تدمير قرطجنة
إن نتائج طموح هنيبال المتناهي في التهور واعتدائه بلا موجب على حقوق الرومانيين؛ لإشباع مطامعه لم ينته بانسحاقه شخصيًّا فقط، فإن اللهيب الذي أشعله قد استمر على الاندلاع تدريجًا مع الأيام إلى أن تناول قرطجنة بالذات، فأحرقها ودمرها إلى الحد الذي لم تقم لها بعده قائمة.
تم هذا في حرب ثالثة نهائية بين القرطجنيين والرومانيين معروفة في التاريخ بالحرب القرطجنية الثالثة، ونحن نختم سيرة هنيبال بتفصيل حوادث هذه الحرب التي أدَّت إلى خراب تلك المدينة الزاهرة النهائي ومحوها من الوجود، ويذكر القراء أن الحربَ التي شهرها هنيبال نفسه على رومية كانت ثانية الحروب بين الأمتين، وأن العراك الذي حارب فيه روغلوس نفسه كان أول المعارك، والعراك الذي سنتكلم عنه الآن هو ثالثهما، وسندرج لهذه الحروب جدولًا فيما يلي يسهل على القارئ معرفة العلاقة التاريخية الكائنة بين هاتيك الحروب.
فهذه الحروب القرطجنية الثلاث كما يرى القارئ في الجدول التالي قد شمِلت مدة من الزمنِ تزيد على المائة سنة، وكانت كل حرب منها أقصرَ من التي تقدَّمَتْها، ولكنها أكثر هولًا وأعظم ويلًا منها، أما فترة السلام والمهادنة فقد كانت أطول بين كل حربٍ وأخرى، وهكذا فإن الحرب القرطجنية الأولى قد استمرت أربعًا وعشرين، والحرب الثانية دامت نحو سبع عشرة سنة، والثالثة نحوًا من أربع سنوات.
وكانت فترة السلام بين الحرب الأولى والثانية أربعة وعشرين عامًا، وبين الثانية والثالثة كانت مدة المهادنة نحو خمسين عامًا، وهذه الفُروقات في مدة السلم قد تسبَّبت إلى درجة معلومة عن الظروف العرضية التي نشأت عنها عوامل الخلافِ المتتالية، فكلما طالت مدة عراكهما طال بسببها زمان تحاجزهما؛ وذلك بالنظر إلى نتائجهما الساحقة للقوى وعظيم خسائرها اللاحقة بالجانبين. وبعبارة أوضح إن كل حرب طال أمدها كثرت بالطبع خسائرها وعظمت وَيلاتها، وكان ذلك حاملًا للفريقين على ترك القتال وتطلُّب الراحة مدة طويلة بعدها. ثم إن طول زمان الراحة والسلام كان كما لا يخفى مساعدًا لكليهما على استجماع القوى، والتأهب لحرب أخرى طاحنة تتفاقم فيها الشحناء وتقوى البغضاء، وهكذا كانت تلك الحروب تتلو الواحدة منها الأخرى بعد فتراتٍ طويلة، وكان العراك عند احتدام نيرانه قصير المدة عظيم الهول وشديد الوطأة من كل وجهٍ.
التاريخ ق.م. | الحوادث |
---|---|
الحرب الأولى: ٢٤ سنة | |
٢٦٤ | ابتداء الحرب في سييليا |
٢٦٢ | معارك بحرية في بحر الروم |
٢٤٩ | روغولوس يرسل أسيرًا إلى رومية |
٢٤١ | عقد الصلح |
سلام لمدة ٢٤ سنة | |
الحرب الثانية: ١٧ سنة | |
٢١٩ | هنيبال يهاجم ساغونتوم |
٢١٨ | يجتاز جبال الألب |
٢١٦ | معركة كانيه |
٢٠٥ | سيبيو يتغلب على هنيبال |
٢٠٢ | عقد الصلح |
سلام لمدة ٥٢ سنة | |
الحرب الثالثة: ٣ سنين | |
١٤٨ | إعلان الحرب |
١٤٥ | تدمير قرطجنة |
قلنا إنه بعد انتهاء الحرب القرطجنية الثانية عقد نوعٍ من الصلح بين البلادين دام نحو خمسين عامًا، ومن المعلوم أنه في غضون هذا الزمن قام في رومية وفي قرطجنة نوابغ من الرجال كانوا منذ الصغر قد تشربوا الكرهَ الشديد الذي شعر به أهل كل بلاد نحو الأخرى متوارثينه خلفًا عن سلف، وغني عن البيان أن هنيبال طيلةَ عمره وفي كل ما كان يدبره من المكايد في سوريا ضد رومية كان العامل الأكبر على إبقاءِ نار الحقد مستعِرَة في رومية على الاسم القرطجني.
أجَل، إن حكومة قرطجنة قد تبرأت من أعماله وتدابيره، وأعلنت مقاومتها لكل مؤامراته، إلا أن رومية كانت تدرك أن عمل قرطجنة هذا ناتج عن عدم اعتقادِها بمقدرة هنيبال على إبراز تلك المكايد والمؤامرات من حيز الفكر إلى دائرة الفِعل؛ ولهذا لم تكن للرومانيين ثقة بإخلاص القرطجنيين وأمانتهم، ومن أجل هذا لم يكن بين الشعبين وفاق حقيقي أو صلح ثابت أكيد.
زد على هذا ما كان يبدو بين الفريقين من حين إلى آخر من الخلاف المؤدِّي إلى زيادة النزاع والشقاق، فإذا ألقى القارئ نظرة على الخارطة يرى بلادًا غربي قرطجنة اسمها نوميديا، ومساحة هذه البلاد مائة ميل عرضًا ويمتد طولها في الداخلية بضع مئاتٍ من الأميال، وهي إقليم كثير الخصب والثروة وفيها مدنٌ عرفت بغناها المفرط وقوتها، وكان سُكَّانها ميالين إلى الحروب ومشهورين بما عندهم من الفرسان البارعين.
وقد قال عنهم المؤرخون إنهم كانوا يمتطون صهوات جيادهم إلى حومة الوغى بلا سروجٍ، وأحيانًا بدون لجم فيديرونها بأصواتهم فقط، فإذا جرت بهم ثبتوا على متونها كأنهم ولدوا هناك بالنظر إلى ما كانوا عليه من الدربة والتمرن، وقد ورد ذكر هؤلاء النوماديين في روايات هنيبال عن حملاته، وفي كتب المؤرخين الحربيين من سائر العصور.
