عبور نهر الرون
لم يلق هنيبال بعد اجتياز جبال البيرنيه عوائقَ جديدة حتى انتهى إلى نهر الرون، فهو قد عَرف أن النهر عريض وسريع الجري وأن عليه أن يعبره عند مصبِّه حيث الماء عميق والضفتان منخفضتان، وفضلًا عن هذا كلِّه فقد يكون الجيش الروماني الزاحف لملاقاته، بقيادة القنصل كرنيليوس سيبيو، قد بلغ النهر ورصد هناك؛ لكي يمنع جيشَ هنيبال من العبور.
فأرسل هنيبال كتيبة تتقدمُه إلى حيث تستكشف البلاد وتستهدي إلى أفضل الطرق الموصلة إلى ذلك النهر، وبعد الوصول إليه تستمر على المصير إلى جبال الألب؛ لكي تكون على علم بالدروب والمضايق التي سيمر فيها جيشه عندما يقدم على اجتياز تلك الجبال المغطاة بالثلوج، وحدث أنه إذ كان يسير لاجتياز جبال البيرنيه، وهو بعدُ في أرض إسبانيا على الجانب الآخر منها، أن بعض القبائل التي اضطر إلى المرور في أراضيها تصدَّت له وأرادت مناوأته.
فتعين عليه أن يهاجمَها ويبطش بها، فلما انتهى منها وسار أبقَى وراءه قسمًا من رجاله في تلك الأرض التي قهر أهلَها لإرغامهم على السكون، فبلغتْ أخبار هذه المواقع أرض الغاليين وحملتهم على الاحتساب والتأهُّب للذود عن سلامتهم، وكانوا قبل وقوفهم على ما أصاب غيرَهم يظنون أن هنيبال يبغي المرورَ ببلادهم للوصول إلى إيطاليا؛ ولهذا لم يفكروا في التعرُّض له، أما الآن فقد رأوا ما حلَّ بأهل البلدان التي مرت فيها، وأيقنوا أن هنيبال مصمِّم على تدويخ كل أرض تطؤُها أقدام رجاله، فولَّدَ لهم ذلك قلقًا عظيمًا.
ولهذا عمدوا إلى أسلحتهم واجتمعوا في روسينو على عجل، وأخذوا يفكِّرون في وسائل الدفاع؛ وروسينو هذه هي البلدة التي لقي فيها سفراء رومية مجلسَ بلاد الغال العالي عند رجوعهم من قرطجنة إلى رومية، وفيما كان المجلس الغالي (أو بالحرَى الجيوش المتألبة) تفِدُ إلى روسينو ملتهبة الصدور غيظًا وحماسة، كان هنيبال في إيليباريس، وهي بلدة في سفح جبال البيرنيه، ولم يكن هنيبال يتوقع مقاومةً من الغاليين ولا يحسب لهم إن قاوموه حسابًا، على أنه كان يخشى من أن يُعيقوه.
ولم يشأ هنيبال أن ينفق شهور أوائل الصيف الثمينة في مجالدة مثل هؤلاء الأعداء، والطريق إلى إيطاليا مفتوحةٌ أمامه وهي، لا هُم، ضالتُه المنشودة، ذلك فضلًا عن أن معابر جبال الألب المشهورة بكونها صعبة الاجتياز إلا في شهري تموز وآب، وهي في كل فصول السنة الباقية تكون، أو إنها كانت، في ذلك الزمن مملوءةً بالثلوج التي يتعذَّر السير فوقها، وفي الأزمنة المتأخرة قد مُهِّدت فيها السُّبل واحتُفرتْ في صخورها الأروقة والدهاليز وأشباهها، التي تقي السائرين العواصفَ الثلجية وركامات الجليد التي تنحط عليهم من شواهق القمم؛ بحيث أصبح السفر بين فرنسا وإيطاليا بين تلك الجبال ممكنًا في كل فصول السنة إلى درجةٍ معلومة.
