هنيبال شريد طريد ومنفي
كانت حياة هنيبال أشبه بأحد أيام شهر نيسان أبهاها وأجملها عند الصباح، فغروب شمسِه قد رافقه ظلام الغيوم والأمطار، ومع أن الرومانيين لم يستطيعوا في غُضون خمس عشرة سنة العثور على قائد يتمكن من الثبات في وجه هنيبال، فإن سيبيو قهره في آخر الأمر فكان بانتصاره عليه ختام فتوحاته كما تنبأ هانو، وقد انتهت تلك الفتوحات بجعل بلاده في حالة أردأ كثيرًا مما كانت عليه قبل ذلك.
وفي الواقع أن القرطجنيين عندما كانوا منصَّبين بكلِّ قواهم على العمل النافع، ساعين وراء الاتجار والسلام والطمأنينة كانوا في نعيمٍ مقيم، وكانت ثروتهم تتعاظم سنة عن سنة ويتعاظم معها نفوذهم ومجدِهم من كل وجه، وقد اتَّجهت سفنهم في كل صوب وقوبلت بالترحيب حيثما رست، فسُعدوا وأثْرَوا وأدركوا أرفع درجات العظمة، وكانوا في الوقت نفسه عاملين بإخلاص على ترقية وإسعاد شعوب أخرى كثيرة.
ولقد كان ذلك الحظ دون ريبٍ يرافقهم أجيالًا طوالًا، وهم في بحبوحة من العيش ورفاهية واطمئنان لو لم يقُمْ فيهم أبطال حروب يسعون لإدراكِ العلا، ويتسابقون لنيل الأمجاد العسكرية الباطلة. وكان والد هنيبال من كبار أولئك الأبطال، فبدأ بتدويخ إسبانيا والاعتداء على السلطة الرومانية، وقد أوجد مثل روحه الحربية في صدر ابنه هنيبال، وزرع الطموح إلى المعالي وأضرم في صدره كرهًا مضطرمًا للرومانيين.
وقد رافقهما الجد وصاحبهما الفوز في سائر التدابير التي اقتادا أبناءَ وطنهما لإتمامها أعوامًا عديدة، فكان نجاحهما في ذلك باهرًا، وهكذا فبعد أن كانوا من القوم الذين يُرحَّب بهم العالم؛ لما يتأتى لهم منهم من الفوائد الجمة أصبحوا السادة لقسمٍ منه واللعنة الكبرى عليه، فكان هنيبال طيلة الأيام التي كان فيها متفوِّقًا على كل قائد روماني يؤتى به لمعاركته مثابرًا على الفتح والتدويخ.
ولكن قام بعدئذ سيبيو الذي كان أعظم من هنيبال، وعندئذٍ انقلبت الحالة بطنًا لظهر، وكل الفتوحات التي قضى القرطجنيون في إدراكها نحو نصفِ جيل استُرجعت منهم بنفس الاعتساف والشدة، وسفك الدماء والتعاسة التي أخذت بها.
وقد وصفنا أعمال هنيبال الشهيرة في فتوحاته هذه، وما أتاه من الدهاء والدربة والإقدام على جلائل الأمور، أما مآتي سيبيو في استرجاع ما غنمه هنيبال فلم نأتِ على ذكرها إلا عرضًا وبكل اختصار؛ وذلك لأن الغرض من هذا الكتاب هو إيراد سيرة حياة هنيبال لا سيرة حياة سيبيو، ومع هذا فإن فتوحات سيبيو قد تمت ببطء وبالتدريج، فاستغرقت زمنًا طويلًا.
فهو كان في سنِّ الثامنة عشرة في معركة كانيه وذلك عندما اقتاد الجيش، وعندما أقيم قنصلًا كان في الثلاثين من عمره، وذلك قبل ذهابه إلى أفريقيا بزمن يسير، وعلى هذا يكون قد قضى خمس عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة في هدم بناء المجدِ المشمخرِّ الذُّرَى الذي شيده هنيبال محاربًا في أقاليم بعيدة عن قرطجنة وبطلها كل هذا الوقت، كأنه قد أبقَى القائد العظيم والمدينة العظيمة إلى النهاية.
ولكنه قد كان ناجحًا في كل الذي أجراه، حتى إنه عندما تقدم لمهاجمة قرطجنة كان كل شيء قد اضمحلَّ، فكانت قوة قرطجنة كالصدفة المجوفة فارغة وعديمة النوى، فلم تتطلب سوى ضربة واحدة شديدة لتسحق سحقًا، وفي الواقع أن قوة قرطجنة كانت متلاشية وفي حالة الانحلال النهائي، وأسباب دفاعها قد نفدت بحيث إن تلك المدينة العظيمة المرهوبة الجانب اضطرت إلى استدعاء، قائدها العظيم لإغاثتها حال دنو الخطر منها فسحق سيبيو الاثنين.
ومع ذلك فإن سيبيو لم يتطوح مثلهم ليسحقهم إلى النهاية، فقد أبقى على حياة هنيبال ولم يؤذ المدينة، إلا أن شروط الصلح التي تقاضاها كانت ثقيلة بهذا المقدار حتى قضَتْ على سيطرة قرطجنة بالزوال إلى الأبد، فبهذه الشروط أتيح للقرطجنيين أن يظلو أحرارًا مستقلين، وأن تستمر سيادتهم على مالهم من المقاطعات في أفريقيا التي كانت لهم قبل الحرب، وإنما انتزع سيبيو منهم أملاكهم الأجنبية، حتى إن ملكهم في أفريقيا كان محدودًا وسيطرتهم مقيدة.
