سيبيو
إن السبب الحقيقي في عدم التمكن من إيقاف هنيبال عند حدٍّ معلوم من انتصاراته الباهرة لم يكُنْ حسبما ظهَرَ متأتيًا عن عدم اتباع الرومانيين سياسة حكيمة في مقاومته؛ بل هو ناجم عن عدم وجود قائد معادل له في الكفاءةِ إلى ذلك الحين، فإنَّ كل قائد أُرسل لمحاربته وُجد بعد القليل من الوقت أنه غير كفءٍ له، فقد كان هنيبال متفوقًا عليهم جميعًا بالتدريب العسكري، وقادرًا على الظفر بهم بسهولة في حومة القتال.
ولقد كان من تصاريف القدَر أن يظهر في رومية رجل مساوٍ لهنيبال في المقدرة والدراية، وهو الشاب سيبيو الذي أنقذ حياةَ والده في معركة تسينيوس، وسيبيو هذا مع أنه ابن قائد بهذا الاسم هو من أعظم القواد الذين وقَفوا في وجه هنيبال، إلا أنه لقب بسيبيو الأكبر؛ وذلك لظهور واحد بهذا الاسم بعده اشتهر بحروبه الهائلة التي شهَرها على القرطجنيين في أفريقيا.
ولقد نال هذان الأخيران من الشعب الروماني لقبَ أفريقانوس؛ إكرامًا لما أدركاه من الانتصارات في أفريقيا، والقائد الذي نحن بصدده الآن قد سمي سيبيو الأكبر فقط، وأعمال سيبيو الباهرة عندما حاول صدَّ هنيبال عند نهر الرون ونهر «بو» قد فاقَتْهما أعمال ابنه، وأعمال سيبيو الآخر الذي تلاه بحيثُ تناسى الناس سيبيو السابق بعد الذي رأوه من أعمال الاثنين الذين خلفاه؛ ولهذا أهملوه لكي يحتفظوا باسم هذين الأخيرين، فلا يكون ثمة التباس في تعريفهما في التاريخ.
ظهر سيبيو الذي نذكره الآن على مسرح الحروب الحالية كقائدِ إحدى الفرق بعد معركة كانيه فهو كان ضابطًا وضيعًا، وفي اليوم الذي تلا المعركة وجَد نفسه في مكان اسمه كانوسيوم يبعد مسافة قصيرة عن كانيه على الطريق المؤدِّي إلى رومية، ومعه ضباط آخرون في مثل رتبته، وتحيط بهما فرق ممزقة من الجيش الروماني تجيءُ بعضها وراء بعض من ناحية المعركة تعِبة محلولة القُوى وفي أشد حالات اليأس.
وشاع في الناس أن القنصلين قد قُتلا؛ ولهذا لم يكن هناك من يقود تلك الفلول من الجيش الروماني، فعقد أولئك الضباط اجتماعًا للنظر في ذلك، وأجمع رأيهم على جعل سيبيو قائدًا لهم في ذلك الوقت الحرج إلى أن يصِل مَن هو أرفع منه في القيادة أو يأتيهم نبأٌ من رومية، وقد حدثت عندئذٍ حادثة دلَّت بما لا ريب فيه على ما اتَّصف به سيبيو الشاب من الشجاعة والإقدام.
ففي الاجتماع نفسه الذي عُقد لجعله قائدًا كان الكل متحيرين وقد شمِلهم الهم والارتباك، جاءهم أحد الضباط وأخبرهم أن قد عُقد اجتماع في ناحية أخرى من المعسكر مؤلَّف من ضباط وجنود ذوي رتب عالية يرأسهم الضابط ماتيلوس، وقد قرَّ رأيهم جميعًا على ترك أمر الذَّود عن بلادهم يائسين وعلى القيام بما يوصلهم إلى الشاطئ، ويساعدهم على إيجاد عدة سفن يمخرون فيها البحر إلى وطن جديد يتَّخذونه في بلاد أجنبية؛ اعتقادًا منهم بأن الأقدار قد قضت على بلادهم بالخراب المحتم.
وقال لهم ذلك الضابط: إني قد جئتكم بخبر ما جرى؛ لتجتمعوا معهم وتتفاوضوا معهم فيما الذي يجب علينا القيام به من هذا القبيل، فهبَّ سيبيو من مجلسه وقال: «نجتمع للمفاوضة! إن الحالة لا تدعو إلى المفاوضة بل إلى العمل — إلى الفعل — فجردوا سيوفكم واتبعوني.» وإذ قال هذا سار يتبعه الكل إلى الاجتماع الذي يرأسه ماتيليوس، ودخلوا لفورهم إلى المكان الذي كان القوم مجتمعين فيه يتفاوضون، وهناك أمسك سيبيو مقبض سَيفه، ولفَظ بكل وَقار يمينًا مُعظَّمة قيَّد بها نفسه بألا يترك بلاده ولا يتخلى عنها في ساعة شدتها، ولا يسمح لأي روماني بالتخلي عنها.
وقال إنه إذا ارتكب ذنب الخيانة هذا؛ فإنه يسأل المشتري بأشدِّ اللعنات أن يمحقه ويهلكه بالكلية هو وبيته وعائلته وأملاكه وجسده، ثم خاطب ماتيليوس قائلًا: «والآن أطلب إليك وإلى مَن معك من الرفاق أن تقسموا اليمين التي أقسمتها أنا، ويجب عليكم أن تقسموا هذه اليمين في الحال وإلا كنتم مضطرين إلى الدفاع عن أنفسكم من شفار سيوفنا، ومن سيوف القرطجنيين أيضًا.»
فانصاع ماتيليوس وجماعته وأطاعوا في الحال، ولم يكن انصياعهم ناتجًا عن الخوف فقط، بل بقدر ذلك عن الرجاء، فإن شجاعة سيبيو والطريقة المهيبة التي خاطبهم بها بعد أن حلف اليمين قد أثارت فيهم روحًا جديدة من الشجاعة، وبعثت في صدورهم الآمال بالتمكُّن من الدفاع عن بلادهم، وإنقاذها من صولة الأعداء الذين اجتاحوها.
