم ولا خاموا لما علموه من الميزة العظمى التي لعدوهم عليهم، فشرع الرومانيون في الحال يبنون قوةً بحرية عظيمة تجعل كِفَّتهم البحرية مساوية لكِفَّة قرطجنة.
واستغرق الاستعداد وقتًا غير يسير؛ لأنه لم يتعين على الرومانيين أن يبتنوا السفن فقط، بل كان عليهم أن يتعلموا كيف يبنونها، فتلقنوا أمثولتهم الأولى من سفينة قرطجنية كانت قد دفعتها العواصفُ إلى الشاطئ الإيطالي، فاستولوا عليها وجاءوا بالنجارين لكي يدرسوها وبقطاعي الأشجار ليُوجدوا منها خشبًا للشروع في بناء مثلها على سبيل التقليد، فدرس النجارون تلك السفينة بتدقيق وقاسوا كلَّ قسم منها، ولاحظوا كيفية بناء الأقسام المختلفة وطريقة رَبطها معًا جسمًا واحدًا.
ومن المعلوم أن الصدمات التي تُصيب السفنَ في البحار من الأمواج والتيارات تجعل أمر العناية في بنائها ضروريًّا لإبلاغها من القوة الدرجة القُصوى، ومع أن سفن الأزمنة الماضية كانت صغيرة جدًّا، وليست على شيء من الإتقان بالمقابلة مع دوارع الوقت الحاضر، فمن المدهش أن ينجح الرومانيون فورًا وبسرعة في محاولة ابتنائها على غير سابقِ استعدادٍ أو عهدٍ لذلك الفن.
وكل ما يُقال في هذا الشأن أنهم نجحوا، وبينما كانت السفن تُبنى كان الضباط الذين عُهد إليهم في تمرين رجالٍ للقيام عليها يدرِّبونهم عند الشاطئ على كيفية تسيير تلك السفن بالتجذيف، فأقاموا مقاعد كالتي يجلس عليها المجذفون في المركب على الأرض، وعلى هذه أجلسوا الرجال المراد تمرينهم وجعلوا في أيديهم أخشابًا كالمجاذيف؛ ليتقنوا تحريكَها كما لو كانوا في السفن.
وكانت النتيجة الحاصلة مما بذله الرومانيون من الجهد في شهور قليلة: أنهم أكملوا بناء مائة سفينة، في كل واحدة منها خمسة صفوف لرجال التجذيف بمجاذيفها وسائر ما يتعلَّقُ بها، وأبقوا هذه السفن في الميناء زمانًا معلومًا؛ لكي يروا ما إذا كان المجذفون يحسنون القيام على التجذيف في البحر كما أجادوا فيه برًّا، ولما استيقنوا من ذلك ساروا بتلك السفن في البحر للِقاءِ القرطجنيين.
وكان في جملة تدابير الرومانيين لإعداد أسطولهم قسمٌ واحد دلَّ على غريزتهم التي انفردوا بها عن سائر الناس، من حيث التصميم على الإجادة وبلوغ حدِّ الكمال في سائر أعمالهم، ذلك أنهم ابتَنوا آلاتٍ محتوية على كلاليب من الحديد نصَبوها على مقدم السفينة، فكان من أمر هذه الكلاليب عند التقاء السفينة الرومانية بالسفينة القرطجنية أنها تترامَى على ظهر سفينة العدو، فتمسكها بحيث لا تقوَى على الإفلات، وتربط السفينتين معًا كأنهما واحدة.
وبهذه الطريقة ينزعون كلَّ فكر يخطر للعدو أنهم راغبون في الفرارِ من المعركة، على أن خوفهم الوطيد كان منحصرًا في الاحتساب من أن بحارة القرطجنيين يستخدمون حذقَهم ودُربتهم البحرية للفرار من المعركة، ولقد عد الناس طرًّا عمل الرومانيين هذا من أدلِّ البراهين على شجاعتهم البحرية، وتصميمهم النهائي على مجالدة أعدائهم بتلك الصورة التي لا مثيلَ لها في التاريخ، ذلك بأن يحتاطوا للعدو فلا يفرَّ من بين أيديهم، وينجوا من القضاء المحتوم الذي قرروا في نفوسهم أنه سيكون من نصيبه، إذا هو بقي مقيدًا في مكافحتهم، وعلى شجاعة يندر وجود ضريعٍ لها في غير الرومانيين.
وفي الواقع أن إقدام الرومانيين هذا غريبٌ في بابه؛ فليس بالسهل أن ينزل جيشهم البري إلى شاطئ البحر، ومن غير أن يكون قد رأى مركبًا في زمانه يبتني أسطولًا كبيرًا من السفن الحربية، وينازل به دولة ملأتْ أساطيلها البحار، وتفرد رجالها في خوض غَمَراتها بحيث أصبحت سيدةَ البحر بلا منازع.
