هنيبال يجتاز جبال الألب
إنه يصعب على كل واحدٍ لم يرَ جبال الألب بأمِّ العين أن يتصور في ذِهنه حقيقة جمالها وعظمتها، ولم يكن هنيبال قد رأى الألب؛ على أن العالم كان يومئذٍ كما هو اليوم عالمًا بشهرتها وجلالها، ومن جملة مظاهرها الدالة على التسامي والعظمة البردُ الدائم على قمم هذه الجبال، وهذا ناتج بالطبع من علوِّها الشاهِق؛ ففي أي مكان من الكرة الأرضية نرى أننا كُلَّما علونا إلى الجو يَصير الهواء لما لا نعلم من الأسباب باردًا على التوالي مشتدًّا كلما تابعنا الصعود، بحيث تصير فوق رءوسنا مسافة ميلين أو ثلاثة من البرد المستمر القارس، ويصح هذا ليس فقط في المناطق الباردة والمعتدلة من الكرة الأرضية، بل في الأقاليم الشديدة الحرارة أيضًا، حتى إننا إذا حلقنا بمنطاد في بلاد بورنيو عند منتصف النهار، حيث تكون حرارة الشمس المحرقة فوق رءوسنا تمامًا إلى علو خمسة أو ستة أميال، نجد حرارة الشمس مع اقترابنا على الدوام منها تقل، وأشعتها تفقد حرها الشديد بالتدريج، نعم إنها مصوبة إلينا على التوالي مشرقة حوالينا وعلينا بلمعانها المعروف إلا أن حرارتها مفقودة، إنها عندئذٍ تصير كأشعة القمر ونصير نحن في وسط محيط بارد كما لو كنا في المنطقة المتجمدة.
ومن هذا الإقليم العالي ذي البرد الأزلي يهبط علينا الثلج ومن هناك يسقط، ولكنه إذا كان كالقطن المندوف قبل الوصول إلى الأرض، وهكذا فبما أن البرد صلب المادة سريع السقوط لثقله وملاسته، فهو يندفع سريعًا ويصل إلينا بشكله، وأما الثلج فينحل وينزل علينا كمطر مرطب بارد، فالمطر يبرد الهواء حولنا وعلى الأرض؛ لأنه يأتي من مناطق باردة كائنة في الهواء المتعالي فوقنا.
ومن أجل هذا تظلُّ أعالي جبال الألب ومنحدراتها حوالي القمم في شتاء دائم يخف نوعًا ولكنه لا ينقضي، فذروة جبل بلانك مُغطاة ببساط من الثلج عظيمِ السمك يماثل ببقائه على حاله ما هنالك من الصخور الصمَّاء الكائنة تحته، ومن المعلوم أن جبال الألب بجملتها أوديتها وتلالها تظل مُغطاة في فصل الشتاء، أما في الربيع فالثلوج تأخذ في الذوبان في أوديتها وما فيها من السهول.
وكثيرًا ما تنقدُّ منها جلاميد جليدية في وقت ذوبانها، فتنحط من علٍ بشدَّة متناهية تجرف معها الصخور والأشجار وتفتِكُ بما يعترضها في طريقها فتكًا ذريعًا، وفي منحدرات الجبال الشاهقة العلوِّ وحوالي الذرى السامية يبقى الثلج عالقًا في مكانه السنة بطولها، فلا يذوب منه إلا اليسير بفعل حرارة أشعة الشمس حتى في شهر تموز، وفي شقوق جبال الألب العليا وأوديته حيث يتجمع الثلج مندفعًا إليها بالرياح والعواصف الدائمة الهبوب في فصل الشتاء، تجد ركام الثلوج راسخة كالأطواد لا يُزحزحها شيءٌ من حيث هي مُقيمة.
وهي في قلبها تصير على توالي الأيام جليدًا صلبًا تحت سطحها؛ لأن القسم الأعلى منها أو السطح يأخذ في الذوبان شيئًا فشيئًا، على أن المنحلَّ منه ماء يجمد بعد انفصاله قليلًا بفعل الرياح الباردة، ويصير جلاميد من الجليد الصلب بعد انحداره في الأودية، والأخاديد التي كثيرًا ما تكون مساحتها بالطول عشرة أو خمسة عشر ميلًا وعرضها بين الميلين أو الثلاثة، وهي كتلة واحدة من الجليد الشفاف الصلب الأزرق اللونِ الذي يبلغ من العمق مئات الأقدام، وتسمى هذه الأجسام الجليدية جبال الجليد.
وهي في حركةٍ دائمة ولكنها بطيئة جدًّا، وذلك من تفاعيل ما في قلبها من حرارة الأرض المتصلة إليه، فيقال إنها تنزاح قدمًا واحدة في كل ٢٤ ساعة بالرغم مما يَبدو من صلابتها وجمودها، والواقف بإزائها يسمع ارتجاج حركتها جليًّا من وقتٍ إلى آخر، وقد تحقَّقَ الذين رأوها من هذا الأمر بأن وضعوا علامة على الجليد، وعلامة مقابلة على الصخر على جانبي الوادي، فعرفوا بذلك حقيقة تحركها ومقدار تلك الحركة.
وهاتيك الأودية هي في الواقع أنهار من الجليد قائمة بين قمم الجبال، وجارية بكل بطء ولكن باستمرار إلى حيث تجد لها مخرجًا في وادٍ كائن في سفح الجبال، فترى المياه هناك خليطًا من الجليد تارة تجري تحت طبقاته، وطورًا فوقها فتؤلف منظرًا يرتعد له المسافر، وإلى الجانبين أسوارٌ من الجليد هائلة كثيرًا ما تتصدع منها جلاميد عظيمة فتهوِي إلى المجرى فيسمع لها دويٌّ شديد، فإذا أقبل صيف شديد الحرارة يذوب معظمها ويُحدث طوفانًا في السهول المجاورة يجرف في طغيانه الأشجار والمزروعات والمنازل.
