شيء عن الإنسان
(أ) نموذج الإنسان في تراثنا
إنَّ الأمر كثيرًا ما يختلط علينا إذ نقرأ لأسلافنا ما كتبوا، فنسأل: ترى هل كانوا يرسمون بأقلامهم صورة معاصريهم، أو أنها صورة رُسمت لتُصلح في المعاصرين فسادًا؟ ترى هل حاكوا الواقع أو تصوروا المثال؟ وأيًّا ما كان شأن الأسلاف الكاتبين، حينما كتبوا عن الإنسان كيف كان أو كيف ينبغي له أن يكون، فها أنا ذا أمام تحليلات هبطت منهم إلينا، ولو نُشِرت أمام أبصارنا نحن أبناء هذا العصر، لوجدنا فيها — يقينًا — صورة الكمال الإنساني، التي تصلح معيارًا نقيس إليه واقع الإنسان المعاصر، لنرى كم بلغت في سلوكه زاوية الانحراف، نعم، إن هذه التحليلات التي أعنيها، تفوح برائحة اليونان الأقدمين، كأنما تلك — في مواضع كثيرة — تلخيص لهذه، لكن القبول نصف الابتكار، فيكفينا في هذا الصدد أننا قد قبلنا الصورة الكاملة معيارًا لنا، قبلناها عن اعتقاد ورضًى، وأجريناها على أقلامنا جزءًا من تراثنا، وليس يحد من كمال الكامل أين يكون مصدره.
المدار في نموذج الإنسان الكامل عندهم هو أن يكون «عاقلًا» بالتعريف الفلسفي الدقيق لكلمة «عقل»، فهي كلمة ما أيسر أن نقولها في سياق الحديث، ولكن ما أعسر أن تجد لها التحديد المحكم، ولئن كانت الفكرة كثيرًا ما يوضحها نقيضها، فنقيض العقل هو «الهوى»، فماذا يميز أحكام «العقل» من أحكام «الهوى»؟ يميزها أن الحكم من النوع الأول هو في كل حالة معينة واحد لا يتعدد بتعدد الأشخاص، أو بتعدد النزوات عند الشخص الواحد، على حين أن الحكم من النوع الثاني يقبل التعدد بكلتا الصورتين؛ فإذا قال قائل إنَّ العشرة نصفها خمسة، لم يكن ثمة مجال أمام غيره، ولا أمام نفسه أن يتنكر لهذا القول، مهما تكن ظروفه ومزاجه. وأمَّا إذا قال قائل إن شروق الشمس أجمل من غروبها، كان هنالك احتمال أن يختلف معه سواه، بل أن يختلف هو نفسه مع نفسه إذا تغيرت حالته. والعلة في وحدانية الحكم العقلي، وفي تعدد أحكام الهوى في أن حكم العقل نقيضه مستحيل على الذهن أن يتصور حدوثه، وأمَّا حكم الهوى فيمكن أن نتصور حدوث نقيضه.
ذلك استطراد أردت به أن أوضح للقارئ ماذا يُراد حين يُقال إن أساس الحكم لإنسان بالكمال عند المفكرين من أسلافنا، هو أن يكون مقيَّدًا بعقله إزاء الأشخاص والأشياء والمواقف، وقد كان من الأفكار المألوفة عند هؤلاء المفكرين جميعًا، فكرة جاءتهم من اليونان الأقدمين مع الترجمة التي نقلوا بها تراث أولئك اليونان، وهي أن يُقاس كمال الشيء بأدائه للفعل الذي خُلق من أجله، فشجرة البرتقال كمالها ليس هو نفسه الكمال بالنسبة إلى شجرة الورد، وكمال النمر أن يكون نمرًا وكمال القط أن يكون قُطًّا، ولا يجوز أن يحاسب نوع بكمال نوع آخر، وعلى هذا الأساس نفسه يكون كمال الإنسان مرهونًا بجوهره، وجوهره هو العقل، فأفضل الناس هو أقدرهم على التزام أحكام العقل فيما يفعل وما يجتنب «من غير تلون فيه ولا إخلال به في وقت دون وقت» كما يقول ابن مسكويه في كتابه «تهذيب الأخلاق».