وكانت أخبار الكسرة المشئومة التي أصابتِ الرومانيين قد بلغت رومية بسرعة، فأحدثت حزنًا شاملًا، وضجَّت المدينة من أقصاها إلى أقصاها؛ لأن الجيش كان مؤلفًا من كل عائلة، فكل امرأة وكل والد قد نالهم من أخبار انسحاق الجيش الروماني المقعد المقيم، والمحزن على الأزواج والآباء والأبناء الذين قد صرعوا في المعترك، وزاد في طنبور الحزن نغمةً قبيحة خوف شديد من أن هنيبال وجيشه الفاتح قد يَدخُل أبواب المدينة في كل ساعةٍ فيبطش بهم جميعًا.
وغصت شوارع المدينة ولا سيما ساحتها الكبرى بجماهير الناس من رجال ونساء وأولاد، وضج الفضاء بأصوات صُراخهم ونَحيبهم الناجم عن الذعر والاحتساب لنازلةٍ جديدة تنقض عليهم، وعجز القضاة عن إعادة الطمأنينة إلى الصدور وإرجاع النظام والسكينة إلى نِصابهما. أما مجلس الشيوخ فإنه انفضَّ وأجَّل انعقاده؛ وذلك لكي يتوفر الوقت لأعضائه، فيتجولوا في المدينة ويبذلوا ما لهم من السلطة والنفوذ في إسكات الشعب عن الصياح، هذا إذا هم عجزوا عن إعادة الطمأنينة.
أخيرًا خلت الشوارع من الناس وأُصدرت الأوامر إلى النساء والأولاد بالبقاء في البيوت، فأرسلت طوائف من الجلاوزة في أنحاء المدينة؛ لكي يمنعوا تجمهر الناس وهياجهم، وبعد هذا عاد مجلس الشيوخ إلى عقد جلساته محاولًا التؤدة والتروي الممكنين البحث فيما الذي يجبُ عليهم القيام به تحت الظروف الحاضرة.
وكان الرعب الذي استولى على رومية من بعض الوجوه بلا موجب؛ لأن هنيبال بخلاف ما توقعته إيطاليا كلها لم يزحف على رومية مع أن قوادَه قد ألحُّوا عليه كثيرًا في وجوب القيام بذلك قائلين إنه لا يوجد ما يقف في وجهه أو يحول دون استيلائه على المدينة بسهولة، أما هنيبال فقد أبى عليهم ذلك؛ فإن رومية كانت ذات تحصينات منيعة وفيها خلق كثير، ثم إن جيشه من الجهة الأخرى كان منهوك القوى ضعيفًا بعد معركة كانيه، ففضل عدم محاولةِ ضرب رومية والتريث إلى أن تصله نجدات جديدة من الوطن.
وكان الوقت في أواخر الصيف بحيث إنه لم يتوقع وصول النجدات إليه في الحال؛ ولهذا السبب صمَّم هنيبال على اختيار مكان أسهل حصولًا من رومية ليقضي فيه فصل الشتاء، فمال إلى اختيار كابوي؛ وهي مدينة كبيرة وقوية تبعد عن رومية نحو مائة ميل إلى الجنوب الشرقي، وفي الواقع أن هنيبال قد استنبط فكرة الاحتفاظ بإيطاليا وجعل كابوي عاصمته تاركًا رومية لوحدها؛ لكي تصير بطبيعة الظروف التي أوجدَها في مصافِّ المدن الثانوية القليلة الأهمية.
ولعله كان تعِبًا من أهوال الحروب وأخطارِها، وبما أنه قد نجا من الدمار المحتَّم قبل معركة كانيه العظيمة فقد قرَّ رأيُه على عدم الاندفاع والتعُّرض لأخطار جديدة، وشغلت هذه المسألة باله وقتًا طويلًا تردَّد فيه بين أن يسير إلى رومية، أو يحاول ابتناء عاصمة جديدة خاصة به في كابوي، وكانت هذه المسألة موضوعَ جدالٍ كثير في أيامه وبحثٍ لا آخر له بين رجال الحربية في كل عصر بعد تلك الأيام، ولا تزال كذلك إلى يومنا هذا.
وسواء كان هنييال مخطئًا أو مصيبًا فقد صمَّم النية على اتخاذ كابوي عاصمة له، وترك رومية مؤقتًا مطمئنة، وأرسل من فوره إلى قرطجنة في طلب النجَدات، وكان رسوله إليها أحد قواده، واسمه ماغو، فأسرع هذا المسير قاصدًا قرطجنة يحمل معه بشائر النصر، وأحمالًا من الخواتم التي انتزعها القرطجنيون من أيدي قتلى الرومانيين في ساحة كانيه كما تقدَّم البيان، فكان لبُشرى النصر في قرطجنة ضجةُ فرح عظيمة، وسُرَّ أصدقاء هنيبال ومريدوه كثيرًا مما أُوتِيَه من الظفَر بالأعداء ووبَّخوا أعداءه، وطعَنوا على الذين قاوموا تعيينَه قائدًا في بادئ الأمر للجَيش في إسبانيا.
فاجتمع ماغو بمجلسِ الشيوخ القرطجني، وألقى عليه خطابًا بليغًا أخبرَهم فيه عن المعارك العديدة التي خاضَ هنيبال غمراتِها وعن الانتصارات التي أحرَزَها، وأنه قد لقِي أعظم القواد عند الرومانيين وقهَرهم جميعًا وقتل في معاركه أكثرَ من مائتي ألف رجل، وأن إيطاليا أصبحت تحت رحمتِه ورهنَ إشارته، فجعل كابوي عاصمةً له بعد أن سقطت رومية، ثم قال لهم: إن هنيبال في حاجة ماسَّةٍ إلى الرجال والأموال والأقوات، وإنه لا يشكُّ بأن القرطجنيين يوافونه من ذلك بما يُعْوِزه بدون أقل تردد.