وأخذ الرومانيون منهم الأسطول بجملته ما عدا عشرة مراكب صغيرة ذات ثلاثة صفوف من المجاذيف؛ ذلك لأن سيبيو وجدها ضرورية لحكومة قرطجنة لكي تستعينَ بها على الإدارة المدنية، فهذه المراكب فقط بقيتْ لهم، ولم يقل سيبيو ما الذي سيفعله بالأسطول بل كل ما صرح به هو أن يسلم إليه بلا شروط، ثم إنه أخذ الأفيال التي عند القرطجنيين جملةً، واشترط عليهم ألا يمرنوا غيرها فيما بعد في أية ناحية من العالم خلا أفريقيا.
حتى إنه إذا اضطرتها الظروف إلى شهر حرب في أفريقيا، فلا يجوز لها الإقدام على ذلك قبل إشعار الشعب الروماني مقدمًا والحصول على إذنٍ منه بذلك، وكان على قرطجنة أن تدفع جزية سنوية باهظة لمدة خمسين سنة، فأحدثت هذه الشروط القاسية ضوضاء عظيمة واستياء شديدًا في مجالس قرطجنة وطال الجدالُ في أمرها أيامًا، وكان هنيبال ميَّالًا إلى القبول بها فعارضَه في ذلك آخرون مفضلين المثابرة على الحرب، ولو كان الخذلان فيها من نصيبهم على الرضوخ لمثل هذه الشروط المهينة المؤدية إلى الخراب والشقاء والذل.
وكان هنيبال حاضرًا في مفاوضات المجلس كلها، ولكنه وجد نفسه هذه المرة في موقف يختلف كثيرًا عن المواقف التي كانت له في غضونِ ثلاثين سنة انقضَتْ أيام كان قائدًا منتصرًا يركب في جيش عرمرم، وله إذ ذاك القول الفصل يشير ويسيطر ويدبر كل أمر، ففي مجالسه الحربية الماضية لم يكن أحد يجرؤ على الكلام بدون إذنه، ولا يوضح أحد عن رأيه في أمر إذا أبى هنيبال سماعه.
على أنه في مجلس الشيوخ القرطجني قد كان الأمر بالعكس، فآراء الشيوخ كانت تلفظ بكل وضوح كما يحدث بين الأكفاء، ويكون هنيبال في جملتهم له رأي واحد لا سوى؛ فإما يقبل أو يرفض كغيره من الآراء، إلا أن روح السلطة التي كانت لا تزال تتردد في صدره وما اعتاد في الأيام الماضية من النهي والأمر قد جعله عديمَ الاحتمال قليل الصبر عندما يعارضُه أحد، حتى إنه إذ كان أحد الشيوخ يخطب مرة مفنِّدًا آراء هنيبال مقاومًا ما أشار به لم يصبر هنيبال عليه، بل أمسكه بتلابيبه وأجلسه في مكانه بالقوة.
فحمل عمله هذه أعضاء المجلس على الاستنكاف من أثرته وتصلُّبه وعتُوِّه، وصرحوا له باستيائهم من هذا السلوك القبيح قائلين إن أيام سيطرته قد ذهبَتْ، فكان هو والحالة هذه يرجع عن غيِّه في الحال ويندم على عمله متأسِّفًا؛ لأنه قد نسي واجبات وظيفته الجديدة ويعتذر لتطرُّفه الذي لا داعي له، أخيرًا أقرَّ رأي القرطجنيين على القبول بشروط السلم التي طلبها سيبيو، وهكذا دفعوا إليه أول قسط من الجزية، وسلموا إليه السفن والأفيال بأجمعها مستسلمين على الكره منهم.
ولكن سيبيو أعلن بعد أيام قلائل أنه غيَّر فكرَه عن أخذ السفن معه، وقال بوجوب تحطيمها هناك، وقد يكون تصميمه على هذا ناتجًا عن حسبانه إيَّاها عديمة الفائدة للرومانيين بالنظر إلى صعوبة تجهيزها بالرجال، ومن المعلوم أن السفن بدون رجالٍ لا فائدة منها، وتوجد دول كثيرة في هذا العصر قادرة على ابتناء أساطيل كبيرة، لولا ما يحول دون قيامها بذلك من قلة الرجال الذين يتجردون لهذه الخدمة.
فلعل هذا هو أحد الأسباب الذي حمل سيبيو على عدم أخذ السفن القرطجنية إلى بلاده، وربما أراد أيضًا بذلك أن يظهر لقرطجنة وللعالم بأسره أن تصميمه على أن أخذ سفن العدو لم يكن الغرض منه تقويةَ دولته بما سلبه من قوى العدو المغلوب؛ بل إنه أراد به حرمان المحاربين الطامحين إلى نيل القوة والمجد والوسيلة التي تساعدهم على تعكيرِ مياه السلام، وإقلاق راحة الجنس البشري ببعثات فتوحاتهم وعوامل صَولتِهم من حين إلى آخر.