أما في أيام هنيبال فلم يكن اجتيازها ممكنًا في غير شهور الصيف، ولو لم يكن الإقدام على قطعها ضروريًّا لعُدَّ القيام به من نوع المخاطرة الكلية بل الحماقة المتناهية، ولا سيما مع جيش لُهام؛ ولهذا لم يستطع هنيبال إضاعةَ الوقت، فرأى من الحِكمة العمل بالتؤدة والمجاملة ومكارم الأخلاق بدلًا من استخدام النكاية والقوة، ومن أجل هذا أنفذ الرُّسل إلى مجلس روسينو ليقولوا لرجاله بغاية اللطف والملاينة: إن هنيبال يريد الاجتماع بأمرائهم وزعمائهم شخصيًّا والمفاوضة معهم، وهو إن شاءوا يتقدم إلى روسينو لهذه الغاية، أو يُقدمون هم عليه في إيليباريس إن أرادوا حيث يكون في انتظارهم.
ثم دعاهم إلى معسكره مخيرًا إياهم بالقدوم، وقال لهم إنه مستعد إذا رغِبوا في مقابلته للذهاب إليهم كصديق وحليف، وإنه لا يطمع في شيء سوى المرورِ ببلادهم، وزاد على هذا قوله إنه قد قطع عهدًا على نفسه إذا أتاح له الغاليون إتمامه، لا يُنتضى في كل جيشه سيفٌ إلا بعد أن يصل إلى إيطاليا، فانتفى بهذه الرسالة كل ما كان في صدر الغاليين من المخاوف وشعور العداء، وسُرِّي عنهم كثيرًا، فأعدوا العددَ في معسكرهم وساروا قاصدين إيليباريس، ولما وصلوا قصدَ أمراؤهم وقوادُ جيشهم معسكر هنيبال، فقوبلوا هناك بمزيد الحفاوةِ والإكرام على الصورة لم يكونوا يتوقعونها، ورجعوا من عنده مُثقَلين بالهدايا والتُّحف، وهم يلهجون بلطفه وكرَم أخلاقه وسخائه النادر المثال. وهكذا فبدلًا من أن يعمَلوا على عَرقلة مسيرِه كانوا هم أَدلَّاء الجيش وهُداته، فأخذوه أول كل شيء إلى روسينو عاصمتهم، ومن هناك بعد إبطاء يسير زحف الجيش قاصدًا نهر الرون.
وكان القنصل الروماني سيبيو في الوقت نفسه قد أعدَّ مراكبه لملاقاة هنيبال، وهي ستون مركبًا عبَّأها بالجنود عند مصبِّ نهر التيبر وأقلع يريدُ مصبَّ نهر الرون، وكان الجنود في تلك المراكب مكردسين بعضهم فوق بعض، كما تكون الحال على الغالبِ في الجيش الذي يركبُ البحار، ولم يستطيعوا التوغُّلَ في البحر لعدم وجود الحك (الإبرة المغناطيسية) في تلك الأيام، بحيث يصعب عليهم معرفة الوجهة التي يسيرون فيها إذا كان الجو غائمًا، أو كانت العواصف تهب إلا بما يرونه من البر.
ومن أجل هذا أقلعت مراكبهم ماخرة ببطء على محاذاةِ الشاطئ فكانوا يدفعونها أحيانًا بالشِّراع وتارة بالمجاذيف، وبعد معاناة المُضني من مشقَّة السفر والجوع القتَّال من قلة الزاد والدوار، وما يتسبب من تحرُّج الصدور عن انحشار ألوفِ الناس في فسحات ضيقة، الأمر الذي يفرغ معه الصبر وتزهَقُ الأرواح، وصلت المراكب الرومانية إلى مصبِّ نهر الرون، ولم يكن قواد الجيش الروماني يعلمون أن هنيبال قريبٌ من تلك النقطة، بل كل ما اتصل بهم عنه أنه قد اجتاز نهر إيباروس.
ولهذا ظنوا أنه لا يزال خلف جبال البيرنيه، وهكذا دخلوا نهر الرون في أول فرعٍ وصلوا إليه منه — ذلك لأن نهر الرون كنهر النيل يتفرَّعُ عند مصبِّه، وينصب في البحر بمجارٍ عديدة — وثابروا على المسير فيه إلى أن بلغوا مرسيليا؛ ظانين أن عَدُوَّهم لا يزال بعيدًا عنهم مئات الأميال، وربما كان قد تلبَّكَ جيشُه في دروب البيرنيه ومضايقه، ومعلوم أن هنيبال على العكس من ذلك كان عندئذٍ معسكرًا على ضفاف نهر الرون فوق المكان الذي وصلوا إليه بمسافة قصيرة، وهو يفكر في إعداد الوسائل لعبوره بصبر وهدوء.