وبعد الفراغ من خِطابه أتى بأكياسِ الخواتم إلى المجلس، وأفرَغها على أرض القاعة دليلًا على الانتصارات التي أعلن للمجلس أن هنيبال قد أحرَزَها، وكان ما فعله ماغو رسولُ هنيبال وافيًا بالمراد من مُهمَّته، لو أن أصدقاء هنيبال وقَفوا عند هذا الحد الذي وصل إليه ماغو، لكنَّهم لم يَرْعَووا ولا اتَّأدوا بل تطرَّفوا في سبِّ أعدائه وشَتْمهم وتعييرهم، وخصوصًا هانو الذي كما يذكر القراء كان في مقدمة مقاومي إرسالِ هنيبال إلى إسبانيا.
فالتفتوا إليه وسألوه عما يعتقده الآن في أمر مقاومته المصنعة لذلك البطلِ المقدام، فوقف هانو والتفت إليه كل أعضاء المجلس رغبةً منهم في سماع ما يريد أن يقوله جوابًا لسائليه، فتكلَّم بكل هدوء ورزانة كما يأتي:
«كان في نيتي ألا أقول شيئًا، بل أترك للمجلس حرية العمل بما طلبه منه ماغو لو لم أخاطب في ذلك شخصيًّا، فأنا الآن تحت هذه الظروف أقول: إني أعتقد اليوم بمثل ما اعتقدت في الماضي، وهو أننا قد اندفعنا في تيار حربٍ باهظةِ النفقات ولا فائدة ترجى منها، وأننا حسبما أرى لسنا أقربَ إلى آخرها منَّا في الماضي بالرغم من الانتصارات التي نُهلِّل لها ونطبل. يؤيد قولي بفساد هذه المزاعم ما أراه من غرائب التناقض فيما يَدعيه هنيبال، وعدم ثباته على قولٍ في مطالبه وادعاءاته.
يقول إنه قد قهر أعداءه جميعًا ومع ذلك فهو يسألنا أن نُمدَّه بالجُنود، وأنه قد ذلل إيطاليا — أخصب بلدان العالم — وأخضَعها وسيطر عليها من عاصمتِه كابوي، ومع ذلك فهو يطلب منا أن نرسل إليه الحِنطة، وأرسل إلينا أكياسًا عديدة من الخواتم الذهبية دليلًا على الغِنى الذي أحرزه بالسَّلبِ والنهب، وقد أتبع ذلك بطلبه منا إرسال مقاديرَ جديدةٍ من الأموال.
ففي رأيي أن انتصاراته وهمٌ وخداع، وأنه لا يوجد شيءٌ حقيقي في الظروف الحاضرة إلا احتياجاته، والأعباء الثقيلة التي ستُلقى على عاتق البلاد من جراء تلك الحاجيَّات.»
ولكن بالرغم من تهكم هانو صمَّم القرطجنيون على مؤازرة هنيبال وإمداده بالمئُونة التي يحتاج إليها، على أنهم أبطئُوا في الوصول لما حال دون ذلك من الصُّعوبات والعوائق، فالرومانيون مع عجزهم عن طرد هنيبال من بلادهم حشَدوا جيوشًا جديدة في بلدان مختلفة، وشهروا حروبًا عديدة على القرطجنيين وحلفائهم في أنحاء مختلفة من العالم بالبرِّ والبَحر في وقتٍ واحد.
فكانت نتيجة ذلك أن هنيبال أقام في إيطاليا خمس عشرة أو ست عشرة سنة بدون جدوى، مشتبكًا في غضون ذلك بحروب ومناوشات مملة مع القوى الرومانية، وبدون أن يتمكن من القيام بمعركة فاصلة، فكان يظفر أحيانًا ويضايق أحيانًا لحد الانحصار لكثرة أعدائه، ويقال إن جيشه قد تولاه الضعف والوهن لتماديه في التمتع باللذات في كابوي؛ فهي كانت مدينة غنية وجميلة للغاية وقد فتحَ سكانها أبوابها لهنيبال من تلقاء أنفسهم مفضلين، حسبما قالوا، محالفتَه على محالفة الرومانيين.
فضباط الجيش — كما هي عادة ضباط الجيوش أن يفعلوا دائمًا — وجدوا أنهم قد استقروا في مدينة ذات ثروة وجمال وما لا يحصى من أسباب اللهو، وبعد أن ذاقوا البلاء المرَّ في حروبهم الماضية انصرفوا إلى الاحتفالات والولائم وتمادَوا في كل نوع منها إلى حدِّ التطرف، فكان هذا دأبهم كل يوم، والنفس إن تمادت لا ترعوي فضلًا عن أن القعود والراحة يدعوان إلى الفرح والمرح والتمتع بسائر ضروبِ التسلية.
ومهما تكن البواعث؛ فإنه لم يبقَ في الأذهان أقل ريبٍ بأنه من يوم استولى هنيبال وجيشه على كابوي، وحصلوا فيها على ما لم يكن تيسر لهم من زمان طويل من الراحة والرفاهية أخذت القوة القرطجنية في الانحطاط، وإذ كان هنيبال قد صمَّم النية على جعلِ تلك المدينة عاصمة لإيطاليا بدلًا من رومية شعر عندما ألقَى عصا الترحال هناك كأنه في وطنه، فقلَّ اهتمامه بابتداع الخطط والتدابير الحربية لمهاجمة العاصمة القديمة والاستيلاء عليها.
ومع ذلك كانت الحرب لا تزال قائمة على ساق وقدم، فشبت نيران معارك عديدة وحوصرت مدن كثيرة، وكان الظفر على الدوام مرافقًا للدولة الرومانية، ولكنه لم ينَلْ أحد الفريقين في إحدى المعارك ظفرًا نهائيًّا أو انتصارًا فاصلًا، وقد نبغ في هذه المعارك قائد روماني جديد اسمه مارسيلوس، وهو إما لأنه أوفر دربة من غيره أو أكثر إقدامًا وأصلب عودًا، أو لما طرَأَ من التغيير المهمِّ على قوى العدوين المتحاربين، قد اتبع خطة الهجوم مخالفًا بذلك خطة فابيوس المبنية على الإبطاء.