ويجري ابن مسكويه — وغيره من مفكري العرب أجمعين — على نسق اليونان، فيحلل النفس الإنسانية تحليلًا يردها إلى قوًى ثلاث، ففيها الشهوة إلى إشباع حاجات للبدن، وفيها الغضب الذي يُستثار دفاعًا عن النفس، وفيها العقل، ولكل من هذه القوى فضيلته ورذيلته، فالفضيلة في الاشتهاء هي العفة وضدها هو الشَّرَه، والفضيلة في الغضب هي الشجاعة وضدها هو الجبن، والفضيلة في العقل هي الحكمة وضدها هو الجهل، وإذا اجتمعت هذه الفضائل الثلاث كان من اجتماعها فضيلة رابعة هي العدل. على أن القوى الثلاث التي ذكرناها، ليست كلها على درجة واحدة، بل فيها ما هو أعلى وما هو أدنى، والعقل أعلاها، وهو الذي من شأنه أن يلجم الغضب وأن يحدَّ من الشهوة، ليقف كلًّا منهما عند الدرجة التي ترضاها الحكمة، كأنه هو القائد في مركبة يجرها جوادان — إذا استخدمنا التشبيه المعروف الذي صوَّرَ به أفلاطون حقيقة الإنسان في حالة كماله — فهو يسوس الجوادين بالزمام في يده ليضمن للعربة اعتدال السير.
وإن الناس ليتفاوتون في الطرق التي يسوسون بها حياتهم وفق حكمة العقل، تفاوتًا ليس له نظير في أفراد نوع آخر؛ لأن سائر ضروب الكائنات الحية تسير على قوانين طبائعها، ليس لها في ذلك اختيار فلا فرْقَ يُذكَر بين نمر ونمر ولا بين قط وقط إذا تُرك وطبيعته، أمَّا الإنسان ففي فطرته أن يختار؛ ولذا فمن واجبه أن يكون مسئولًا عن اختياره. ومن هنا جاء التفاوت الفسيح بين إنسان وإنسان في مقدار احتكامه للعقل حين يختار. ويذكر لنا ابن مسكويه في هذا السياق حديثًا شريفًا: «ليس شيء خيرًا من ألف مثله إلا الإنسان.» كما يذكر كذلك هذا البيت من الشعر:
على أنني أحب ألا أمضي بالحديث عند هذه النقطة، دون أن أنبه القارئ إلى فكرة هامة، لو أفلتت من أيدينا فقد أفلت ركن ركين في بنية الفكر العربي، ألا وهي أنهم — أعني أسلافنا من مفكري العرب — لم يتصوروا قط أن يقتصر الإنسان على حكمة العقل دون أن يمدَّها إلى فعل يؤديه بناءً عليها، فلا يكون العلم علمًا عندهم إلا إذا أعقبه العمل على أساسه.
وفي ظني أن هذه الإضافة جاءت لتميز المفكر العربي من سلفه اليوناني، برغم اشتراكهما في الطريقة التي حللوا بها النفس الإنسانية، «فالقوة العالمة» — على تعبيرهم — التي تتمثل فيما نحصله من معارف وعلوم، تكملها «القوة العاملة» التي تتمثل في تنظيم أمور الحياة وترتيبها.
وعلى هذا الضوء نستطيع أن نفهم ابن مسكويه حين يقول: «إن ما يختص به الإنسان من حيث هو إنسان، وبه تتم إنسانيته وفصائله هو الأمور الإرادية.» كما نفهمه كذلك حين يحدد الخير بأنه «فعل» ما قصد به من وجود الإنسان، ويحدد الشر بأنه هو ما يعوق ذلك الفعل. وتطبيقًا لهذه القاعدة لا يكون الخير أبدًا فيمن «يتأمل» وهو ساكن، بل لا يكون الخير أبدًا فيمن يملأ رأسه بثقافات الأولين والآخرين، ثم لا فعل بعد ذلك يؤديه على ضوء ما قد عرف.