فهم قد توفقوا إلى إمساك سفينة محطَّمة من سفن أعدائهم، واتخذوها قالبًا يبنون عليه فابتنوا مائة سفينة مثلها، وتمرنوا على حركات الأساطيل الحربية وقتًا يسيرًا في مينائِهم، ثم ذهبوا للقاء أساطيل عدوهم البطَّاش، ومعهم تلك الكلاليب التي مرَّ وصفها؛ ليقيدوهم بها غير خائفين من شيء سوى إفلاتِ الأعداء من قَبضَتِهم.
وكانت النتيجة حسبَ المنتظر، فإن الرومانيين أسروا وأغرقوا وحطَّموا أو مزقوا شملَ الأسطول القرطجني الذي أقبل على مساجَلتهم، فأخذوا مقدم كل سفينة أسروها وأرسلوها كلها إلى رومية، وهناك شيَّدوا بها عمودًا «منقاريًّا» كتذكارٍ لانتصارهم، وقد حطَّمت الصواعق ذلك العمود تقريبًا بعد خمسين سنة من نَصبه، ولكنهم أصلحوه وأعادوا بناءَ ما تهدم منه، فظل قائمًا في مكانه أجيالًا عديدة شاهدًا عادلًا على انتصارهم البحريِّ الباهر.
وكان القائد البحري في تلك الموقعة القنصل دويليوس وقد شُيِّد العمود المنقاري إكرامًا له، وعندما احتفروا خربات رومية من مضي ثلاثمائة وخمسين سنة عثروا فيما يُقال على بقايا ذلك العمود، وعوَّل الرومانيون بعد ذلك على التوسُّع في الحرب إلى قلبِ أفريقيا بالذات، وكان ذلك سهلًا عليهم بعد أن حطموا الأسطول القرطجني؛ لأنهم استطاعوا نقل جنودهم إلى الشاطئ القرطجني بلا أقلِّ خوفٍ عليه من سفن الأعداء.
وكانت رومية مسوَّدة بمجلس شيوخ «سناه» ليَسن الشرائع، وفوق هذا المجلس مسيطران للتنفيذ باسم قناصل، فهم قد فكروا في أن وجود رئيسين للحكومة أسلمُ عاقبة من رئيس واحد؛ وذلك لأن كل واحد منهما يكون رقيبًا على الآخر وكابحًا لجماحه عند الاقتضاء، ولكن النتيجة جاءت على خلاف ما أملوا فتفاقم التحاسُد بين الرئيسين، وكان كثيرًا ما يؤدي إلى مجادلاتٍ عنيفة ونقار كثير، فآل ذلك في العصور الحديثة إلى الاقتصار على رئيس واحد للحكومة، وسن قوانين يتقيد بها وتكون بمثابة رادعٍ له إذا هو أساء استعمال سُلطته.
وكان القناصل الرومانيون يتولون قيادة الجيوش في الحروب، وكان اسم القنصل الذي وقع عليه الاختيار لمتابعة الحرب ضد القرطجنين بعد الانتصار الأول الباهر روغولوس، وقد خلد لاسمه ذكرًا في كلِّ جيل بفعاله المجيدة وتدابيره الحكيمة وإقدامه المنقطع النظير في تلك الغارات، وانقطاع حبل حياته قبل أوان الأجَل العادي، وحكاية ذلك وما فيها من الصحة هو من الأمور التي يستحيل تحقيقها، ولكن القصة حسبما رواها مؤرخو الرومانيين هي كما يأتي:
كان روغولوس أيام انتُخب قنصلًا من أواسط الناس يعيش بغاية البساطة، في مزرعة محصِّلًا أوَده بعمل يديه وآكلًا خبزه بعرَق جَبينه، وليس في سجاياه للطموح والكبرياء أثر، على أن مواطنيه قد لاحظوا هاته الخلال الكريمة المنطبعة في ذهنه، وقدروها قدرَها مُجمِعين على إجلال الرجل، وقد آل إعجابهم به إلى إقامتِه قنصلًا، فترك المدينة وتولى قيادة الجيش، وجدَّ في تكبيرِ الأسطول، فأصبح عدد سفنه أكثر من ثلاثمائة سفينة، وجند فيها مائة وأربعين ألف رجل ركب البحر قاصدًا أفريقيا.