على أن مارسيليوس كان متأنيًا كثير الحذر في تدابيره وحملاته، وقد رسم خططه بذكاء وفطنة كَفَلَا له النجاح المستمر تقريبًا، فأُعجب به الرومانيون وهللوا لنشاطه وما كان يبديه من الحماسة، على أنهم لم ينسوا بذلك ما لفابيوس من الفضل في تأنيه وتحفظه للدفاع، وقالوا إن مارسيليوس سيف الحكومة القاطع، كما أن فابيوس درعها الواقية.
وثابر الرومانيون على هذا الشكل من الحروب، وكان التفوق على أعدائهم مصاحبًا لهم كلما طال عهدها، إلى أن أدى بهم الأمر إلى الدنو من أسوار كابوي وهدَّدوها بالحصار، على أن وسائل الدفاع والتحصينات التي أنشأها هنيبال كانت أقوى من هجَماتهم ليأخذوا المدينة عنوة، ولم يكن لديهم رجال يتمكنون بكثرتهم من الإحاطة بالمدينة من سائر جهاتها؛ ليحصروا من فيها بالكلية فلا يكون لهم مخرج يستمدُّون منه حاجياتهم.
فاضطروا بعد ذلك إلى الكفِّ عن الحصار، وعسكروا بجيشهم الجرار على مقربة منها، وتظاهروا باستعدادهم الدائم لمهاجمتها بحيث حملوا رجالَ هنيبال على السهر والتأهب الدائم ليلًا ونهارًا وأقلقوا راحتهم، وفضلًا عن القلق الدائم الذي أوجدوه لهم؛ فإن القرطجنيين قد أزعجهم ما رأوه من إقدام أعدائهم على عاصمتِهم بجرأة وَقِحة لم تُعهدا من قبل في جيش إيطاليا الذي طالما قهروه وبطشوا به قبل ذلك بوقت قصير، فأثر ذلك فيهم وقمع من نَخوتهم إلى حد الشعور بالذل.
ولم يكن هنيبال موجودًا في كابوي عندما تألب الرومانيون لمهاجمتها، على أنه سار لإنجادها في الحال وهاجم الرومانيين بدوره محاولًا بذلك إرغامَهم على رفع الحصار عنها والابتعاد عن أرباضها، ولكنهم إذ كانوا قد خَندقوا على أنفسهم وتحصنوا لم تؤثِّر هجماته فيهم ولا أنالته منهم مأربًا كالعادة، فكانت حملاتُه عليهم تذهب ضياعًا، فلم يتمكن من زحزحتهم عن مواقفهم، فلما بدا له أنهم ممتنعون غادرهم، وزحف بجيشه متجهًا نحو رومية.
وقد عسكر في أرباض المدينة مهددًا إياها بالهُجوم، ولكن أسوارها وقلاعها ووسائل الدفاع فيها كانت منيعة كحصون كابوي فلم يقوَ على مهاجمتها، أو أنه تظاهر بالهجوم عليها؛ لكي يحمل الرومانيين الملتفين حول كابوي على الإقلاع عما صمَّموا عليه والمسارعة للدفاع عن عاصمتهم، وفي الواقع أنه بعمله هذا قد أحدَثَ بعض القلق في رومية، فبحث رجال حكومتها طويلًا في الأمر وقرَّ رأيهم أخيرًا على استدعاء جيشهم من أمام كابوي، على أن هذا القرار لم يُنفذ لما لقيه من المقاومة؛ حتى إن فابيوس نفسه كان من أشد معارضيه.
ذلك لأن هنيبال لم يعُدْ في نظرهم هائلًا مرهوبَ الجانب؛ ولهذا استدعوا قسمًا صغيرًا من الجيش الروماني المعسكر عند كابوي، فلما وصل أضافوا إليه قوات أخرى جندوها ممن في داخل المدينة وخرجوا منها بذلك الجيش لمنازلةِ هنيبال، وكان الاستعداد للمعركة تامًّا من كل وجه، إلا أن عاصفة شديدة هبت فدحرَتْهما عن مواقفهما، وأرغمتهما على الرجوع إلى المعسكرات.
ويقول المؤرخ الروماني الكبير: إن ذلك حدث مرات متوالية، وفي كل مرة كانت العاصفة تهدأ والجو يعود إلى إشراقِه بعد أن يكون القواد قد أمروا جيوشهم بالكفِّ عن القتال، وقد يكون شيء من مثل هذا قد حدَث صدفة إلا أن الحقيقة الأكيدة هي أن كل جيش كان يرتعد خوفًا من الآخر، ويتمنى طروء أقل عائق ليتذرَّع به لتأجيل القتال، فقد حدث أن هنيبال لم يكن ليرتد عن منازلة أعدائه في وجه أشد العواصف هبوبًا.
وهكذا مع أن هنيبال قد وصل في آخر الأمر إلى أسوار رومية على أنه لم يأتِ هناك أمرًا سوى ما يمكننا التعبير عنه بكلمةِ تخويف، ووجُوده هناك لم يسبب انزعاجًا عظيمًا أو خوفًا للسكان، ذلك لأن الرومانيين كانوا قبل ذلك بكثير قد استخفوا بصولة الجيش القرطجني، فلم يعُدْ يرهبهم كالأول، ولكي يظهروا استخفافهم بهنيبال كانوا يبيعون بالمزاد العمومي الأراضي التي كان جيشُه معسكرًا عليها، بينما كان هو يتظاهر بمحاصرة المدينة وقد بيعتْ بأثمان عادية.