ولما أنزل القنصل كرنيليوس جيشَه إلى البر كان جنوده في حالة من التعَبِ والدواخ الكثير، لا يقوون معها على ملاقاة هنيبال إلا بعد أن يأخذوا نصيبًا من الاستراحة أيامًا معدودة، على أن كرنيليوس انتخب من جيشه ثلاثمائة فارس، علم بمقدرتهم على الحركة ووجههم إلى أعالي النهر للاستكشاف، ولكي يعلموا مقر هنيبال ويعودوا ويطلعوه على ذلك في الأسرع الممكن، وبعد إرسالهم عمد إلى تنظيم جيشه والقيام على إتمام صفوفه؛ لكي يكون على أتمِّ الاستعداد حالَ رجوعهم.
ومع أن هنيبال لم يلقَ مقاومة شديدة في مسيره ببلاد الغال، فلا يجوز أن نظن أن الناس الذين اجتاز في وسطهم كانوا موالين له أو مسرورين من وجوده بينهم، فالجيش عبءٌ ثقيل على الدوام ولعنة على كل بلاد يدخلها، حتى ولو كان مارًّا بها غير محارب.
فالغاليون أبدَوا كلَّ صداقة لهذا الفاتح الرهيب وجموعه، على اعتقاد منهم أنه سيمر بسرعة ويرتحل عنهم، ولا سيما أنهم كانوا غير متأهبين ولا قوة لهم على محاولةِ الوُقوف في وجهه؛ ولهذا اختاروا أهون الشرَّين، وقرروا بذلَ كل خدمة ممكنةٍ له ليسرع في الابتعاد عنهم.
وظلت تلك خطة القبائل التي اجتاز في وسطها إلى أن بلغ النهر، على أن الناس المقيمين على الجانب الآخر من النهر قد وجدوا أن الأفضل لهم أن يقاوموه، فهم كانوا على مقرَبة من البلاد الرومانية، ومن المعدودين على نوع ما تحت النفوذ الروماني؛ هؤلاء كانوا يخافون من استياء الرومانيين إذا هم ساعدوا — ولو بالوقوف على الحياد — تقدُّمَ هنيبال ووصوله إلى حيث يقصد بدون أقل معارضة. ولما كان النهر عريضًا في ناحيتهم معترضًا بينهم وبين أعدائهم، فكروا في مركز يمكنهم أنهم بالنظر إلى النهر في مأمن من بطش هنيبال، وفي مركز يمكِّنهم من صدِّه عن التقدُّم.
ولما شرع هنيبال في عبور النهر كان السكان من الجانب الواحد ميَّالين إلى مساعدته، وتسهيل كل صعوبة تقفُ في سبيله، وكان سكان الضفة الأخرى يبذلون أقصى جهودِهم في عرقلة مساعيه ومنعه عن العبور، وكلاهما مدفوع إلى ذلك بالرغبة نفسِها، وهي إبعاد العدو المجتاح عن أرضه، والتخلص من ذلك الجيش الماحق الذي يبلغ عدده التسعين ألفًا. وهكذا وقف هنيبال بين أمرين متناقضين؛ أناس على جانبه يُسهِّلون له سبيل العبور مُقدِّمين له السفن والقوارب التي يملكونها، وباذلين منتهى الجهد في إبلاغه غايته من العبور، وأناس على الضفة الأخرى واقفين له صفوفًا كالجيش الراصد للكفاح بأسلحته البراقة يهدِّدُونه بالويل والثبور، إذا هو أقدم على العبور.