استغرق في التأهُّب لذلك عامين، كان القرطجنيون فيهما قد توفَّروا على الوقت لابتناء سفن جديدة، فكان أنه عندما خاض الرومانيون عباب البحر، وهم على شواطئ سيسيليا، إذا بهم يرون الأسطول القرطجني محتشدًا للقائهم، فتقدم روغولوس للكفاح وقهر الأسطول القرطجني ودمره كالأول، فالسفن التي لم تُؤسر أو تدمَّر أركنت إلى الفرار في كلِّ ناحية فاتحةً السبيل للقائد روغولوس الذي سار بدون معارضة، وأنزل رجاله على الشاطئ القرطجني.
وهناك ضرب خيامه حالَ نزوله إلى البر، وبعَثَ يستشير مجلس الشيوخ الروماني فيما الذي يجب القيام به بعد هذا. ولما أدرك مجلس الشيوخ أن الصعوبةَ العظمى والخطر المهدد — ألا وهما دحر الأسطول القرطجني — قد زالا، أمر روغولوس بإرجاع كل السفن تقريبًا وقسم كبير من الجيش إلى رومية، والتقدم على قرطجنة بمَن يبقى معه من الجند، فأطاع روغولوس ذلك الأمر وأرجع إلى رومية الجنود الذين طلبتهم، وزحف بمن بقي على قرطجنة.
في ذلك الحين وصلته أنباء من الوطن تفيد أن الفلاح الذي عهد إليه في العناية بأملاكه قد مات، وأن المزرعة التي كان عليها معول إعالة عائلته متدانية من الخراب، فطلب إلى مجلس الشيوخ إقالته من القيادة وإرسال مَن يتولى اقتياد الجيش مكانه؛ لأن في نيته الرجوع إلى حيث يهتم بأمر زوجته وأولاده، فورد عليه الأمر من مجلس الشيوخ بالبقاء حيث هو، وملاحقة حَملته واعدًا إياه بالاهتمام بعائلته من كل وجهٍ، واستخدام شخص يعتني بأملاكه.
أوردنا هذه القصة لنُري ما كان عليه الرومانيون من عيشةِ البساطة المتناهية والابتعاد عن الفخفخة في العادات، وسائر شئون الحياة في تلك الأيام، وهي في الواقع كذلك بل هي غريبة في بابها؛ ذلك أن يكون هذا الرجل الذي عُهد إليه في الذَّودِ عن حِياض مملكة عظيمة، وولي قيادة أسطول مؤلف من مائة وثلاثين سفينة، وجيش يزيد عدده على مائة وأربعين ألف رجلٍ ذي عائلة معتمد في أمر قوتها على حراثَة سبعة أفدنة من الأرض، يقوم بها رجل مأجور؛ ولكن تلك هي القصة رويناها على حقيقتها.
تقدم روغولوس على قرطجنة غازيًا منتصرًا في زحفِه، وكان القرطجنيون يندَحرون من أمامه ويخسرون المعركةَ بعد الأخرى، وقد نقص جيشُهم بما قُتل وأسر منه، إلى أن كادوا يصلون إلى طرف الجبل لولا انقلاب فجائي طرأ، فعكس ميزانَ الحرب ورجح كفتهم، وكان ذلك الانقلاب وصولَ قطعة من الجنود آتية من اليونان يقودُهم قائد يوناني، أولئك جنود كان القرطجنيون قد استأجروهم؛ ليحاربوا معهم كما كانت عادتهم في كل حروبهم.
ولكن أولئك الجنود كانوا يونانيين، ومعلوم أن اليونانيين هم من الجنس الروماني حائزون على مثل سجايا الرومانيين، فبحالِ وصول القائد اليوناني الجديد قلَّدَه القرطجنيون زمامَ القيادة العليا؛ لما أبداه من المهارة الحربية والتفوق في الإدارة، فشرَع في تنظيم الجيش وإعداده للعِراك، وكان معه مائة فيل مُمرَّنة على النِّزال، وعلى الهجوم دفعة واحدة، ودوس الأعداء تحت أقدامها، وقد أوقفها في الطليعة.
وكان المشاة الشاكو السلاح من رجاله في القَلب، وعددُهم بضعة آلاف رجل متماسكين معًا وفي أيديهم رماح طويلة مصوبة إلى الأمام، فكانوا في زحفِهم دفعة واحدة يَجرِفون كلَّ ما يعترضهم كما يجرفُ السيل العرِمُ ما يَلقى في مجراه، أما روغولوس فكان على استعداد للقاء القرطجنيين إلا أنه لم يكن متأهِّبًا لمجالدة اليونانيين، ففي المعركة الأولى فر جيشه هاربًا ووقع هو أسيرًا، وكان ابتهاج القرطجنيين وتهليلهم عظيمًا جدًّا، حينما رأوا روغولوس القائد الروماني ونحوَ خمسمائةٍ من نخبة رجاله أسرى في المدينة، بعد أن كانت قلوبهم تخفق رعبًا واحتسابًا، قبل ذلك بأيام من دخول ذلك القائد مدينتهم فاتحًا منتصرًا ومنتقمًا.