وكان في جملة ملوك نوميديا ملك انحاز إلى جانب الرومانيين في الحرب القرطجنية الثانية، وكان اسمه مسانيا، جرت بينه وبين ملك المقاطعة المجاورة لنوميديا منازعاتٌ وحروب، واسم الملك هذا سيفاكس، ومع أن الملك مسانيا كان مواليًا للرومانيين؛ فإن سيفاكس كان مناصرًا للقرطجنيين، وكل واحد من الملكين كان في انحيازه إلى أحد الفريقين يتوقع من فريقه مناصرته على قهر الملكِ الآخر.
وظهر أن حلفاء مسانيا قد برهَنوا على أنهم الحزب الأقوى، ففي نهاية الحرب القرطجنية الثانية عندما عُقد الصلح وسطرت شروطه، نتج عن تلك الشروط اتساع مملكة مسانيا، وأيد الرومانيون ما زيد على أملاكه، واشترطوا على أهل قرطجنة ألا يمسوه بسوء بوجه من الوجوه، ومن المعلوم أن الحكومات التي على شكل حكومتي رومية وقرطجنة كثيرًا ما يكون فيها حزبان قويان يجاهد واحدهما ضد الآخر لإحرازِ القوة والسيادة، وكان في رومية حزبان فاختلفا في شأن الخُطة التي يجب الجري عليها فيما يتعلق بقرطجنة — أحدهما كان ميالًا إلى السلم كيفما حصل، والآخر يدعو إلى الحرب على الدوام، وعلى مثل ذلك كانت الحال في قرطجنة، فإن أحد حزبيها كان يشير بمسالمة رومية وإرضائها في كل أمر وتحاشي إغضابها، والحزب الآخر الذي كان يشعر بثقل وطأة الرومانيين يدعو دائما أبدًا إلى خلق الأسباب المؤدية إلى النزاع، ومقاومة عدوتهم اللدودة كأنهم يتمنون شبوبَ نار الحرب بين المدينتين مرة أخرى.
وانقضت خمسون سنة — كما تقدم البيان — على ختام حرب هنيبال، ففي غضون هذه المدة كان سيبيو — وهو الذي قهر هنيبال — قد اختفى من مسرح السياسة، وكان مسانيا ملك نوميديا نفسه قد شاخ وتقدَّم في الأيام فأصبحَ عمره فوق الثمانين سنة، إلا أنه احتفظ بالقوة والنشاط اللتين اتصف بهما في ريعان شبابه، فجمع هذا جيشًا جرارًا وامتطى جواده — كما كان يفعل جنوده — بدون سرج، وجال من مكان إلى آخر بين الصفوف يأمر وينهى ويتمُّ تدابير المعركة.
وكان اسم القائد القرطجني في هذه الحروب أسدروبال، والاسم هذا كان كثير الاستعمال في قرطجنة ولا سيما عند أصدقاء هنيبال وأسرته وأقاربه، وقد يكون الذي سمي به قد ناله من والديه لإحياء ذكر شقيق هنيبال الذي قُتل بعد اجتيازه جبال الألب؛ لأنه في غضون الخمسين سنة التي ساد فيها السلام بين الشعبين قد توفَّر الوقت لمولود جديد لكي يبلغ سن المراهقة، وفي كل حال فقد علمنا أن أسدروبال الجديد قد ورث كل ما عرف عن سميِّه من الكره الشديد لرومية.
وعلى هذا كان هو وحزبه يتحيَّنون الفرص؛ لكي يتفوقوا على خصومهم في قرطجنة، فأدركوا ذلك، وفي الحال استغنموا وقت انتقال السلطة إليهم؛ ليجددوا ولو عرضًا وباستتار العراك مع رومية، فنفوا الزعماء المعارضين وحشَدوا جيشًا اقتاده أسدروبال بالذات وزحفوا به لمحاربة الملك مسانيا. ومن غرائب المفارقات أن هنيبال نفسه أوقد نيران الحرب مع رومية بمثل هذه الطريقة وذلك بالسعي إلى محاربة حليف رومية.
نعم إن هنيبال بدأ هجماته في ساغونتوم من إسبانيا وأسدروبال في نوميديا بأفريقيا، ولكن الظروف متماثلة بقطع النظر عن التحديات الجغرافية، وقد ظن أسدروبال أنه سوف يوجد لنفسه تاريخ حرب مجيدًا يماثل ذلك الذي خلد ذكر سميه العظيم، وقد وجدت بين حالتي الاثنين مشابهة أخرى؛ وهي أن هنيبال وأسدروبال قد تصدَّت لهما أحزاب مقاومة في قرطجنة في بدء ما صمَّما على الشروع فيه.
ولكن مقاومي أسدروبال هذا قد أُرسلوا إلى المنفى، وتشتَّت شمل حزبهم وجرى على الميالين إليهم تضييق شديد، إلا أن العناصر بقيت والأذناب المختلفة استكانت، فأقامتْ تتحين الفرص حتى إذا نابت جيش أسدروبال نائبة هبُّوا من مكانهم، وأنزلوا به الويلات وأسقطوه من شاهق مجده؛ ولهذا كان لأسدروبال عدو مزدوج؛ أحدهما أمامه في حومة الوغى، والآخر وهو أعظم قوة باقٍ وراءه في المدينة.
والمقابلة بينهما والحالة هذه تنتهي هنا، فإن هنيبال قد انتصر في ساغونتوم، وأما أسدروبال فاندحر اندحارًا مشئوما في نوميديا، فكان العراك هنا طويلًا تهالَكَ فيه الجانبان، ولكن القرطجنيين أُرغموا في النهاية على ترك مواقفهم، وتراجعوا بغير انتظام ملتجئين إلى معسكرهم، وشاهد المعركة ضابط روماني كان واقفًا على رابيةٍ مجاورة وهو ينظر إلى ذلك العراك الهائل النهار بطوله، وكان ذلك الضابط سيبيو — سيبيو الفتى الذي صار بعدئذ الممثل الأكبر في أدوار الحرب الهائلة التي تَلتْ.
كان هذا يومئذٍ من رجال الجيش الروماني المعروفين، وقد أرسل إلى إسبانيا عاملًا في الجيش، فأرسله قائده فيها إلى أفريقيا؛ لكي يجلب له عددًا من الأفيال من الملك مسانيا ليستخدمها في الجيش الروماني، فأتى نوميديا لهذه الغاية، وإذ وجد نار القتال مشبوبة هناك بين مسانيا وأسدروبال بقي ليُشاهدها، ولم يكن لسيبيو الثاني علاقة نسب بسيبيو الآخر، ولكن تبنَّاه ابن سيبيو الأكبر، وهكذا حصل على هذا الاسم بحيث أصبح حفيدًا بالتبني.