•••
وننتقل إلى عَلَم آخر من أعلام الفكر العربي — هو الإمام الغزالي — لنجده يشارك في الأسس نفسها وفي الروح نفسها، فأول ما يلفت أنظارنا في هذا الصدد عنده، أن له لكتابين، أراد بكل منهما أن يكون قسيمًا للآخر كأنما أراد أن يعلن بألا حياة على أي درجة من الكمال إلا إذا اجتمع فيها قسط من ذينك القسيمين. وأمَّا الكتابان اللذان أعنيهما فهما «معيار العلم» و«ميزان العمل»، ففي الكتاب الأول يضع للعلم حدوده ويقيم له الأسس التي تضمن له الصواب، وفي الكتاب الثاني يبين كيف يجيء العمل وفق ذلك العلم.
ويرى الغزالي — كغيره من المفكرين العرب — أن صورة الإنسان الكامل لا تتحقق لنا إلا إذا حللنا النفس الإنسانية أوَّلًا، فتراه يهيب بالباحث أن يعرف نفسه كأنه في ذلك سقراط، فيقول: اعرف نفسك يا إنسان تعرف ربك. كما يروي في هذا السياق حديثًا شريفًا: «أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه.» ثم يقرر لنا في السياق نفسه أن معرفة النفس ومعرفة الله أمران متلازمان: «ومن رحمة الله على عباده أن جمع في شخص الإنسان على صغر حجمه من العجائب ما يكاد بوصفه يوازي عجائب كل العالم، حتى كأنه نسخة مختصرة من هيئة العالم، ليتوصل الإنسان بالتفكير فيها إلى العلم بالله.»
لكنه إذ يحلل النفس إلى قواها، يأخذ بالتحليل نفسه الذي نُقل إليهم عن اليونان، وهو أن يجعل فيها شهوة تطلب اللذة، وغضبًا يطلب الغلبة، ثم عقلًا يسوس السير ويضبط الخُطى. فإذا أراد ذكر الفضائل جعلها أربعة، فالحكمة فضيلة القوة العقلية، والشجاعة فضيلة القوة الغضبية، والعفة فضيلة القوة الشهوانية، ومن توافر هذه الفضائل الثلاث تنشأ الفضيلة الرابعة وهي العدالة … هذا، ولم يَدَع الغزالي موضعًا في كتابه إلا وأعاد فيه القول بضرورة أن يجيء «العمل» لاحقًا ضروريًّا «للعلم» الذي تُدركه القوة المفكرة، وإن يكن يجعل لهذين اللفظين معنى خاصًّا، فالعلم — عنده — هو علم بالإلهيات، والعمل — عنده — هو العبادة وفق ذلك العلم، لكن تحديده لهذه المعاني لا ينفي بنية الإطار الفكري الذي نتحدث عنه، وهو تصور الموقف مرتكزًا على قطبين، هما العلم من ناحية وتطبيقه من ناحية أخرى، كائنًا ما كان المعنى الذي يعطيه المفكر للعلم والمعنى الذي يحدد به نوع العمل.
•••
تلك — إذن — هي الأسس النظرية لنموذج الإنسان الكامل عند المفكر العربي القديم: تحليل للنفس على نحو ما حللها به اليونان الأقدمون، وهو تحليل مؤداه أن تكون القيادة للعقل، هو الذي ينظم الرغبة والانفعال، دون أن تُطمس رغبة أو أن يُطفأ انفعال. لكن الفكر العربي لم يترك الأمر عند هذا الحد النظري المجرد، بل تناوله بصورة تفصيلية تصلح لهداية الناس في سلوكهم الفعلي. ونسوق مثلًا لهذا التناول المفصل ما كتبه أبو بكر محمد بن زكريا الرازي فيما أَطلَق عليه اسم «الطب الروحي» أو «طب النفوس»، والذي أوحى له بهذا العنوان هو كتابه الذي كان قد ألفه في الطب الجسماني، فما لبث أن رأى أن الصورة لا تكمل إلا بكتاب آخر يؤلفه في طب النفوس ليصح الإنسان بالكتابين جسدًا وروحًا.