وجبال الألب واقعة بين فرنسا وإيطاليا وأوديتها العظيمة، وسلاسل الجبال مكوَّنةٌ على صورة تجعل عبورها متحتمًا على مريد المرور من بلاد أخرى، ولكن تلك السلاسل الجبلية ليست على شيء من الانتظام بل تتخللها الوِهاد والمهاوي الكثيرة والأخاديد العظيمة، وفي تلك السلاسل ما يرتفع قممًا لها في الجو رواعف، ومنها ما يكون بشكلِ قباب، ومنها ما هو كالمسلَّات المصقولة لا يعلق بها ثلج، ولا تستطيع الوعولُ اجتيازَها والتوغلَ فيها.
فحول هذه القمم وبين تلك المضايق تمتد الدروب متعرِّجة صعدًا على الدوام، فيكون السائر فيها حينًا على شَفَا جرفٍ هارٍ، وحينًا تحته وقلبه يدق وجلًا من شيءٍ يدفعه إلى أعماق الهوة السفلى الفاغرة فاها لالتهام كل من يهبط به نكَد الطالع إلى أعماقها التي لا يُدرك لها غور. ومن تلك الأعالي المخيفة يُطل السائر على سهولٍ منبسطة سندسية الحلة، فيها الأشجار والمزروعات المختلفة التي تجعلها من أجمل ما تقعُ عليه العيون تتخللها البيوت الجميلة الهندسية، وتسير في طرقاتها وبين حقولها الماشية على اختلاف أجناسها تقتاتُ مما هنالك من الأعشاب والكلأ.
فتصميم هنيبال على اقتياد جيش إلى إيطاليا عبر جبال الألب بدلًا من نقل الجنود على الجواري في البحر، كان ولا يزال معدودًا من أعظم الأعمال في الأزمنة الذاهبة، فهو قد تروَّى قليلًا مترددًا فيما إذا كان يسير نازلًا في نهر الرون، ويلاقي سيبيو ويعاركه أو أنه يترك الجيش الروماني ذاهبًا في سبيله، ويقصد هو إيطاليا من طريق جبال الألب. وكان ضباط هنيبال وجنوده الذين أدركوا شيئًا من مقاصد قائدِهم، وعلموا إلى أين هُم ذاهبون تائقين لملاقاة الرومانيين.
ولكنهم كانوا خائفين من جبال الألب كارهين لما يتوقعونه من معاناة اجتيازها. أما العدو فإنهم يرغبون في الاقتتال معه أينما وُجد؛ لأن الحرب مهنتهم وقد اعتادوا فلا يحسبون لها حسابًا؛ لأنهم يفهمونها ولذلك لا يهولهم أمرها كما يهولهم أمر الصعود في جبال شاهقة تغطيها الثلوج وركام الجليد، فلا يدرون في أية ساعة تزلُّ بهم القدم من فوق الجرُف والمنحدرات المخيفة، فيهوون إلى حيث يتعذر عليهم الخلاص، ويموتون بردًا وجُوعًا في تلك الثلوج الأزلية.
ولما أدرك هنيبال أن جنوده في خوفٍ مِن تسلق تلك الجبال دعا إليه قوادهم، وألقى عليهم خطابًا لامهم فيه وعنَّفهم على استسلامهم للجزع الذي لا موجب له، بعد أن لاقوا صعوبات قاصمة للظهور فقهروها وتغلبوا على أعظم الأخطار، فقال لهم: «إنكم اعتليتم قمم جبال البيرنيه وعبرتم نهر الرون، وأنتم الآن مواجهون لجبال الألب التي هي مفتاح بلاد العدو، فماذا تحسبون جبال الألب؟ إنها ليست سوى تلال عالية، وليس فيها ما يخيف أو يوجب كل هذا الذعر.
ولنفرض أنها أعلى من جبال البيرنيه، فهي غير بالغة عنان السماء في السمو، وبما أنها ليست في شيء من ذلك فتسلقها غير مستحيل، بل إن الناس يجتازونها كل يوم وهي في الواقع مأهولة بالناس الذين يحرثون بطاحها، والسياح يجتازونها ذهابًا وإيابًا في كل حين، والذي يقوى عليه الفرد يقوى عليه الجيش؛ إذ ما الجيش إلا عدد غفيرٌ مؤلف من أفراد، فضلًا عن أن الجندي الذي لا يحمل معه إلا عدةَ حربه لا يجد صعوبة في تسلق الجبال، مهما كانت شاهقة هذا إذا كان ذا شجاعة ونشاط.»
وبعد الانتهاء من الكلام شعر هنيبال بأن رجاله قد تشجَّعوا بما ألقاه عليهم، وهكذا أمرهم بالانصراف إلى خيامهم ليرتاحوا ويتأهبوا للسير في اليوم التالي، فانصاعوا له ولم يبدوا أقل مقاومة بعد ذلك، على أن هنيبال لم يقصد جهة جبال الألب رأسًا على أثر ذلك، فهو لم يكن يعرف شيئًا عن تدابير سيبيو الذي كان تحته كما يذكر القارئ عند القسم الأسفل من نهر الرون مع جيشه الروماني، ولم يرد هنيبال أن ينفق وقته وقوته ضياعًا بمعاركة سيبيو في بلاد الغال، بل فضَّلَ متابعة الزحف، واجتياز جبال الألب إلى إيطاليا بالأسرع الممكن.
وهكذا فإنه لخوفه من مسير سيبيو في وسط البلد ليعترضه إذا هو حاول الزحف في طريق مستقيمة، صمم النية على الجنوح شمالًا صاعدًا على ضفاف نهر الرون، ثم إلى أن يتوغل مسافة معلومة في الداخلية، بقصد أن يصلَ جبال الألب في آخر الأمر بدَوره. وفي الواقع إن الخطة التي دبرها سيبيو هي أن يلتقي هنيبال ويهاجمه على عجَل، وعلى هذا فإنه حالَما عادت فرسانه أو الذين نجوا منهم من عراكهم مع القرطجنيين على مقربة من معسكرهم جمع قواته، وسار يريده صعدًا على ضفاف النهر.