وكان هو في ذلك الحين رجلًا جليل القدر محترمًا من كل الذين عرفوه؛ لما اتصف به من الإقدام والنشاط والصفات الطيبة والرأي والتدبير، وكان موقفه بإزاء هذه المعركة من المواقف الخصوصية التي لم يوجد غيره من القواد العظام في مثلها؛ لأنه كان رسولًا عسكريًّا إلى نوميديا، ووجب عليه أن يكون متحايِدًا فلا ينحاز إلى جانب ضد الآخر؛ ولهذا اتَّخذ له موقفًا على الرابية ونظر من هناك ذلك المشهد المخيف الذي كان كأنه قد أُقيم خصوصًا؛ لكي يمتع النفس بالتفرج عليه.
وقد تكلَّم عن المعركة وعن ظهور الملك مسانيا فيها شيخًا في الرابعة والثمانين من عمره قد حنَّكته المعارك التي خاض غمراتها فيما سلَف من زمانه، وهو ممتطٍ جواده يجول به من صف إلى صف بدون سرج يأمر وينهى ويحرِّض رجاله على القتال، ويشجعهم بنشاطه وأقواله مثابرًا على ذلك من أول المعركة إلى آخرها لا تكلُّ له عزيمة ولا تبرد همة.
وتراجع أسدروبال إلى معسكره حال انتهاء المعركة وتحصَّن هناك وخندقَ على نفسه، أما مسانيا فلم يقعد عن اللحاق به، بل تبعه إلى هناك وأحاط به من كل جانب، بحيث أصبح القائد القرطجني وجيشه المحلول العزائم كالأسرى محصورين لا يستطيعون حراكًا، عندئذٍ راسل أسدروبال الملك مسانيا بشأن الصلح؛ إذ رأى ألا مناصَ له من ذلك المركز الحرج، واقترح عليه إقامة سيبيو حكمًا بين الفريقين يرتئي الشروط ويسطرها حسب وحيِ ضميره.
وكان أسدروبال عالمًا بأن سيبيو لا يمكن أن يكون خاليَ الغرض في الذي يحكم به، إلا أنه باقتراحه أن يكون سيبيو حكمًا قد اختار أهونَ الشرين، ظنًّا منه أن سيبيو يكون أقرب إلى الرفق به وأميل إلى التساهل من عدوِّه المنتصر، على أن هذا التدبير لم ينجح، حتى إن الشروط التي أشار بها سيبيو كانت في نظر أسدروبال غير محتملة، فهو قد قضى على القرطجنيين بالتخلي عن مقاطعةٍ معلومة من بلادهم للملك مسانيا.
وكان أسدروبال ميالًا إلى القبول بهذه الشروط، وكان على القرطجنيين أن يدفعوا إلى مسانيا مبلغًا من المال، ورضي أسدروبال بهذه الشروط أيضًا، ومن الشروط التي ارتأوها على أسدروبال أن يعيد إلى قرطجنة كل مقاوميه الذين نفاهُم منها. ولما كان هذا الشرط يفيد إرجاع أعداء أسدروبال إلى منصة القوة وتولي زمام الأحكام فيجلب عليه الوبال أبَى القبول به، وهكذا بقي محصورًا في معسكره، ولما رأى سيبيو أن توسُّطَه لم يقبل أخذ الأفيال التي جاء لأجلها، وركب البحر عائدًا إلى إسبانيا.
ولم يطل الوقت على جيش أسدروبال كثيرًا حتى ملَّ البقاء محصورًا، ولا سيما أن الجوع كان قد أنهك قوى الجنود وزاد بلة في طينِ شقائهم، فاضطرته هذه الحال إلى التسليم للملك مسانيا على الشروط التي يُريدها، فأطلق مسانيا سراح الرجال جميعًا، ولكن كثيرين منهم هلكوا في طريقهم إلى قرطجنة، وتمكن أسدروبال من الوصول إلى مكان اتَّخذ لنفسه فيه أسباب الحيطة؛ لاتقاء شر أعدائه الذين كانوا قد عادوا إلى قرطجنة من منفاهم عملًا بشروط الصلح، وكان حزب أسدروبال قد خسِر كل نفوذ، وطُرد من الوظائف بسبب الفشل الذي لقيه ذلك القائد في حروبه.
ولما تقلد هنيبال زمام الأمور فكر القرطجنيون أول كل شيء في محاكمة القائد بتهمة خيانة الوطن؛ لأنه قد أوقع بلاده في هذه المتاعب، وأجمع رأيهم أيضًا على إرسال وفد إلى رومية لكي يعترف لحكومتها شفاهًا بالذنب الي ارتكبتْه الأمة القرطجنية، وليعرض عليها تسليم القائد أسدروبال إليها بكونه مرتكبَ الذنب الأكبر، وليسأل الرومانيين أيضًا عما يريدونه بعد هذا للتكفير عن ذلك الذنب.
وكان الرومانيون في ذلك الوقت، وقبل وصول الوفد القرطجني يفكرون فيما يفعلونه مع قرطجنة، فكان الحزب الأقوى في البلاد يشير بالخلاف مع قرطجنة، وإعلان الحرب في الحال، ولم يصلوا إلى نتيجة من أبحاثهم إلا أنهم استقبلوا وفدَ قرطجنة ببرودة متناهية، ولم يعطوهم جوابًا نهائيًّا شافيًا، أما الترضية التي يجب على أهل قرطجنَّة القيام بها تكفيرًا عما أتوه من مخالفة شروط الصلح بشهرهم الحرب على حليفة رومية، فقال الرومانيون إن تعيينها من واجبات قرطجنة، وأما هم فلا قول لهم في المسألة في الوقت الحاضر.
فعاد الوفد إلى قرطجنة بهذا الجواب المبهم الذي أقلق القرطجنيين، وحملهم على الاحتساب وزادهم رغبة في القيام بكل ما في وسعهم؛ لاتقاء غضب الرومانيين وتحاشي الانغماس معهم في حرب، فأرسلوا وفدًا جديدًا إلى رومية يحمل إليها استعداد قرطجنَّة للقيام بكل ما يطلبه الرومانيون كائنًا ما كان، على أن هذا الوفد لم يكن واثقًا من مَقدرته على إتمام ما أرسل لأجله بالرغم من أنه قد عوض بعرض ترضيات غير محدودة، والإذعان لأعظم الشروط جورًا تحاشيًا لنكبة حربية أخرى.
ولكن الرومانيين الذين توفَّر لهم العذر الواضح بما جرى لتجديد الحرب مع القرطجنيين قد وجدوا الفرصة سانحة لضرب قرطجنة الضربة القاضية والتخلص من متاعبِها، ولا سيَّما أن أكبر أحزابهم كان لا يملُّ من التحريض على الحرب والدعوة إلى سحقِ الدولة القرطجنية. وهكذا شهر مجلس الشيوخ الروماني الحرب على قرطجنة بعد رجوع الوفد القرطجني الأولِ بقليل، فحشد الرومانيون جيشًا كثيفًا وأركبوه أسطولًا ضخمًا، وسيروهما إلى حيث يبطشان بالعدوة القديمة.
