افتتاح الحرب القرطجنية الثانية
عندما تتجه الأميال في أية أُمَّة إلى جهة الحرب؛ فإنها تقدم عليها في الغالب بقوة وإجماع رأي، بحيث لا يقف في وجهِها شيءٌ، فتكون كالريحِ الهوجاء أو السيل الجارف لا يُبقي ولا يذر، كذلك كانت الحال في قرطجنة عندما جنَح الناس فيها إلى الحرب، فحزب هانو الذي كان يُعارض محاربة الرومانيين أُلقي في زاوية النسيان وأُسكت، وفاز أصدقاءُ هنيبال وأنصاره بحمل الحكومة على العمل برأيهم، وبإثارة الشعبِ برمَّتِه على التهليل للحرب والمناداة بها، وكان هذا الإجماع متأتيًا من بعض الوُجوه عن عدوَى الروح العسكرية التي هي أشبه بالوباء، تتصل من واحدٍ إلى آخر إلى أن تعمَّ الجميع.
بل هي كالنار في الهشيم إذا علِقت بمكان، وصادفتْ رياحًا امتدَّتْ ألسنة لهيبها إلى مكان والتهمتِ الأخضر واليابس، وفضلًا عن ذلك فإنه عندما استولى هنيبال على ساغونتوم وجدَ هناك أموالًا كثيرة لم يأخُذها لنفسه، بل وقفها على تقوية جيشه وتأييدِ قوته العسكرية والمدنية، وقد تهالك أهل ساغونتوم في سبيلِ منع هنيبال من الوصول إلى هاتيك الكنوز، وقاتلوا قتال المستميتين إلى النهاية وأبوا كلَّ رأي عرض عليهم للتسليم.
ويقول عنهم المؤرخ ليفي: إنهم كانوا في الجِلاد كالمجانين، حتى إنهم عندما شاهدوا الأسوار تنهار منقلبة إلى الداخل، وأدركوا أن رجاءهم بالدفاع عن حياضهم قد انقطع أوقدوا نيرانًا كبيرة في الشوارع العمومية، وألقوا فيها كلَّ الكنوز والأشياء الثمينة التي وصلت إليها أيديهم، وليس ذلك فقط بل إنَّ العدد الكبير منهم ألقوا بأنفسهم في تلك النيران؛ لكيلا يقعوا أسرى في قبضة المنتصرين فيخسر هؤلاء الكُنوزَ وأصحابها معًا.
ولكن هنيبال بالرغم من ذلك استولى على مقادير غير يسيرةٍ من الذهب والفضة، منها نقود ومنها سبائك وآنية، فضلًا عن الأبضعة الثمينة المختلفة التي اختزنها تجارُ ساغونتوم في قصورهم ومخازنهم، فاستخدمها جميعًا في تعزيز مركزه السياسي والعسكري كما تقدم القول، فدفع للجند أرزاقهم المتأخِّرة بكاملها وقسَّم بينهم أسلابًا كثيرة كانت بمثابة حصَّتِهم من الغنائم، وبعث إلى قرطجنة أسلابًا كثيرة وهدايا، بينها نقود وجواهر وأحجار كريمة إلى أصدقائه وإلى غيرهم ممن أراد اكتساب صداقتهم.
فكانت نتيجة هذا السخاء وما اشتهر في الأنحاء عن انتصاراتِه في إسبانيا أن هنيبال بلغ ذروة المجد والنفوذ والشرَف الذي لم يبلُغْه قائدٌ قبله، وانتخبه القرطجنيون واحدًا من السفطاء، وكان السفطاء أسمى موظَّفي الحكومة القرطجنية المنفِّذين وأهل الأمر والنهي فيها، فقد كانت الحكومة على نوع ما جمهورية أرستُقراطية، والجمهوريات تحذر دائمًا من إلقاء مقاليد القوة حتى القوة التنفيذية إلى شخصٍ واحد.