ورآهم هنيبال ألوفًا مصفوفة بالسيوف والرماح وخيامهم وراءهم تخفق فوقها راياتهم، وكل حركة من حركاتهم تدل على أنهم يبغون به وبجيشه شرًّا، وفي غضون تلك الفترة كان الثلاثمائة فارس الذين أرسلهم كرنيليوس للاستكشاف يسيرون على مهَل قاصدين أعاليَ النهر ليستَطلعوا طلع العدو. وبعد أن تأمل هنيبال مليًّا في هذه الحالة وهو ساكت شرَع في إعداد ما يلزم لعبور النهر، فجمع كل القوارب التي أمكَن الحصول عليها من الغاليين القاطنين على ذلك الجانب للقيام بذلك، على أن هذه القوارب لم تكن سوى مقدمة لذلك العمَل الكَبير، وبما أنها لاتكفي أخَذَ في جمع الأخشاب والأدوات لابتناء غيرها، وكانت عادة الغاليين في ذلك الإقليم أن يصنعوا القوارب من جذوع الشجَر الضخمة، ويحفرونها كقارب فيقطعون الشجرة حسب طولِ القارب، وينقرون جوفَها بالفأس والقدوم، ويصقلون كعبها الخارجي وجوانبها؛ لكي تجري على الماء بسهولة، وهي طريقة سهلة جدًّا ما برِح الناس يعملون بها إلى هذه الأيام في الأماكن التي يوجد فيها شجَر كبير.
وكانت في تلك الناحية أشجار ضخمة كثيرة وهي قريبةٌ من ضفة النهر، وكان جنود هنيبال يراقبون الغاليين في اشتغالهم بحفر القوارب فتعلَّموا منهم ذلك الفن وأتقنوه، وكان الكثيرون منهم يساعدونهم في قطع الشجر والحفر إلى أن صاروا هم أنفسهم يقطعون الشجر ويحتفرون القوارب وحدهم. ومن الجنود من رأوا في ذلك بعض البطء فصاروا يقطعون الأشجار بقياس معلوم، ويرمونها في الماء، ثم يضعونها القطعةَ بإزاء الأخرى ويربطونها معًا على شكل أرماث طافية، قائلين: إن الأمر لا يحتاج إلى قوارب رسمية فكل ما يطوف على الماء يصلح لعبور الجيش؛ لأن العبور وقتيٌّ، ويجب أن تكون وسائله وقتية ما دامت تفي بالحاجة من حَمل الجنود ومتاعهم.
وكان الأعداء الراصدون على الجانب الآخر ينظرون، ولا يستطيعون حراكًا لمنع تأهب هنيبال، فهم لو كانت لهم مدافع زماننا لأطلقوها عبر النهر، وحطموا ما هنالك من القوارب والأرماث بالقنابل بأسرع ما يقوى على بنائها القرطجنيون والغاليون، فضلًا عن أن العمالَ عنذئذ لا يستطيعون بناءها وهم هدف لضرب المدافع، ولكن الأعداء يومئذٍ لم يكن لهم سوى الحراب والسهام والأحجار تُرمى إما باليد أم بالمجانيق، بحيث لا تصل إلى المكان المقصود، وإن وصلت بعد اجتياز مسافة النهر لا تأتي بالفعل المطلوب.
ومن أجل هذا أُرغموا على النظر إلى جماعة هنيبال بسكونٍ وصبر، وأتاحوا لهم على غير رضًا منهم المثابرة على إعداد تلك التأهُّبات العظيمة لمهاجمتهم، بدون أن يكون لهم ما يساعدهم على إيقافها. وكان رجاؤهم الوحيد في الانتظار ريثما يسير العدو في القوارب والأرماث على النهر، ويريد النزول إلى البر وعندئذٍ يضربونه بما عندهم من سهام وحراب وأحجار؛ لكي يمنعوه من الوصول إلى البر.
ولو أراد جيشٌ عبور النهر، ولم يكن ثَمَّ جيش آخر على الضفة الأخرى يعارض عبورَه، لكفَتْه قوارب قليلة في العدد؛ وذلك لأنه إذ ذاك ينقلُ من الجانب الواحد إلى الآخر جماعاتٍ جماعات على التوالي، فيعيد القوارب نفسها التي حملت فريقًا واحدًا إلى حيث تجيءُ بالفريق الآخر، ولكن عندما يرصد له على الجانب الثاني عدوٌّ يريد صده، يكون من الضروري عندئذٍ أن يعُدَّ الوسائل التي تمكنه من نقل قوة كبيرة من رجاله كل مرة؛ لأنه لو أرسل قوة صغيرة إلى حيث العدو واقف، فإنه إنما يرسلها إلى الهلاك المحتم، ويُوقعها في أيدي الأعداء الذين يتربَّصُون به ريب المنون.