ووصل إلى المكان الذي عبر هنيبال عنده النهر بجيشه، فوجد تلك البقعة في حالة الخراب والتشويش قد دِيس فيها العشب والبقول على استدارة ميل واحد، وآثار القرطجنيين مبعثرة في كل مكان، ولا سيما آثار النيران التي أوقدوها في معسكرهم هنالك، ووجد أغصان الأشجار ملقاةً على الأرض هنا وهناك وجذوعها مقطوعة، فعلم أنها استخدمت في عبور النهر ورأى بقايا الأرماث والأطواف والقوارب، وما لا يُحصى من الأسلحة التي تُركت أو أضاعها أصحابها، وعددًا كبيرًا من جثث الغرقى أو القتلى وبعضهم من رجاله. كل هذه الآثار رآها، ولكن الجيش قد غادر المكان إلى جهة غير معروفة.
على أنه لقي هنالك جماعات من أبناء تلك الناحية، وغيرهم من الذين قصدوا ذلك المكان للتفرج على ما تركه الجيش القرطجني في تلك النقطة التي قُدر لها أن تصير مذكورةً في تاريخ العالم على توالي الأجيال، فمن هؤلاء عرَف القائد الروماني سيبيو إلى أين ذهب هنيبال، وفي أي وقت برح المكان، وقرر في فكره أن اللحاق به لا يأتي بفائدة، فحار فيما يقدم عليه وهو قد عهد إليه في الدفاع عن إسبانيا بالقرعة، ولكن بما أن العدو الكبير الذي تعيَّن عليه البطش به قد ترك إسبانيا بالكلية، فلم يبقَ له أملٌ بالوقوف في وجهه وصده عما يبغيه إلا بالرجوع إلى إيطاليا، وملاقاته حالَما يهبط من جبال الألب إلى وادي «بو» الكبير، ومع هذا فإنه ما دام أمر إسبانيا قد وُكل إلى عهدته لا يرَى من الحكمة التَّخلي عنها بتاتًا، وبناء على هذا الزعم وجَّه قِسمًا من جيشه إلى إسبانيا لكي يبطش بالجيوش التي أبقاها هنيبال، وسار هو مع القسم الأكبر من جيشه إلى شاطئ البحر، وأقلع من هناك عائدًا إلى إيطاليا.
وتوقع سيبيو أن يجد جنودًا رومانية في وادي «بو» يتقوى بها على ملاقاة هنيبال حالَ هبوطه من الجبال، هذا إذا تسنَّى له اجتيازها سالمًا، وكان هنيبال في الوقت ذاته جادًّا في قطع الجبال وهو يقترب شيئًا فشيئًا من قِممها المتوَّجة بالثلوج التي رآها جنوده من قبل ملاصقة للأفق وهابوها كثيرًا. وكانت تلك القمم البيضاء من أجملِ ما وقعَتْ عليه العيون عندما أرسلت عليها الشمس المتدانية من الغروب باهرَ أشعتها، فلما اقترب منها الجيش خفِيَتْ عن أبصاره لما اعترض بينه وبينها من الهَضبات التي هي أقلُّ منها علوًّا، ولكنها أقرب إليه.
فلما تدانى الجنودُ من تلك المنحدرات الهائلة، وما تُشرف عليه من الأعماق التي ترتعد لهَوْلها فرائصُ الناظر إليها من ذلك العلوِّ الشاهق والدروب المغطاة بالجليد، عادت إليهم مخاوفهم وتولاهم الرعبُ والاحتساب، ولكن الرجوع من هنا كان متعذِّرًا عليهم فلم يعُدْ أمامهم إلا التقدم، فتقدموا مرغمين ذاهبين صعدًا على الدوام، إلى أن صارت الطرق التي يسيرون فيها كجدران الهاوية يصعب المشي فيها، يرون تحتهم أعماقًا لا نهاية لها وفوقهم قِممًا وجلاميد من الجليد تكاد تنقض عليهم وتسحقهم، وركام الثلوج تواجههم وتحيط بهم من كل صَوبٍ.
أخيرًا وصلوا إلى معبر ضيِّق، وكانوا مُضطرين إلى المسير فيه، وأبصروا فوقه رجالًا يحرُسونه قائمين فوق شواهق الصخور ومتأهبين لرَجْمِهم بالأحجار، وبكل ما تصل إليه أيديهم ليحولوا دون مرورهم. عندئذٍ وقف الجيش إذ أمر هنيبال رجاله أن يعسكروا حيث هم، إلى أن يفكِّرَ فيما الذي يجب عليه القيام به، وعلم بعدئذ أن أولئك الجبليِّين لا يَبقون في تلك الأماكن الشاهقة في غضون الليل، وذلك بالنظر إلى البرد الشديد وتعرضهم لأذاه. وعلمًا منهم بأنه يتعذر كثيرًا على أي جيش المرور من هنالك بغير أن يَهتدي بنور النهار؛ نظرًا لضيق المعبر ولما يشرف عليه من المنحدرات الهائلة التي يتوقف السُّقوط في أعماقها على زلة قدم.
ولما كان الجبليُّون لا يرون من لزوم لحراسة ذلك المعبر الضيق في الليل — لأن خطره المخيف كافٍ لحراسته — فقد اعتادوا تركه عند المساء طلبًا لمأوًى يستريحون فيه في بعض أهزعة الليل؛ ليعودوا إلى عملهم الشاق عند الصباح، فلما علم هنيبال هذا قرَّ رأيُه على مسابقتهم إلى تسلق الصخر الذي اتخذوه مخفرًا في اليوم التالي، ولكي ينفي كل شك عندهم في أمر حركاته وما عزم عليه، أخذ يتظاهر بأنه يدبر الوسائل ليخيم حيث هو الليل بطُوله.
ولكي يزيدهم اطمئنانًا ضربَ خيامًا أخرى، وأمر بإيقاد النيران عند المساء، وقام بحركات أراد بها إيهام أولئك الجبليين أنه يتأهب للمرور في ذلك المعبر في اليوم التالي، ونقل لساعته فيلقًا كبيرًا من جيشه إلى نقطةٍ قريبة من مدخل المعبر، وأقامه هناك في موقف حصينٍ؛ وذلك لكي يكونوا على أُهبة التَّقدُّم عندما يأزف الوقت في اليوم التالي، فلما رأى الجبليون هذه الحركات والاستعدادات التي قام بها جيش هنيبال، توقَّعوا منها حدوث عراكٍ في الغد، وعلى هذا انصرفوا لكي يرتاحوا مدة ذلك الليل في الأماكن التي اتخذوها مقرًّا.