وكيفما كان الحال فإن سيبيو صمَّم النية على تحطيم السفن وعدم تسييرِها معه إلى بلاده، ففي ذات يوم ضربه موعدًا لذلك أصدر أمره بجمع السفن في البوغاز قبالة قرطجنة وأحرقَها هناك، وكان عددها خمسمائة سفينة وعلى هذا ألَّفت أسطولًا ضخمًا وغطَّت من البحر مسافة غير يسيرة، وفي اليوم المعين احتشدَتْ جماهير الناس على الشاطئ؛ ليشاهدوا ذاك اللهيب الهائل.
وكان التأثير المحزن الذي سببه ذلك المشهد المؤلم قد تفاقم كثيرًا بما كان يغلي في صدور أهل قرطجنة من مراجل البغضاء والحِقد على أعدائهم، حتى إن الرومانيين أنفسهم الذين شاهدوا ذلك المنظر المهيب من معسكراتهم على الشاطئ شعروا بتأثير حرَّك فيهم العواطف، ولكن على صورة تختلف كثيرًا عما كان القرطجنيون يشعرون به؛ فإن وجوههم كانت مشرقة بالجذل والابتهاج الناجمين عن فوزهم على أعدائهم، عندما أبصروا ألسنة اللهيب المخيف مندلعة من هاتيك السفن العديدة وأعمدة الدخان تستر صفحات الجو، وتغطي مياه البحر مذيعة للعالم تدمير قرطجنة وتذليل كبريائها بحيث لا تقومُ لها بعده قائمة، وبعد أن أنجز سيبيو عمله هذا كما أراد أقلع قاصدًا رومية، وكانت إيطاليا بأسرها قد امتلأتْ بأخبار مآتيه وأنباء انتصاراته وتمكنه من سَحق قوة هنيبال؛ لأن رومية لم تعد بعد الآن تخشى صولة ذلك القائد العظيم وترتعد لذكر حروبه، ذلك لأنه قد ترك في وطنه مغلولَ الأيدي معدوم القوة ذليلًا بحيث إن الخوف من وجوده مرة أخرى في إيطاليا يهدِّدها بفتوحاته قد انتفى إلى الأبد، وعلى هذا كان الشعب الروماني الذي ذاق البلاء المر من هنيبال وصولتِه والذي عادتْ إليه الآن ذكرى الدواهي الكبار التي رماه بها القائد القرطجني أيام وجوده في إيطاليا يهلل لسيبيو ويلقبه بمنقذ البلاد العظيم، وهكذا كان الرومانيون ينتظرون وصول سيبيو بفارغ الصبر؛ لكي يرحبوا به ويحتفلوا بمقدمه، فلما دنا الوقت واقترب من رومية خرجت جماهير غفيرة للقائه، ونظم رجال الحكومة مواكب مهيبة للترحيب به، وجلبوا معهم تيجان وأكاليل من غار وأزهار مختلفة، وقابلوه بالتهليل وهتاف الفرح والانتصار الباهر، ومنحوه لقب أفريقانوس كذكرى شرف لانتصاراته — وكان هذا شرف جديد — بإعطاء الفاتح اسم البلاد التي دوَّخها، وقد ابتدع ذلك اللقب خصيصًا ليكون جزاءً لسيبيو المخلص الكبير الذي أنقذ المملكة من أعظم الأخطار وأروعها، وأراحها من أكبر الأعداء الذي كانت ترتعد فرقًا لذكر اسمه. أما هنيبال فمع أنه سقط فهو لم يعدم نصيبًا ولو يسيرًا مما كان له من القوة والمهابة في قرطجنة، فإن أمجاد مآتيه الحربية ما برحت تزين سجاياه بهالةٍ من الشرف جعلته موضوع الإجلال والاحترام وأبقت له عددًا كبيرًا من الأصدقاء والمريدين، وأعطي وظيفة سامية في البلاد فبذل جهده في تنظيم الشئون الداخلية وتحسين الإدارة من كل وجه، على أنه لم يبلغ من ذلك المراد الذي رامَه.
ويقول المؤرخون إن المقاصد التي رام إتمامها حسنة، والطرق التي اتخذها لبلوغ الغاية منها حكيمة في ذاتها، إلا أنه لما كان لا يزال متعودًا الأمر المطلق والسيطرة التي لا تعرف قيدًا ولا حدًّا، شأن القائد العسكري وجد من الصعب عليه كثيرًا استعمال الرفق والتؤدة والتساهل واحترام السوى، الأمور التي لا يُستغنى عنها في التأثير على الناس واكتساب مناصرتهم في إدارة القضايا المدنية.
فهنيبال الذي جرى على طبيعته العسكرية المتصلبة لم يجارِ القوم كما تقضي بذلك الضرورة؛ ولهذا أوجد لنفسه عددًا كبيرًا من الأعداء الذين بذلوا ما وسعهم بالمكائد والدسائس وبالمقاومة الظاهرة أيضًا لإسقاطه وإذلاله، فخفَضوا من كبريائه وحقروه، فآلمه ذلك كثيرًا وكان هذا دأبهم معه في كل حادثة توقَّعت لهم معه رجوع سيبيو إلى رومية، وفي غضون ذلك طرأتْ أسباب حملت قرطجنة على محاربة قبيلة أفريقية مجاورة لها، فاقتاد هنيبال حملة عسكرية جندها من سكان المدينة لمحاربة تلك القبيلة.
