معركة كانيه
كانت معركة كانيه آخر المعارك الكبرى التي خاض هنيبال غمراتها في إيطاليا، وشغل هذا العراك فسحةً غير يسيرة من التاريخ، ليس فقط لطولِ مدته وهوله والتفاني الذي بدا من الجانبين في وقعاته؛ بل لما رافَقه من الحوادث المتناهية في اللذَّة والباعثة على الإعجاب، إلا أن اللذة فيما نظن متأتية على الغالب من براعة المؤرِّخ في تنظيم تلك الرواية الحربية، وكيفية سردها أكثر منها عن الحوادث الحربية بالذات.
نشِبت هذه المعركة قبل ختام مدَّةِ سيطرة فابيوس بنحو سنة، وقد قضَى قناصل رومية المدة المعترضة بين انتهاء سيطرة فابيوس، وشُبوب نيران المعركة في القيام بحركات عسكرية متعددة لم تكن ذات نتائج جديرة بالذكر، وكان القلق والضجر والتذمر وغير ذلك من دلائل الاستياء شاملة لرومية؛ ذلك لأن وجود مثل هذا القائد القاهر في ضواحي روميَّة مع أربعين ألفًا من رجاله يعتدي على مقاطعات حلفاء رومية، ويهدِّد المدينة نفسها بالهجوم قد كانت من دواعي القلق الدائم والخوف المستمر.
وتلك الأهوال المروعة التي أحدثها قد عملت على الغضِّ من كرامة رومية وخفض كبرياء الرومانيين، ولا سيما أنهم كانوا مهما حشدوا من الجيوش، وأقاموا من القواد المعروفين بالدربة والحنكة غير قادرين على كبح جماحِ ذلك العدو ومقاومة هجماته، حتى إن أعظم وأقدر قوادهم في الواقع قد شعر بضرورة اعتزال منصب القيادة، والإصرار على عدم منازلة هنيبال في معركة ما بالكلية.
فأحدثت هذه الحالة استياءً شديدًا في المدينة، وهب الأحزاب إلى الطعن والانتقاد يوجهه واحدهم إلى الآخر، وقام الناس بعقدِ اجتماعات عديدة كان معظمها مَسرحًا للهِياج الكثير والضوضاء والمجادلات واللوم والتعنيف، وكلٌّ يتهم الآخر بالعجز والإهمال والتراخي، وعلى أثر ذلك قام في الشعب حزبان تألف أحدهما من العامة على الجانب الواحد، والآخر من الخاصة على الجانب الثاني، وأطلق على الحزب الأول حزب العوام وعلى الثاني النبلاء.
وكان بين الحزبين تباعدٌ عظيم في الآراء أقصاهما عن الاتفاق، وأوجد صعوبة كلية في انتخاب القناصل، أخيرًا انتخب القناصل واحدًا من كل حِزب، فكان اسم القنصل المنتخب من النُّبلاء بولس أميليوس واسم قنصل العوام فارو، استلما زمام الحكومة ومُنحا قوةً لا حدَّ لها لو تمَّ لها الاتحادُ والعمل بقلبٍ وفكر واحد لأتت بالعجائب، ولكنَّ القنصليين لسوء الحظ كانا عدوين سياسيين لدودين، وكان هذا الخلاف كثيرَ الحدوث في الحكومة الرومانية، فالقنصلية كانت حيوانًا ذا رأسين ينفق نصفَ قوته في المقاومة بين شطريه على الدَّوام.
وصمم الرومانيون على إجهاد نفوسهم في سبيل التخلص من عدوهم، فحشدوا جيشًا جرارًا مؤلفًا من ثماني كتائب، والكتيبة الرومانية لذلك العهد كانت جيشًا قائمًا بنفسِه تحتوي على أربعة آلاف جنديٍّ من المشاة وثلاثمائة فارس، ولم يكن من عادتهم إنزال أكثر من كتيبتين أو ثلاث كتائب إلى المعمعة في وقتٍ واحد، على أن الرومانيين في هذه المرة قد خالفوا القاعدة المتبعة بأن أنزلوا إلى ساحة الوغى كتائبَ أكثر مما كانوا يفعلون في الماضي، وزادوا عدد كل كتيبةٍ خمسة آلاف من المشاة وأربعمائة من الفرسان.