وكما كان لرومية قنصلان يملكان معًا، ولفرنسا بعد ثورتها الأولى مجلس إداري مؤلَّف من خمسة مديرين، كذلك كان القرطجنيون ينتخبون اثنين من السفطاء كلَّ سنة، وهكذا كانوا يسمونهم في قرطجنة. على أن كتبة الرومانيين قد أطلَقوا عليهم أسماء متعدِّدة كالسفطاء والقناصل والملوك، وعلى هذا فقد أحرز هنيبال هذا المنصب السامي، بالاشتراك مع زميله قابضًا على السلطة المدنية العليا في قرطجنة فضلًا عن أنه كان قائدَ الجيش اللُّهام الظافر في إسبانيا.
وعندما اتصلت أنباء هذه الحوادث برومية، وبلَغها خبرُ حصار ساغونتوم وتدميرها، وما أقدم عليه أهل قرطجنة من رفضِ مطاليب سفراء الرومانيين، وما هم شارعون فيه من الاستعداد الكبير للحرب تولاها الاستياء والرعب، فعقدَ مجلس الشيوخ والشعب اجتماعات ساد فيها الهِياج والتشويش، ودار فيها البحث عن أعمال القرطجنيين وعن وجوب استعدادِ الرومانيين للحَرب، وطال الجدالُ في ذلك وسط ضوضاء وحِدَّة عظيمتين، وكان الرومانيون في الواقع متخوِّفين من القرطجنيين؛ ذلك لأن حملات هنيبال في إسبانيا وما أبداه في جميعها من الدربة والشدة والبَطش قد أوقعت الرُّعبَ في قلوبهم من مآتي هذا القائد، وأدركوا من ذلك أنه مصمِّمٌ على تكييف خطَّتِه الحربية في صورة تمكِّنُه من الزحف على إيطاليا، وأنه لا يبعد أن يتابع التقدمَ إلى أبواب المدينة، فينزل بها وبهم ما أنزله بساغونتوم وسكَّانها، وقد دلَّت الحوادثُ التي تلتْ على إصابة ما حسِبوه من هذا القبيل، وعلى إدراكهم مقدرة هذا الرجل.
دامَ السِّلم بين الرومانيين والقرطجنيين بعد الحرب القرطجنية الأولى نحو ربع جيل، وفي غضون هذه المدة أدركت الأُمَّتان تقدُّمًا عظيمًا في الثروة والقوَّة والرقي، على أن القرطجنيين قد فاقوا الرومانيين من هذا الوجه، «ومن المعلوم أن الرومانيين كانوا أوفرَ نجاحًا من أعدائهم في الحرب الأولى، ولكن القرطجنيين قد برهَنُوا على أنهم أندادٌ لهم في كل أمر، مما دلَّ على سهرهم واجتهادهم؛ لكيلا تكون للرومانيين عليهم ميزة، ومن أجل هذا بدَتْ على الرومانيين أدلة الخوف من النزول مع عدوِّهم القوي في ميدان حرب جديدة، يقودهم إلى معاركها مثل ذلك القائد هنيبال.»
فقر رأيهم على توجيه وفدٍ ثان إلى قرطجنة، وبذل الجهد في المحافظة على السلام بين الشعبين قبل الإقدامِ على العراك، وانتخبوا لذلك الوفد خمسةً من أعاظم رجالهم ومن أكبر أهل الوجاهة بينهم سنًّا، وأمروهم بالسفر إلى قرطجنة، وأوصوهم أن يسألوا مجلس قرطجنة عمَّا إذا كان أقر نهائيًّا على الرضا عن أعمال هنيبال وتحمُّل مسئوليتها، فركب الوفد البحر ووصل إلى قرطجنة، ومَثَل أمام مجلسها، وهناك أوضحوا الغاية التي قدِموا لأجلها، ولكنهم كانوا يخاطبون آذانًا صمَّاء.