واتصل ذلك بالرومانيين الذين أقامو الجواسيس في قرطجنة؛ ليطلعوهم على كل ما يجري فيها، فحذروا أهل قرطجنة من الإقدام على الحرب، قائلين إن ذلك مخالف للمعاهدة المسطَّرة بين البلادين؛ ولهذا فإن رومية لا تسمح لهم بذلك، ولما كانت حكومة قرطجنة تكره المخاطرة في إغاظة رومية وتتحاشى جهد الإمكان الدخول معها في حرب يقتاد فيها سيبيو جيوش الرومانيين، أرسلت من فورها الأوامر إلى هنيبال بالعدول عن الحرب والرجوع إلى المدينة.
فأرغم هنيبال على الإذعان والطاعة، ولكنه إذ كان متعودًا عدم المبالاة بجيوش رومية وأساطيلها مهما بلغ من عددها وعدتها، فلا نرتاب في أن روحه العالية قد استكبرت الأمر وتألمت كثيرًا إذ رأت أنها قد قُهرت وقمع من نخوتها بكلمة واحدة؛ فإن كل ما كان الرومانيون يستطيعون حشده من القوات ضدَّه حتى عندما كان على أبواب رومية لم يكن ليعبأ به، والآن بكلمة تهديد واحدة آتية من عبر البحار ومرسلة إليه وهو في جوف صحارى أفريقيا القاصية تجرده في دقيقةٍ واحدة من كل قوته.
ومرت السنون وهنيبال قلق منزعج لا يهدأُ له روع بالنظر إلى اضطراره لاحتمال الذل والاستكانة والقهر الذي حَكم عليه به القضاء والقدر، فكانت نفسه العالية التي لم تصبر على ضيم من قبل عاملةً على التفكير الدائم وتدبير الخطط التي تمكنه من اكتشاف وسيلة يتوصل بها إلى تجديد العراك مع عدوته القديمة، والنيل منها مدفوعًا إلى ذلك بعامل الغيظ والطموح واستعادة المجد القديم.
يذكر دارسو التاريخ أن قرطجنة كانت في الأصل مستعمرة تجارية تابعة لصور، وهي مدينة على الشاطئ الشرقي من بحر الروم، وكانت سوريا وفينيقية مجاورتين لصور، وكانت هذه البلدان على درجة عظيمة من المقدرة التجارية وعلائقها مع قرطجنة ولائية إلى الغاية، بحيث إن سفنهما التجارية جميعًا كانت تمخر البحر ذهابًا وإيابًا بينهما، فإذا ما نابت إحداها نائبة أو حلت بها نكبة كانت بالطبع تتوقع من البلدان الأخرى المساعدة والحماية، فإن قرطجنة كانت تعد فينيقية بمثابة أمٍّ لها، وفينيقية تحسب قرطجنة بنتها.
وكان في هذا الحين ملك قدير على عرش سوريا وفينيقية اسمه أنتيوخوس، وكانت عاصمة ملكه دمشق، وقد عرف بالصولة والغِنى الوفير، وصدف في ذلك الوقت اشتباكه بمشاكل كثيرة مع الدولة الرومانية التي توسعت في فتوحاتها حتى بلغَتْ تخوم مملكته من ناحية الشرق، وكاد الأمر بينهما يؤدي إلى حرب طاحنة بسبب ذلك، فاهتبل أعداء هنيبال في قرطجنة فرصة وجود هذه المشاكل بينهما، وأخبروا المجلس الروماني بأن هنيبال يدبر المكائد مع أنتيوخوس بقصد توحيد جيوش سوريا وقرطجنة ضد الجيش الروماني، وإضرام نيران تندلع ألسنة لهيبها في العالم مرة أخرى.
فعوَّل مجلس رومية عندما اتصلت به هذه الأنباء على إرسال بعثة إلى الحكومة القرطجنية تطالبها باسم رومية بوجوب عَزل هنيبال من وظيفته، وتسليمه أسيرًا للرومانيين؛ لكي يحاكموه على هذه التهمة، ووصلت تلك البعثة إلى قرطجنة، ولكنها كتَمت الأمر الذي قدمت من أجله احتسابًا لما يقدم عليه هنيبال من ترك المدينة، والفرار إلى حيث يكون في مأمن من شرهم إذا هو درَى بما هم آتون لأجله، فينجو بنفسه قبل أن يقر رأي المجلس القرطجني على تسليم هنيبال إلى الرومانيين.
على أن هنيبال كان أوفر منهم فطنةً وأكثر حذرًا واحتسابًا، فهو قد سعى بكل وسيلة لديه للاطلاع على غرَضهم من المجيء إلى قرطجنة، وعزم في الحال على النجاة بنفسه علمًا منه بأن أعداءه في قرطجنة كثار العدد، وأن كرههم له يتفاقم يومًا عن يوم؛ ولهذا لم يَجسُر على ترك المسألة للأقدار، وانتظار نتيجة قرار مجلس وطنه في شأنه، بل صمَّم على الفرار بلا أقل تردد.
وكانت له قلعة أو برج صغير على الشاطئ يبعد عن قرطجنة مائة وخمسين ميلًا إلى الجنوب، فوجَّه على الفور رسولًا أمينًا إلى هناك؛ لكي يهيئَ له سفينة تكون على استعداد لركوبِه البحر، ودبَّر جماعة من الفرسان تقف على بوابات المدينة عند حلول الظلام، وفي سحابةِ ذلك اليوم ظهر هنيبال في الشوارع العمومية بكل حرية وبقلة مبالاة؛ كأنه غير عالم بشيء يزعجه قاصدًا بذلك إقناع سفراء رومية الذين كانوا يراقبونه بأنه غير مفكر في الهرَب.