فهم قد أرادوا القيام بما ضمِن لهم سلامة مدينتهم ووقاية بلادهم من الدمار والعبودية، ولو مهما كلفهم ذلك، وتأهب القنصلان أميلوس وفارو لاقتياد هذا الجيش اللُّهام مصمِّمين على جعله من كل وجه واسطة للبطشِ النهائي بهنيبال، وكان القنصلان مختلفين في السجايا والخلال كما اختلفا في مراميهما السياسية يُبدي كل منهما روحًا معاكسة لروح الآخر، فإن أميليوس كان صديقًا لفابيوس مُستحسنًا لخطته وسياسته، أما فارِّو فكان عجولًا حادَّ المزاج بعيدًا عن كل تروٍّ.
فهو قد قام بوعود كثيرة مآلها أنه سوف يبطش بهنيبال ويقضي على قوته بضربة واحدة، وقبَّح خطة فابيوس الذي حاول إنهاكَ قوى العدو بالإبطاء والتأجيل، وصرح فوق هذا بأن الطبقة النبيلة من الرومانيين تعمل بخطة يُراد بها إطالة مدة الحرب بقَصد الحصول على الوظائف السامية، والطموح إلى إبداء الأهمية والنفوذ، وأنه لولا ذلك لانتهت الحرب من زمان طويل؛ ولهذا فهو يعِدُ الشعب بإنهائها الآن على عجل وبلا تأخير، وفي نفس اليوم الذي تقع عينه فيه على هنيبال.
أما أميليوس فأبدى نغمة أخرى تدل على التروي والاعتدال، وقال إنه معجب من سماع أي إنسان يدعي الاقتدار على أمر قبل أن يترك المدينة، وهو في الوقت نفسه يجهل كفاءة جيشه وكفاءة جيش العدو وتدابيره، ولا يدري متى وتحت أيةِ الظروف يكون النزول معه في مَعركة ملائمًا؛ ولهذا فيقول أميليوس إن الخططَ يجب أن تُبنى على الظروف؛ لأنه ليس في الإمكان جعل الظروف موافقة للخطط.
ومع هذا يعتقد بإمكان تفوقهم، بل بوجوب تفوقهم على هنيبال في حَومة القتال، ولكن أمَلهم في ذلك وبنجاح تدابيرهم يجب أن يكون مبنيًّا على التأني والحذَر والفطنة؛ لأنه موقن بأن التهيج والاندفاع والطيش تؤدي بهم في مُقبل الأيام إلى الفشَل والخيبة، كما كانت الحال في الماضي.
ويقال إن فابيوس المسيطر السابق قد تحدَّث مع أميليوس قبل ذهاب هذا الأخير إلى الجيش، وأبدى له من النصائح ما أوحَتْ به إليه سنُّه وحنكته وتجاربه، وما يعلمه من سجايا هنيبال وتدابيره، وقال له: «لو كان لك زميل مثلك لما كنت أقدم لك النصيحة؛ لأنك لا تكون إذ ذاك في حاجة إليها، ولو كنت أنت مثل زميلك طائشًا ومنخدعًا بالذات وكثير الدعوى؛ لكنت أسكت عن النصح والإرشاد لاعتقادي بأنهما يروحان ضياعًا، ولكن إذا كانت الحالة على ما أرى وأنت حاذقٌ فطن ولك من درايتك ما يرشدك، فإنك من الجهة الأخرى ستكون في مراكز محفوفةٍ بالخطر والصعوبات العظيمة.
والذي أراه — إن لم أكن مخطئًا — هو الصعوبة الكبرى التي ستواجهها ليست هي العدو الذي ستنازله في ساحة القتال، بل ستجد أن زميلك فارو سيُتعبك كما يتعبك هنيبال نفسه؛ إذ يكون كثير الصلف والخُيلاء عنيدًا ومتطرفًا في المخاطرة، وهو سيبعث في صدور الشبان الذين في الجيش روح التهجم بجهله وتطرفه، فيحمله على ما لا يجوز، ويكون حظنا عظيمًا إذا كانت مشاهد عراك بحيرة تراسمين الدموية لا تعاد مرة أخرى بسببه.
