تقديم
لم تكن قد أُتيحت لكاتب هذه الصفحات في معظم أعوامه الماضية فرصة طويلة الأمد، تمكِّنه من مطالعة صحائف تراثنا العربي على مَهل، فهو واحد من ألوف المثقفين العرب الذين فُتحت عيونهم على فكر أوروبي — قديم أو جديد — حتى سبقت إلى خواطرهم ظنونٌ بأن ذلك هو الفكر الإنساني الذي لا فكر سواه؛ لأن عيونهم لم تُفتح على غيره لتراه. ولبثتْ هذه الحال مع كاتب هذه الصفحات أعوامًا بعد أعوام: الفكر الأوروبي دراسته وهو طالب، والفكر الأوروبي تدريسه وهو أستاذ، والفكر الأوروبي مَسْلاته كلما أراد التسلية في أوقات الفراغ. وكانت أسماء الأعلام والمذاهب في التراث العربي لا تجيئه إلا أصداء مفككة متناثرة، كالأشباح الغامضة يلمحها وهي طافية على أسطر الكاتبين.
ثم أخذته في أعوامه الأخيرة صحوة قلقة؛ فلقد فوجئ وهو في أنضج سنيه بأن مشكلة المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة ليست هي كم أخذنا من ثقافات الغرب وكم ينبغي لنا أن نزيد؛ إذ لو كان الأمر كذلك لهان، فما علينا عندئذٍ إلا أن نضاعف من سرعة المطابع، ونزيد من عدد المترجمين، فإذا الثقافات الغربية قد رُصَّت على رفوفنا بالألوف بعد أن كانت تُرص بالمئين، لكن لا، ليست هذه هي المشكلة وإنَّما المشكلة على الحقيقة هي كيف نُوائم بين ذلك الفكر الوافد الذي بغيره يفلت مِنَّا عصرنا أو نفلت منه وبين تراثنا الذي بغيره تفلت مِنَّا عروبتنا أو نفلت منها؟ إنَّه لمحال أن يكون الطريق إلى هذه المواءمة هو أن نضع المنقول والأصيل في تجاور، بحيث نشير بأصابعنا إلى رفوفنا، فنقول: هذا هو شكسبير قائم إلى جوار أبي العلاء، فكيف إذن يكون الطريق؟
استيقظ صاحبنا — كاتب هذه الصفحات — بعد أن فات أوانه أو أوشك، فإذا هو يحس الحيرة تؤرقه، فطفق في بضعة الأعوام الأخيرة، التي قد لا تزيد على السَّبعة أو الثَّمانية، يزدرد تراث آبائه ازدراد العجلان، كأنه سائح مر بمدينة باريس، وليس بين يديه إلا يومان، ولا بد له من خلالهما أن يريح ضميره بزيارة اللوفر، فراح يعدو من غرفة إلى غرفة، يُلقي بالنظرات العجلى هنا وهناك، ليكتمل له شيء من الزاد قبل الرحيل. هكذا أخذ صاحبنا — وما يزال — يعب صحائف التراث عبًّا سريعًا، والسؤال ملء سمعه وبصره: كيف السبيل إلى ثقافة موحدة متسقة يعيشها مثقف حي في عصرنا هذا، بحيث يندمج فيها المنقول والأصيل في نظرة واحدة؟
وفي هذا الكتاب محاولات للإجابة، ربما أصابت هنا وأخطأت هناك، فلعل القارئ أن يفيد بالصَّواب وأن يعفوَ عن الخطأ، لا سيَّما إذا وجده خطأ من شأنه أن يُثير الحوار النافع، حتى ننتهيَ معًا إلى ما يُرضي ويريح.
جامعة الكويت، في يونيو ١٩٧١