ومن أجل ذلك صبر هنيبال ريثما تتوفر له القوارب والأرماث والدكَّات الطافية؛ لكي يحمل عليها قطعة كبيرة من الجيش تكون قويةً بعددها ومعداتها فتعارك العدو الراصد ولها أمل بالنجاح، والرومانيون، كما قد سبقنا فقلنا، كانوا يقولون إن هنيبال داهية مكار. فهو لم يكن يميل كالإسكندر إلى الاعتماد في معاركه على التفوق في الشجاعة والقوة، بل كان يبتدع الوسائل المختلفة على الدوام، ويُعِد التدابير التي ترجِّح كفة ميزان النصر في جانبه، وذلك ما أتاه في هذه المرة.
فثابر أيامًا عديدة يتأهَّبُ ويبني القوارب ويستعرض الجيش ويصفُّ الأرماث بإزاء الشاطئ على مرأى من أعدائه، مظهرًا لهم أن جُلَّ اعتماده هو على ما لديه من جموع الرجال الذين يُقذف بهم عبر النهر دفعة واحدة، وهكذا عَمل على حَصر اهتمام العدو بتلك الاستعدادات، وكان في غُضون ذلك يدير خطة أخرى، وهي أنه وجه قطعة من الجيش خفية إلى أعالي النهر، وأمرهم بالتسلُّل خفية في الغاب وعبور النهر من مكان يبعدُ عنه، حيث كان أميالًا مَعدودة.
وكان التدبير أن هذه القطعة المرسلة، لتعبر النهر من مكان آخر، تنقض بعد التمكُّن من ذلك على الأعداء ملتفةً حولهم ومهاجمة إياهم من الوراء، وذلك لكي تعمل فيهم القتل حينما يكون هنيبال عابرًا النهر بأهمِّ كتائب جيشه، فإذا نجحتْ تلك القِطعة من الجيش بعبور النهر يجبُ أن تعلن ذلك بإشعال نار في الغابة على الجانب الآخر، فيعلم هنيبال من دخان النار المتصاعد في الجو أنها قد اجتازَت النهر.
وكان قائد هذه الفرقة ضابط اسمه هنو — وهو غير هنو عدو هنيبال الكبير الباقي في قرطجنة — فسار هنو ليلًا مبتعدًا عن النهر في بدء مسيره؛ لكيلا يراه العدو من الجانب الآخر يتقدمه الأَدِلَّاء من أهل البلاد الذين وعدوه بهدايته إلى مكان يسهُل منه عبور النهر، فسارت تلك الفرقة على محاذاة النهر مسافة خمسة وعشرين ميلًا، وهناك وجدوا النهر متَّسعًا منبسطًا والماء ضحضاحًا والمجرى غير سريع.
فقصدوا ذلك المكان بسكوتٍ وبمزيد التستر، بحيث لم يشعر بهم الأعداء الذين تحتهم على الضِّفَّة الأخرى، وكان عبورهم النهر من هناك سهلًا جدًّا؛ إذ لا يوجد من يصدُّهم فابتنوا عددًا من الأرماث، واحتملوا مَن لا يحسن السباحة من الرجال، وغير ذلك من المعدات الحربية التي يفسدها التبلل بالماء، وأما القسم الآخر منهم فعبر سباحة، وكانوا قد وضعوا الأتراس على بُطونهم ليَستعينوا بها على العبور.
وعلى هذه الصورة عبروا النهر وبلَغوا الضفة الأخرى سالمين، وتربصوا هناك يومًا كاملًا لكي تجفَّ ثيابهم وليأخذوا نصيبًا من الاستراحة، ومن ثمَّ ساروا بتمهُّل نزولًا على جانب النهر إلى أن صاروا على مقرَبة من هنيبال بحيث يَرى إشارتهم، وعندئذٍ أوقدوا النار وصاروا يتأملون في كثيف الدخان المتصاعِد منها في الجو.
ورأى هنيبال النار، فأخذ من فوره يتأهَّبُ لعبور النهر بجيشه، فنزل الفرسان في القوارب مُمسكين بأرسان خيولهم؛ لكي يقتادوها إلى الماء بحيث تتبعهم سباحة وراء القوارب، وحُملت خيول أخرى في قوارب ذات قعر مسطح؛ لكي تبلغ الجانب الآخر غير مبلَّلة، فيسهل استخدامها في الحال عند النزول إلى البر، وانتقى هنيبال أفضل رجال جيشه وعَبَر بهم النهر أولًا، وأبقى الضعفاء والذين أصيبوا بتعطيل مع معدَّات الحرب؛ لكي يجلبهم جميعًا بعد أن يكون القسم الأول من الجيش قد وصَل إلى الجانب الآخر.