وفي اليوم التالي عندما نهضوا باكرًا وشرعوا في الصعود إلى مواقفهم، وجدوا لمزيد اندهاشهم أن هاتيك القِمم والمرتفعات المحيطة بالمعبر مغطَّاة بالقرطجنيين، إذ كان هنيبال قد أيقظ قسمًا كبيرًا من جيشه قبل انبثاقِ الفجر، واقتادهم إلى حيث قاسوا العناء المَّر في تسلُّقِ هاتيك القنن التي تركها الجبليون، وذلك لكي يكونوا هنالك قبلهم فلا يجرءُون على مقاومته. فوقف الجبليون وقد تولَّتْهم الحيرة من هذا المشهد الذي رأوه وازدادوا اندهاشًا عندما ترامت أبصارهم إلى الوادي تحتهم، فرأوا مجموع الجيش ينسلُّ على مهل مارًّا في ذلك المعبر في صفٍّ واحد على الترتيب، وهو في مأمن من الطوارئ؛ لأن أماكن الحراسة قد أصبحت الآن في أيدي الأصدقاء بدلًا من الأعداء.
فلم يُطق الجبليون صبرًا على ذلك ولا استطاعوا كظمَ غيظهم، بل اندفعوا بعامل الغضب من هذه الحيلة مُنحدرين من حيث كانوا، وهاجموا الجيش السائر في أسفل الوادي، وعندئذٍ قام بين الفريقين عراك مُخيف فقُتل البعض بالسلاح أو بالصخور المنقضَّة عليهم من فوق، وانقلب كثيرون من جرَّاء الهرج والمرج، وتماسك واحدهم بالآخر من ذلك الممر الضيق إلى الهُوَّة العميقة الكائنة تحتهم، وتدهورت الجياد بأحمالها لما نالها من الذُّعر، وأفلتت من ماسكي أزمتها أو جرَّتهم معها إلى تلك المهاوي المخيفة، وكان ذلك المشهد من المشاهد الراعبة إلى الدرجة القصوى؛ لما قتل فيه وهوى من الناس في تلك المنحدرات العميقة.
ونظر هنيبال الذي كان واقفًا فوق صخرةٍ عالية إلى هذا المشهد المخيف، وهو مربدُّ الوجه يرتعد جزعًا وتأثرًا، ولم يجرؤ على النزول بنفسه والاشتراك بذلك المعترك مخافةَ أن يزداد بوجوده الارتباك ويتفاقمَ الخطب. على أنه بعد التأمل قليلًا وجد من الضرورة الكلية التدخل في الأمر، فهبط بأسرع ما يمكنه تصحبه فرقته، ونزلوا جميعًا بسير مائل متعرج وطرق مستديرة حيثما وجدوا لهم موطئ قدم بين تلك الصخور، وهاجموا الجبليِّين بأشد ما استطاعته عزائمهم.
وكانت النتيجة كما خشي هنيبال أن تكون، فاشتدَّ الارتباك أولًا وكثر القتل والتدهور، وأجفلتِ الخيل من ذلك ومن الصياح المتتابعِ الذي ملأ هاتيك الأودية، وبصداه المتردِّد من كل ناحية مما زاد ضجتَه أضعافًا مضاعفة، فارتعدت له فرائص الخيل واستطارتْ في الإجفال والجموح، وعلى أثر ذلك تماسك الناس بعضهم ببعض وبينهم الأفراس المثقلة بأعبائها، وهووا جميعًا إلى تلك الهوَّة متدافعين على الصُّخور مُنقضِّين بشدة الاندفاع، وبما كانوا يُصدمون به من الأماكن الناتئة إلى قعر تلك الهاوية، حيث يقع بعضهم فوق بعض، فكانت أناس منهم يصلون موتى ومنهم يتألَّمون مائِتِين، أو محاولين بقواهم المنحلة الزحفَ على الجليد طلبًا للنجاة.
وفي آخر الأمر اندحر الجبليُّون وانهزموا وخلا المعبر للقرطجنيين واستُعيد نظام الجيش، والخيول التي لم تجمح ولم تسقط في المَهواة أُخذت بالملاطفة لتهدأ وتستكن، والأحمال التي سقطت في المنحدرات جُمعت واستعيدت، والجرحى وُضعوا على محامل خشبية بنيت لساعتها هنالك، وذلك لكي يُنقلوا عليها إلى حيث يُداوون، وأصبح الجيش بمهماته في وقتٍ قصير على قدم المسير فتقدم زاحفًا، وإذ كانت المصاعب قد أُزيلت من أمامه أسرع الخطى سائرًا بانتظامٍ وهدوء إلى أن اجتازوا ذلك المضيق.
ولما بلغوا نهايته وصلوا إلى قلعة عظيمة تخصُّ أبناء تلك الأنحاء، فاستولى هنيبال عليها وألقى عصا التَّرحال هنالك طلبًا للجمام والرَّاحة له ولرجاله، ومن أعظمِ الصعوبات التي تعترض القائدَ الزاحف بجيش لُهام في مثل تلك الدروب الشاقَّة الكثيرة الأخطار هي عَوْل الجيشِ؛ فالجيوش تحمل معها ما يقيتها مسافةً يسيرة لا سِوى. والناس المسافرون على طرق ممهَّدةٍ لا يقوون على استصحاب زادٍ يزيد على عِيالتهم أيامًا قلائل، فمتى كان مسيرُهم في مثل جبال الألب حيث الدروب عسيرة كثيرة الخطر، فإنهم بالكدِّ يقوون على حمل شيء، فعلى القائد في مثل هذه الحالة أن يجد ما يقيت به جنوده في البلاد التي يمر بها، وهكذا كان على هنيبال أن يحافظ ليس فقط على سلامة جيشه، بل أن يتخذ كل وسيلة فعالة لإيجاد القوت الذي أوشَك الآن أن ينفد. ومن المعلوم أن الأراضي المنبسطة الكائنة في أعالي الجبال تحتوي على علَفٍ للماشية والحيوانات المختلفة؛ لأن الأمطار التي يكثر تَهطالها هنالك، والرطوبة الناجمة عن ذوبان الثُّلوج من على جوانب الجبال تُنعش الزرعَ فتجعل الأرض دائمة الاخضرار، والغنم والماعز وغيرها ترتاد هذه الأماكن لتتقوت بما فيها؛ ولذلك فالماشية تُدرك أنها كلما تصاعدت في التسلُّق كان المرعى أخصب والعشب أوفر.