وأجابهم خطباء قرطجنة على كلامهم وردَّ عليهم أولئك، بحيث كان كل جانبٍ يتبرأ من اللوم في خَرْق المعاهدة ويلقيه على الآخر، وكانت ساعة هائلة يتوقَّفُ على نتيجتها سلامُ العالم، وحقن دماء مئات الألوف من الرجال وسعادة الشعبين أو تعاستهما وخرابهما، وتدمير عمران البلادين في حرب ضروس، لا يعلم نهايتها إلا الله، فكانت نتيجة الجدال اتساع الخرق لسوء الحظ، وعندها قال رجال الوفد الروماني: «إننا نعرض عليكم السلم أو الحرب فأيهما تختارون؟» فأجاب القرطجنيون قائلين: «اختاروا أنتم»، قال الرومانيون: «نختار الحرب إذن، ما دام لا مفر لنا منها»، وانفض المجلس وعاد الوفد إلى رومية.
على أنهم رجعوا بطريق إسبانيا، وكان غرضُهم من اتخاذ تلك الطريق المرور بالممالك والقبائل المختلفة في إسبانيا وفرنسا التي يمرُّ فيها هنيبال، عندما يزحف مريدًا اجتياح إيطاليا، ومحاولة حملها على نصرة رومية، على أنهم وصلوا متأخرين؛ لأن هنيبال كان قد أجهد نفسه في مدِّ نفوذه وتأصيل تأثيره في هاتيك الأنحاء، بحيث لا يقوى أحدٌ على أن يفسد ذلك عليه، ومن أجل هذا كانت البلدان التي يجيئُها الوفد الروماني طالبًا محالفتَها ترفضه متعلِّلة معتذرة بمختلف الأعذار.
من ذلك أن قبيلة ذات صولة وقوة معروفة باسم «فولسياني» قصدها الوفد الروماني، وأعلن لمجلسها العالي احتساب رومية لحربٍ أصبحت على الأبواب، ودعا الناس إلى محالفة الرومانيين، فقالوا له: «إننا نرى مما حل بساغونتوم، ماذا تكون نتيجةُ محالفتنا للرومانيين، فأنتم بعد ترككِم تلك المدينة، وهي بلا وسائل دفاع، وحيدةً في عراكها المر ضدَّ العدو الذي أحدَقَ بها من كل جانب. لا يجوز أن تتوقعوا من الأمم الأخرى الثقة بحمايتِكم، فإذا أردتم اكتساب حلفاء جدد يَنصرونكم على أعدائكم، فاذهبوا إلى أناس لم تتصل بهم نكبة ساغونتوم.»
فكان لهذا الجواب رنةُ استحسانٍ في كل ناحية سمع أهلها به، وهكذا يَئِس الوفد الروماني من إدراك مبتغاه في إسبانيا، وغادرها ذاهبًا إلى «غال»، وهو الاسم الذي عرفت به البلاد المعروفة اليوم باسم فرنسا، ولما وصلوا إلى مكانٍ معلوم كان نقطةَ دائرة النفوذ والقوة في بلاد الغال، عقدوا مجلسًا حربيًّا هناك، وكانت مظاهر المجتمعين فيه وملابسهم باعثة على الحماسة؛ لأن الذين حضروها أتوا بسلاحهم الكامل، حتى كأنهم زاحفون إلى قتالٍ لا إلى عقد مجلس شوروي ومباحثات.
وأمام ذلك المجلس عرَضَ الوفد الروماني الغايةَ التي قدم لأجلها، وأسهبَ في إطراءِ عظمة الرومانيين وما لهم من الحَول والطول، وأكد للمجتمعين أن رومية ستكون الظافرة في العراك المُقبل، وحث الغاليين على الانحياز إلى جانبها، وإنجادها وعلى امتشاق الحسام والحئُول دون مرور هنيبال في وسط بلادهم، هذا إذا خطر له جعلُ طريقِه من تلك الناحية.
