هنيبال في ساغونتوم
كان اسم والد هنيبال هميلقار وهو من مشاهير قواد القرطجنيين، وكان وجيهًا فيهم لمقامه وثروته، ولما لأسرته من العلائق النسبية في قرطجنة، وما اشتُهر به من الدربة الحربية الفائقة التي أبداها في اقتياد الجيوش إلى ساحات الظَّفَر في البلدان الأجنبية، فهو شهر حروب قرطجنة في أفريقيا وإسبانيا، وقام بالأمر خير قيام، وذلك بعد انتهاء حروبها في رومية، وكان تائقًا إلى إعادة الكَرَّة على الرومانيين أيضًا.
وقد ورد في دائرة المعارف الإنكليزية أن الاسم هنيبال، أو «حني بعل» كان من الأسماء القرطجنية الكثيرة الاستعمال، وهو مأخوذ فيما يقال من اسم البعل، فالقسم الأخير منه «بال» أو «بعل» هو اسم الإله «البعل» الذي كان القرطجنيون يعبدونه، وما قبله يماثل قولنا «عبد» الله؛ فهو إذن يفيد أن حني بعل هو «عبد» البعل، والذي يرضى عنه البعل.
وكان هنيبال المشهور وبطل الحرب القرطجنية الثانية ابن هميلقار برقا وُلد في عام ٢٤٧ قبل المسيح، وهو وأخواه هسدوربال وماغو كانوا معروفين بلقَبٍ أعطاهم إياه والدُهم، وهو «أشبال الأسد». وعندما بلغ هنيبال التاسعة من عمره كان أبوه يتأهَّبُ للحملة على إسبانيا، فتوسل إليه أن يصحبه معه فوعده بذلك، وشرع في إقامة الحفلات الدينية وغيرها إيذانًا بدنوِّ سفره؛ إذ كانت العادة في ذلك الزمن أن الشعوب التي تؤذن بعضها بحرب تقيم الاحتفالات؛ لاسترضاء الآلهة وطلب معونة السماء.
والأمم المسيحية في هذا الزمان تفعل الشيءَ ذاته بإقامة الصَّلَوات في كل بلاد لنجاح جيوشها في المعترك، أما الوثنيون فكانوا يفعلون ذلك بتقديم الضحايا والخمور والتقدمات المختلفة، وكان هميلقار يُعِد تلك الضحايا المراد تقديمها بواسطة الكهنة وفي حضرة الجيش بكامله، وكان هنيبال حاضرًا يومئذٍ وهو ابن تسع سنين كما تقدم القول، وقد عُرف في حداثة سنه بالنشاط والإقدام والروح العالية، فشارك المحتفلين باحتفالاتهم، وصرح بعزمه على الذهاب إلى إسبانيا مع الجيش، وهكذا ألحَّ على والده ليُتيح له ذلك.
فلم يشأ والده السماحَ له بالذهاب؛ لأنه كان حديث السن بحيث لا يقوى على تحمل متاعب تلك السفرة، وما يلقى فيها الجندي من المشاقِّ المتنوعة، على أنه في آخر الأمر أتى به إلى أمام المذبح، وأمره أن يضع يده على الضحية، ويقسم اليمين المعظمة متعهدًا بأنه متى بلغ الرشد وتوفرتْ له المقدرة يتابع محاربة الرومانيين، فأقسم اليمين التي قررت مستقبل حياته، والتي إنما أرغمه عليها والده لتكبير نفسه وتحقيق آماله من حيث الذهاب مع الجيش، وقد هيَّأَ له بذلك عدوًّا كبيرًا يحاربه في مقبل الأيام.
فاحتفظ هنيبال باليمين، وقد كان شديد الشوق للوصول إلى الوقت الذي يُتاح له فيه الزحف بجيشٍ لُهام لمحاربة الرومانيين. وهكذا فإن هميلقار قضى سنة الوداع وركب البحر يريد إسبانيا، وأطلقت له الحرية أن يتوسع في فتوحاته، ويغزو كل الأنحاء الواقعة غربيَّ نهر إيباروس، وهو نهر يجده القارئ على الخارطة منسابًا جنوبًا بشرق إلى بحر الروم، وقد تبدل اسمه مع الأيام فأصبح في هذا الحين إبرو.