وعند المساء اتجه متمهلًا في سيره نحو منزله، وهناك شرع في إعداد كل ما يلزم لسفره، ولما خيَّم الظلام ذهب إلى بوابة المدينة راكبًا الجوادَ الذي أُعد له، وأسرع في الفرار قاطعًا الوهاد والبطاح يريد قلعتَه، وهناك وجد السفينة التي أمر بإعدادها له، فركبها في الحال وأطلق شراعها للريح فأبعدته عن الشاطئ مسافةً غير يسيرة.
ويوجد على مسافة من الشاطئ جزيرة صغيرة اسمها سرسينيا، فوصلها هنيبال في ذات اليوم الذي غادر فيه قلعتَه، وكان لتلك الجزيرة مرفأٌ تأوي إليه السفن التجارية، فبحث بين السفن ووجد عددًا بينها من السفن الفينيقية، وكان البعض منها ذاهبًا إلى قرطجنة، فأحدث وصول هنيبال إلى تلك الجزيرة ضجةً كبرى واستغرب القوم أمر مجيئه إلى هناك؛ فلكي يزيل انذهالهم قال لهم إنه موفد من الحكومة القرطجنية إلى حكومة صور.
وخشي هنيبال أن بعض تلك السفن التي كانت موشكة أن تمخر البحر إلى قرطجنة تحمل إلى حكومتها خبر وجوده في جزيرة سرسينيا؛ فلكي يحول دون ذلك دبر بدهائهِ الخارق الخطة التالية؛ وهي أنه أرسل إلى ربابنة تلك السفن دعوةً رسمية إلى حفلة يريد القيام بها، وسألهم في الوقت نفسه أن يعيره كل واحد منهم شراعَ سفينته الأكبر؛ لكي يؤلف منها جميعها خيمة تسع الضيوف، وتقيهم البللَ من ندى الليل.
فقبل الربابنة دعوة هنيبال فرحين تائقين إلى رؤية ما أعدَّه لهم وأمروا رجالهم بإنزال الشرع الكبرى، ومعلوم أن نزع تلك الشرع عن السفن جعلها غيرَ قادرة على الحراك، وهكذا اجتمع جمهور المدعوين تحت تلك الخيمة العظيمة المركبة من شرع السفن والمضروبة على شاطئ البحر، فلقيهم هنيبال مرحبًا وبقي معهم رَدحًا من الوقت، ثم انسل في غضون الليل عندما كان المدعوين متمتعين بما أعده لهم لاهين بمعاقرة الخمرة، وركِب سفينته وأقلع مُبحرًا.
ولم يستيقظ ربابنة السفن من نومهم الثقيل المتسبِّب عن تماديهم في شرب الخمور، ولا تمكنوا من إعادة شرع سفنهم إلى الأدقال إلا بعد أن كان هنيبال على بعدٍ شاسع عنهم على طريقه إلى سوريا، وفي ذلك اليوم نفسه اضطربتْ أرجاء قرطجنة واشتدَّ تحمس الناس فيها واستغرابهم عندما انتشرت الأخبار في سائر أنحائها عن اختفاء هنيبال، وازدحم الناس أمام منزله سائلين مستفهمين، ولكن بدون جدوى، وتواترت الإشاعات وتعددت الأقاويل وتضاربت الآراء في أمر اختفائه، ولكنها كانت متناقضة ومما لا يقبله العقل، فزادت في تعجب الناس واستنكارهم الأمر.
واستمرت هذه الضجة في قرطجنة إلى يوم وصلتها السفن من جزيرة سرسينيا، فوقف الأهلون منها على الحقيقة، ولكن هنيبال كان عندئذٍ قد بعد كثيرًا وأصبح في حرز حريزٍ عن أن تصل إليه أيدي أعدائه، ومع أنه كان فرحًا بخلاصه وفوزه على الكائدين فإن قلبه كان غاصًّا بالغصات الناجمة عن الحالة التي وصلته إليها صروفُ الزمن، ووصل صور فنزل إلى البر سالمًا وقوبل بمزيد التجلَّة، وبعد أيام معدودة أخذ يتجول في الداخلية ذاهبًا في وهادها وبطاحِها على غير هدى إلى أن وصل إلى أفسس، حيث وجد أنتيوخوس ملك سوريا.
وحالما عرف أهل قرطجنة بفرار هنيبال أخذوا يحسبون الحساب الكبير لنتيجته، وأن الرومانيين سوف يجعلونهم مسئولين عنه، فيؤدي الأمر إلى تجديد حرب بين البلادين، ولكي يتقوا هذا الخطر بادروا في الحال إلى إرسال وفدٍ إلى رومية؛ لكي يطلع الحكومة فيها على فرار هنيبال ويبدي أسف قرطجنة الشديد واستياء أهلها من هذا الحادث الذي لم يخطر لهم ببال، وهم يتوقعون من وراء ذلك تلطيف غضبِ أعدائهم مما جرى.