وهكذا فإنه حين وصول الوفد الثاني إلى رومية وجدَ أن الحرب التي جاء ليَتَّقيها قد أعلنت، على أن الرومانيين استقبلوه وسمعوا ما أراد عرضَه عليهم، فأبدى رجال الوفد استعداد قرطجنة للقبول بكل ما تطلبه رومية منها، والإذعان لكل شرط للتخلص من شرور الحروب، فأجاب مجلس الشيوخ بأنه ميال لتسطير معاهدة مع القرطجنيين يُوجب عليهم أن يسلموا أنفسهم نهائيًّا، ومن كل وجه للدولة الرومانية، وأن يتعهدوا بموجبها بالإذعان لأوامر القنصلين الرومانيين حال وصولهما بالجيش الروماني إلى أفريقيا مهما كانتْ تلك الأوامر، وأن الرومانيين بدورهم يضمَنون لأهل قرطجنة حريتهم وأملاكهم وشرائعهم.
ولكي يكون الرومانيون على ثقةٍ من أن أهل قرطجنة مخلصون في تسطير تلك المعاهدة، وأنهم يسيرون بحسب بنودها في مقبل الأيام، طلبوا منهم ثلاثمائة فتى يأخذونهم رهائنَ من أبناء أشرف الأسر القرطجنية، فيكون احتباسهم في رومية ذا تأثير على القرطجنيين، وإرغامهم على التقيد بشروط المعاهدة.
فوجد الوفد القرطجني هذه الشروط جائرة للغاية، وهو في الوقت نفسه لم يكن عالمًا بماهية الأوامر التي يصدرها قُنصلا الرومانيين عند وصولهما إلى أفريقيا، ذلك فضلًا عن أن رومية تطلب جعل قرطجنة بجملتها رهنَ إشارتها، وأنها تضمن لها حريتها وأملاكها وشرائعها، إلا أن الرومانيين لم يذكروا شيئًا عن مدن القرطجنيين وسُفنهم وأسلحتهم وذخائرهم الحربية، ورأى الوفد القرطجني أن رضاه بهذه الشروط يضعُ قرطجنة تحت قدمَي رومية، ويجعل قوام تجارتها وعوامل قوتها رهن إشارة الرومانيين.
على أنه كان مأمورًا بقبول كل شرط لاتقاء الوقوع في حرب، وأن يعقد صلحًا مع الرومانيين كيفما اتفق، فلم يرَ له بدًّا من الإذعان لمطاليب الرومانيين، ولكنه فعل ذلك مرغمًا وبشيء من التردد، وأعظم ما كرهه من تلك الشروط ضمان الفتيان الذين طلبت رومية ارتاهنهم، فهذه الطريقة التي جرت عليها حكومات الأزمنة الماضية من رِهان أبناء أشرف أسر الأمة المغلوبة كضمان لقيامها بما اشترط عليها في معاهدة الصلح، كان من القساوة على جانب عظيم ومن موجبات الألم للمنفصلين عن أبنائهم، ولكن عدم وجود رابطةٍ غير هذه تتقيد بها الحكومة المغلوبة بما اشترط عليها؛ حتى لا تخلف وعودها قد حمل حكومات تلك الأيام العرفية على اتخاذ هذه الطريقة.
ومع أن رجال هاتيك الأزمنة كانوا على جانبٍ كبير من القساوة والخشونة وتصلب القلوب، فإن نساءهم لم يكنَّ يختلفن عن نساء هذا الزمن الذي نحن فيه؛ ولهذا كن يقاسين الآلام الشديدة عندما يساق أولادهن أسارى إلى بلاد العدو يُحبسون فيها السنين الطوال، ويكونون معرضين لصنوف الذل والمهانة ولخطر الإعدام أيضًا، إذا ما ظن العدو أن حكومة بلادهم قد خالفت شرطًا أو ارتكبت ذنبًا.
وأدرك الوفد عند رجوعه إلى قرطجنة حاملًا هذه الشروط أنه يجلب لقومه أخبارًا محزنة، وفي الواقع أنه عندما أطلعَ أهل قرطجنة على الشروط تولاهم اليأس، وتملكهم القنوط وامتلأت المدينة صياحًا ونواحًا، وقرعت الأمهات اللواتي شعرن بقرب مفارقة أولادهن الصدور، وقصصن شعورهن وأكثرن من البكاء والنحيب صائحاتٍ مولولات متضرعات إلى أزواجهن وآبائهم بألا يُسلموا بتلك الشروط الجائرة، وقائلات إنهن يرفضن تسليم أبنائهن للأعداء.
على أن الأزواج والآباء قد شعروا بوجوب مقاومة تلك التضرعات؛ لأنهم وجدوا أنفسهم في حالة لا تساعدهم على مقاومة مشيئة الرومانيين، فجيشهم قد تبدد في عراكه مع الملك مسانيا، ومدينتهم قد أصبحت مجردة من وسائل الدفاع، وقد تدانى الأسطول الروماني من مينائهم، وأَخذت الجنود الرومانية في النزول إلى البر؛ ولهذا فإنهم لم يجدوا لهم مَناصًا من القبول بكل الشروط القاسية التي قضى بها عليهم عدوهم القاهر، إذا هم أرادوا إنقاذ أنفسهم ومدينتهم من الهلاك الذي لا بد منه.
وطلب الرومانيون إرسال الفتيان القرطجنيين كرهائن في غضون ثلاثين يومًا إلى جزيرة سيسيليا إلى ميناء في غربيها اسمه لليبوم، وكان ذلك الميناء في سيسيليا قريبًا من قرطجنة يبعد عنها عبر بحر الروم نحو مئة ميل، وعند وصولهم إلى هناك يستقبلهم حرسٌ روماني ويقتادهم إلى رومية. ومع أن الرومانيين قد أمهلوا القرطجنيين ثلاثين يومًا في إرسال أولادهم؛ فإن أهل قرطجنة صمموا على القيام بذلك في الحال ليبرهنوا لرومية بهذه السرعة على إخلاصهم، ورغبتهم الشديدة في الحصول على مرضاتهم من كل وجه.
وهكذا انتخب الأولاد واحدًا واحدًا من كل أسرة شريفة في المدينة، إلى أن اكتمل عدد الثلاثمائة، وهنا يجب أن يتصور القارئ لذاته ما حصل من المشاهد التي يرق لها الجُلمود في منازل الثلاثمائة أسرة عندما أدركتْ كل واحدة منها أن القضاء قد حلَّ، وأنها مرغمة على تسليم ابنها ووحيدها للرومانيين، وعندما تم الاختيار واصطف أولئك الفتيان على الرصيف بقصدِ ركوب السفن إلى المنفى حدث هناك ما يفتِّت الأكباد.