وقد كان إقدام المشترين على شراء الأرض ناجمًا من بعض الوجوهِ عن حميتهم الوطنية، وعن رغبتهم في إبداء الاحتقار لهنيبال، وأن وجوده هناك في رأيهم ليس إلا لوقت محدودٍ يضطرُّ بعده إلى الانصراف، وأراد هنيبال عندما بلغه ذلك أن يثأر لنفسه منهم من وجه المقابلة، فباع بالمزاد العمومي — وهو في معسكره — دكاكين أحد شوارع رومية، فاشتراها كثيرون من ضبَّاط جيشه بابتهاج ومسرة.
فظهر من هذا أن تغييرًا مدهشًا قد طرأ على العراك القائم بين قرطجنة ورومية؛ وهو أن تينك الدولتين العظيمتين اللتين كانت إلى ما قبل ذلك بوقتٍ قصير تتطاحنان في معارك دموية هائلة على نهر بو وفي ناحية كانيه؛ تكتفيان الآن من ذلك العراك بمثل هذه الألاعيب الصبيانية على مثل ما يفعل صِغار الأولاد.
وعندما خابت آمال هنيبال من الحُصول على نجداتٍ عسكرية بعد استفراغ كل الوسائل التي فكر فيها، حاول استجلاب جيشٍ ثانٍ إلى إيطاليا يجتاز جبال الألب بقيادة أخيه أسدروبال، وكان ذلك الجيش لجبًا وقد عانى صنوف الأهوال التي صادفها هنيبال تقريبًا، إلا أن الطريق التي سار فيها هنيبال ووصفها لأخيه قد خفَّفت عنه وعن جيشه الشيءَ الكثير من المتاعب. ولكن بالرغم من كل هذا لم يصل من ذلك الجيش العرمرم الذي بدأ المسير من إسبانيا إلى هنيبال سوى رأسِ أخيه، وكانت الحوادث التي انتهت بها سيرة محاولة أسدروبال إنجاد أخيه كما يأتي:
عندما هبط أسدروبال من جبال الألب مسرورًا منشرحَ الصدر لفوزه في التغلُّب على ما اعترضه في اجتيازها من العراقيل والأهوال؛ تصور أن كل متاعبه قد انقضت فوجَّه إلى أخيه رسلًا يعلمه باجتيازه جبال الألب وأنه زاحف لنُصرته بأسرع ما يمكنه، وكان القنصلان في رومية يومئذٍ نيرو وليفيوس، وقد عُهد إلى كل واحدٍ منهما جريًا على عادة الرومان في حماية مقاطعةٍ معلومة، وأُعطي جيشًا معلومًا للذود عن حياضها، وحُتِّم عليهما ألا يترك أحدُهما مقاطعته تحتَ كل الظروف، ما لم تصدر إليهما الأوامر بذلك من المجلس الاشتراعي الروماني.
وكان في هذا الحين أن القسم الشمالي من إيطاليا وُضع تحت رعاية ليفيوس والقسم الجنوبي تحت رعاية نيرو، فتعيَّن على ليفيوس إذ ذاك أن يُلاقي أسدروبال عند هُبوطه من جبال الألب ويكافحه، وأمر نيرو بالبقاء على مقربة من هنيبال؛ لكي يفسد عليه تدابيره ويقف في وجهِه أو يبطش به إذا تسنى له ذلك، ويكون القنصل الثاني في نفس الوقت عاملًا جهد إمكانه على منعِ وصول النجدات التي ينتظرها هنيبال من إسبانيا.
وإذ كانت الأحوال على ما ذكرنا كان على رسل أسدروبال الحاملين كتبه إلى أخيه أن يكونوا على حذر كلِّيٍّ من الوقوع في قَبضة أحد القنصلين قبل الوصول إلى هنيبال، فنجَحوا في التخلص من ليفيوس إلا أنهم وقَعوا في أسر نيرو فاستولى على الكُتبِ وفتَحها وقرأ ما فيها، فإذا بها تحتوي على كل الخطط والتدابير التي أقرَّ أسدروبال على العمل بها، فأدرك من ذلك أنه إذا زحف شمالًا للاتحاد مع القنصل ليفيوس جريًا على ما علمه من كتب أسدروبال؛ فإنهما يتمكنان من البطش به، ولكنه إذا ترك ليفيوس وهو جاهل ما عزَم عليه أسدروبال فإن هذا يسطو عليه ويفوز باختراق جيشه، والإسراع إلى نجدة هنيبال وبذلك يتم اتحاد القرطجنيين.
وعلى ذلك رغب نيرو كثيرًا في الاتجاه شمالًا ليساعد ليفيوس؛ لأنه وجد الضرورة تدعو لمناصرته، إلا أن القانون كان يحرِّم ذلك عليه ويحولُ دون تركِه المقاطعةَ التي عهد إليه في حمايتها، والذَّهاب إلى حيث زميلِه بدون إذن خاصٍّ من رومية، وقِصرُ الوقت لا يساعد على استجلاب مثل ذلك الإذن، ومعلوم أن قوانين الطاعة العسكرية شديدةُ الصرامة، وهي القوانين الوحيدة التي يعمل بموجبها حرفيًّا.
فالضباط والجنود من كل الرتب والمقامات يجب أن يتلقَّوا الأوامر من رؤسائهم، ويطيعوها بدون نظر إلى العواقب التي تنجُم عنها، وإبداء أي عذر لانحرافهم عن الخطَّة المرسومة لهم مهما كانت، وفي الواقع أن هذه القاعدةَ هي أساسُ القيادة العسكرية وركنُها المكين الذي تستند إليه، فهي توجب الطاعة والعمل بلا أقلِّ تردد، فإذا صدر أمر من القيادة العليا؛ فإنه يبطل كل رأي أو حكم أو فكر في شخصية الذي وجه إليه ذلك الأمر.