ويمكن إنماء الحبوب في الأودية والمنحدرات، ولكن قمم الجبال مع أنها تنبت عشبًا كثيرًا فحراثتُها من الأمور المستحيلة لانصبابها، وهكذا فإنه حالما استولى هنيبال على تلك القلعة، أرسل رجاله جماعات شتى لمطاردة الماشية التي يعثرون عليها هنالك، وبالطبع كان أولئك الرجال مسلحين لكي يتمكَّنوا من مُقاومة كل عدوٍّ يتصدَّى لهم. على أن الجبليين لم يتَصدوا في هذه المرة لمقاومتهم فهم قد أقروا بانغلابهم، وتولاهم الرعب والخوف مما لقوه قبل ذلك فخافوا، وهكذا فإنهم وجدوا أن أفضل الطرائق لإنقاذِ ماشيتهم أن يطاردوها، ويخفوها في الغياض والأماكن التي يتعذَّر على مُلاحقيها الوصول إليها فيها.
وبينما كان رجال هنيبال يتوغَّلون في الأودية والهضبات الكائنة حولهم، ويفحصون كل مكان وكل حظيرة في تلك السفوح كان الأهلون يفرُّون من أمامهم متفرِّقين في جهات مختلفة سائقين ماشيتهم قدامهم إلى حيث تصير من العدوِّ في حِرز حريز؛ إذ عليها تتوقف حياتهم ومعاشهم، فطاردوها إلى أن صارت في أعالي الهضبات أو في أسفل المنحدرات أو في غير ذلك من المنعطفات والغياض؛ لكي يبعدوها عن طالبي إمساكها من رجال العدو.
على أن جهادَهم من هذا القبيل لم يُصادف إلا القليلَ من النَّجاح، إذ عاد رجالُ هنيبال إلى المعسكر وكل واحد منهم يسوق أمامه ثلةً من الماشية منها ما هو قَطيع كبير، ومنها ما هو أقلُّ منه عددًا ولكن المجموعَ كان عظيمًا، فاقتات الجيش على هذه الماشية ثلاثة أيام، ومن المعلوم أن إطعام جيش مؤلف من تسعين ألفًا أو مائة ألف رجل يتطلبُ كميات كبيرة، حتى ولو أن ذلك لمدة ثلاثة أيام، ذلك فضلًا عن أن الجيش يبدد ويبذر من طعامه أكثر مما يأكل.
وفي غضون الأيام الثلاثة هذه لم يكُن الجيشُ مُعَسكرًا، بل متحركًا ببطء على الدَّوَام، والطريق وإن كانت لا تزال كثيرة العقَبات والأخطار أصبحتِ الآن مفتوحةً أمامه؛ لأنه لم يبقَ فيها عدو يناوئه أو يتصدَّى لمقاومته، فساروا على تلك الصُّخور وهم يَلتهمون ما معهم من القُوت فَرِحين بانتصارهم على الأعداء المتعرِّضين لهم، وعلى صعوبات الطريق وما فيها من الأخطار والمهالك. أما الجبليون فإنهم عادوا إلى ملاجئهم وقد خسروا ماشيتهم وقُهروا في القتال؛ لأن أمثالهم إذا خسروا الغنم والبقر والماعز فقد أضاعُوا كلَّ شيء.
ومن المعلوم أن جبال الألب ليست كلها في سويسرا، بل إن منها في جوار مقاطعة سافوى ما هو مشهور بعُلوِّه الشاهق وانحداره المخيف، والبلاد منقسمة إلى مقاطعاتٍ صغيرة تُسمَّى اليوم «كانتون» وقد كانتْ كذلك في أيام الرومانيين، وعلى هذا فإن هنيبال في تسياره بعد اجتياز المضيق الذي تقدم وصفه تدانَى من حدود مقاطعة أخرى، وبينما هو يتقدم ببطء نحو تلك المقاطعة ومن ورائه جيشه الجرار يتسلَّلُ من الأودية كالأفعى لقِيَه وفدٌ أرسلته حكومة المقاطعة المذكورة، وجلب ذلك الوفد معه أقواتًا مختلفة من الأدلاء، وقال رجال الوفد له: إنه قد اتَّصل بهم ما نزَل بالمقاطعة الأولى من الدمار لمحاولة أهلها مقاومة مرور الجيش القرطجني فيها، وأنهم هم لا يريدون تجديد مثل ذلك العمل الدالِّ على الحماقة، ومن أجل هذا جاءوا ليعرضوا على هنيبال صداقتَهم ومناصرتهم، وأنهم قد جَلَبوا معهم عددًا من الأدلَّاء؛ لكي يرشدوا الجيش إلى أفضل الدروبِ في الجبال وكميات من الأقوات، ولكي يبرهنوا على إخلاصِهم عرَضوا على هنيبال رهائن.
وكانت هذه الرهائن شبانًا وأولادًا هم أبناء أعيان البلاد عرضوهم؛ ليكونوا تحت مطلق تصرف هنيبال يحتفظ بهم إلى أن يَسْتيقن من إخلاصهم فيما أقدموا عليه، وأن عملهم هذا بريءٌ من الخديعة. ولما كان هنيبال معتادًا الدَّهاء والخداع حارَ في أمره بادئ ذي بدء؛ لأنه لم يدرِ ما إذا كان الذي عرضه القوم من دلائل الإخلاص حقيقيًّا أم لا، وما إذا كانوا يحاولون بذلك حمله على الطمأنينة؛ لكيلا يحتاط لشرٍّ ولا يحتسب لمكر.
وجال في فكره للحال أن عمل الوفد هذا قد يكون من قبيل الخدعة، فيقتادون جيشه بعد أن يستسلم لهم إلى مَهْواة عميقة أو إلى مضيق بين شواهق الصخور، وهناك ينقضون عليه ويفتكون به. على أنه قرر أن يعطيهم جوابًا حسنًا وأن يكون على حذر منهم، ويسير بإرشادهم مع البقاء متيقِّظًا ما أمكن، وأخذ ما عرضوه عليه من الرهائن والأقوات.