وأنا على يقين من أن السياسة الحكيمة التي يتعين علينا العمل بها هي تلك التي رسمتها أنا، فهي الطريقة الوحيدة التي يجب أن يجري عليها الذين يُحارَبون في عقر دارهم تجاه مهاجميهم، إذا كان هناك أقل شك في نجاح العراك، فنحن بالإبطاء نزداد قوة بينما هنيبال يزداد ضعفًا، فهو يبقى مغتبطًا ما دام مُعاركًا وقائمًا بخوارق الحركات الحربية، فإذا حرمناه هذه القوة تنحلُّ صولته مع الأيام وتضعُف شجاعة رجاله وينفد نشاطهم، ولا يوجد معه الآن سوى ثلث الجيش الذي كان معه يوم عبر نهر إيباروس، ولا يوجد شيءٌ في العالم ينقذ هذه البقية الباقية من جيشه من الهلاك إذا كنا حكماء.»
فأجاب أميليوس على هذا بقوله أنه رضي بالدخول تحت أعباء هذه المسئولية بشجاعة قليلة واليسير من الرجاء؛ لأنه إذا كان فابيوس قد وجدَ صعوبة كلية في احتمال تصلُّف رئيس فُرسانه الذي كان دونه في الوظيفة وتحت إمرته، فكيف يأمل هو التمكُّن من كَبح جماحِ زميلِه الذي تخوله الوظيفة حقَّ المساواةِ به من كل وجه؟ ولكنه بالرغم من هذه المصاعبِ والمثبطات التي يراها أمام عينيه؛ فإنه سيقوم بالواجب عليه ويرضى بالنتيجة، فإذا جاءت النتيجة على خلاف ما يتمنَّى؛ فإنه سوف يحاول الموت في المعترك لأن موتَه بحراب جنود قرطجنة أخفُّ شرًّا في عُرفه من غضب مواطنيه وتعنيفهم.
فغادر القنصلان رومية للانضمام إلى الجيش، وكانت حاشية أميليوس مؤلفة من عدد معتدل من الرجال من أرباب المقامات والرتب، أما فارو فقد استصحبَ من هؤلاء جمعًا غفيرًا، ولكنهم من أسافل القوم وغوغائهم، فتنظم الجيش وأكملت التدابير لمعسكراته وعندئذٍ أُقيمت حفلة تحليف الجنود اليمين؛ جريًا على عادة الرومانيين عند مباشرتهم حربًا.
فكان الجنود يحلفون اليمينَ متعهدين بأنهم لا يفرُّون من الجيش، ولا يبارحون المراكز التي يعهد إليهم في حراستها من خوفٍ أو هزيمة، وألا يتركوا الصفوف إلا لجلب السلاح أو لاسترجاعه أو لضرب عدوٍّ أو لحماية صديق، وعند الفراغ من هذه التدابير وغيرها أصبح الجيش على قدم الزحف، واتفق القنصلان على اقتسام السُّلطة بطريقة تختلف عن التي عمِل بها فابيوس وفلامينيوس؛ فكان اتفاقهما على أن يتولى كل واحد منهما السلطة يومًا واحدًا بالتعاقُب.
وفي غضون ذلك كان هنيبال يعاني البلاء المر في إيجاد أقواتٍ لرجاله، فإن سياسة فابيوس ضيَّقت عليه المسالك التي كانت تزداد ضيقًا يومًا عن يومٍ وتعرقل مساعيه، فلم يكن يستطيع الحصول على القوت إلا إذا طلبه بالسَّلب والنهب، حتى إن ذلك كان متعذرًا عليه في هذا الحين؛ لأن الأهليين كانوا قد جمَعوا كل الحنطة واختزنوها في بلدانٍ قوية التحصين، ومع اقتدار هنيبال وثقته بنفسه على منازلة الجيش الروماني في معركة نظامية وفي ساحة مفتوحة والتفوق عليه؛ فهو قد كان عاجزًا عن خرق الحصون وتدمير المعاقل.