وكان من جملة موادِّ المعاهدة التي عقدها أهل قرطجنة مع الرومانيين: أنه لا يحق للقرطجنيين عبور نهر إيباروس، وكانوا أيضًا مرتبطين بتعهُّد في تلك المعاهدة بألا يعتدوا على سكان ساغونتوم، وهي مدينة واقعة بين نهر إيباروس وأملاك قرطجنة، وكانت ساغونتوم حليفة للرومانيين وتحت حمايتهم.
وكان هميلقار قلِقًا شديد الانزعاج لاضطراره إلى تحاشي مناهضة دولة الرومانيين، فبدأ حال وصوله إلى إسبانيا يرسم الخطط الحربية لتجديد الحرب، وكان معه تحت إمرته شابٌّ بوظيفة ملازم أول في جيشه قد تزوج بابنته اسمه هسدروبال، فاستعان به على التوسع في اجتياح إسبانيا، وتقوية موقفه هناك، واستكمال خططه تدريجًا مع الأيام لتجديد الحرب مع الرومانيين، ولكنه قبل أن يبلغ مشتهاه من ذلك أدركته المنية، فخلفه هسدروبال على القيادة.
وكان هنيبال يومئذٍ، وهو في الحادية والعشرين من عمره أو أكبر من ذلك بسنتين، باقيًا في قرطجنة، فبعث أسدروبال إلى حكومة قرطجنة بطلب هنيبال؛ ليكون معه في إسبانيا بوظيفة معلومة في الجيش، ذلك ما ورد عنه في مؤلفات أبوت عن «صانعي التاريخ»، أما دائرة المعارف البريطانية فتقول: إن هنيبال ذهب إلى إسبانيا قبل ذلك، وتمرن على الحركات العسكرية تحت مناظرة والده، وإنه حضر المعركة التي سقط أبوه فيها قتيلًا في عام ٢٢٨ قبل المسيح، وعمره يومئذٍ تسع عشرة سنة.
وكانت مسألة إرسال هنيبال إلى إسبانيا موضوعَ جدالٍ عنيف في مجلس الشيوخ القرطجني، وتلك هي الحال في كل الحكومات الانتخابات من أقدم الأزمان إلى الآن، يحتدم الجدال على أمر من الأمور بين حزبين يعارض واحدهما الآخر وتكون الأكثرية هي الفاصلة، كذلك جرى في مسألة إرسالية هنيبال؛ إذ عارض حزبَ والدِه في قرطجنة حزبٌ آخر يُضارعه في القوة، وزعم الحزب المعارض في مجلس الشيوخ اسمه هنو؛ وكان شديد العارضة في المعارضة قويَّ الحجة فصيح اللسان، فألقى خطابًا في ذلك المجلس يعارض به إرسال هنيبال إلى إسبانيا.
فقال عنه: إنه لا يزال حديث السن بحيث لا يُتوقع منه كبير أمر، فضلًا عن أن اختلاطه بالجند قد يفسد منه الأخلاق، ويؤدي إلى خرابه «أدبيًّا»، وفوق هذا وذاك فإن مسألة قيادة الجيش القرطجني في إسبانيا قد أصبحتْ من نوع الحق الوراثي فيما يظهر، ولم يكن هميلقار ملِكًا لكي يرث سلطتَه صهرُه أولًا، ثم ابنه الذي متى وُجد في الجيش يكون وجودُه كمقدمةٍ لاستيلائه على أزمة القيادة، عندما يموت هسدروبال أو يستعفي.
ويقول المؤرخ الروماني الذي ننقل عنه تفاصيل هذا الجدال: إن القوة قد انتصرت في آخر الأمر على الحكمة كالمعتاد، وجاءت نتيجة التصويت مؤيدة لمريدي إرسال هنيبال إلى إسبانيا، وهكذا ركِبَ ذلك الفتى البحر بقلبٍ مفعم بالجذل والمسرة، ولما وصل إلى إسبانيا حدثت ضوضاءُ ابتهاجٍ في الجيش الذي كان تائقًا إلى رؤية ذلك الابن؛ لأن الجنود كانوا يحبون والدَه حبًّا يقرب من العبادة، وقد صمموا على تحويل تلك المحبة إلى الابن إذا كان جديرًا بذلك.