فوقف أولئك الفتيان منذهلين مذعورين وقد تولاهم الخوف والحزن أنهم سيفارقون أعز ما لديهم في الوجود — آبائهم وأخواتهم ووطنهم — ويذهبون إلى حيث لا يعلمون بحراسة جنود حديدية القلوب، لا تشعر بأقل تأثر لحالتهم وحالة ذويهم، وبكت الأمهات وأكثرنَ من العويل وضممن أولئك الأولاد إلى صدورهن للمرة الأخيرة، وقد علت صيحاتهم حتى امتلأ بها الفضاء.
وكان الأخوة والأخوات وقوفًا هناك — بعضهم قد أبكمه هولُ المشهد والبعض الآخر يصيح كالجريح المتألم، ومنهم من أصيب بالوجوم، فأجرى الدموع مدرارًا بدون بكاء، وفي هذا منتهى الألم للمتأمل في مشهد لا قوةَ له على الإغاثة فيه، وكان الوالدون سكوتًا يروحون ويجيئون كمن أصيب بجنة من هولِ الموقف، يكلم أحدهم الآخر همسًا ويتلفظ بكلمات غير مفهومة، وأخيرًا أخذوا الأولاد من أحضانِ أمهاتهم بطريقة اختلط فيها اللُّطف والعنف، وساروا بهم إلى السفن لركوبهم.
وشقت تلك السفن عباب البحر مبتعدة عن الشاطئ شيئًا فشيئًا، فرافقتها عيون الأمهات إلى أن غابت عن الأبصار، ومن ثمَّ رجعن إلى بيوتهن يبكين ويأبين العزاء، وتلا هذا المشهد المحزن احتساب لما سيجد على المدينة وأهلها من جانب الجيش الروماني الذي كان زاحفًا بخيله ورجله عليها، وما يفرضه من الشروط الجائرة المهينة على سكانها. فهو قد نزلَ إلى البر في يوتيكا وهي مدينة عظيمة شمالي قرطجنة، لا تبعد عنها كثيرًا وعلى ذات الخليج.
ولما رأى أهل يوتيكا الجيش الرُّوماني مقبلًا أدركوا أن العراك واقعٌ لا محالة، واستيقنوا من أن النتيجة ستكون وبالًا على قرطجنة ودمارًا لا نهوضَ لها بعده، فلكي ينجوا هُم من هذا القضاء المبرم فكروا في الخلاصِ ورأوا أن أفضل وسيلة لذلك هي أن يعقدوا محالفة مع الرومانيين ويتخلوا عن قرطجنة بالكلية، وكانوا قد سبقوا فأرسلوا وفدًا إلى رومية يعرضون عليها تسليم يوتيكا، فلم يتردد الرومانيون في إجابة سؤلهم، وهكذا جعلوا هذه المدينة ميناء لنزول جيشهم هناك للمسير إلى قرطجنة.
وحالما درى القرطجنيون بوصول جيش رومية إلى يوتيكا، أرسلوا يستفهمون عما يطلبه القنصلان منهم، ذلك لما علموه من أنهم مقيدون بشروط المعاهدة بالإذعان لكل إشارة تصدُر من القنصلين، فلما وصل وفد قرطجنة إلى يوتيكا وجد مياهها غاصَّة بسفن الرومانيين؛ فكان هناك خمسون سفينة حربية لكل منها ثلاثة أجواق من المجذفين، وحولها عدد كبير من النقَّالات، ورأوا على البر معسكرًا رومانيًّا فيه ثمانون ألفًا من المشاة، وأربعة آلاف من الفرسان بالعدة التامة والسلاح الكامل.
فلما رأى الوفد ذلك أدركَ لفوره أن القرطجنيين يعجزون عن مقاومة مثل تلك القوة الطامة، وهكذا سألوا والرعب يرجف منهم الأجسام ما هي أوامر القنصلين، فقال القنصلان إن مجلس الشيوخ الروماني يطلب من قرطجنة تقديمَ مقدار من الذرة لإطعام الجيش الروماني أول كل شيء، فعاد الوفد إلى قرطجنة يحمل إلى أهلها هذا الطلَب، فلم يرَ القرطجنيون بدًّا من تلبية طلب الرومانيين؛ لأنهم مقيدون بمعاهدة وبأولادهم المرتهنين، وبما رأوه من حول الجيش القريب منهم وطوله، فأرسلوا الذرة في الحال.
وعلى أثر ذلك وجه القنصلان إلى القرطجنيين طلبًا آخر، وهو أن يسلِّم أهل قرطجنة إلى الرومانيين كل سفنهم الحربية، فصعب هذا الطلب على القرطجنيين أكثر من الذي سبَقه، وتردَّدوا في الأمر كثيرًا إلا أنهم لم يجدوا محيصًا عنه فرضوا به بعدئذ مُرغَمين، وقد أملوا أن يكون ذلك آخر ما يطلبه الرومانيون، وأنهم عندما يرون أنهم قد أضعفوهم إلى هذا الحد يتركونهم ويعودون إلى بلادهم، حتى إذا ساعدت الأيام قرطجنة تعود وتبني أسطولًا جديدًا.
ولكن الرومانيين لم يقنعوا بذلك بل أرسلوا أمرًا ثالثًا طلبوا به من القرطجنيين أن يعطوهم كل ما لديهم من الأسلحة والمعدات الحربية المختلفة والمجانيق، ويرسلوها جميعًا إلى المعسكر الروماني، فوقع هذا الطلب عند القرطجنيين وقوع الصاعقة، وصمَّم كثيرون على رفضه والمقاومة حتى الموت ولو مهما كانت النتيجة، وحالفهم آخرون في ذلك علمًا منهم باستحالة المقاومة مع ذلك الضعف الذي وصَلوا إليه وأنهم خسروا كلَّ شيء، فضلًا عن أن أمهات الثلاثمائة ولد الذين أخذهم الرومانيون رهائن كنَّ مشددات في إجابة مطاليب الرومانيين؛ محافظة على حياة أولادهن.
وفي النهاية غُلب المقاومون على أمرِهم، واضطروا إلى التسليم مع القائلين بإجابة الطلب، فجمعت الأسلحة وحملت على مركَّبات كبيرة إلى المعسكر الروماني، وكان في جملتها مائتا لباس مدرع وما لا يحصى من الدروع والمزاريق وألفا آلة حربية أو هي المنجنيق ترمي الأحجار والأخشاب الثقيلة على الأعداء — وهكذا جردوا قرطجنة من سلاحِها.