وتعذَّرَ على الوفد إقناعُ ذلك المجلس بالتريُّث إلى أن يفرغ متكلِّمُوهم من إيضاح مهمَّتِهم، فكانوا كثيرًا ما يقاطعون من تكلَّم منهم بالاعتراض والصياح، وفي آخر الأمر حدثت في ذلك المجلس ضوضاء وجلبة كلها اشمئزاز واستياء يتخللها أصوات استهزاء، أخيرًا استعيد النظام ونجح كبار القوم في إسكات المتذمِّرين، وعندها أخذ النائبون عن ذلك المجلس يجيبون الرومانيين على ما طلبوه، فقالوا لهم: إن بلاد الغال لم تلقَ من رومية سوى الاعتداء والأذى، في حين أنها قد لقيت كل عناية ورعاية وموالاة من قرطجنة.
ولهذا فهم لا يريدون ارتكاب مثل هذه الحماقة، باستجلاب عواصف غضب هنيبال على رءوسهم؛ لمجرد طلب أعدائهم الألدَّاء إليهم بالانتصار لهم عليه وإنقاذهم من بَطشِه، وعلى هذه الصورة فشل الوفد الروماني في مساعيه في كل مكان، ولم يعثروا على روحٍ مسالمة لهم عاطفةٍ عليهم إلا بعد أن عبروا نهر الرون.
وشرع هنيبال عندئذٍ في رسم خططه الحربية بطريقة مبنية على التأني والحذر والتبصر؛ وذلك للزحف على إيطاليا، فهو قد أدرك أن القتال سيكون سجالًا، وأن الحملة ستبلغ درجة من التوسع عظيمة وتستغرق وقتًا طويلًا؛ ولذلك فهي تدعو إلى التدبير المدقق المبني على مزيد التأني والتؤدة، بحيث يتناول القوات التي تزحف وغيرها التي يجب استبقاؤها خلفَ الجيش.
وكان فصل الشتاء مقبلًا، وأول شيء فعله هو أنه أطلق سراحَ جانب عظيم من رجاله؛ لكي يزوروا أوطانهم، وقال لهم إن في نيته الإقدام على أمور جسيمة في الربيع المقبل، قد تبعثُ بهم إلى مسافات بعيدة وتُبقيهم وقتًا طويلًا متغيِّبين عن إسبانيا؛ ولهذا فقد رأى أن يُعطِيهم الفرصة المعترضة بين ذلك الوقت وفصل الربيع؛ لكي يزوروا أوطانهم وعيالهم ويدبروا شئونهم حسبما ينبغي.
فلطف هنيبال ورعايته وثقته التي أبداها لجُنوده جددت تعلقهم به، فذهبوا وعادوا إلى مُعسكره في الربيع، وهم متجددو النشاط والقوة والإخلاص لقائدهم، وبشوق متضاعف للقيام بواجباتهم نحوه في العمل العظيم الذي صمَّم على القيام به، وبعد أن صرفَ هنيبال جنودَه إلى أوطانهم ذهب هو إلى قرطجنة الجديدة الواقعة، كما يفهم من الخارطة إلى الغرب، بعيدًا عن ساغونتوم حيث أراد قضاء فصل الشتاء والاشتغال بإكمال الخطط التي رسَمها.
وكان عليه، فضلًا عن إعدادِ ما يلزم لزَحْفِه، أن ينظم حكوماتٍ صالحة للبلدان التي يغادرها وراءه، وعلى هذا أخذ في إعداد كلِّ ما يكفُل له إبقاء تلك البلدان في هدوء، بعيدة عن خطر الخروج والعصيان عليه بعد ارتحاله، فكان في جملة ما دبَّره تنظيم جيشٍ لإسبانيا من الجنود الذين أخذهم من أفريقيا، وأخذ الجنود التي كان عليها المحافظة على قرطجنة، وحماية حكومتها من إسبانيا.