والذي قصد إليه الرازي بطب النفوس هذا هو أن يتعقب مصادر النقص الخلقي عند الإنسان، ليبين لقارئه كيف يكون أسعد حالًا وأهنأ حياةً إذا هو ملك زمام فطرته ووجهها على النحو الذي يهيئ له حياة متزنة معتزلة مأمونة العواقب. وهو يصف كتابه هذا في فاتحته بقوله: «هذه مقالة عملتها في إصلاح الأخلاق» — قاصدًا «بالأخلاق» ذلك السلوك السوي السليم، وهو باتجاهه هذا إنما يذكرنا بجانب هام من جوانب الطب النفسي الذي شاع في عصرنا هذا وذاع وأصبحت له «عيادات» وتصدر عنه مئات المؤلفات، مع اختلاف في طريقة التناول تتناسب مع اختلاف العصرين.
ولقد فصَّل الرازي كتابه عشرين فصلًا، كان أولها فصل في فضل «العقل» ومدحه، وها هنا نضع أصابعنا على مفتاح رئيسي من مفاتيح الشخصية العربية كما صورها تراثنا، إلا تكن هي الشخصية العربية كما وقعت بالفعل في مجرى التاريخ، فهي الشخصية التي تعلَّق بها النموذج والمثال، فنموذج الإنسان كما رسموه هو الإنسان الذي كان محكومًا بعقله، لا بشهوته وغريزته، بل ولا بوجدانه وعاطفته، ولماذا تركوا الزمام للعقل لا للهوى؟ الإجابة عند الرازي — وغيره — أن ذلك أجلب «للمنافع» آخر الأمر، فقد تعود علينا الأهواء بإشباع لرغباتنا سريع، لا يلبث أن ينقلب علينا همًّا وغمًّا، وأمَّا فعل «نبنيه» على وزن نتائجه القريبة والبعيدة — وهذا هو نفسه العقل ومعناه — فالأرجح أن يكون مأمون العاقبة، فالعقل — كما يقول الرازي — هو «الشيء الذي لولاه كانت حالتنا حالة البهائم والأطفال والمجانين»، «وبالعقل نتصور أفعالنا العقلية قبل ظهورها للحس، فنراها كأن قد أحسسناها.» وما دام أمره كذلك فقد «حق علينا ألا نجعله وهو الحاكم محكومًا عليه، ولا وهو الزمام مزمومًا، ولا وهو المتبوع تابعًا، بل نرجع في الأمور إليه … ولا نسلط عليه الهوى الذي هو آفته.» وأنا أترك للقارئ العربي المعاصر أن ينظر لنفسه ويحكم: إلى أي حد يكون زمامنا في أيدي عقلائنا، وإلى أي حد نترك هذا الزمام لأصحاب النزوة والهوى؟
وإذا كان الاحتكام إلى العقل هو أحد وجهي العملة — كما يُقال — فلا بد أن يكون الوجه الآخر هو في قمع الهوى وردعه؛ لأن هذا مكمل ضروري لذاك؛ ومِنْ ثَمَّ جعله الرازي موضوعًا للفصل الثاني من كتابه، فلئن كان الإنسان بعقله مدركًا للأمور إدراكًا صحيحًا، فهو بقمعه لهواه صاحب «إرادة»، والعقل من جهة، والإرادة من جهة أخرى، هما — كما نعلم — جانبان متلازمان: أحدهما له النظر والآخر عليه التنفيذ. وليس الأمر بالهين اليسير إلا على من تناول إرادته بالتدريب المتصل الدءوب؛ وذلك لأن ما سوف يقاومه الإنسان بإرادته تلك إنما هو طبع مغروز في جِبِلَّته. فانظر كم هو عسير على الكائن الحي أن يسير ضد طبيعته، فلعل هذه أن تكون هي «الأمانة» التي عُرضت على الجبال فأَبَيْن أن يحملنها، وحملها الإنسان (والكلام هنا من عندي لا من عند الرازي)، فلقد آثرت الجبال، ومعها سائر الطبيعة من جماد ونبات وحيوان أن تترك نفسها لقوانين ليست من صنعها، فهي تسير ولكنها لا تعرف: لماذا؟ ولا إلى أين؟ إلا الإنسان! يقول الرازي: البهائم واقفة عندما يدعوها إليه الطباع، على خلاف الإنسان الذي يسلك السلوك بعد روية عقلية فيخالف به ما يدعو إليه الطباع، «فإنك لا تجد بهيمة تُمسك عن أن تروث أو تتناول ما تغتذي به، مع حضوره وحاجتها إليه، كما تجد الإنسان يترك ذلك ويقهر طباعه عليه، لمعانٍ عقلية تدعوه إلى ذلك.»