وكان القوت الحاضر لديه قريبًا من النفاد، حتى إنه لا يكفي جيشه لأكثر من عشرة أيام، ولم يرَ وسيلة للاستزادة منه، ومن أجل هذا كان تائقًا إلى جر العدو للعِراك، فالقنصل فارو كان ميَّالًا شديد الرغبة في إجابته إلى ما يريد، ولكن بولس أميليوس كان ميَّالًا إلى اتباع الخطة التي سلكها فابيوس إلى أن تنتهي العشرة أيام؛ لعلمه أن هنيبال يصبح عندئذٍ في أشد الضيق وقد يضطر إلى التسليم ليُنقذ جيشه من غائلة الجوع.
وفي الواقع أن أرزاق الجند أصبحت قليلة إلى حد كثرت عنده الشكوى والتذمر، وهمَّ كثيرون من الجنود الإسبانيين بمغادرة جيش هنيبال والفرار إلى مُعسكر الرومانيين، وظلت الحال كذلك إلى ذات يوم أرسل فيه هنيبال جماعةً من رجاله في طلب القوت، وكان أميليوس ذلك اليوم متوليًا القيادة فوجه قوة من جيشه لتمنَعهم من ذلك، فأدرك بهذا ما أمَّله من النجاح، ولقيت جماعة هنيبال اندحارًا مشئومًا.
فقتل منها نحو ألفي رجل وهرب الباقون في كل سبيلٍ وجدوه عائدين إلى معسكر هنيبال، وكان فارو شديد الرغبة في ملاحقتهم إلى هناك، ولكن أميليوس أمر رجاله بالكفِّ عن ذلك؛ لأنه كان خائفًا من مكيدة أو حيلة مدبرة من هنيبال للفتكِ بهم، فاكتفى بما أحرزه من الفوز في تلك الوقعة، وكان هذا الفوز عاملًا على إلهاب صَدر فارو بالشوق إلى العراك وإثارة رُوح الإقدام في الجيش كله، وقد حدث بعد يوم أو يومين ما أوصل تلك الحدةَ إلى أرفع الدرجات.
فإن بعض الكشافة من الجيش الروماني الذين كانوا قائمين مقابل معسكر هنيبال؛ لملاحظة ما يدور فيه أبلغوا القنصلين أن حُرَّاس الجيش القرطجني القائمين حول المعسكر قد اختفوا فجأة، وأن قد ساد سكوتٌ عظيم في المعسكر القرطجني بجملته الأمر الذي كان من خوارقِ العادة في المعسكرات.
فتقدمت جماعات من الجيش الروماني بكل تؤدة وحذرٍ إلى أن تدانت من صفوف القرطجنيين، فعرفوا لفورهم أن المعسكر قد خلا من الجنود مع أن الخيام كانتْ لا تزال باقية والنيران مضطرمة، فكان ذلك باعثًا على هياج الجيش الروماني برمته واضطرابه، فتألَّب الجنود حول مضارب القنصلين وهناك طلبوا بإلحاح السماح لهم بالزحف على معسكر الأعداء والاستيلاء عليه، وملاحقة الجيش القرطجني قائلين: إن القرطجنيين قد لاذوا بالفرار، وما دام هنيبال قد ترك خيامه ونيرانه مضطرمة فهو يريد مخادعتنا؛ لكيلا نتبعه فلنسرعْ في اللحاق به في الحال.
وكانت حدة القنصل فارو مماثلة لحدة الجنود وهو يدعو إلى القتال متهوِّسًا، أما أميليوس فكان متردِّدًا وألقى على الجنود أسئلة عديدة مستفهمًا، وأخيرًا دعا إليه ضابطًا اسمه ستاتليوس معروفًا بالدراية والفِطنة، وأمره باقتياد طائفة من الفرسان والذهاب إلى المعسكر القرطجني والوقوف على الحقيقة والرجوع إليه بالخبر اليقين، ففعل ستاتليوس كما أمره أميليوس، فلما تدانى من معسكر هنيبال أمر جنودَه بالوقوف، واستصحب فارسين يعتمد على شجاعتهما وقوتهما وتقدم.