وسلم الرهن من الشبان والأولاد إلى قطعةٍ أخرى من جيشه فساروا بمعيَّة الجيش، ثم أشار إلى الأدلاء بالمسير أمام الجيش الذي اقتفَى خُطواتهم.
وسارت الفيلة في الطَّليعة يتقدَّمُها ويحيط بها بعض الجنود لحمايتها، وتلَتْها الخيلُ والبغال المثقلة بأحمالها العسكرية والمئونة، وتلا هذه الجنود المشاة يمشون على غير انتظامٍ صفًّا طويلًا، وكان طول ذلك الصف الذي تقدم وصفه أميالًا عديدة، وقد كان منظرُه من شُرُفات الجبال كمنظر حية كبيرة بين الأدغال، وملتفَّة حوالي الدروب المستديرة الموحشة.
وكان هنيبال مصيبًا في احتسابه من أن الوفد الذي لاقاه كان لخَدْعِه، فالذين أرسلوا الوفد أرصدوا كمينًا في معبر ضيِّق استتر رجاله بين الصخور والغِياض والمخابئ المُختلفة، وهكذا فإنه عندما اقتاد الأدلاء الجيش إلى نقطةِ الخطر المتَّفق عليها بدَتْ منهم إشارة معلومة، فخرج الكامنون من مخابئِهم وانقضُّوا على الجيش من كل مكان انقضاض النسور، وشوشوا نظام صفوفه وجدَّدوا ما لقيه في المعركة الأولى وتعالى الصياح، وملأت زمجرةُ الرجال هاتيك القُلل، فرددت صداها الأغوار.
وقد يظن غير الخبير أن الهجومَ يصوب أول كلِّ شيءٍ على الفيلة لتَخويفها، وحملها على الجموح والطغيان، ولكن الأمر كان على العكس من ذلك، فإن الجبليين كانوا يخافونها لأنهم لم يروا مثلَها من قبل ولهذا كانوا يرتعدون عند النظر إليها؛ لأنهم لا علم لهم بما لها من القُوة وشدة البطش؛ ولهذا تحاشوها وابتعدوا عنها وعن الفرسان، وصبُّوا كلَّ قوتِهم على جيش المشاة الذي كان يسير في المؤخرة.
وأدركوا في أول الهجوم نجاحًا عظيمًا فشقُّوا صفَّ الجيش، وهزموا القسم المتأخِّر منه إلى الوراء، وكانت الجياد والفِيَلة مثابرةً على المسير وعليها أحمالها، فأصبح الجيش قسمين منفصلين واحدهما عن الآخر، وكان هنيبال مع الجنود إلى الوراء، وظل الجبليُّون فائزين حتى خيَّم الغسَقُ فتوقَّفَ الفريقان عن القتال؛ لأن العراك في مثل تلك الوعور لا يتأتَّى لأحدٍ إلا على نور النهار.
وبقي الجبليون في موقفهم بين قسمي الجيش يحُولون دون اتِّصالهما، وكان هنيبال في غُضون اللَّيل على مِثل الجَمر لا يدري ما الذي يَفعَلُه وجيشه ممزَّق على تلك الصورة، والفيلة والخيل بعيدةٌ عنه وقد أصبحتْ تحت رحمةِ الأعداء، ولم ينَمْ تلك الليلة بل كان يفكِّر ويتأهب للهجوم على الجبليين في اليوم التالي، وحالما انبثق الفجر هاجَمهم وتغلَّب عليهم فدحرهم إلى مسافة تمكن بعدها من جمع شمل جيشِه، ثم تابع المسير.
على أن الجبليين لم ينفكوا عن مناوأَته، بل أجهَدوا نفوسَهم في التَّضييق عليه والاعتداء على جيشه من أبعاد مختلفة، فاستتروا في المكامن وكانوا يُهاجمون القرطجنيين عند مرورهم من حيث كمَنوا لهم ويقلبون الصخورَ عليهم، ويرمونهم بالنبال والسهام من مواقِفهم الشاهقة القائمة فوق الجيش العابر، حتى إذا تأخرت فرقةٌ من جيش هنيبال عن مجموع الجيش كانوا يحيطون بها ويأسرونها أو يسحقونها، وهكذا فإنهم سببوا لهنيبال تعبًا وعناء عظِيمين، فأعاقوه عن المسير وضيَّقوا عليه المضايق وذلك من غير أن يهاجموه بفريق منهم بحيث تسنَحُ له فرصة مناهَضتهم.
ومن المعلوم أن هنيبال لم يعُدْ واثقًا بمن معه من الأدلَّاء، فاعتمد في الاستهداء على نفسِه بين هاتيك المجاهل المُخيفة، فكان يصيبُ مرةً ويخطئ مِرارًا معرِّضًا نفسَه وجيشه لألوف الأخطار، وعظيم النكَبات التي كان بإمكان الخبير في تلك الدُّروب الصعبة تَحاشيها، وكان الجبليون مثابرين على مضايقته؛ عصابات كعصابات قُطاع الطرق يهاجمون جيشَه مرة في الطليعة، وحينًا في المؤخرة، وحيثما سنَحتْ لهم فرصة للإيقاع به. على أن هنيبال ثابر على المسيرِ صابرًا على كل هذه المثبِّطات محافظًا على رجاله جهد الاستطاعة، جادًّا في قطع الوِهاد إلى أن بلَغَ إحدى القمم بعد تسعة أيام.
وفي ذكرنا إحدى القِمَم لا نعني قمَّةَ تلك الجبال، بل قمة ذلك المضيق، أي: أعلى ذروةٍ منه وصل إليها بعد اجتيازه، ولكن بقيت أمامه هنالك قممٌ كثيرة شاهقة محلِّقة فوقَه بالغة عنان الجو في الارتفاع، فعسكر هنا يومين لكي يُريح رجالَه ويعيد إليهم ما فقدوه من الهمة والنشاط وكان الأعداء قد تركوه، وفيما هو مقيمٌ هنالك كانت بعضُ فرق الجيش التي تاهَتْ أو انهزمت من أمام الجبليين تنسل مقبلة نحو المعسكر من كل صوبٍ ومعها الخُيول، ومن الرجال الجريح والمنهوك تعبًا أو الذي أوهَن قواه المرَض.