ولا نطيل الوقوف هنا لننتقل إلى نقيصة نفسية لا نبرأ منها إلا بتسليط العقل على الهوى، وتلك هي «العُجْب»، فكل إنسان هو بطبيعته محب لنفسه، وذلك يدعوه إلى «استحسان الحسَن منها فوق حقه، واستقباح القبيح منها دون حقه … فإذا كانت للإنسان أدنى فضيلة، عظمت عند نفسه، وأحب أن يُمْدَحَ عليها فوق استحقاقه، وإذا تأكدتْ فيه هذه الحالة صار عُجْبًا، ولا سيَّما إن وجد قومًا يساعدونه على ذلك» …
ومن بلايا «العُجب» — كما يقول الرازي — أنه يؤدي إلى النقص في الأمر الذي يقع به العجب، لأن المعجب لا يروم التزيد في الباب الذي منه يعجب بنفسه … فالمعجب بعمله لا يتزيد منه، لأنه لا يرى أن فيه مزيدًا، ومن لم يستزد من شيء ما نقص لا محالة وتخلَّف عن رتبة نظرائه.
ومن العُجب ينتقل المؤلف إلى الفصل السابع من كتابه في الحسد، ويحلل الحسد إلى عنصرين يجتمعان هما: البخل والشره، فالحسد أعم وأوسع من البخل على حدة، ومن الشره على حدة، إذ البخيل لا يحب أن ينال أحد مما يملكه شيئًا، لكن الحسود يضيف إلى ذلك جانبًا آخر، هو ألا ينال أحد خيرًا، حتى ولو لم يكن ذلك مما يملكه هو.
ومُحال على «عاقل» أن يكون «حسودًا»؛ لأن الحسد والعقل ضدان؛ ذلك لأن الحسود لا يحسد البعيدين عنه، فهو لا يحسد من بالهند والصين — على حد تعبير الرازي — وإنما ينصبُّ حسده على الأقربين منه، فإذا احتكمنا هنا إلى العقل، قلنا إنه إذا كان حمقًا أو جنونًا أن يحزن الحاسد لخير ناله البعيدون عنه، فإن حمقًا مثله أن ينال الخير من هو بحضرته وقريب منه، إذ الأقربون هنا — كالأبعدين — في أنهم لم يسلبوه شيئًا مما في يديه، ولا منعوه بلوغ شيء كان يقدر عليه.