ويلوح للقارئ عند تأمله هذه الحادثة أن أهل قرطجنة قد تصرَّفوا بلؤم وخساسة، وأنكروا جميل قائدهم بهذه الصورة الشائنة فخذلوه وانحازوا إلى الأعداء؛ ليناصروهم عليه وهو الذي أغضب أولئك الأعداء وألهب صدورهم غيظًا منه في خدمة قومِه ووطنه، وأن قلبهم له ظهر المجنِّ في ساعة ضيقه وشدته ليس من الشهامة والشرف في شيء، وفي الواقع أن تصرف القرطجنيين كان يُعَدُّ لؤمًا فظيعًا للغاية، ولا يتفق مع مبادئ الوطنية الصادقة، لو كان الأشخاص الذي لقي منهم هذه المعاملة السيئة هم ذاتهم في الحالتين.
ولكنهم لم يكونوا كذلك، فالأشخاص وأهل النفوذ من القرطجنيين الذين يقاومون هنيبال ومساعيه في هذا الحين كانوا يقاومونه على الدَّوام من أول عهده بالقيادة، إلا أنهم في وقت انتصاراته وعندما كان الجدُّ خادمًا له كانوا يخلدون إلى السكينة ويقل عَديدهم، ويكون أصدقاء هنيبال ومريدوه مسيطرين على كل أعمال المدينة، ولهم القول الفصل في كل أمر.
أما الآن وقد شعر الناس بمرارة ثمرات مساعيه وطموحه ونتائج اعتدائه الذي لا موجبَ له على أملاك الرومانيين وحقوقهم؛ فإنهم أسقطوا أصدقاءه من وظائفهم وأحلوا أعداءه محلَّهم، فتولى مقاوموه زمام الأمور وبذلوا كل ما في وسعهم لإبقاء هنيبال ذليلًا مهانًا وشريدًا طريدًا ما دام قد سقط، وعملهم هذا سواء كان من الوجه السياسي خطأ أو صوابًا، فهو مناسب في ذاته ولا يجوز حسبانه من الأعمال التي تجعلهم جديرين بتهمة نكرانِ الجميل أو الخيانة.
وقد يحمل المرء على الظن أن كل آمال هنيبال وما يصبو إليه من العودة إلى مكافحة عدوه الروماني العظيم قد خابت، والآن أصبح يائسًا من ذلك منقطع الرجاء، وأنه قد عول على ترك الخلاف والإعراض عن كل ما يجدِّد الحروب واستسلم للأقدار، مكتفيًا باتخاذ مقر يلتجئ إليه ويقضي فيه بقية أيامه بسلام، قانعًا بإنقاذ نفسه من شفار السيوف بعد تلك الأخطار التي تعرض لها، وأفلت منها وحماية شخصه من انتقام أعدائه.
ولكن من الصعب قمع تلك النفس الكبيرة وإخضاع تلك الشخصية التي لا تحتمل الضيمَ، ولا تصبر على الأذى، وإخماد جمرة ذلك النشاط العجيب والهمة التي لا تثبطها الأهوال، فهو كان غير ميال إلى السكون والرضا بما قسم له، وهكذا فإنه حالَما وجد نفسه في دار الملك أنتيوخوس بدأ بإعداد خُطط جديدة ليشهر الحرب على رومية، وعرَض على الملك السوري إنشاء قوة بحرية، وتقليده زمام قيادتها.
وقال للملك أنتيوخوس: إنه إذا أعطاه مائة سفينة وعشرة آلاف أو اثني عشر ألف رجل، فإنه يقود تلك الحملة بنفسه، ولا يشك مطلقًا في اقتداره على استعادة المكانة التي خسِرها وعلى إذلال عدوه القوي القديم مرة أخرى، وقال إنه يذهب بذلك الجيش والأسطول إلى قرطجنة أولًا؛ لكي يحصل على مناصرة بني قومه في مسعاه الجديد، ثم يزحف على إيطاليا حيث يسترجع فيها دون أقلِّ ريب ما كان له من التفوق في الماضي.
وكانت غاية هنيبال هذه من الذهاب إلى قرطجنة بجيشه السوري أولًا مقصودًا بها البطش بأعدائه هناك، وإعادة مريديه إلى تسلم أزمة الحكومة، ولكي يمهد السبيل لذلك مقدمًا ويكون على يقين من الفوز بما صمَّم عليه، وجه إلى قرطجنة رسولًا في السرِّ، بينما كان يفاوض أنتيوخوس في أمر الحملة على رومية؛ لكي يطلع أنصاره على الخطة الجديدة التي يفكِّر فيها، وعلى عظيم رجائه بحصوله على ما يريده من هذا القبيل.
وأدرك هنيبال أن خصومه في قرطجنة سوف يتوقعون مثل هذه الحركة الجديدة منه ويعدون له الأرصاد؛ ولهذا لم يكتب رسائل ولا سطر شيئًا مما أراد إبلاغه على الورق لعِلمه أن ذلك يفضح سره، ويعلن تدابيره للملأ فيفسد أمره عليه وتروح مساعيه ضَياعًا، وعلى هذا أوضح للرسول كل شيء وأطلعه على مراميه وخطته بالتفصيل الوافي، وأفهمه بكل دقة كيف يبلغ ذلك إلى الأنصار.
ولا يخفى أن حكومة قرطجنة كانت تراقب ساهرةً لتقف على حركات هنيبال، وقد بثت الجواسيس في كل مكان؛ لكي يستطلعوا طلع أخباره وما يعول عليه، وكان أن أولئك أعلموا الحكومة بوصول ذلك الشخص الغريب فسارعتْ لفورها إلى اتخاذ الوسائل الفعالة للقبض عليه، وكان هو أوفر منها حيطة وأكثر حذرًا فدرَى من تجواله في المدينة بما تعدُّه له من المهالك، وصمم النية على إطلاق ساقيه للريح.