وكان الأعداء على الجانب الآخر من النهر يرتبون جموعهم، ويتأهبون لمهاجمة جيش هنيبال حالَما يقتربُ من البر. وكان السكوت سائدًا في معسكر هنيبال عندما كان جَيشُه يركب القوارب والأرماث ويبعُد عن البر، ولكنهم عندما اقتربوا من تيار النهر علَتْ صيحاتُهم، وتتالت أوامر القادة للرجال بالجد في التجذيف، فأحدث اختلاط الأصوات وتدافع القوارب في مجرى النهر ضجةً كبرى ومنظرًا هائلًا، وكاد الأمر يؤدي بهم إلى تشويش كبير لولا براعة المجذفين وصبرهم.
وحالما وصلت القوارب الأولى إلى البر تأهَّب الغاليون لمقاومة مَن فيها، ورموهم بكل ما لديهم من أدوات القتال وصاحوا فيهم صيحات دوَّتْ لها هاتيك الأنحاء، وكانت عادة أولئك الأقوام الإكثار من الصُّراخ عند الإقدام على القتال؛ لتحميس بعضهم بعضًا وتحريك روح الشجاعة الهامدة، ولإرهاب العدو بتهديدهم ووعيدهم. أما ضباط هنيبال؛ فقد حثوا مُسيِّري القوارب على التقدم، وحاولوا بكل صبر وتروٍّ الوصول برجالهم إلى اليابسة.
وفي الواقع أنه لو لم يُنجِدْهم هنو برجاله من وراء الغاليين، لكانت نتيجة عبور النهر من الأمور التي يشك في نجاحها، فإنه بينما الغاليون يحاولون صدَّ القرطجنيين إلى الوراء، ومنعهم من النزول إلى البر بتصميم ومجالدة عظيمين، ذُعِروا فجأة عند سماعهم صيحات أعداء قامت من وراء ظهورهم، فكانوا كمن انقضت عليهم الصاعقة، ولما التفتوا إلى الوراء أبصروا جنود هنو تنسل إليهم من بين الغياض والأدغال بحماسة شديدة واندفاع، كاندفاع السيل الجارف.
ومن الصعب، كما لا يخفى، على جيش أن يحارب من الأمام ومن الوراء في وقت واحد. فصبر الغاليون للعدو، وثبتوا لهذه المقاومة وقتًا يسيرًا، إلا أنهم في آخر الأمر انكفُّوا عن مقاومة نزول رجال هنيبال إلى البر، وولوا الأدبار على محاذاة النهر مسافة يسيرة، توغَّلُوا بعدها في داخل هاتيك المجاهل تاركين هنو سيدَ تلك الضفة من النهر، فكانت هذه الحركة مما ساعد رجال هنيبال على الوصول إلى البر بدون عراك أو انزعاج، وحينما وصلوه استقبلهم هناك الأصدقاء بدلًا من الأعداء.
ثم شرعوا في استجلاب بقية الجيش والمعدات الحربية من الضفة الأخرى، فأتموا ذلك بسهولة؛ لأنه لم يبقَ من الأعداء من يزعجهم أو يَصُدُّهم عن ذلك. على أن قسمًا من قوتهم الحربية قد سبب لهم عناءً وإبطاءً عظيمين؛ وذلك القسم هو الفيلة التي كانت تُؤلِّف جانبًا من الجيش، فإن نقل تلك الحيوانات الضخمة فوق نهر عريض سريع المجرَى لم يكن من الهَنَات الهينات، وقد ذكر المؤرخون روايات مختلفة عن الطريقة التي تمكن بها هنيبال من إتمام ذلك، مما دلَّ على أنه استخدم وسائل متنوعة كانت إحداها كما يأتي: أن القيِّمَ على الفيلة انتَخب واحدًا منها يختلف عن البقية بنشاطه وحدَّته، وشرع في إزعاجه وإيلامه لكي يستشيط غيظًا، عندئذٍ هجم الفيل الهائج على سائقه رافعًا خرطومه ليثأر لنفسِه منه، فهرب السائق وتبعه الفيلُ وتبعته بقيةُ الفِيَلة جريًا على عادة هذا النوع من الحيوان في مثل هذه الظُّروفِ.