واقرأ هذه العبارة النافذة من كلام الرازي في الحسد: «إنَّا نرى الرجل الغريب يملك أهل بلد ما، ولا يكادون يجدون في أنفسهم كراهة لذلك، ثم يملكهم رجل من بلدهم، فلا يكاد أن يتخلص ولا واحدٌ منهم من كراهته لذلك، هذا على أنه ربما كان هذا الرجل المالك — أعني البلديَّ — أرأف بهم وأنظر إليهم من المالك الغريب. وإنما يؤتى الناس في هذا الباب من فرط محبتهم لأنفسهم، وذلك أن كل واحد منهم — من أجل حبه لنفسه — يحب أن يكون سابقًا إلى المراتب المرغوب فيها، غير مسبوق إليها، فإذا هم رأوا من كان بالأمس معهم اليوم سابقًا لهم مقدَّمًا عليهم، اغتموا لذلك، وصعب، واشتد عليهم سبقه إياهم إليها، ولم يرضهم منه تعطفه عليهم، ولا إحسانه إليهم؛ لأن أنفسهم متعلقة بالغاية مما صار إليه هذا السابق، لا غير، لا يرضيهم سواه، ولا يستريحون دونه، وأمَّا المالك الغريب، فمن أجل أنهم لم يشاهدوا حالته الأولى، لا يتصورون كمال سبقه لهم، وفضله عليهم، فيكون ذلك أقل لغمهم وأسفهم، وقد ينبغي أن يرجع في مثل هذا إلى العقل.»
ومما يمحو الحسد عن النفس — هكذا يمضي الرازي في قوله — أن يتأمل العاقل أحوال الناس، فإنه سيجد أن حالة المحسود عند نفسه خلافها عند الحاسد، فلا يزال الإنسان يستعظم الحالة، ويتمنى بلوغها، حتى إذا بلغها لم يُسَرَّ بها إلا مديدة يسيرة، بقدر ما يستقر فيها ويتمكن منها ويُعرَف بها، ثم تسمو نفسه إلى ما هو فوقها … إنه عندئذٍ يصير بين همٍّ وخوف، خوف من النزول عن الدرجة التي بلغها، وهمٍّ لما يتمنى بلوغه.
وينتقل المؤلف إلى حالة الغضب ووجوب دفعه؛ لأن الغضب إذا اشتد وأفقد الغاضب عقله، «فربما كانت نكايته في الغاضب وإبلاغه إليه المضرة أشد وأكثر منها في المغضوب عليه»، والحق أنه «ليس بين من فقد الفكر والروية في حال غضبه وبين المجنون كبير فرق.»
ثم يتناول الكاتب حالة الكذب وكيف يقضي العقل عند العاقل بوجوب اطِّراحه؛ لأن الكذب يدعو إليه الهوى؛ إذ كثيرًا ما يكون الدافع إلى الكذب هو رغبة «الإنسان في التكبر والترؤس» — هذه عبارة الرازي — فيقول القول الكاذب إذا رآه مما يهيئ له الرفعة على سامعه، «وقد قلنا إنه ينبغي للعاقل أن لا يُطلِق هواه فيما يخاف أن يجلب عليه من بَعْدُ همًّا وألمًا وندامةً، ونجد الكذب يجلب على صاحبه ذلك.»
إنني لألفت نظر القارئ إلى طريقة الرازي في التفرقة بين ما يجوز فعله وما لا يجوز؛ إذ هو يجعل المدار كله على «المنفعة» في المدى البعيد لا على تطبيق المبادئ أيًّا كانت نتائجها في حياة الإنسان، ولما كان الفعل الواحد كثيرًا ما يختلط نفعه بضرره، كان دور العقل هنا هو أن يوازن بين النفع والضرر، وأيهما يكون له الرجحان يحدد للإنسان طريق سلوكه إقبالًا على الفعل المعين أو إدبارًا عنه. وبعد هذه الملاحظة مِنَّا، اقرأ هذه الموازنة الطريفة في حالة الكذب: «ليس يصيب الكذاب من الالتذاذ والاستمتاع بكذبه — ولو كذب عمره كله — ما يقارب — فضلًا عما يوازي — ما يُدفع إليه — ولو مرة واحدة في عمره كله — من همِّ الخجل والاستحياء عند افتضاحه، واحتقار الناس» …
ويجيء بعدئذٍ حديث المؤلف عن البخل، وها هنا نجد تفرقة غاية في اللطافة والدقة، وذلك أن البخل ليس دائمًا من فعل الهوى، بل منه ما قد يكون نتيجة روية عقلية وبُعد نظر إلى المستقبل البعيد. ولما كان «العقل» هو مدار أحكامنا، كان البخل الذي نحاربه هو ذلك الجانب منه المبني عند البخيل على مجرد خوف من الفقر خوفًا لا يقوم على أساس معقول؛ لأن ذلك من قبيل الهوى، وأمَّا ما ينبني على تدبر العقل فهو مقبول.