فلم تطأْ قدماه المعسكر حتى برهن على أن هذا الشبلَ من ذلك الأسد، وحالَ وصوله قصَرَ همه على واجبات وظيفته، وعمد إلى القيام بها بنشاطٍ وصبر وتجرد، مما لفَتَ الأبصار إليه وحمَلَ الجند على التعلق به، فأصبح الرجل الفرد الذي أحرز محبةَ كلِّ فِرَق الجيش. كان لباسه بسيطًا وسلوكه شريفًا بلا صَلَف ولا عجرفة ولا كبرياء، يأكل أبسط الأطعمة ولا يتطلب رفاهة، ولا يميل إلى البطالة واللذة، ولا يكلف أحد الأنفار ما ليس في طاقتِه، ولا يميز نفسه عنهم في شيء، ولا يحاول التملصَ مما يلحق بالجندي من العَناء وشظَفِ العيش.
ينام على الثرى بين الجنود ويؤاكلهم ويشاربهم، ويسير عند الهجوم في طليعتهم، ويكون آخرَ من يغادر أرض المعركة منهم عند الرجوع للاستراحة.
ويقول الرومانيون عنه: إنه فضلًا عن هذه الصفات التي كان متحليًا بها، قد عرف بالخشونة وغلاظة الكبد وقلة الرحمة في المعارك، وكان في معاملة الأعداء داهية وفي معالجتهم باقعة، وقد يكون الأمر كذلك؛ فمثل هذه الخلال كانت مما يُرغب فيه جدًّا في ذلك الزمان، كما أنها مستحسنة كثيرًا في هذا الزمان، على أنها في نظر الأعداء تعد من القبائح.
وكيفما كان الحال؛ فإن هنيبال أصبح محبوبًا من الجيش الذي أحلَّه محل الإجلال القريب من العبادة، فثابر على الاستزادة من الاختبار العسكري في السنوات الأولى من وجوده في الجيش، وعلى التوسع في التأثير والنفوذ، إلى أن اغتال أحد الوطنيين هسدروبال بغتة، وقتله انتقامًا لوطنه، وحالَمَا سكنت ضجة الحادثة ذهب قواد الجيش في طلب هنيبال، وأتوا به بالإكرام والتهليل إلى خيمة هسدروبال، وسلموا إليه مقاليد القيادة العامة بإجماع الآراء مبتهجين مهلِّلين مستبشرين.
ولما بلغ النبأ قرطجنة أسرعت الحكومة فوافقت على عمل الجيش، وهكذا وجد هنيبال نفسه في أرفع درجات الرُّتب العسكرية، وبصيرورته قائدًا عامًّا يفعل ما يريد ازدادت رغبتُه في محاربة الرومانيين، وتعاظم شوقه إلى امتحان قوَّتِه ودربته معهم في المعترك، إلا أن البلادين كانتا في سلام، وهما مرتبطتان بمعاهدات رسمية للمحافظة عليه.
وكان النهر إيباروس الحدَّ الفاصل بين أملاك الأمتين في إسبانيا، فكان القسم الواقع شرقيَّه تحت سيطرة الدولة الرومانية، والقسم الكائن في الغرب منه تابعًا لقرطجنة، ما عدا سوغانتوم التي كان موقعُها في الغرب وهي حليفة الرومانيين، والقرطجنيون مقيَّدون بالمعاهدة مع الرومانيين للمحافظة عليها وتركها حرةً مستقلة.
ولهذا لم يكن هنيبال قادرًا على عبور نهر إيباروس ومهاجمة ساغونتوم من غير أن يعبث بالمعاهدة، وعلى هذا عقَد النية على التحرك نحو ساغونتوم والزحف على الأمم القريبة منها ذلك؛ لأنه أدرك أن أفضل الوسائل المؤدية إلى الحرب مع الرومانيين هي الاقتراب من عاصمة محالفيهم، علمًا منه بأن دُنوَّ جيشه منها يبعثُ على الاحتجاج واللجاج، فيئُول ذلك إلى اتِّقاد لظَى الحرب التي يريدها.