فاقترب الفرسان الثلاثة من المعسكر القرطجني، وفحصوا كل شيء للاستيقان مما إذا كان هنيبال وجيشه قد غادَروا المكان أو أن في الأمر مكيدةً مقصودة. ولما عاد الضابط إلى رئيسه قال إنه يعتقد بأن إخلاء المعسكر لم يكنْ حقيقيًّا؛ بل حيلة مدبرة لإيقاع الرومانيين في حباله، فإن أعظم النيران المشتعلة كانت على الجانب المقابل لمعسكر الرومانيين مما دلَّ على أن إيقادها على تلك الصورة كان مقصودًا به الخديعة.
وقال أيضًا إنه رأى نقودًا وأشياء أخرى ذات قيمةٍ مبعثرة في أرض المعسكر، مما أقنَعه بأنها ألقيت كذلك بمثابة شرَك، وليست مما قد تُرك بعد فرار أصحابه للتخفيفِ عنهم، فلم يقتنع فارو بذلك، وعندما سمع الجيش بالمال المتروك في المعسكر زاد تحمُّسه، واشتدت رغبته في النَّهبِ إلى حد العصيان، حتى أصبح أمر رده عن ذلك من الصعوبة بمكان.
وفي غضون ذلك أقبل على معسكر الرومانيين عبدان رقيقان كانا قد وقَعا أسيرين في قبضة القرطجنيين قبل ذلك، فأخبرا القنصلين بأن الجيش القرطجني مختبئٌ بجملته في مرصاد قريبٍ من هناك، وهو يتوقع دخول الجيش الروماني في معسكره الذي غادره، وعندئذٍ يحيط به من كل جانب ويفتكُ برجاله، وقالا إنهما قد تمكنا من الفرار في وسط الضَّجَّة التي حصَلت من انتقال القرطجنيين إلى حيث اختبئُوا.
فاقتنع الرومانيون بما سمعوه ورجعوا عن قصدهم مُستائين وقد خابتْ منهم الآمال، وكذلك هنيبال الذي خاب مسعاه واغتاظَ كثيرًا عاد إلى معسكره، ووجد بعد ذلك بقليل أنه غير قادر على البقاء طويلًا هناك؛ فإن الأقوات التي معه قد نفِدَت وهو غير قادر على جلبِ غيرها، وأن الرومانيين لا يخرجون من معسكرهم لينازلوه في ساحةٍ منفرجة، وهم متحصنون في ذلك المكان بحيث يعجز عن مهاجمتهم في مواقفِهم، فقر رأيه على مغادرة تلك الجهة من البلاد والانتقال بسرعة إلى ناحية أكويلا.
وأكويلا هذه واقعة على الجانب الشرقي من إيطاليا يجري في وسطها نهر اسمه أفيدوس، وعلى مقربة من مصبِّه بلدةٌ اسمها كانيه، وكان إقليم نهر أوفيدوس عبارة عن وادٍ دافئ معرض للشمس وفيه الشيء الكثير من مزارع الحنطة التي اقترب وقتُ حصادها، فأعجبه توجهه إلى ناحية الجنوب حيث تكون المحصولات أقرب إلى النُّضج بتأثير الشمس من أي مكان، فيتسنى له إذ ذاك أن يمأن جيشه ويوفر له ما يَحتاجه.
وعلى هذا صمم على ترك المكان الذي عسكر فيه والانتقال إلى أكويلا، وجرى على نفس طريقته التي عمل بها من قبل لمخادعة الرومانيين، فترك خيامًا منصوبةً ونيرانًا مشتعلة وسير جيشه ليلًا تحت جنح الظلام بكل هدوء وسكينة؛ بحيث لم يشعر الرومانيون بتركه ذلك المكان، وفي اليوم التالي عندما بدَتْ لهم مظاهر خلو المعسكر القرطجني من الرجال، ظنوها خدعة أخرى فلم يأتوا بحركة.