ويمضي الرازي في تطبيق معيار العقل على ضروب النقص التي تُفقد الإنسان صحته النفسية، فيتحدث عن حالة «الغم» ووجوب دفعها، وما الوسيلة لهذا الدفع إلا أن يحدَّ الإنسان من رغباته وشهواته ومواضع حبه؛ إذ الغم هو في صميمه خوف عند المغموم من أن يفقد ما يملك، فلو درَّبَ نفسه على الاستقلال عن الأشياء بحيث إذا ضاع منها ما ضاع لم يحس مرارة ضياعه، كان بذلك قد أبرأ نفسه من علة الغموم.
وعلى هذا الأساس نفسه يحدثنا المؤلف عن حالات «الشره» و«السُّكر» و«شهوة الجنس» وما إليها من رغبات الجسد، التي لا تبلغ أبدًا حد الإشباع، وإذن فالعلاج هو الوقوف منها جميعًا موقف القصد والتوسط، فلا نئدها ولا نندفع وراءها إلى آخر المدى.
ويختم الرازي مقالته هذه عن طب النفوس بحديث عن الخوف من الموت وكيف يجب التخلص منه بتحكيم العقل: «فالإنسان ليس يناله من بعد الموت شيء من الأذى بَتَّة؛ إذ الأذى حس، والحس ليس إلا للحي وهو في حالة حياته … فإذا قيل: ليس في الموت لذائذ الحياة، قلنا: ليس بالميت حاجة إليها، ولا له إليها نزوع.»
ويلخص الرازي السيرة الفاضلة — أي صحة النفس — في سطرين، فيقول: «إن الإنسان إذا لزم العدل والعفة، وأقلَّ من مماحكة الناس ومجاذبتهم، سلم منهم، وإذا ضم إلى ذلك الإفضال عليهم، أُوليَ منهم المحبة، وهاتان الخلتان هما ثمرتا السيرة الفاضلة.»
•••
والمبدأ الأساسي عند الجاحظ في رسالته هذه — كما هو عند ابن مسكويه والغزالي والرازي جميعًا — هو احتكام المرء إلى عقله دون الميل والهوى، على أن يفهم «العقل» بمعنى الطرق المؤدية آخر الأمر إلى نفع يرجح الضرر: «اعلم أن الله جل ثناؤه خلق خلقه، ثم طبعهم على حب اجترار المنافع ودفع المضار، وبُغْض ما كان بخلاف ذلك، هذا فيهم طبع مركب، وجِبِلَّة مفطورة، لا خلاف بين الخلق فيه، موجود في الإنس والحيوان.»
ويعقب الجاحظ على ذلك بعبارة كأنما أراد بها أن يشرح للوزير ما يقصد إليه حين يؤسس السلوك على «العقل»، وحين يترجم مثل هذا السلوك العاقل بأنه هو الذي ينشد أكبر النفع في نهاية الأمر، فيقول ما معناه إن العبرة هي في قدرة الإنسان على رؤية النتائج الأخيرة منذ أوائل الأمور، «واستشفافه بعقله ما تجيء به العواقب»، وبقدر تفاوت الناس في هذه القدرة يكون تفاوتهم في الفضائل، وأمَّا إذا انتظر المرء حتى يقع ما يقع فيراه حين يقع «فذاك أمر يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعالمون والجاهلون.» ثم ينصح الجاحظ وزيره بأن يحكِّم وكيل الله عنده — ويعني بذلك عقله — على هواه، ويلقي إلى عقله بزمام أمره.