إلا أن كل هذه المطاليب على ما فيها من الجور والحيف الذي ليس بعده، والتي استكبرها أهل قرطجنة كثيرًا لم تكن سوى تمهيدة لما سيجيء بعدها من المطاليب التي أبقاها القنصلان كخاتمة لهذه المأساة، إذ عندما صارت الأسلحة والمعدات الحربية في معسكر الرومانيين، وأصبح القرطجنيون عُزَّلًا من أدوات القتال، أعلن القنصلان لهم أن إدارة مجلس الشيوخ الروماني تقضي بتدمير قرطجنة، وهكذا صدرت الأوامر إلى السكان بمغادرة المدينة التي حالما تصبح خالية من أهلها تضرم فيها النيران لإحراقها.
وأتاح الرومانيون للقرطجنيين احتمالَ ما يستطيعون أخذه معهم من الأثاث والريش والأمتعة، وسمحوا لهم أيضًا بابتناء مدينةٍ جديدة بدلًا من مدينتهم هذه المحصنة القريبة من الشاطئ في داخلية البلاد، بحيث لا تكون أقل من عشرة أميال بعدًا عن البحر، وألا تكون محصنةً ولا يبنى حولها سور أو وسائل دفاع من أي نوع، وقال القنصلان إنه حالما تخلو المدينةُ من سكانها يجب أن تدمر بحيث لا يبقى فيها حَجر على حجر.
فهال القرطجنيين هذا الطلب الذي لم يخطر لهم ببال، وأصبحت المدينة بمن فيها من الناس الذين تولتهم الحيرة واليأس والرعب كمأوَى المجانين، ووجد القوم أنهم بإزاء هذا الطلب الجائر المتناهي في العتوِّ وفقدان الشعور الإنساني غير قادرين على الانصياعِ والسكوت، فأسكتوا صيحات الأسر التي أُخذ أبناؤها وشتَموا كل من أشار بالإذعان، وثار ثائر الغضب في صدور السكان من أقصى المدينة إلى أقصاها.
وأغلقت البوابات واقتلع بلاط الشوارع وهدمت بعض المنازل، واحتملت الأحجار التي توفرت من ذلك التخريب إلى شرفات الأسوار؛ لتستعمل بدلًا من السلاح، وأطلق الأرقَّاء وأوقفوا على الأسوار ليساعدوا في الدفاع، وأُرغم كل شخص ممن لهم إلمام بصنع السلاح على صنع السيوف والخناجر، وغير ذلك من أنواع الأسلحة التي يسهل اصطناعها بسرعة، فاستعملوا كل الحديد والنحاس الذي وجدوه، ولم يكتفوا بذلك، بل أذابوا كلَّ الأواني والأنصاب والتماثيل الذهبية والفضية وحلُّوا بذائِبها رءوس حرابهم.
ولما نفدت خيطان القنب التي كانوا يصنعون منها أوتارًا لقسيِّهم، أقدمت الأمهات والزوجات والأخوات الحسان على جزِّ شعورهن وبرمه أوتارًا؛ ليقوم مقام الخيطان في إكمال الأقواس التي اصطنعها القوم لرميِ السهام. وجملة القول أن القرطجنيين قد استفرغوا كل قواهم، وبلغوا من ذلك أقصى ما يستطيعه الاحتمال البشري، وعوَّلوا بكل ما لديهم من قوةٍ وعدة على مقاومة لا أمل لهم ببلوغ المآرب فيها مدفوعين إلى ذلك بجنون تولَّد عن جور أعدائهم المنقطع النظير.
ويذكر القارئ أن القائد أسدروبال بعد انكسارِه في محاربة مسانيا قد أضاع ما بقيَ له من النفوذ في قرطجنة، وأصبح حسب الظاهر مقهورًا مهانًا لا يجرؤ على الحراك، ولكن الأمر مع هذا الرجلِ كان على العكس من ذلك؛ فهو لم يكن خائر القوى ولا من المستسلمين الخانعين، بل جمع جيشه على مقربة من قرطجنة، وكان عدد جيشه يزداد على التوالي في غُضون هاتيك الحوادث المؤلمة بمن ينضم إليه من مقاومي المسلطين في قرطجنة.
وكان يومئذٍ في معسكره غير البعيد عن المدينة يقودُ عشرين ألف رجل، فلما وجد القرطجنيون أنهم في ضيق شديد وفي حاجة ماسَّة إلى من يناصرهم أرسلوا إليه يستنجدونه، فلبى صوت الاستغاثة وبعث من فوره فجنَّد رجال كل الأنحاء الخاضعة لقرطجنة، وجمع الأقوات والأسلحة من كل مكان وزحف بذلك الجيش لإنقاذ قرطجنة، وعندئذٍ اضطر الرومانيون بما لقوه من شدة مقاومة المعتصمين داخل الأسوار، وبطش المدافعين عنها من الخارج على التراجُع مسافة قصيرة عن المدينة، واحتفار الخنادق والتحصن في معسكرهم محافظة على سلامتهم.
وأرسل أسدروبال الأقوات إلى المدينة وبعثَ سرًّا من ألقى في الميناء سفنًا صغيرة مدهونة بالزيت، وأشعلها وسيرها طافية على وجه الماء بين سُفن الرومانيين الطافية هنالك، فنجحت تدابيره إلى حد أن سفن الرومانيين أوشكت أن تحترقَ عن آخرها، وهكذا انقلبت الحالة بطنًا لظهر ووجد الرومانيون أن آمالهم بفريستهم قد خابتْ في الوقت الحاضر، فانحصروا في معسكرهم وبعثوا الرسل إلى رومية يطلبون من مجلس الشيوخ النجَدات والأقوات والمعدات.
واتضح للرومانيين أنهم بدلًا من اقتدارهم على تدمير قرطجنة بسهولة وبدون مقاومة، قد أصبحوا الآن في مأزق حرج، وأن عهد الحرب سيطول وأن الخطر بعد أن كان مُحيقًا بأعدائهم قد أحاط بهم الآن، وقد صدق حدسهم فإنَّ هذه الحرب التي أوقدوها بجورهم وتصلفهم قد طالتْ نحو السنتين أو الثلاث سنوات، وكانت حربًا ضروسًا كثيرة الهول عظيمة الويل على الجانبين، وأقبل بعدئذ سيبيو بجيش روماني جديدٍ فكان بادئ ذي بدء قائدًا من الدرجة الثانية، ولكن شجاعته وإقدامه وتدابيره المنقطعة النظير والأعمال الباهرة التي قام بها قد جعلته طائرَ الشهرة، محبوبًا من الجنود والشعب الروماني.