على أن مجلس الشيوخ الروماني لم ييئس من هذه النكبة التي أصيب بها الجيش الروماني، بل كان ذلك مشددًا عزيمته ومضاعفًا تصميمه على متابعة الجهاد، فحشد جيوشًا جديدة ووجهها إلى ميدان الكفاح، أما روغولوس فبقي أسيرًا محجورًا عليه في قرطجنة، أخيرًا فوض القرطجنيون إليه أمر السعي في عرض الصلح على الرومانيين والمفاوضة في مبادلة الأسرى، وأخذوا منه عهدًا مؤيدًا بيمين غَموس، مفادها أنه إن لم ينجح في ذلك يرجع إليهم.
وكان الرومانيون قد أسروا عددًا كبيرًا من القرطجنيين في الوقعات البحرية واحتملوهم إلى رومية واعتقلوهم هناك، وقد جرت العادة عند أهل ذلك الزمن أن يتبادلوا الأسرى ويعيدوا المعتقلين في الحرب من الجانبين إلى أهلهم وذويهم في وطنهم؛ تلك كانت مبادلة الأسرى إلى أن عهد القرطجنيون إلى روغولوس في إتمامها، فلما وصل روغولوس إلى رومية أبَى دخول المدينة، ولكنه مَثَل أمام مجلس الشيوخ خارج الأسوار بأثواب بالية وبحالة المَسكنة والذل.
فهو قال إنه لم يعُدْ جنديًّا رومانيًّا أو وطنيًّا رومانيًّا بل أسيرًا قرطجنيًّا، وإنه يأبى ادعاء الحق في إبداء رأي أو مشورة للحكومة الرومانية في شأن الخطة التي يجدر بها اتباعها في تلك الحرب، وإنما له كلمة واحدة يقولها للرومانيين، وهي أن يرفضوا عقد صلح واستبدال الأسرى. وكان هو ورفاقه الأسرى الرومانيون قد بلغوا من العمر عتيًّا وتملكهم الوهن؛ ولهذا فإنهم لا يستحقون الاستبدال، وفضلًا عن ذلك فإنهم ينكرون كل حق وكل دعوى وكل فضل لهم على بلادهم؛ ذلك لأنهم وقعوا أسرى، ولأنه لم تكن لهم شجاعة ووطنية صحيحة تحملانهم على الموت في الدفاع عن بلادهم.
وقال إن القرطجنيين قد تعبوا من الحرب، وملوا طول الجهاد وإن معداتهم قد نفدت، وإن على الرومانيين أن يتابعوا الجهاد بنشاط جديد وهمة قعساء، وأن يتركوه هو ورفاقه الأسرى رهنَ القضاء والقدر.
فمال مجلس الشيوخ إلى العمل بنصيحته بتؤدة وشيء من التردد، على أنهم بذلوا منتهى جهودهم في إقناع روغولوس بعدم الرجوع إلى قرطجنة، قائلين له إنه ليس ببقائه في بلاده وصمة عار على اسمه؛ ذلك لأن الوعد الذي أعطاه بالرجوع إليها قد أُخذ منه بظروف الحالة التي هو فيها مرغمًا غير مختار، ولهذا فهو غير مرتهن به.
ولكن روغولوس أصر على البر بوعده لأعدائه وأبَى أن يرى عائلته، وهكذا ودع مجلس الشيوخ ورجع إلى قرطجنة، ودرى القرطجنيون بأنه هو الذي عمل على فشل إرساليته، وعدم نجاحه في الذي عهدوا إليه في القيام به، فأنزلوا به أشد أنواع التعذيب وأخيرًا قتلوه. وقد يقول قائل إنه كان من الواجب عليه أن يشير على قومه بالصلح وبمبادلة الأسرى، وألا يأبَى مقابلة زوجته التاعسة وأولاده المساكين، ولكن الحقيقة يجب أن تقال؛ إنه قد تصرف بشرف ونبالة في أنه أبى إخلاف وعده.
يجب أن يُعقد صلح بين رومية وقرطجنة، وعلى القرطجنيين أن ينجلوا عن سيسيليا، وألا يشهروا حربًا على حلفاء الرومانيين، وأن يعيدوا إلى الرومانيين بدون فدية جميع الأسرى الذين اعتقلوهم، ويدفعوا إليهم في غضون عشر سنوات ثلاثة آلاف ومائتي وزنة من الفضة.
ودامت هذه الحرب التي انتهت على تلك الصورة أربعًا وعشرين سنة.