وكانت الخيلُ في بعض الأحيان تأتي إلى المعسكر لذاتها، وهي الخَيل التي انفصلتْ عن الجيش فرارًا من المهاجمين أو التي سقطتْ عياء أو تدهورت، فلما استعادتْ نشاطَها سارتْ تريد المعسكر تسوقها السليقة أو رائحة رِفاقها أو متأثرة خطوات الجنود إلى أن وصلَتْ إليهم سالمة، وفي الواقع أن بقاء هنيبال مدة يومين هنالك كان المقصود منه إعطاء فرصةٍ كافية للتائهين من جيشه؛ لكي ينضموا إليه هذا إذا كانت لهم مقدرة على اللحاق، ولولا ذلك لكان تابع المسير إلى أن يبلغ مكانًا يتوفَّر له فيه الدفء، أو يكون ملائمًا للاستراحة.
وفي الواقع أن أردأ مكان للاستراحة هو في ذُرى تلك الجبال بل لا يمكن أن يكون أردأ منه، فالصخور جرداءُ والأرض خالية من العُشب وكل ما هنالك يضيق الصَّدر ويحمل على الاستيحاش، ذلك فضلًا عن العواصف التي يكثر هُبوبها هنالك والأمطار التي تجعل المقام متوعِّرًا والغيوم التي تتلبَّد عند ذلك العلو الشَّاهق فتهدد من هناك بالثلوج أو الأمطار، وفي الجملة إن المكان الذي عسكر فيه هنيبال كان مُخيفًا موحشًا إلى الحدِّ المتناهي.
وداخَلَ الجيشَ الخوفُ والجزع من ذلك المكان الذي عسكر فيه خصوصًا، وأن الدروب هنالك غير واضحة، فإذا تساقطت الثلوج بغزارة ازداد الموقف هولًا وأصبح الجنود في مأزق متجهِّم لا يدرون منه كيفَ وفي أية جهةٍ يتوجَّهون، حتى إن مثل هذه الحالة تُخيف الجبليين أنفسهم الذين كثيرًا ما يؤدي بهم الأمر إلى التدهور في المنحدرات العميقة لعدم معرفتِهم الطريق التي تكون الثلوج المتراكمة قد سَترتْها عن الأبصار.
ولا يمكن في هذه الحالة الاهتداء بنور النجوم؛ لأن النجوم تستتر وراء الغيوم أو وراء الثلوج المتساقطة التي تحول نورَ النهار إلى ظلام يحيط من كل الجهات بالمسافر الغريب الذي يضل طريقَه، فلا يعود يدري كيف يتَّجه، وذلك ما جرى لهنيبال وهو على تلك القمَّة داهمَتْه عاصفة ثلجية أوقعت الرعب في قلوب رجاله. كان ذلك في شهر تشرين الثاني؛ لأن العراقيل الكثيرة والصعوبات الطبيعية المتعددة التي لقيها الجيش في تسلُّق تلك الجبال، فضلًا عن مناوأة العدو له في زحفه قد عاقَتْه من المجازفة إذا هو صبر إلى أن تذوب هذه الثلوج؛ ولهذا فإنه حالَما انقطع تَهطال الثلج وصفا الجو من الغيوم بحيث أصبح الجنود يُبصرون ما هو أمامهم اقتلع الجيش خيامه وتابع المسير، فكانت الجنود تسير خائضة في رُكام الثلج بملء الخوف والاحتساب، على أن هنيبال أرسل فرقة للاستكشاف والتعرُّف على الأماكن الصالحة للسير، وقد حَملت الأعلام ليهتدي بها الجيش.
فكان السائرون أمام الجيش يمهدون له السبل وذلك بدوسهم الثلج مرارًا بحيث يصير صالحًا للمشي عليه، ولكن بالرغم من كل ذلك فإن العناءَ الذي لقِيَه الجيش من ذلك كان شديدًا، فضلًا عن مخاوفه المستمرَّة وإبطائه في الزحف. وبعد أن ساروا مسافةً معلومة ونزلوا من تلك القمة أدرك هنيبال أنهم سيُطلُّون بعد اليسير من السير على أودية إيطاليا وسهولها الكائنة فيما وراء الألب، فتقدم مسرعًا إلى أن صار بين رجال الطليعة الذين يحملون الأعلام التي يهتدي بها الجيش، وحالما بدتِ البلاد بجُملتها للناظر من هناك اختار مكانًا تظهر منه السُّهول المنبسطة بأبهى مناظرها، وأوقف جيشه لكي يتأمل رجاله في تلك البلاد الجميلة الممتدة أمامهم.
ومعلوم أن جبال الألب على الجانب الإيطالي شامخة وهائلة الانحدار، والنزول منها يكاد يكون فجائيًّا من الذرى المتجمِّدة الباردة إلى السهول الدافئة الخصيبة التي تبهر النواظر بما أُلقي عليها من أشعة الشمس، من هنالك نظر هنيبال ورجاله تلك السهول المنبسطة تحت أقدامهم، وقد لبست رداء من الخصب جميلًا يروق العيون ويشرح الصدور فسُرُّوا كثيرًا وابتهجوا، وأبصروا في تلك البطاح المترامية الأطراف بحيرات عديدة تخلَّلتْها جزر كثيرة، كان شعاع الشمس يترامى عليها فيزيدها وما حولها بهاء ورواء.
وهناك الحقول التي لم يروا لها نهاية مزدانة بألوان الخريف الدالة على الذبول، قامتْ عليها أكواخ العمال والفلاحين وعلَتْ عندها أكداس القمح كالقباب، وتجري في جنباتها الأنهار فتزيدها رونقًا وجمالًا يروق العيون ويأسر الألباب. في تلك الساعة وقف هنيبال في قواد جيشه خطيبًا وهنأَهم على وصولهم والجنود سالمين إلى حيث ينتهي تَعبُهم وينتفي عناؤهم ونصبهم، وقال لهم: «إن مشاقَّ الطريق قد انتهت في آخر الأمر، وهذه القمم التي قطعناها بشقِّ النفس هي أسوار إيطاليا بل هي أسوار رُومية بالذات، وما دُمنا قد اجتَزْنا جبالَ الألب فإنه لم يبقَ للرومانيين ما يحميهم من بأسنا. وإنني أؤكد لكم أن معركة واحدة على تلك السهول أو على الكثير معركتين نجالد فيهما الأعداء تكفيان لإحراز النَّصرِ والاستيلاء على تلك المدينة العظيمة.»