ويقال إنه ذات يوم تمكن بشجاعته ودربته من إنقاذ فرقةٍ علقت بأشراك العدو؛ بحيث تعذر عليها الإفلات، فلما نجت حملها عظيم امتنانه له على صنع إكليل من العشب وتتويج رأسِ سيبيو به، بين أصوات التهليل التي ضج بها الفضاء، وقام القرطجنيون في هذا العراك بأكثر مما تستطيعه قوات البشر للذود عن حياضهم، ولكن قلة عددهم ومعداتهم وحذق سيبيو وعظيم تأنِّيه والخطط التي رسمها للقتال بالتروي الذي عُرف به قد ضيَّقت عليهم واسعات المذاهب تدريجًا مع الأيام، وحصرتهم في مكان معلوم يضيق بضغط الرومانيين يومًا عن يوم إلى أن أصبح الإفلاتُ متعذِّرًا عليهم بالكلية.
وكان سيبيو قد ابتنى رصيفًا على الماء قريبًا من المدينة، وأقام عليه المجانيق الهائلة لكي يضرب بها الأسوار، ففي ذات ليلة انسلت جماعة من القرطجنيين ومعهم مشاعل بأيديهم غير مشتعلة وأدوات لقدح النار عند الحاجة إلى ذلك، وقد وصلوا إلى الرصيف بالسباحة تارة وبالخوض طورًا، وهكذا تمكَّنوا من الصعود إلى تلك الآلات أو المجانيق، فلما تدانوا منها على مسافة معلومة، قدحوا الزناد وأشعلوا ما كان معهم من المشاعل.
فهال ذلك جنود الرومانيين الذين كانوا يحرسون المجانيق، وفروا مذعورين لا يلوون على شيء عندما أبصروا تموجات النيران متدافعة على وجه الماء، وتركوا المجانيق، فأتاها القرطجنيون وألهبوا فيها النيران وتركوا مشاعلهم، وانقلبوا إلى البحر سابحين إلى حيث أتوا بدون أن يمسهم أذًى، ولكن كل هذه الشجاعة التي أبدوها لم تُفدهم شيئًا؛ لأن سيبيو عاد فأصلح المجانيق في الحال، وثابر على الحصار كالأول.
على أننا نعجز عن وصف هذا العراك الطويل الهائل بتفاصيلِه كلها؛ ولهذا ننتقل دفعة واحدة إلى الدور النهائي الذي كان حسبما قال عنه المؤرخون فصولًا من الرُّعب، لا يمكن وصفها كما هي في الحقيقة ولا تصديقها، فبعد أن قتل عدد كبير من المحاربين في الهجمات التي قاموا بها لدخول المدينة فضلًا عن الألوف العديدة التي هلكتْ جوعًا، والذين شربوا كئوسَ الردى من التعرض للبرد وغيره من الأخطار الملازمة لمثل ذلك الحصار — بعد كل هذه الغوائل والضربات المتلاحقة، تمكن جيش سيبيو من شق صفوف المدافعين والدخول إلى المدينة.
وكان بعض السكان عندئذٍ قد خاموا وعدلوا عن متابعة الجهاد، وأقروا على التسليم لرحمة الفاتح، وبعضهم كانوا كمن أصيب بجنون فثابروا على القتال مصمِّمين إلى آخر دقيقة من حياتهم على عدم التسليم، وعلى الفتك بمن قدروا على قتله من أعدائهم المكروهين، وهكذا كانوا يحاربون متراجعين من شارع إلى شارع ومن زُقاق إلى آخر أمام الرومانيين الهاجمين، إلى أن وصلوا إلى صرح المدينة وتهيئوا للحصار فيه.
وصعدت فرقة من جيش سيبيو إلى سطوح البيوت التي كانت مستوية كما هي اليوم في الشرق، وقاتلوا مَن وجدوه من رجال قرطجنة الذين كانوا يرمون الرومانيين بما اقتلعوه من الأحجار، وقسم من الجيش الروماني كان يسير في الشوارع مقابلَ من كان منه فوق السطوح، ويعجز كل تصور عن إدراك الصياح الشديد وضجَّة السلاح، وقرعة أدوات القتال الأخرى التي كانت تتصاعد من سائر أنحاء المدينة المأهولة بالناس، تتخلل ذلك أوامر الضباط الصادرة إلى جنودهم تحثهم وتستزيدهم إقدامًا، وأصوات الظفر المرتفعة من جماهير الفاتحين، فضلًا عن صيحات الذعر والرعب الخارجة من أفواه النساء والأولاد وأنات الرجال المشرفين على الموت، وقد غاظهم دنوهم من المنية قبل إرواء الغليل من أعدائهم، فكانوا يعضون التراب من الألم وغيظ النفس التي لم تشتف بإدراك الثأر.
وبلغ المكان المعروف بحصن المدينة أشد المجاهدين شجاعة وإقدامًا، وفي طليعتهم القائد أسدروبال فاستولوا عليه، وقد كان ذلك الصرح قسمًا من المدينة على رابية وفي غاية التحصين، فزحف سيبيو إلى أن وقف أمام أسوار ذلك المكان، وأوقد النيران في منازل المدينة القريبة منه، فظلت النار تشتعل ستة أيام متوالية، ففتحت من الأسوار مكانًا رحيبًا دخلت منه عساكر الرومانيين لمكافحة القرطجنيين الذين في داخل الأسوار.
فلما رأى القرطجنيون ذلك علت صيحتهم؛ مما دل على أنهم يستثيرون شجاعة بعضهم بعضًا للقيام بهجمة شديدة على الأعداء، وهكذا جرت معركة هائلة بين الفريقين وراء الأسوار تهالك فيها المتطاحنون إلى حدِّ ما تستطيعه القوى البشرية، وكان هناك نحو ستة آلاف نفس من النساء والأولاد قد صمَّموا على الذهاب إلى سيبيو واسترحامه عنهم، فلما رأتهم زوجة أسدروبال سألته السماحَ لها بالذهاب معهم، فأنكر ذلك عليها.
وكان في ذلك الحصن جماعة من الرومانيين الذين أبقوا من المعسكر الروماني قبل ذلك بأيام، وقد أدركوا مما رأوه أنهم هالكون لا محالةَ إلا إذا جاهدوا مستميتين، فإلى هؤلاء الرومانيين الهاربين من جيشهم عهد أسدروبال في المحافظة على زوجتِه وأولاده، فاتخذوا لهم ملجأ في الهيكل الكبير الذي كان في وسط دائرة الحصن، وأخذوا معهم زوجة أسدروبال لينالها ما ينالهم.
أما أسدروبال الذي صمم على مقاومة الرومانيين إلى النهاية، فإنه خام في آخر الأمر، وأشرف على النهك لطول الجهاد ومال إلى التسليم، وقد اتهم بأقبح أنواع الخداع والمكر في سبيل استحياء نفسه، وذلك بعد أن وضع زوجته وأولاده في مأزقٍ يستحيل عليهم منه النجاة من الهلاك، ولكن المباغتات التي ترافق مثل هذه المعارك الشديدة، والسرعة المدهشة التي بها تتغير الحوادث متعاقبة في مثل هذه الظروف، وما ينشأ عن ذلك من الاضطرابات العقلية؛ كل هذه الأمور الهائلة تجرد الشخص المدعو إلى العمل فيها من كل تعقُّل وتؤدة وروية، وتبرره من كل مسئولية أدبية عما يقدم عليه كما لو كان مجنونًا.