فهو باستبدال الجنود على تلك الصورة في البلادين، قد أَلقى مقاليد السيطرة العسكرية في كل بلاد إلى عهدة جنود أجانبَ عنها، يكونون أطوعَ لقُوَّادهم وأعظم إخلاصًا وأقلَّ خطرًا من الاندغام، والجنوح إلى الأهلين الذين يُسيطرون عليهم، مما لو اختارهم من أهل البلاد عينها، وعرف هنيبال جيدًا أن البلدان والمقاطعات الإسبانية المختلفة التي أبَتْ محالفة الرومانيين وتركه، قد أُرغمت على ذلك بتأثير هداياه أو بالخوفِ من بطشه، وأنه إذا لقي اندحارًا في إيطاليا بعد التوغل فيها، فذلك الفشل يقلِّل رجاءهم من الانتفاعِ بهِباته أو خوفهم من صَولتِه، فيئُول أمرهم إلى شق عصا الطاعة له أو الانتفاض عليه.
ولكي يكون أمينًا إلى الحد المتناهي من هذا القبيل ابتدعَ هذه الخطة البديعة، وهي أنه جنَّد جيشًا من سائر الأمم التي في إسبانيا والموالية له، منتخبًا الشُّبَّانَ المتطوعين من أُسر ذات وجاهةٍ ونفوذ، وعندما اكتمل عدد هذا الجيش وتنظَّم بقواده وضباطه وجَّهه إلى قرطجنة، وغرضه من ذلك أن يفهم تلك الشعوب التي انتخب ذلك الجيش من أبنائها أنه لا يعُدُّ تلك الجنود عساكر منخرطة في سلك جيشه فقط، بل يعدُّها أسرى أو رهائن يمسكها كضَمان يكفل له إخلاصَ هاتين البلدان وطاعتها، وكان عدد ذلك الجيش أربعة آلاف رجل.
وكان لهنيبال أخٌ اسمه مثل اسمِ صهره أسدروبال من قبيل التَّصادف، فعهد إليه في القبض على زِمام الحكومة في إسبانيا مدةَ غيابه عنها، وكانت الجنود التي وضعها تحت إمرته في إسبانيا مأخوذة من أفريقيا كما تقدَّم القول، ونظم له قطعةً من الفرسان زيادة على هذا الجيش، وترك معه أربعة عشر فيلًا، وإذ كان على احتساب من إمكان هبوط الرومانيين على شاطئ إسبانيا في غضون غيابه من جانب البحر مُنتهزين فرصةَ انشغاله في إيطاليا؛ ابتنى لأخيه نحو ستين سفينة وجهَّزَها بالعُدة الكاملة منها خمسون سفينةً من الطراز الأول.
ومعلوم أن أهمية البوارج والمستزريات الحربية العصرية تتوقَّفُ على عدد المدافع التي تحمِلها، أما أهمية سفن تلك الأيام الحربية فكانت متوقِّفة على عدَد صفوف المجدفين فيها، ومن أجل هذا ابتنى لأخيه خمسين بارجةً خماسية (كونكواريوم كما كانوا يسمونها)، وهي التي كانت ذات خمسة صفوف من المجذفين، ولم يكن الرومانيون مُتهاملين في أمر الاستعداد، فهم مع كونهم قد تردَّدوا في أمر الحرب إلا أنهم وجَدوا من الضرورة الماسَّة التأهبَ لها؛ لكي — إذا فوجئوا بها — يكونوا على أتمِّ الاستعداد لخوض غمراتها بهمَّة تامة وعدة كاملة، عندما يرون ألا مناص لهم منها.
فقرَّ رأيهم على حشد جيشين عظيمَين، كلُّ جيش لقنصل من قنصليهما، ووضعوا لهما خطة حربية مآلُها أن أحد الجيشين يتقدم لملاقاة هنيبال بينما الآخرُ يقصد سيسيليا، ومنها يعبر إلى الشاطئ الأفريقي بقصد أن يهدِّد عاصمةَ القرطجنيين، فإذا نجحت هذه الخطة فإنها ترغم القرطجنيين على استدعاء قسم من جيش هنيبال أو الجيش كله من الساحة الإيطالية؛ لكي يدافعَ عن أوطانهم.