وأعظم القواد وأفضل الحكومات يفضِّلون حصولَ الضرر من طاعة أوامرهم على النَّفع الذي يجيءُ من عدم الطاعة لتلك الأوامر، وهو مبدأ حسن ليس فقط في الحرب، بل في سائر الأحوال الاجتماعية حين يعمل الناس متحدين، ويرغبون في أن يكون العمل جيِّدًا والاتفاق على القيام به تامًّا، ولكن بالرغم من كل ذلك فقد تختلف الحالة باختلاف الظروف، فالمسائل التي يُتساهلُ فيها بالعدول عن هذه القاعدة هي التي يبدو فيها ضرورة ماسَّة، أو تكون النتائج المنتظر حصولها عنها عظيمة إلى الغاية، وتكون المخاطرة عندها مهمة جدًّا، ويكون الفوز من الأمور اليقينية الخالية من شوائب الريب، عندئذٍ يَعقد القائد النية على عصيان الأوامر ويأخذ كلَّ المسئولية على عاتقه.
والمسئولية كما لا يخفى جسيمةٌ والخطر من حملها عظيم للغاية، فالذي يقدم على هذا الأمر يعرض نفسه لأشدِّ العقوبات صرامةً، ولا ينجيه من العقاب الأليم إلا الضرورة الكلية وزيادة عليها النجاح الباهر. وفي التاريخ الإنكليزي قصة عن أميرٍ كان في خدمة ملكة إنكليزية عصَى أوامر رؤسائه في أحد الأوقاتِ لما بدا له من ضرورةِ ذلك وهو في البحر، ولكنه تمكن من إحراز نصر باهر كان منه على يقين.
وبعد أن أدرك ذلك الانتصار المهم طلبَ أن يُقبض عليه كمجرم ويؤخذ إلى الميناء سجينًا ذليلًا، بدلًا من قائد أحرز نصرًا مبينًا، وهناك سلم نفسه لرجال القضاء ليحاكم على مخالفته الأوامر، وبعث من فوره فأخبر الملكة بأنه قد عرَف أنه يستحق الإعدام جزاءً لما أقدم عليه، ولكنه كيفما كان الحال يرغب في تضحيةِ حياته بأية طريقة لخدمة جلالتها، فأصدرت أمرَها بالعفو عنه.
فالقنصل نيرو — بعد التروي الطويل واضطراب الفِكر الموجِب للقلق في مثل هذه الحالة — رأى أن الظروف التي عرضتْ له تتطلب منه تحمُّل المسئولية بكل جيشِه والتعرض لعقاب العصيان، على أنه لم يجسر على الذهاب شمالًا بكل جيشه؛ لأن انسحابَ جيشه بكامله من حيث هو يجعل جنوبيَّ إيطاليا بجملته تحت رحمة هنيبال؛ ولهذا انتخب من جيشِه الذي كان عدده أربعين ألف رجل سبعة أو ثمانية آلاف من الأبطال المجرِّبين المعروفين بالحمية والإخلاص، والذين يمكنه الاعتماد عليهم ليس فقط من حيث المقدرة على تجشُّم الأخطار والأهوال، بل من حيث شجاعتهم ونشاطهم وما عرفوا به من الإقدام الذي يَحملهم على الثَّبات في معاركة رجال أسدروبال إلى النهاية.
وكان نيرو عند حصولِه على كتب أسدروبال إلى أخيه معسكِرًا في مكان حصينٍ متَّسع الجوانب، فزاده تحسينًا وتحصينًا ووسعه على صورة لا يدري بعدها هنيبال بأن نيرو قد أنقص جيشه، كل هذا أتمه بسرعة كلية وفي مدة ساعات معدودة بعد وقوفه على الكتب المذكورة التي حملَتْه على الإسراع لنجدة زميله، وانسلَّ بجيشه من هناك ليلًا ولم يدر رجاله إلى أين هو يسير بهم ولا ما الذي عقَد النيةَ على القيام به، وسار بأسرع ما في الإمكان نحو الشمال، ولما وصل إلى المقاطعة الشمالية أراد أن يدخل معسكر ليفيوس خفيةً كما خرج من معسكره، وبهذا حصل أحد الجيشين الرومانيين على الزيادة التي كان في أشدِّ الحاجة إليها من غير أن يشعر بذلك القائدان القرطجنيان، فانشرح صدر القنصل ليفيوس لهذه النَّجدةِ التي أتَتْه ساعة الحاجة إليها، وأمر بأن يخلد كل الجيش إلى الهدوء والسكينة؛ لكي يحصل الجنود الذين أقبلوا لنَجْدته على الراحة الضرورية بعد الذي عانوه من مشاقِّ السير السريع.
إلا أن نيرو خالفه في ذلك وأشار بوجوب الابتداء في المعركة حالًا، فهو قد عرف مقدرة الرجال الذين أتى بهم وعِظم احتمالهم، وكان في الوقت نفسه غير راغب في أن يوجد خطرًا في نفس معسكره في جنوبي إيطاليا بغيابٍ طويل عنه، وهكذا اتفق القائدان على مهاجمة أسدروبال بالأسرع الممكن، وصدرت الأوامر إلى الجيش ليبدأ بالمعركة في الحال.
وليس ببعيد أن يكون القنصل ليفيوس وحده قادرًا على قهر أسدروبال، إلا أن النجدة التي أتاه بها نيرو قد جعلت الجيش الروماني قويًّا عزيز الجانب وأقوى من جيش أسدروبال كثيرًا، وفضلًا عن ذلك فإنَّ أسدروبال قد رأى وهو في طليعة جيشه أن بعض الجنود في صفوف أعدائه كانت من أهل الجنوب مما دلَّ على صحة فراسته وتوقد ذكائه، واستنتج من ذلك أن أخاه هنيبال قد لقي انكسارًا مشئومًا، وأن الجيش الروماني برمَّته قد احتشد ضد جيشه.