وقبل الإقدام على ذلك أعدَّ إعلانات مختلفة ألصقها خفية في الساحات العمومية، قال فيها إن هنيبال بعيد عن التسليم بأنه قد غُلب على أمره وقهر نهائيًّا، وهو على العكس من ذلك يُعِدُّ الخطط الجديدة للبطش بأعدائه في قرطجنة واستعادة ما كان له من المكانة فيها، والزحف بعد ذلك على بلاد الرومانيين بالسيف والنار، وختم هاتيك الإعلانات بِحَثِّ أصدقاء هنيبال في قرطجنة على الثبات معه والإخلاص له ومناصرة مساعيه.
وبعد أن ألصق الرسول هذه الإعلانات فرَّ من المدينة تحت جنح الظلام ورجع إلى هنيبال، وفي ثاني الأيام ضجَّ الأهلون كما لا يخفى لما قرءُوه، وثار ثائر أعداء هنيبال عليه وهالهم أمره، كما أن هذه الأخبار شجَّعت أصدقاءه وأحيَتْ في قلوبهم ميِّتَ الرجاء، وعند هذا الحد من الحدة والضجة وقفت الحالة هناك إلى أجلٍ معلوم، وكانت قوة الحزب المقاوم لهنيبال قد رسَّخت في قرطجنة إلى حد يصعُب معه التغلب عليها بسهولة، وفي ذلك الحين أرسل أعداء هنيبال بالخبر اليقين إلى رومية، فأطلعوا الحكومة فيها على حكاية مجيء رسولِ هنيبال إلى قرطجنة وما كان من نتائج قدومه، وانتهى الأمر عند هذا الحدِّ وعادت الأمور إلى ما كانت عليه.
وعندما علمت حكومة رومية بمكان هنيبال أرسلت وفدًا من قبلها لمفاوضة الحكومة السورية في شأن نياتها وخططها؛ ولكي تراقب حركات هنيبال أيضًا، وقيل إن سيبيو نفسه كان من جملة أعضاء ذلك الوفد وأنه التقى هنيبال بالفعلِ في أفسس وتحدث معه هناك مليًّا مرات عديدة، وقد أورد أحد قدماء المؤرخين تفصيلًا خاصًّا لحديث واحد دار بينهما، تكلما فيه — كما يحدث طبعًا بين قائدين عظيمين — عن الأمجاد العسكرية وعظمتها.
فسأل سيبيو هنيبال عمن يظنه أعظم أبطال الحروب في التاريخ كله، فأجاب هنيبال مانحًا إكليل الغار لإسكندر المكدوني؛ وذلك لأنه قد توغل بجيش صغير من المكدونيين في أقاليم سحيقة، وقهر جيوشًا جرَّارة وأنشأ مملكة لا مثيلَ لها كانت تأتمر بأمره من أقصاها إلى أقصاها، فسأله سيبيو عندئذٍ عن الثاني للإسكندر في العظمة الحربية — فقال بيرهوس.
وكان بيرهوس إغريقيًّا اجتاز بحر أدريا وشهر حربًا على الرومانيين، كان النصر فيها مرافقًا لأعلامه، وقال هنيبال إنه منح بيرهوس المحلَّ الثاني بعد الإسكندر؛ لأنه نظم فن الحرب وأبلغه درجة الإتقان الكامل، ولأنه كان ذا قوة على إيقاظ شعور قوي في جنوده يحمِلهم على التعلق به، ويحمل مثل ذلك سكان البلدان التي يجتاحها ويقهرها، الأمر الذي لم يستطعه قائد آخر سواه في التاريخ.
وسأل سيبيو هنيبال أيضًا عن ثالث ذينك القائدين، فأجاب هنيبال قائلًا إنه يحل نفسه في المحل الثالث، ثم زاد على هذا قوله: «لو أني تمكنت من قهر سيبيو؛ لكنت أعد نفسي فوق الإسكندر وبيرهوس وسائر القواد الذين نبغوا في العالم بأسره.» وهناك طرائف لأخبار متنوعة متعلقة بهنيبال في غضون أول ظهوره في سوريا تدل على واسع شهرته، وعلى إعجاب الناس الشديد به، وما يحدثه وجوده في صدورهم حيثما اتَّجه من المهابة والخشية، وترك كل عمل للتفرج عليه.
ومما يذكر من هذا القبيل أن خطيبًا كثير الدعوى والعجب لم يكن يَعرف عن فنون الحرب شيئًا إلا ما توهم أنه يحسنه فكريًّا، كان يخطب في حفل من الناس وجَد بينهم هنيبال بالصدفة، ولما درى بوجود هنيبال بين سامعيه ازدادت رغبته في إبداء مواهبه، وما يعتقد أنه يعرفه من شئون الحروب على مسمع من هذا الضيف الطائر الشُّهرة، وبعد انتهائه من الخطابة سأل القوم هنيبال رأيه في الذي أورده الخطيب، فأجابهم هنيبال: «إني قد سمعت من قبل كثيرين من أهل الهذر والهذيان، ولكني بالحق أقول لكم: إن هذا المهذار أعظمُهم جميعًا.»