أخيرًا اتصلت بهم أخبار تفيد أن جيشًا كبيرًا هو جيش هنيبال — دون ريب — يسير على عجل مثقلًا بأحماله إلى الشرقِ بعيدًا منهم، فبعد الجدال الطويل والتردد الكثير عوَّل الرومانيون على اللحاق به، وهكذا كانت نسور جبال أبنين تنظر من العلاء جماهيرَ غفيرة من الجنود تزحف بين الغابات سائرةً إلى حيث تلحق بجماهير أخرى سبقَتْها، فإذا سارتْ تلك سارت هذه، وإذا وقفت وقفت.
وتدانى جيش الرومانيين من جيش هنيبال إلى أن واجهه على نهر أوفيدوس قريبًا من كانيه، فعسكر الجيشان هناك استعدادًا للقتال، وكانت لهما ضجة وجلَبة شأن سائر الجيوش التي تكون آخذة في الاستعداد للقتال في ثاني الأيام وهي قريبة بعضُها من بعض. على أن الضجة الكبرى كانت في المعسكر الروماني التي تفاقمت هناك؛ لاختلافٍ حَصل في الرأي بين القنصليين وأشياعهما على أفضل خُطَّة يعمل بها الجيش الروماني في محاربة الجيش القرطجني.
فالقنصل فارو أصر على منازلة القرطجنيين في الحال ولكن أميليوس أبَى ذلك، فقال له فارو إنه يحتج بكل قوته على ذلك الإهمال الذي لا عُذر لهما في العمل به ويصرُّ على مكافحة الأعداء، وإنه لا يوافق قطعيًّا على أن يكون بعد ذلك مسئولًا عن إبقاء إيطاليا منطرحةً أمام ذلك العدو الفاتح، فأجابه أميليوس قائلًا إنه إذا أصر على القيام بمعركة فهو أيضًا يتبرَّأ من كل تبِعةٍ تتأتى عن نتيجة تلك المعركة.
واشترك رجال المعية في الجدال؛ فمنهم من كان على رأي هذا القنصل ومنهم من أيد ذاك، ولكن الأكثرية ناصرت فارو، ومن أجل هذا امتلأ المعسكر صياحًا وحدَّةً متناهية أدت إلى الشحناء، وكان سكان هاتيك الأنحاء في الوقت نفسه يفرُّون هاربين من أوطانِهم بعد مشاهدة هذه الجموع الغفيرة ذات الهيئات الشرسة الواقفة متقابلة استعدادًا للعِراك الذي توقَّعوه، وأنه سيكون هائلًا للغاية، وقد أخذوا معهم ما استطاعوا حملَه من ممتلكاتهم، وساروا بنسائهم وأولادهم إلى مسافات مختلفة إنقاذًا لهم من شر المعركة التي أوشكتْ رَحاها أن تدور، فوضعوهم في الجبال والكهوف.
وكان أولئك الهاربون من وجه الجيشين يحملون أخبارَ العراك القادم إلى حيث يصلون، فدرت إيطاليا بجملتِها بقرب اقتتال الجيشين، وأصبح الناس يتوقعون بفارغ الصبر نتيجة المعركة المنتظرة، وتمرنت الجيوش مدة يوم أو يومين استعدادًا للنزال، فكان فارو في يوم قيادته يعِدُّ كل شيء ويحثُّ الجنود على بذل منتهى الجهد في القتال، وأميليوس في يوم قيادته يُعاكسه عاملًا بكل قوته على التأجيل والإبطاء.
ولكن القنصل فارو فاز عليه وأقنع الجيش بأفضلية تعجيل المعركة، فهيَّأ الصفوف تأهبًا للشروع في العراك، أما القنصل أميليوس فكان لا يزال معارضًا لفارو في الابتداء بالقتال، ولكنه لما غُلب على أمره في ذلك أخَذَ في إعداد ما يساعد على الفوز، ويقلل بواعث الانخذال علمًا منه بأن الحرب واقعةٌ لا محالة، وابتدأت المعركة على صورة نترك للقارئ تصورها؛ لأن القلم يعجز عن وصفها.