ففتَّ ذلك من عضده وخاف كثيرًا، فأصدر أمره بالانسحاب وتبعه الجيش الروماني جادًّا في أثره وأعمل في مؤخِّرته السيف فأوقع في صفوف الجيش القرطجني المتراجعة التشويشَ والاختلاط والفوضى، وأصبح القرطجنيون كالسائر على غير هدًى بين الأنهر والبحيرات لا يعرفون سبيلًا إلى النجاة، وكان أدلَّاء الجيش قد فروا طالبين النجاةَ بعد الذي رأوه من تضعضُع أحواله، وعندئذ انحصر الجيش القرطجني في مكان غيرِ حصين لا يقوى فيه على الدفاع، ولا يستطيع الإفلات من ذلك المأزق.
واقتتل الفريقان أشدَّ قتالٍ فلم يشفق الرومانيون على أعدائهم ولا أَروهم أقلَّ رحمة، بل أعملوا في رقابهم السيوف ذات اليمين وذات الشمال إلى أن أهلكوا الجيشَ عن آخره تقريبًا، وقطعوا رأس أسدروبال فأخذه القنصل نيرو وسار ليلًا عائدًا إلى معسكره، ورأس أسدروبال معه وهو فرح مفاخر بما أقدم عليه، وحال وصوله أرسل طائفة من الفرسان؛ لكي يلقوا رأس أسدروبال في معسكر هنيبال، كعلامة من أشنع العلامات على أنه قد انتصَر عليه.
فلما رأى هنيبال رأس أخيه أصبح كمن أصيب بجِنَّة وانحلت قواه وغلب عليه اليأس والحزن؛ لما علمه من خسارة جيشه — تلك الخسارة التي أنذرته بالفشَل وخيبة كل أمل — فصاح عندئذٍ قائلًا: «لقد دنت ساعتي وقضي الأمر وخسِرت كل شيء، فلست بمرسلٍ أنباء نصر إلى قرطجنة بعد الآن، فبفقد أسدروبال قد انقطع كل رجاء.»
وفيما كان هنيبال على ما رأيناه في إيطاليا حليف همٍّ وحزنٍ عظيمين، كانت جيوش الرومانيين التي أعدَّها حلفاء رومية تتفوق على القرطجنيين في كل مكانٍ من العالم بقيادة قوَّادٍ عَهد إليهم مجلس الشيوخ الروماني في محاربة القرطجنيين حيثما وجدت، وكانت أنباء الانتصارات تجيء متتابعة إلى رومية فتزيد الرومانيين شجاعة وتدفعهم إلى الإقدام، وتؤثر عكس ذلك على هنيبال وجيشه وحلفائه الذين أصبحوا مُستسلمين لليأس محلولي العزائم.
وكان سيبيو واحدًا من أولئك القواد الذين اقتادوا جيوش الرومانيين في البلدان الأجنبية، وقد تولى قتال القرطجنيين في إسبانيا، وكانت الأنباء الواردة من جيشه باعثة على الاستبشار والحماسة المتناهيين في رُومية، فهو قد كان ينتقل من نصرٍ إلى نصرٍ، ومن اجتياح مقاطعة إلى التغلب على أخرى حتى أوشكت البلاد الإسبانية بجُملتها أن تصير تحتَ مطلق سيطرته، فقهر جميع القرطجنيين الواحدَ بعد الآخر وثابر على الزَّحف إلى أن وصل إلى قرطجنة الجديدة، فحاصرها وافتتحها وبسط سلطة رومية على البلاد كلها.
وعاد سيبيو بعد ذلك إلى رومية فائزًا منصورًا فتلقاه الأهلون بالتهليل والتبجيل، وفي الانتخابات التي تلَت انتخبوه قنصلًا، وفي توزيع المقاطعات وقعت سيسيليا تحت قيادته ومُنح مطلق الحرية في العبور من هنالك إلى أفريقيا إن أراد، وتعين على القنصل الآخر أن يلاحق العراك في إيطاليا ضد هنيبال، وهكذا حشد سيبيو جيشًا جرارًا وهيَّأَ أسطوله وأقلع قاصدًا سيسيليا.
وكان أول عمل قام به بعد وصوله إلى مقاطعته تدبير حملة عسكرية يسير بها إلى أفريقيا بالذات، فهو لم يتم له ما أراده من مواجهة هنيبال رأسًا بأن يزحف بجيشه لمعاركته في جنوب إيطاليا؛ لأن ذلك كان من حق زميله المطالب بتلك الناحية، ولكنه يستطيع شن الغارة على أفريقيا ويهدد قرطجنة نفسها، وهكذا صمم النية على هذا الأمر بكل ما اشتهر عنه من الإقدام والحمية وحسن التدبير.
فنجح أيما نجاح وكان جيشه الممتلئ غيرة والمتشرِّب روح قائده وحماسته، والذي كان واثقًا بالفوز يزحف من معركة إلى أخرى كما فعل في إسبانيا منتقلًا من نصرٍ إلى نصر، فقهر مدنًا كثيرة واجتاح مقاطعات، وعارك كل الجيوش التي استطاع القرطجنيون توجيهها ضده، ونكل بها أو دحرها بخسائر فادحة، وفي آخر الأمر أحدثَ في شوارع قرطجنة ومنازلها مثل الخوف والرعب والاضطراب التي أحدثها هنيبال في رومية عندما كان منتصرًا.
وهال القرطجنيين ما رأوه من بطش سيبيو وتولاهم اليأسُ والقنوط، فأرسلو إليه السفراء يلتمسون منه الصلح وإبداء الشروط التي يريدها مقابل ذلك للانسحاب من البلاد، فأجابهم سيبيو بأنه غير قادر على عقد صلح؛ لأن ذلك من شأن مجلس الشيوخ الروماني الذي هو مأموره.
على أنه ذكر لهم بعض الشروط التي يميل إلى رفعها لمجلس الشيوخ في رومية؛ فإذا قبلوا بها منحهم هدنة أو توقُّفًا وقتيًّا عن القتال إلى أن يرجع جوابُ المجلس من رومية، فوافقه القرطجنيون على الشروط التي عرضها، وقد كانت ثقيلة جائرة ولكن الرومانيين يدَّعون أن القرطجنيين لم يرضوا بتلك الشروط في الباطن، وإنما تظاهروا بذلك؛ لكي يتوفر لهم الوقت الكافي لاستدعاء هنيبال الذي كانوا واثقين بأنه لو كان في أفريقيا لأنقذهم من بطش الأعداء.