وفشل هنيبال فيما سعى إليه للحصول على حملة عسكرية يهاجم بها الرومانيين، بالرغم من بذل أقصى جهوده في سبيل ذلك، وكان لا يمل من الطلب ولا يكلُّ عن محاولة إقناع ملك سوريا بما هو قادر على إتمامه، ومع أن الملك كان يعده بإجابة ملتمسة حينًا بعد آخر فإنه لم يبرَّ بوعده، وبقي هنيبال في ذلك الجانب من العالم عشرَ سنوات محاولًا جهدَ إمكانه التوصل إلى ما يريده، ولكنه كان في كل سنة يرى نفسه أبعدَ عن غرضه منه في السنة التي قبلها.
فكأن ساعة حسن طالعه ومجده قد ذهبتْ حسب الظاهر؛ لأن كل تدابيره أدت إلى فشل وخيبة وتلاشي نفوذه، وماتت شهرته تدريجًا مع الأيام فلم يعُدْ يذكره أحد، أما الملك أنتيوخوس فإنه بعد عراك عديم الثمرة مع الرومانيين عقَد معهم صلحًا، وكان من جملة شروط ذلك الصلح أن يسلم إليهم هنيبال، فصمم على الفرار ووقع اختياره على الالتجاء إلى جزيرة كريت.
ولما وصل إلى تلك الجزيرة وجد أنه غير قادر على البقاءِ فيها، وكان قد احتمل معه شيئًا كثيرًا من الذهب، فعندما عزم على مغادرة كريت قلقَ قلقًا شديدًا على الذهب الذي معه؛ إذ خشي أن يغتصبه الكريتيون منه؛ ولهذا رأى أن يبتدع طريقة أو حيلة تمكنه من نقل الكنوز معه، فكان ما فكر فيه كما يأتي:
ملأ عددًا من الأوعية الفخارية بالرصاص وستر أعاليها فوق الرصاص بقليل من الذهب والفضة، وحمل هذه الأوعية متظاهرًا بالخوف والخشية عليها إلى هيكل ديانا، وهو أقدس معابدهم قائلًا إنه يأتمنهم عليها وأنها كل ثروته التي لا يملك من حُطام الدنيا سواها، فوعدوه خيرًا وأكدوا له أنهم سيحتفظون بها بحيث لا تمتد إليها يدٌ، وعندئذٍ غادرهم هنيبال ومعظم ما كان لديه من الذهب الحقيقي موجود معه، وقد صبه في أجواف عدة تماثيل من النحاس كان يحملها معه متظاهرًا بأنها تحفٌ لا قيمة لها.
وفر هنيبال من مملكة إلى مملكة ومن مقاطعة إلى أخرى، إلى أن صارت حياتُه شقاء ومرارة ووجوده عبئًا ثقيلًا، وكان الرومانيون يلاحقونه حيثما ذهب ويزعجونه ويعملون بكل الوسائل الممكنة على إقلاق راحته، وقطع كل رجاء له من العود إلى سابق عزِّه، فكان فكره معذبًا بذكرى الماضي والخوف من المستقبل، وبالتأسف على أمور كان من حقه القيام بها وتهامل في ذلك.
فهو قد قضى فجر حياته مجاهدًا ضدَّ قوم لم يمسوه بأذًى باذلًا قواه في إنزال أشدِّ الضربات على عدو لم يبادئه بعدوان ولا تعرَّض له في أمر، والآن في مساء ذلك العمر قد أصبحَ هو نفسه معرضًا لما رام إلحاقه بأعدائه من الذل والشقاء والحياة المرة، وكأن أعداءه قد صمَّموا النية على الانتقام منه مضاعفًا؛ لما صبه عليهم من الويلات، وأن يجعلوا ختام حياته ذلًّا وعذابًا لا نهاية لهما إلا بالموت.
ولما رأى هنيبال أن أعداءه يضيقون عليه المسالك ويسدون في وجهه السبل، وأن الخطر يزداد دنوًّا منه كل يوم؛ استحضر شيئًا من السم كان أعده لحين الحاجة؛ إذ رأى الأفضل له أن ينتحر بتلك الطريقة من أن يقع في قبضة الأعداء، فيذيقوه العذابَ والذل أشكالًا وألوانًا. وفي ذات يوم وجد أن ساعة تناول ذلك السم قد جاءتْ، وكان يومئذٍ شريدًا منفردًا في بثيسينيا؛ وهي مملكة في آسيا الصغرى قَبِلَه ملكُها وحماه إلى حين، ولكنه ارتأى بعد ذلك أن يسلمه إلى الرومانيين.
ولما درى هنيبال بما عوَّل الملك عليه تأهب للفرار؛ إلا أنه وجد السبل مسدودة، فلما أراد الانسلال من القصر لم يجد منفذًا من المنافذ التي فكَّر في الفرار منها مفتوحًا، ورأى أن كل مخرج من القصر الذي هو فيه محاط بالحراس، فلم يعُد الفرار ممكنًا بعدَ هذا، وهكذا ذهب هنيبال إلى غرفته وأتى بالسم، وكان قد صار شيخًا هرمًا بالغًا من العمر السبعين سنة، وقد هُدَّت قواه الحروب وأنهكه الفرار من مكان إلى آخر، وأتعبه الخوف من أعدائه وقلق الليالي المتسبب عنه؛ ولهذا سر أن يموت، وبعد ساعات قلائل كان جثة هامدة.