ويقول الرومانيون: إن هنيبال كان داهية مكارًا وذا دربة فائقةٍ في إصلاء نيران الحروب، وفي الواقع أنه قد أبدى دراية متناهية في حركاته العسكرية، وانتصر بجيش قليل على جيش أكبر منه عددًا بطريقة مدهشة وذلك في أول حروبه، فهو إذ كان عائدًا من معركة انتصر فيها مثقلًا بالغنائم والأسلاب، علم بزحف جيش على مؤخره يبلغ في العدد نحو المائة ألف رجل.
وكان قدَّامَه نهر على مسافة قريبة من جيشه، فأجهد هنيبال نفسه وجيشَه في المسير، وعبر ذلك النهر من مكان ضَحضاح لا يزيد عُمق الماء فيه على الثلاث أقدام، وأرصد قسمًا من فرسانه مستترين على محاذاة ضفة النهر، وتقدم ببقية الجيش إلى مسافة معلومة بعيدًا عن النهر؛ قصدًا منه في خَدْع الذين يلاحقونه بأنه يُسرع الخُطى؛ لينجوَ بجيشه القليل العدد.
وأبصره الأعداء على تلك الحال فاندفعوا بلا إمهال إلى اللَّحاق به، وخاضوا مياهَ النهر جماعات جماعات من أنحاء مختلفة، فلما وصلوا إلى منتصف النهر، وهم يجهدون القُوى لمغالبة المجرى والماء بالغ من أوساطهم، وقد رفعوا أسلحتهم فوق رءوسهم؛ لكيلا تُعيقهم عن الخوض في المياه وتعرقل سرعتهم، أسرع فرسان هنيبال إلى لقائهم ومهاجمتهم، وهم في ذلك المأزق الحرج.
ومعلوم أن الميزة في النهر كانت على جانب الفرسان؛ لأن جيادهم كانت مغمورة بالماء، وأما هم فكانوا فوقه وأيديهم حرة مطلقة، بينما كان أعداؤهم مغمورين إلى مناكبهم مثقلين بما كان معهم من الأسلحة وتماسكهم واحدهم بالآخر بحيث يعجزون عن الدفاع عن أنفسهم فضلًا عن القتال، وهكذا وقعوا في ارتباك متناهٍ ففروا من أمام الفرسان وتولاهم الذعر، فلم يهتدوا إلى النجاة واحتمل الماء منهم عددًا غفيرًا.
ففاز بعضهم في الخروج من النهر على أبعاد مختلفة، ولكن على الجانب الذي كان فيه هنيبال، وقد انقلبَ هو وجيشه يريدُهم فداسَتْهم الفِيَلة بأرجُلها، وهي طريقة عسكرية كانت كثيرًا ما تُستخدم في حروب تلك الأيام، ولما خلا النهر من العدو عبره هنيبال بجيشه، وأعمل السيف في رقاب من بقِيَ من الأعداء على الجانب الذي كانوا فيه، فانتصر انتصارًا مبينًا بدَّد به شملَ ذلك الجيشِ، واستولى على كلِّ البلاد الواقعة غربيَّ نهر إيباروس، ما عدا ساغونتوم التي بدأت تشعر بقلقٍ ورِعدة لقُدومه.
وأرسل أهل ساغونتوم رُسلًا إلى رومية؛ لينبئوا الرومانيين بالخطر الذي يهدِّدُهم وليطلبوا من رومية حمايتَهم من غوائله، فبذل أولئك الرسلُ جهدَهم في الوصول إلى رومية بالأسرع الممكن، ولكنهم بالرغم من جِدِّهم في ذلك بلَغُوها متأخرين؛ لأن هنيبال كان قد خلَقَ أسبابًا أدَّتْ إلى خلاف بين ساغونتوم وإحدى القبائل المجاورة لها، ثم انتصرَ للقبيلة وتقدَّم زاحفًا لمهاجمة المدينة، فتأهَّب سكان ساغونتوم للدفاع عن أنفسهم، وكانوا في الوقتِ نفسه مُعتمدين على وصول النَّجدات من رومية.
- الأول: لأنه لا يكون أمينًا على نفسِه، إذا هو عبَرَ نهر إيباروس، وتقدم إلى الأرض الرومانية تاركًا مثل تلك المدينة الغنيَّة القوية وراءَ ظهرِه.