وهكذا كان فإنهم عندما وجَّهُوا سفراءهم إلى رومية بعثوا رسلًا إلى هنيبال أيضًا يطلبون منه إنزال جنوده في البحر بالإسراع الممكن، وأن يترك إيطاليا عائدًا إلى الوطن؛ ليخلصه وينقذ مدينته التي هي مسقط رأسه من الدَّمار المحتم، هذا إن لم يفتِ الوقت على ذلك، فلما وصل الرسل إلى هنيبال وعلم ما جرى تولاه الذهول والحزن الشديد والأسف لانقلاب الحالة على تلك الصورة، فقضى بعد ذلك ساعات طويلة في التألم لما جرى، فكان تارة يئنُّ متوجعًا وطورًا يسكت كأنه في غيبوبة، وحينًا يصيح بأعلى صوته ويقذف مِن فِيه اللعناتِ محمولًا على ذلك كله بعظيم انفعاله.
ولكنه بعد هذا لم يستطع المقاومة وتخييب آمال مواطنيه، فبذل جهده في الرجوع إلى قرطجنة، وكان مجلس الشيوخ الروماني في الوقت نفسه قد ردَّ المسألة التي عرضتْ عليه إلى سيبيو؛ ليرى رأيه فيها يحملها رسل مع التفويض المطلق لحكمته، فإن رأى أن يتابع الحرب تابعها وإن رأى الصلح عقده، ولكنهم أرادوا العلم بالشروط التي يعقد عليها ذلك الصلح، وكان هنيبال قد وصل إلى قرطجنة، وهناك جنَّد جيشًا كبيرًا وجمع إليه مَن كان قد سلم من الجيوش التي قهرها سيبيو، وزحف في طليعة ذلك الجيش لملاقاة العدو.
فسار خمسة أيام وابتعد عن قرطجنة بين الخمسة وسبعين ميلًا والمائة ميل، فتدانى من معسكر سيبيو، وعندئذٍ وجه الجواسيس لاستطلاع طلع عدوه، فأمسك حراس جيش سيبيو أولئك الجواسيس، وساقوهم إلى مضرب القائد لإعدامهم كما توقعوا، ولكن سيبيو بدلًا من أن ينزل بهم العقاب الأليم أمر بأخذهم للتجول في معسكره ورؤية كل شيء هناك، ومن ثمَّ أطلق سراحَهم ليرجعوا إلى هنيبال، ويطلعوه على كل ما اختبروه.
وكانت المعلومات التي نقلها الجواسيس إلى هنيبال دالةً على قوة جيش سيبيو وعظم معداته، فدهش هنيبال مما سمعه عن عدوِّه وفضَّل المفاوضة لعقد صلح بدلًا من المخاطرة في معاركته، وبناء على ذلك بعث إلى سيبيو يطلب منه ضرب موعد لمقابلة شخصية، فأجابه سيبيو إلى ذلك، وتعين مكان اللقاء بين المعسكرين، وإلى هذا المكان جاء القائدان في الأجل المضروب باحتفال مهيبٍ وعدد كبير من الحاشية والأتباع.
وكان هنيبال وسيبيو أعظم قواد ذلك الزمان الذي عاشا فيه؛ لأنهما قضيا خمس عشرة سنة أو عشرين سنة في ساحات القتال، وأتيا من معجزات الحروب ما ملأ العالم بشهرتهما، وكانت ساحات حروبهما متباعدة كثيرًا بحيث لم يرَ واحدهما الآخر، أما الآن فقد اجتمعا معًا للمرة الأولى، ولما تعارفا وقف كلاهما وقتًا طويلًا محدقين كلٌّ منهما بالآخر بتأمل يدلُّ على أن كل واحد منهما يريد اختبار شخصية الآخر بدون كلام.
أخيرًا بدأت المفاوضة؛ وعرض هنيبال على سيبيو أمورًا أراد عقد الصلح عليها، وكانت موافقة للرومانيين إلى الدرجة القصوى، على أن سيبيو لم يقتنع بذلك بل طلبَ الزيادة من التضحيات التي أراد هنيبال التساهل بها، وكانت النتيجة بعد مفاوضات طويلةٍ عديمة الثمرة أن كل واحد منهما رجع إلى معسكره وتأهب للعراك، ومعلوم أن المنتصر في المعارك يسهل عليه متابعة انتصاراته، والنتائج تتوقف في الغالب على ما يتوقَّعُه كل جيش عند نزوله إلى المعترك.
فسيبيو وجنوده كانوا يتوقعون الانتصار، والقرطجنيون كانوا يتوقعون الانكسار، وكانت النتيجة للفريقين حسبما توقعا، ففي ختام اليوم الذي دارت فيه رحى معركة زاما سقط من الجيش القرطجني أربعون ألفًا في ساحة الوغى، بعضهم قتلى وبعضهم على وشك الموت، ومثل هذا العدد أو أكثر منه سِيقوا أسرى إلى المعسكر الروماني، وما بقي من الجيش أصبح فلولًا هائمين على وجوههم في كل صوب، يسوقهم الرعبُ في كل طريق مؤدية إلى قرطجنة.
ورجع هنيبال إلى قرطجنة، وهناك مثل أمام مجلس الشيوخ، وأعلن انكساره قائلًا إنه لم يعُدْ قادرًا على القيام بأكثر مما قام به، ثم قال: «إن حسن الطالع الذي كان مصاحبًا لي في الماضي قد هجرني إلى الأبد، ولم يبقَ أمامنا سوى عقدِ الصلح مع أعدائنا على الشروط التي يطلبونها مهما كانت قاسية.»