وكان عدد الجيوش التي حشدها الرومانيون نحو سبعين ألف مقاتل؛ ثلثهم جنود رومانيون والبقية مُجنَّدة من أجناس الأمم المختلفة القاطنة في إيطاليا، وفي جزائر بحر الروم الموالية للرومانيين. وكان من هذا الجيش نحو ستة آلاف فرسانًا، وكان على الرومانيين أن يعدوا أسطولًا إذا هم فكَّروا في اجتياز البَحر إلى أفريقيا، فابتنوا أسطولًا وجهزوه بكل معدات القتال، وكان عدده مائتين وعشرين سفينة من الطراز الكبير، أي الخماسي، وكان لديهم عدد من السفن الصغيرة للأعمال التي تتطلب سرعةً في السير.
وكان لدى أهل تلك الأيام سفن أكبر من السفن الخماسية، فقد ذكر المؤرخون شيئًا كثيرًا عن سُفن ذات ستة وسبعة صفوف أيضًا من المجذفين، على أن مثل هذه السفن الضخمة كانت تُستخدم بمثابة بوارج لأمراء البحر ولغير ذلك من الاحتفالات والاستعراضات؛ ذلك لأنها كانت ضخمة ثقيلة بحيث لا تصلح للعراك.
وكانت عادة الرومانيين في مثل هذه الظروف إلقاء قرعة لتقليد زمام الجيشين إلى كل واحد من القنصلين، فالجيش الذي كان عليه أن يَلقى هنيبال على طريقِه من إسبانيا أُلقيت مقاليده بحسب القرعة إلى القُنصل كرنيليوس سيبيو، واسم القنصل الآخر سمبرونيوس فهذا عهد إليه في اقتياد الجيش الذي يسير إلى سيسيليا ومنها إلى أفريقيا، ولما فرَغوا من كل هذا طُرحت المسألة نهائيًّا أمام الشعب الروماني للتصويت والموافقة النهائية عليها بهذه العبارة: «هل يقرُّ رأي الشعب الروماني على شهر الحرب ضد القرطجنيين؟»
فكان الجواب بالإيجاب، وعند ذلك أُعلنت الحرب باحتفالٍ رسمي على جاري العادة، وتلت ذلك طقوس وحفلات دينية وتقديم ضحايا لاستجلاب رضا الآلهة والاستعانة بها، ولتحريض الجنود وبث روح البَسالة في صُدورهم وإيجاد الثقة في نفوسهم بالتقاليد التي تحمل كل واحد منهم مهما كان شريرًا على الإقدام، عندما يتصور أنه أصبح تحت حماية السماء، ومتى تمَّتْ كل هذه الحفلات والطقوس يكون كل استعداد قد أُكمل.
وكان هنيبال في الوقت نفسه يزحَف متقدِّمًا مع إقبالِ فصل الربيع نحو ضفافِ نهر إيباروس، ذلك المجرى الذي يفصل التُّخوم، والذي مكَّنَه عبوره في الماضي من اجتياح الأرض التي كانت معدودة أرضًا رومانية، فاجتاز النهر بإقدامه المعروف، وزحف إلى جبال البيرنيه التي منها يتألَّف الحد الفاصل بين فرنسا وإسبانيا.
ولم يكن جنوده عندئذٍ يعرفون شيئًا عن مَراميه، فإن القادة في تلك الأيام كانوا — كما هم اليوم — يكتمون مقاصدَهم وخططَهم الحربية عن الجيوش، ذلك فضلًا عن أن جنود تلك الأيام لم تتوفر لهم الوسائل المتوفرة لجنود هذا الزمن، من حيث كثرةُ الجرائد التي لا تترك خبرًا إلا وتنشره أو سرًّا إلَّا وتفضحه للناس. وهكذا فإنه إذا كان ضباط الجيش ووجهاء القوم في رومية وقرطجنة عالمين بمقاصد هنيبال وما يرمي إليه، فإن جنوده الجهلاء المستعبدين لم يعرفوا شيئًا سوى أنهم مسيَّرون إلى عمل بعيد كثير المشقة.