فهرب السائق إلى الماء متظاهرًا بالفرار من الفيل، ولحق به الفيل الثائر ورفاقه. وسبح السائق هاربًا إلى أن وصل إلى منتصف النهر، فلم تشعر الفِيَلة إلا وقد أصبحت في العُمق فاضطرت إلى السباحة للنجاة، وكان بعضها ملاحقًا للسائق جادًّا في طلبه إلى أن عبر النهر ووصل إلى الشاطئ الآخر، على أن قسمًا من الفيلة استولى عليه الخوف، فلم يجاهد واحتمله تيار الماء معه إلى مكان بعيد، وأصاب من اندفاعه مع التيار أماكنَ غير عميقة تجسسها، ونجا منها بعضهم إلى الشاطئ الواحد والبعض إلى الشاطئ الآخر.
وكانت هذه الطريقة غير تامة النجاح، فابتدع هنيبال وسيلة أفعل من هذه؛ لاستجلاب ما بقي من الفيلة، وذلك أنه ابتنى رمثًا عظيمًا جدًّا، وجلبه على الماء عند الشاطئ وغطاه بالتراب وجذور الشجر، ثم ابتنى رمثًا آخر بحجم هذا وأتى به على الماء، فوصله بالرمث الأول الواحد قدام الآخر، ومكنهما معًا بحبال وستر الأخير بالتراب والأعشاب كما فعل بالأول.
وكان الأول من هذين الرمثين ممتدًّا مائتي قدم من الشاطئ فوق الماء، وعرضه خمسون قدمًا، وأما الثاني فكان أصغر منه قليلًا.
وعندئذٍ طارد الجنود الفيلة نحو الرمثين؛ بحيث أصبحت على الرمث الأمامي، وهي تحسب لما تراه حولها أنها باقية على البر، ولما وقفت الفيلة على الرمث الأمامي أفلتَت الحبال التي تربط الرمث، وراح الرمث الأمامي طافيًا في النهر والفيلة عليه تجرُّه القوارب العديدة التي كانت قد رُبطت إلى طرفه الخارجي.
فحالَما شعرت الفيلة بالحركة غير العادية ارتعدتْ وخافت وصارت تنظر إلى ما حولها، ثم احتشدت عند أحد أطراف الرمث فوجدتْ أنها مُحاطة بالمياه من كل جانب، فراع ذلك بعضَها وتدافع حيث هوى في النهر فقذفه التيار إلى حيث أنقذه الجنود، على أن بقية الفيلة التي لم ترَ لها مهربًا من ذلك استكانت، ولم تعُدْ تبدي حراكًا إلى أن بلغت الشاطئ، علمًا منها بأن المقاومة لا تُجدي نفعًا.
في ذلك الحين إذ كانت هذه الحوادث تشغل الجيش القرطجني عن كل أمر آخر، كان الثلاثمائة جندي التي أرسلها سيبيو إلى أعالي النهر لاستطلاع طلع القرطجنيين، قد تدانَتْ من النقطة التي عندها عبر هنيبال النهر، وفي الوقت نفسه كان هنيبال لدى وصوله إلى النهر قد وجه خمسمائة جندي لاستطلاع أنباء الرومانيين، ولم يكن أحد الفريقين على علمٍ بمقدار اقترابه من الآخر، وهكذا تقابلت الطليعتان على غير انتظار في بعض الطريق، وكلا الفريقين أُرسلا للاستكشاف وليس للعراك، وكان كل منهما تائقًا إلى إحراز المجد من أسر الفريق الآخر واقتياد رجاله إلى معسكره.
فتعاركا عراكًا دمويًّا طويلًا وقُتل منهما عدد كبير متماثل على الجانبين تقريبًا، فقال الرومانيون إنهم أحرزوا النصر على أننا لا نعلم ما قاله القرطجنيون، ولكن بما أن الفريقين انسَحَبا من المعركة متراجعين نحو معسكرهما، فمن الراجح ألا يكون أحدهما قد أحرز نصرًا حاسمًا على الآخر.