- والثاني: لأنه وجَد من السهولة الكلية التذرعَ بواسطة سواه إلى إيجاد خلافٍ يؤدي إلى مناهضة ساغونتوم، مُلقيًا مسئولية إعلان الحرب رسميًّا على عاتق رومية، بدلًا من أن يحاول إقناع القرطجنيين بنقضِ تعهُّدهم السلمي والشروع في محاربة الرومانيين، وكان في قرطجنة كما تقدَّم القول حزبٌ كبير معاكس لهنيبال، وهذا الحزب يعارض كل حركة يقصِدُ بها شَهْرَ الحرب على رومية؛ لأن في تلك الحرب حسبما يُدركون ما يُشبع مطامعَ هنيبال كقائد.
فلم يجد هنيبال سوى طريقةٍ واحدة يتذرَّعُ بها إلى إيقاد جذوة الشر، ألا وهي التهجُّم على حُلفاء الرومانيين، وهي أفضل الطرق التي عرَضتْ له وعمل بها، وكانت ساغونتوم مدينة غنية وقوية جدًّا، وهي قائمةٌ على مسافة مِيل من شاطئ البحر، وهكذا استمرَّ الهجوم على المدينة ودفاعُ سكانها عنها وقتًا طويلًا، بلغ فيه الجهاد مُنتهى ما في مقدرة البشر، وقد عرَّض هنيبال نفسه للخطر في ذلك الهجوم مرارًا عديدة، فتدانى مرة وهو يُدير شئون القتال ويُلاحظ أمرَ تقريب آلات الرماية من السور، فأصابتْه حربةٌ رُمي بها من نوافذ السور في فخِذه، فخرقت اللحم وجرحته جرحًا بليغًا فوقَع على الأرض لساعته، واحتمله جنوده إلى مكان بعيدٍ عن ساحة القتال.
وبقي أيامًا طويلة طريحَ الفراش يعاني ألمَ الجرح، وقد انحلَّتْ قواه لما فقده من الدم، وكان جنوده في غضون ذلك على أحرَّ من الجمر خوفًا عليه، وبلغ منهم انشغال البال والاحتساب حدًّا حملهم على إبطال الحركاتِ الحربية. على أنهم حالَما علموا أن هنيبال قد تعافَى، جددوا الهجوم بأوفر شجاعة وبإقدام أعظم مما عُرف عنهم قبل ذلك.
وكان سلاح الحروب في تلك الأيام مختلفًا عما نعرفُه اليوم، ومنه نوع من السلاح يصفُه مؤرخٌ قديم، وقد رأى أهل ساغونتوم يستخدمونه في هذا الحصار بما يجعله أشبهَ بأسلحة هذه الأيام النارية، اسمه «فالاريكا»، وهو أشبه بالمزارق مُؤلَّف من عمودٍ خشبيٍّ في رأسه حربة حديدية، «ولعله الرمح المعروف عند العرب». وكان طول حربتِه ثلاث أقدام، فهذا المزراق كان يُرمى من يد أحد الجنود، أو بواسطة آلة تدفعه شديدة نحو العدو.
وأهم ما فيه مما يختلف عن الرماح: أنهم يضَعون قريبًا من رأسه الحديدي حزمةً من القنب ملفوفة عليه مشربة بالزفت وغيره من الأشياء القابلة للالتهاب، وكانوا يُشعلونها قبل رمي المزراق، فعندما ينطلق نحو العدو تزداد نارُه اشتعالًا بفِعل الريح، فتندلعُ منه ألسنة اللهيب، فإذا أصاب ترس الجندي المتصدي له انغرزَ فيه بحيث لا يمكن انتزاعُه منه، فيضطر الجندي إلى نزع الترس وتركه على الأرض.
وبينما كان سكانُ ساغونتوم يُدافعون عن أنفسِهم جهدَ إمكانهم، ويتفانَون في الذَّودِ عن مدينتهم ضد عدُوِّهم القوي المخيف، كان الرسلُ الذين وجَّهُوهم إلى رومية قد وصَلوا، وعرضوا على مجلس الشيوخ الروماني ما يخشَونه من هُجوم الأعداء على مدينتهم — إذ كانوا غيرَ عالمين بأنها هوجمت — وتضرعوا إليه لاتِّخاذ أقوى التَّدابير لمنع ما يتوقَّعُونه من الهُجوم.