ولهذا كانوا يجهَلون ما هي إيطاليا أو رومية وعظمة المملكة الواسعة التي كانوا يسيرون لاجتياحها، وهكذا فإنهم عندما وصلوا إلى جبال البيرنيه، وأدركوا أنهم سوف يُرغمون على تسلقها وقطع قِمَمها والهبوط منها بمثل ذلك العَناء، قطَّبوا وجوهَهم وتولاهم الخوَر وصار كثيرون منهم يتذمرون علَنًا، وبلغ منهم التذمر حدًّا حمل قسمًا منهم يبلغ عدده ثلاثة آلاف رجل على الانفلات من بقية الجيش، وساروا راجعين نحو أوطانهم.
ولدى البحث عَلِم هنيبال أن عشرة آلاف آخرين من جنوده قد تولاهم الشعور نفسُه فصمَّموا على اللحاق بأولئك، فالآن ما الذي يتصوره القارئ بالذي يفعله هنيبال في مثل ذلك الموقف الحرِج؟ هل يلحق الفارِّين من الجيش الذي لا يزيد عددُه على مائة ألف ويبطشُ بهم تأديبًا لهم وعبرة لغيرهم، أو أنه يتركهم وشأنَهم ويحاول بالكلام اللطيف والتشجيع إقناعَ مَن معه بالبقاء؛ لكي يبقى لديه جيش يحارب به العدو؟
إن هنيبال لم يفعل هذا ولا ذاك، بل دعا العشرة آلاف جندي الذين كانوا لا يزالون في المعسكر وهم على أُهبة الرجوع وقال لهم بصريح اللفظ: إنهم ما داموا خائفين من مُرافقة جيشه أو غير ميَّالين إلى اتباعه فليَرجعوا؛ فهو لا يريد أن يكون بين رجاله مَن ليست له الشجاعة الكافية والصبر على الجهاد، واللحاق به حيثما أراد اقتياده؛ فالجبان أو الخائر القُوى ليس له محل في جيشه؛ لأنه يكون حملًا ثقيلًا يهدُّ به قوى بقية الجيش ويفتُّ من صلابتهم.
وإذ قال هذا أمرهم بالرجوع في الحال، واستأنف المسير ببقيَّة الجيش متسلقًا الجبال، وقد تصلَّبتْ قلوبُ رجاله مما قد سَمعوه، وتضاعفَتْ شجاعتهم من كلمات التوبيخ التي قالها للرجالِ الذين تولاهم الجبن والخوف. ومن المعلوم أن عَمَلَ هنيبال هذا بالسماح لجنوده المتذمرين ليَرجعوا كان من الشهامة بمكانٍ، وقد أثَّر على جنوده الباقين، ونفخ في صدورهم روح الشجاعة والإقدام، على أنه ليس من أصالة الرأي أن يحسب عمله نبالةً مقصودة، بل هي من النوع الذي تجيء به الضرورة عندما يصبح الإنسان بين أمرين شديدين لا بدَّ له من أحدهما، فيختار الأخف.
وهذا ما يقال له سياسة، فهنيبال كما قد عُرف عنه كان شديد الوطأة لا يعرف قلبه الرحمة، ولا يلين لأمر إذا كان في اللين ضَرر أو خطر؛ ولهذا فالقائد الأريب ذو الحزم يجبُ أن يعرف متى يعاقب ومتى يُغضي ويتسامح. فهنيبال كان كالإسكندر ونابليون توفَّرت له الحكمة، وهي التي حمَلتْه في هذه الحادثة على ما فعل، وهكذا اجتاز هنيبال جبال البيرنيه، وكانت الصعوبة التي اعترضته بعدها في عبور نهر الرون.