فهناك جيش عدده خمسون ألفًا واقف مقابل جيشٍ عدده ستة وثمانون ألفًا؛ الأول جيش هنيبال والثاني الجيش الروماني. وقد اشتبكا معًا في تقتيل بعضهما بعضًا مدة ست ساعات، وفي رواية دائرة المعارف ثماني ساعات ضربًا بالسيوف وطعنًا بالخناجر وغير ذلك من أدوات قتال ذلك الزمان، بين ضجيج وصياح وعداء وألم وأنين كلها ممتزج معًا في ساحة واحدة اهتزت لما يجري فيها جوانب تلك الأرض التي دارت فيها المجزرة على مسافة أميال عديدة، فهيَّأت مشهدًا مرعبًا لا يدركه إلا الذي رأى مثل هذه المعارك العظيمة، وما يجري فيها من الهول والويل والتقتيل.
وكأننا بهنيبال لا يستطيع إتيان أمرٍ من الأمور بدون خدعة حربية، فهو قد أرسل في بدء المعركة قطعة من جنوده إلى صفوف الرومانيين تظاهرًا بأنهم قد هَجَروه وفروا من جيشه؛ ليلتحقوا بالأعداء، وعند وصولهم إلى صفوف الرومانيين ألقوا حِرابهم وتروسهم على الأرض إشارة إلى تسليمهم، فرحب الرومانيون بهم وفتحوا لهم سبيلًا اجتازوه إلى ما وراء الجيش الروماني، وأمروهم بالبقاء هناك.
وبما أنهم كانوا بلا سلاح لم يتركوا عندهم من الحراس سوى عدَدٍ قليل، على أن أولئك المخادعين كانوا مسلحين تحت الثياب بخناجر، فقعدوا ينتهزون الفرصة الملائمة حتى إذا حمِي وطيس المعركة على أشده هبُّوا من مجاثمهم وأفلَتوا من حرَّاسهم، وهاجموا الرومانيين من الوراء عندما بدا لهم أن الجيش القرطجني قد شدَّ على الجيش الروماني، وأبلى فيه البلاء الحسن من الأمام حتى إنه لم يستطع الثبات في وجه صدماته.
واتضح بعد ذلك أن الجيش الروماني قد أخذ يتضعضع في كل مكان ويتراجع، وكان تراجعه في أول الأمر بطيئًا وبشيءٍ من التأني فأصبح بعدئذ أشبه بالهزيمة، وفي فرار الجنود كان الجرحى والضعفاء من الجنود يُداسون تحتَ أقدام المنهزمين خلفهم، أو كانوا يُصرعون بضربات شديدة تنقض عليهم من رجال العدو الذين كانوا يجدُّون في اللحاقِ بالجند المنهزم، وفيما كان أحد الضباط الرومانيين منهزمًا في غضون ذلك المشهد الهائل أبصر عن بُعد ضابطًا آخر جالسًا على حجر، والدم يتدفق منه وهو على وشك الإغماء.
فلما وصل إليه وقف وتأمله فوجد أنه القنصل أميليوس، فعرَض الضابط واسمه لنتولوس جوادَه على القنصل ليمتطيه وينجو بنفسه، فأبى القنصلُ أميليوس ذلك قائلًا إن وقت إنقاذ حياته قد فات، ذلك فضلًا عن أنه لا يريد البقاء حيًّا، ثم قال «اذهب أنت ذاتك بأسرع ما تستطيع وما يجري بك الجواد إلى رومية، وأخبر الحكومة هناك عن لساني أننا قد خسرنا كلَّ شيء، وقل لهم أن يتأهبوا ويُعِدُّوا ما أمكن من الوسائل للدفاع عن المدينة، أسرع يا ولدي جهدَ إمكانك؛ وإلا سبقك هنيبال إلى بوابات المدينة.»
وأوصى أميليوس ذلك الضابط ليقول لفابيوس: إن الذنب ليس ذنبه في المخاطرة بمحاربة هنيبال؛ لأنه قد بذل الجهد في الحُئُول دون ذلك عاملًا في المقاومة بإرشاد فابيوس الذي بقي يرنُّ في أذنيه إلى آخر دقيقة، فاحتمل لنتولس الرسالتين وسار مسرعًا، وكان القرطجنيون جادِّين في أثَره وقد ترك القنصل يموت في مكانه، ووصل القرطجنيون فرأوا أميليوس على وشك الاحتضار فشكوا حرابهم في جسمه الواحد بعد الآخر، وهم يمرون من أمامه إلى أن لم يبقَ فيه حراك.