وكيفما كان الحال فإن أسدروبال بعد أن حصَر زوجته وأولاده مع جماعة من المتهورين الذين لا يخشون المنية، والذين لا يعبئون بالتسليم توسُّلًا به إلى الخلاص، ذهب نفسه وسلم ذاته، قد يكون فعل ذلك على أمل أن يتاح له بعدئذ إنقاذهم جميعًا، وحذا الجنود القرطجنيون حذو أسدروبال ففتحوا بوابات الحصن وأدخلوا الفاتح، وكان من أمر الجماعة الفارين من جيش الرومانيين والذين جعلت معهم زوجة أسدروبال وأولاده، أنهم عندما وجدوا الخطر متدانيًا منهم، فضلوا الموت بأيديهم على أن يمنحوا أعداءَهم المسرة بقتلهم، فأشعلوا النيران في تلك البناية.
فلما اندلعت ألسنة اللهيب وتصاعد الدخان في جوانب البناء، تراكض المحصورون هناك في كل الجهات، وهم لا يدرون إلى أين يفرون، وقد خنقهم الدخان المتلبد ولسعتهم ألسنة النيران، وكان البعض منهم قد وصلوا إلى السطح في فرارِهم، وكانت زوجة أسدروبال وأولاده في جملتهم، فنظرت من ذلك العلو الشاهق وهي محاطة بالدخان واللهيب من كل جانب، وأبصرت زوجها واقفًا قريبًا من القائد الروماني في الدار، وربما كان أسدروبال عندئذٍ مفكرًا في حالة زوجته وأولاده، وكيف يتمكن من إنقاذهم، وهم في ذلك المكان الشاهق تحتاطهم النيران الآكلة، فوجود زوجها ووالد أولادها في مكان بعيد عن الخطر جعل الزوجة والأم كالمجنونة من شدَّة الغضب، فصاحت بأعلى صوتها من حيث هي واقفة وحولها أولادها، وقالت مخاطبة زوجها: «هكذا قضيت بهلاكنا يا دنيء، يا خائن لكي تخلص نفسك، إني غير قادرة على الوصول إليك شخصيًّا؛ لأنتقم منك ولهذا أقتلك في شخصية أولادك.» قالت هذا وطعنت أولادها بخنجر كان معها، ودهورتهم من هناك إلى أسفل، فسقطوا في وسط اللهيب، ورمت هي بنفسها فوقهم لتشاركهم في هلاكهم المخيف، ولما استولى الرومانيون على المدينة اتخذوا أفعل التدابير لجعل تدميرها تامًّا من كل وجه، وكان الأهلون قد فروا منها وتفرقوا بددًا في البلاد المجاورة لها، وهكذا أصبحت كلُّ تلك المقاطعة تحت سيطرة الرومانيين.
وقد حاول الناس بعدئذ إعادة بناء قرطجنة؛ إلا أنهم لم يخرجوا فكرتهم إلى دائرة العمل، فصار مكانها على ممر الأيام أشبه بمتنزهٍ على نوع ما وكان بين خرباتها أكواخ معدودة لأناس أحبوا السكنى في وسط تذكارات المجد الزائل والعظمة الهاوية إلى الحضيض، ولكنها على تمادي الأيام اندثرت بالكلية فهجرها سكان الأكواخ، ونما العشب فوقها وغطَّتها سوافي الرمال، بحيث أصبحت معرفة مكانها الآن من الأمور المتعذرة؛ إذ لا توجد علامة أو نصب يدل على موقعها.
ومعلوم أن الحرب والتجارة هما المبدآن العظيمان المتضادان اللذان يجاهدان في سبيل إحراز السيطرة على الجنسِ البشري، ووظيفة أحدهما البنيان كما أن وظيفة الآخر الهدم، فالتجارة تعمل على ابتناء المدن وحراثةِ الحقول وإتقان الزراعة، فتتولد عنها الخيرات والرفاهية وكل بركات العمل والسلام والطمأنينة، فهي تحمل التنظيم والترتيب إلى كل مكان وتحتفظ بالأملاك والأرواح، وتجرد الأوبئة من عواملها القتالة، وتقطع دابر المجاعات.
والحرب من الجهة الأخرى تدمر وتخرب أنظمة الحياة الاجتماعية وتفسدها، وتهدم المدن وتعطل المزارع وتصير بالناس إلى حالة الفاقة والعوز والبطالة والكسل الوبيل، والعلاج الوحيد الذي تعرفه لمداواة ما تنزله ببني الإنسان من الشرور هو أن تقصر زمنَ تعاسة ضحاياها بإفلات الأوبئة والمجاعات عليهم؛ لتقصف منهم الأعمار.
وعلى هذا تكون الحرب العدو الأكبر للجنس البشري، والتجارة الصديق الأكبر له، فهما مبدآن متضادان يتعاركان على الدوام للسيطرة على كل أنظمة الناس، ولما ظهر هنيبال على المسرح وجد بلاده عاملة بسلام وهناء على استبدال ما يوفِّر الرفاهية والغبطة للجنس البشري، فآلى على نفسه أن يحول كل ذلك النشاط وتلك العوامل إلى المجرى الجديد المؤدِّي إلى الاعتداء والحروب والفتوحات، فنجح في هذا المسعى أيما نجاح.
وإن لنا في الواقع من شخصيته وسيرة حياته ما يثبت لنا دون أقلِّ ارتياب سمات وسجايا البطل الحربي العظيم، فهو قد انتصر في معارك عديدة هائلة، ودمَّر بلدانًا كثيرة وعرقل مجرى التجارة وأوقفها في آخر الأمر بالكلية، وهي التي كانت سبب إسعاد العدد الكبير من الناس، ومصدر هناء الألوف من البيوت في سائر البلدان، وأوجد بدلًا منها في كل مكان أشدَّ أنواع الحاجة والمتربة والرعب والهول المستمر الذي كان يجر وراءه الأوبئة والمجاعات.
وعمل على إبقاء بلاد أعدائه في أردأ حالاتِ القلق والبلبال الدائم والألم والرعب والاحتساب أعوامًا طوالًا، وأفلت على بلاده في النهاية تيار الخراب الذي دكَّها دكًّا، وصيرها أطلالًا بالية وعمرانها يبابًا ينعق فوقه بومُ الخراب إلى هذا اليوم.
وجملة القول أن هنيبال كان أعظم أبطال الحروب التي عرفها العالم في كلِّ تاريخه.