فقرَّ رأي المجلس الروماني على إرسال سُفراء إلى هانيبال؛ ليسألوه عما ينوي القيام به ويحذروه من عَواقبِ مهاجمة ساغونتوم، فلما وصل أولئك السُّفراء إلى الشاطئ القريب من ساغونتوم، وجدوا الحرب قائمة على ساق وقدم والمدينة في حِصار شديد، فحاروا في أمرهم وتشاوَروا بينهم في الذي يفعلونه.
ومن المعلوم أن الأفضلَ للخارجي أو للذي يرتكب مخالفةً ألا يسمع أمرًا قد صمَّمَ قبل سماعه على عدَم العمل به، وهكذا أبَى هنيبال ببراعته التي يُسمِّيها القرطجنيون دهاءً، ويسميها الرومانيون خداعًا ومكرًا أن يقابل سفراء رومية، فوجه إليهم مَن حذَّرهم من الدُّنوِّ إلى معسكره قائلًا إن البلاد في حالة اضطراب، بحيث لا تكون سلامتُهم مضمونة إذا هم نزلوا إلى البر، فضلًا عن أنه لا يستطيع مقابلتَهم أو الإصغاءَ لما يريدون عَرضه عليه؛ لأنه في شغل شاغل بالحركات الحربية عن كلِّ مُفاوضة أو جدالٍ في أي أمر كان.
وأدرك هنيبال في الوقت نفسه أن السُّفراءَ الذين خيَّبَ آمالهم وقابلهم بمثل تلك المقابلة الفظَّة، والذين رأوا أن الحرب قد استعرَتْ وأن ساغونتوم محصورة وفي أشد ما يكون من الضِّيق، لا بد أن يُسرعوا المسير إلى قرطجنة؛ ليطالبوا الحكومة هناك بما قدَّمُوا لأجله، وعرف أيضًا أن هانو وحزبه المعادي له سوف ينتصرون للرومانيين، ويحاولون إفساد خطَّتِه عليه.
فسارع إلى إرسال سُفرائه إلى قرطجنة؛ لكي يستميلوا الحكومة إليه في مجلس الشيوخ، ويحرضوهم على رفض مطاليب الرومانيين، ويتيحوا للحربِ بين رومية وقرطجنة العودَ إلى ما كانت عليه، فصحَّ ما خمَّنه ووصل سفراء رومية إلى قرطجنة، وهناك حظوا بالمُثول أمام مجلس الشيوخ، وعرضوا عليه دعواهم قائلين: إن هانيبال قد شهر حربًا على ساغونتوم، مخالفًا بذلك المعاهدة المنعقدة بين رومية وقرطجنة، وأنه قد أبى مقابلتَهم أو الإصغاءَ لما أراد إبلاغه إياه مجلس الشيوخ الروماني بواسطتِهم.
وطلبوا من الحكومة القرطجنية التبرؤَ من عمله وتسليمه إليهم؛ لكي ينال الجزاء العادل على مخالفته المعاهدة واعتدائه على حليفة الرومانيين، ومن المعلوم أن ممالئي هنيبال في المجلس كانوا يبذلون جهودَهم في حمل الحكومة على رفض طلبِ الرومانيين باحتقار واستنكاف. أما حزب هانو من أعداء هنيبال، فكانوا يقولون: إن مطالب الرومانيين معقولة وعادلة.
ووقف هانو الزعيم المعادي لهنيبال وخطَبَ في المجلس بلهجةٍ بليغة شديدة، وذكره بأنه هو قد حذَّرَهم من إرسال هنيبال إلى إسبانيا، علمًا منه بأن مزاج ذلك القائد الناري يورِّطهم في متاعبَ مع الرومانيين لا آخرَ لها، وقال في خطابه: إن هنيبال قد خالفَ المعاهدة فهاجم ساغونتوم، وحاصرها وهي المدينة التي تعهدوا هم بشرفهم بألا يمسوها بأذًى، فلا يتوقعون مقابلة لهذا الاعتداء سوى مجيءِ مواكبِ الرومانيين لمهاجمة قرطجنة ومحاصرتِها، وأن البادئَ بالشرِّ أظلَمُ.