أما القنصل الآخر فارو فنجا بحياته هاربًا مع حرس من سبعين فارسًا إلى بلدة محصنة لا تبعد كثيرًا عن ساحة المعركة، وأعمل الفكرةَ هناك في لمِّ شعث جيشه المتبدد، وإعادة تنظيمه في تلك البلدة، وأما القرطجنيون فإنهم عندما رأوا النصر كاملًا لم يلاحقوا أعداءهم بل عادوا إلى معسكرهم، وصرفوا عدة ساعات في تبادل المسرات والتهانئ، ثم اتكئوا وناموا؛ لأنهم كانوا منهوكي القوى من التعب الناجم عن شدة جهادِهم في المعركة ذلك اليوم.
وكانت ساحة المعركة عندئذٍ ملأى بالقتلى والجرحى الذين بقوا الليل بطوله منطرحين مع الذين صُرعوا، وهم يئنون من الآلام ويبكون مما أصابهم من الرَّوع والجراح، وفي ثاني الأيام ذهب القرطجنيون إلى ساحة القتال بقصد نهب أجساد الرومانيين الذين صُرعوا هنالك، وكان منظر تلك الساحة مما تعافه النفوس وتقشعرُّ لهوله الأبدان. هناك كنت ترى جثث الخيل والناس مترامية بعضها فوق بعض، ومن المنطرحين هناك مَن فارق الحياة ومنهم من بقي فيه رمَقٌ يصيح ويستغيث متألمًا يطلب أن يُعطى جرعة ماء ينقع بها الغليل، فلا يجيبه أحد أو يجذب جسمه شيئًا فشيئًا للانسحاب من تحت أثقال الجثث الملقاة فوقه.
وكأن القرطجنيين الذين أصبح بغضهم للرومانيين مرًّا شديدًا، لم يكتفوا بما أحدثوه من القتل وسفك الدماء بذبح أربعين ألفًا من أعدائهم في عِراك واحد؛ ولهذا زادوا عليه شيئًا من نقمتهم فكانوا يطعنون أولئك الجرحى المنطرحين في تلك الساحة بحرابهم، ويعذبونهم بطرق مختلفةٍ متَّخذين ذلك وسيلة للتسلية، على أن عملهم هذا لم يُحسب قسوة لأولئك الضحايا الأشقياء؛ لأن كثيرين منهم كانوا يتمنون الخلاص من عذابهم؛ ولهذا كان العدد الكبير من الجرحى يكشفون عن صدورهم لمريدي تعذيبهم ويتضرعون إليهم؛ لكي يضربوهم الضربة القاضية التي تنقذهم من آلامهم.
وفيما كان القرطجنيون يتجولون بين القتلى والجرحى عثَروا على جندي قرطجني لا يزال حيًّا، ولكنه مقيد في مكانه بجسم جندي روماني مُلقًى فوقه، وكان وجه الجندي القرطجني وأذناه في تشويهٍ مخيف ذلك؛ لأن الجندي الروماني عندما سقط فوقه بعد أن وقع كلاهما جريحَين تابع الكفاح معه مستخدمًا أسنانه، عندما صار عاجزًا عن استخدام سلاحه، ومات في آخر الأمر على صورة بقي فيها جسده مُلقًى فوق عدوه القرطجني المنحل القوى.
وأحرز القرطجنيون أسلابًا كثيرة؛ إذ كان الجيش الروماني يحوي العدد الكبير من ضباط وجنود من النبلاء وأبناء الطبقات العليا، وكانت أسلحة هؤلاء وثيابهم ثمينة إلى الغاية، وجمع القرطجنيون أيضًا كمياتٍ وافرة من الخواتم الذهبية التي انتزعوها من أصابع جرحى وقتلى الرومانيين وقتلاهم، فبعث بها هنيبال إلى قرطجنة علامةً لانتصاره المبين.