فأثر كلام هنيبال على الجيش التأثير المطلوب وأثار فيه روح الشجاعة، وزاده استبشارًا ما رآه من خِصب الأرض وجَودة هوائها. واستعد الجنود للهبوط إلى هاتيك الجِنان حاسبين أن الصعوبات قد زالتْ، على أنهم ما كادوا يتحركون للمسير حتى علموا أن متاعبَهم وضيقاتهم لم تنتهِ، فالجبال على جانب إيطاليا أكثر علوًّا وانحدارًا منها على الجانب الآخر؛ ولهذا عانوا أشد الصعوبات في إيجاد دروبٍ يَسيرون عليها بسلامة.
وساروا على هذا وقتًا غيرَ يسير يعانون الشدائد والتعبَ المضني في قطع المسافات القليلة. أخيرًا وقعت طلائع الجيش فجأة فأرغمتِ الجيش برمته على الوقوف، ورأى ذلك هنيبال فخاف أن يتفاقم شر الازدحام وتسوء العُقبى، فأرسل إلى الطلائع رسولًا ليأتيه بالخبر اليقين فعاد إليه، وأعلمه بأن الطليعة قد وصلت إلى هاويةٍ يستحيل على أحد النزول فيها، ووجدت من الضروري الانحراف عن ذلك المكان بسير مستدير لعلهم يجدون طريقًا يكون النزول منه أقلَّ خطرًا.
فوافق هنيبال على ذلك وسار الذين يتقدمون الجيش وهم الكشَّافة، فعثروا على جبل من الثلج مُلقًى أمامهم ووجدوا أن الثلج المتساقط قبل ذلك بأيام يسير الجليد الذي تحته، ويغطي ما هنالك من الأودية والمهاوي العميقة، فساروا فوقه ومهدوا بأقدامهم طريقًا للجيش. على أن الجليد ما لبث أن تحلل وأخذ الثلج في الانضغاط والذوبان إلى أن أصبح المسير فوقهما متعذِّرًا عظيمَ المشقة كثير الخطر، ذلك فضلًا عن أن المسير فوق الثلج الذي يستر الجليد هو من الصعوبة بمكان بالنظر إلى ما يتسبَّب عنه من الزلق.
وهكذا كنت ترى الرجال والحيوانات تنقلب متدهورةً في تلك المنحدرات، فكان البعض منهم ينهضون وقد أصيبوا برُضوض، والبعض الآخر الذي هوَى في الأعماق المملوءة ثلجًا اندفن هناك بحيث لا ينهض بعد ذلك، على أنهم جهدوا النفوسَ وابتعدوا بعض المسافة، ولكن بمجازفة عظيمة ومخاطرة أودت بعدد غير يسير منهم. ولما اجتازوا هذه الثلوج في انحدارهم المتواصل وصَلوا إلى ما يُشبه السد المكين الذي يحولُ دون تقدمهم خطوة واحدة، ألا وهو جبل من الصخر الذي اعترضهم وضيَّقَ عليهم المسالك.
وبعد التروي في الأمر رأوا من الضروري إزالةَ الصخر أو تحطيمه لكي ينفسح لهم مجال المرور، وقد جاء في رواية أحد مؤرِّخي الرومانيين أن هنيبال أزال قِسمًا من تلك الصخور الهائلة بأن أشعل نارًا عظيمةً فوقها، ثم صبَّ عليها خلًّا فتشققت، ثم قطعها بالأمخال والأسافين، ولكن قارئ ما رواه المؤرخ الروماني لا بدَّ أن يتوقف هنيهة قبل تصديقه، فهم إذ لم يكن البارود معروفًا عندهم في تلك الأيام قد اضطروا إلى استخدام مثل تلك الطريقة التي تقدَّم بيانها لتصديع الصخور.
ومن المعلوم أن من الصخور نوعًا يمكن تحطيمه بحرارة النار التي تُشقِّقه بسهولة ولكن منه ما لا تؤثِّر النارُ فيه، على أننا لا نرى ما يؤيد قولَ المؤرخ المذكور في تأثير الخل على الصخر المحمى بالنار، ذلك فضلًا عن أننا لا نظن أن هنيبال قد حمَل معه مقدارًا من الخل يكفي لمثل هذا العمل الجَسيم. وعلى الجملة نقول إنه إذا كان ذلك صحيحًا فيكون ما تم منه دون اليسير، وتكون النتيجة غير جديرة بالذكر بالرغم من أن هذا العمل قد عدَّه التاريخ من أجلِّ الأعمال التاريخية المنسوبة إلى هنيبال بحقيقة مقررة.
هذا وفي المسير فوق الثلوج والانحدار على الصخور التي تحته قد قاسَى الجيش، وخصوصًا الحيوانات التي معه، الأهوالَ الجِسام والجوع الذي أضْنَى القوى، ولا سيَّما ما لقوه من الصعوبة في إيجاد علَفٍ للخيل والفيلة في تلك الأماكن التي لا يُرى فيها غير الثلج المتراكم، أو الجليد الذي أمات كل شيء أخضر. أخيرًا وصلوا في تَسيارهم إلى غِياض وغابات غضَّة، ومن هناك أقبلوا على وِهادٍ فيها الحقول الملأى بالعُشب والأودية الخصيبة ذات الأشجار المثمرة.
وهناك وقفت الحيوانات لتنال نصيبًا من الراحة وتقتاتُ بما يعيد إليها نشاطها، وشمل الفرح الجيش برمته إذ أدرك عندئذٍ أن عناءه قد انتهى وأن الأخطار قد زالت وأصبحت وراء ظهره، فسار مسرعًا وضرب خيامه في سهول إيطاليا الكثيرة الخيرات المملوءة بكل نوع من الثمار والبقول والأعشاب، وغير ذلك من ضروب الأقوات العديدة.