وقال أيضًا: إن الرومانيين كانوا متساهلين صَبُورين، فلم يتهموا قرطجنة بالأمر، بل وجهوا التهمة إلى هانيبال المذنب الحقيقي الوحيد، فبالتبرؤ من أعمال هنيبال يتخلص القرطجنيون من المسئولية، وأشار على المجلس بوجوب إرسال وفدٍ يعتذر لرومية، وبعزل هنيبال وتسليمه للرومانيين والتعويض على ساغونتوم عما لحِقها من الأضرار والخسائر.
وقام أنصار هنيبال في المجلس فدافعوا عنه بكلِّ قواهم، وأوردوا له تاريخ الحوادث المتتالية التي أدت إلى الحرب، وأظهروا أو إنهم حاولوا إظهار ساغونتوم بأنها البادئة بالعدوان، وأنها هي التي أصلَتْ جيش هنيبال حربًا لم يجد بعدَها بدًّا من مقاتلة الشر بمثله، وقالوا: إنهم هم — وليس هنيبال — المسئولون عما تلا ذلك من الشر المستطير، وتطرَّقوا من هذا إلى أنه ليس للرومانيين تحت هذه الظروف أن ينتصروا لساغونتوم، فإذا فعلوا يبرهنون عن كونهم قد فضَّلوا صداقةَ ساغونتوم على موالاة قرطجنة، وعلى هذا يكون من الجبنِ والعار على القرطجنيين أن يسلموا قائدَهم الذي قلدوه زمام القيادة، والذي أبدى عظيم استحقاقِه للثقة التي وضعها فيه القرطجنيون بشجاعته ودربته إلى أيدي ألدِّ أعدائهم الشديدي الحِقد.
ومما ورد في دائرة المعارف الإنكليزية عن ساغونتوم: أنها كانت مستعمرة يونانية مأهولة بأناس أتوها من «زانتي»، فعظُمت ونمَت وأثْرَت أيما إثراء وكانت على ولاء مع رومية، وأن هنيبال لم يشأ مهاجمتَها فورًا؛ لأنه بذلك يكون يبادئ مجلس الشيوخ والشعب الروماني بالعَداء؛ ولهذا كتب إلى حكومته في قرطجنة أن ساغونتوم تعتدي على رعايا قرطجنة المجاورين لتخومها، وتسيء معاملتهم، على أنه شرع في محاصرتها قبل انتظار الجَوَاب.
وهكذا كان هنيبال شاهرًا حربين في وقت واحد؛ الواحدة في مجلس الشيوخ القرطجني حيث كان السلاح مجادلات وبلاغة، والأخرى تحت أسوار ساغونتوم وسلاحها المنجنيق والسهام النارية، وقد فاز في الحربين إذ قرَّ رأي المجلس في قرطجنة على إعادة سفراء رومية إلى أوطانهم دون أن يَقضي لهم وطرًا، وفي الوقت نفسه كانت أسوار ساغونتوم قد تداعَتْ أمام آلات هنيبال الحربية المدمِّرة.
وأبى سكان ساغونتوم كل ما عرض عليهم من آراء التسوية وثابروا على الجهادِ إلى النهاية، فدخل جيش هنيبال الظافر المدينة زاحفًا فوق أشلاء القَتلى، وأعمل السلب والنهب وتهديم كل ما اعترضه في سيره، والإجهاز على من بقِي فيها حيًّا، وعاد السفراء إلى رومية وأخبروا مجلسَهم بأن ساغونتوم قد خرِبتْ ووقعت في قبضة هنيبال، وأن أهل قرطجنة لم يجيبوا سؤالهم ولا عرَضوا تعويضًا عن الأذى، بل تحملوا كلَّ مسئولية من هذا الوجه وهم يتأهبون للحرب.
وهكذا أتم هنيبال مقصده في تمهيد السبيل لتجديدِ الحرب مع الدولة الرومانية، واستعد للنزول إلى ميدانها بنشاطٍ وإقدام عظيمين، ودامت الحربُ الضروس التي تلت ذلك سبع عشرة سنة، وهي معروفة في التاريخ بالحرب القرطجنية الثانية، فكانت عِراكًا مخيفًا إلى الغاية بين أُمَّتين متزاحمتين تأصَّلَ فيهما العداء، وغلَتْ في صدورهما مراجل الشَّحناءِ بما لا يضارعه شيء في تاريخ الإنسان المظلم، والحوادث التي جرَّتها هذه الحرب سوف نجيء على بيانِها في الفصول التالية.