وكذلك يوصي الوزير بالعدل، قائلًا له: «اعلم أن الحكم في الآخرة هو الحكم في الدنيا، ميزانٌ قسطٌ، وحكم عدلٌ»، ولعل من أركان العدل أن يحفظ الناس أقدارهم إذا قام بينه وبينهم معاملة، على أن تُقاس هذه الأقدار على قدر البلاء والاستحقاق، محذِّرًا إياه أن يركن في تقديره للناس إلى الهوى.
وينصح الوزير أن «اجلس في المحافل دون الموضع الذي تستحقه حتى يرفعك أهلها، فإذا تنافس القوم في حديث وعندك منه مثل ما عندهم فأمسك حتى يحتكموا إليك؛ لأنك إن نافستهم كنت واحدًا منهم.»
وهو إذ يذكر له الفضائل الأساسية، يتفق فيها مع غيره ممن ذكرنا أو لم نذكر، وكذلك الأمر حين يحذره من الرذائل المذمومة التي من شأنها أن تزيل عنه السلطان، ومن أهمها الكذب والغضب والجزع والحسد، وله في هذه الرذائل كلام بلغ غاية الجودة ونفاذ البصر. ثم هو يفرق له بين طريقة يعامل بها عدوه وأخرى يعامل بها صديقه، فعليه مع العدو أن يحصِّن عنه أسراره، وأن ينتهز له الفرصة فيظهر حجته عليه، وأن يُظهر له الاستهانة به، لكن يستبطن الحذر منه والاستعداد له. أمَّا مع الصديق فيوصيه قائلًا: «… لا تكونن لشيء مما في يدك أشد ضنًّا، ولا عليه أشد حدبًا، منك بالأخ الذي قد بلوته في السراء والضراء … فإنما هو شقيق روحك … ومُسْتَمَدُّ رأيك، وتوأم عقلك، ولست منتفعًا بعيش مع الوحدة، ولا بد من المؤانسة … ثم لا يزهدنك في الصديق أن ترى منه خلقًا أو خلقين تكرههما، فإن نفسك التي هي أخصُّ النفوس بك لا تعطيك المقادة في كل ما تريد، فكيف بنفس غيرك؟»
واقرأ هذه الإرشادات المتوالية التي يوجهها الجاحظ لوزيره، واجعل صورة مكيافلي ماثلة أمامك في كل ما تقرره للجاحظ هنا، لتعلم مدى البون بين ناصح وناصح، فبينما يقول مكيافلي لأميره: إن الأمير الذي يريد حفظ كيان دولته، لا بد له في كثير من الأحيان أن يخالف الذمة والمروءة والإنسانية والدين، يقول الجاحظ لوزيره أن يحذر الافتئات على حق إنسان لضعفه، بل إن سمو الحكم هو في أن يغلب الحاكم نفسه ليكون في نصرة الضعيف، فالحِلم — مثلًا — كما يقول الجاحظ حِلمان، أشرفهما حِلمك عمن هو دونك، والصدق صدقان، أعظمهما صدقك فيما يضرك، والوفاء وفاءان، أسناهما وفاؤك لمن لا ترجوه ولا تخافه، تلك هي — كما يقول — أركان الدين، وهي كذلك أركان الدنيا. ويستطرد الجاحظ مرشدًا للوزير: احذر المفاخرة بالأنساب … اقتصد في مزاحك فإن الإفراط فيه يذهب بالبهاء، ويجرئ عليك أهل الدناءة، وإن التقصير فيه يقبض عنك المؤانسين، «وأنا أوصيك بخلق قلَّ من رأيته يتخلق به … ألا يُحدث لك، انحطاطُ من حطت الدنيا من إخوانك استهانةً به … ولا يُحدث لك ارتفاع من رفعت الدنيا منهم تذلُّلًا وإيثارًا على نظراته في الحفظ والإكرام» …
•••
تلك صور للإنسان الأكمل صورها السالفون، فإن يكن عسيرًا على الطبع أن يجربها في معاملات الحياة الواقعة، فلا أقل من أن نرفعها أمام الأبصار نموذجًا، وإن القوم ليُعرَفون بمُثُلِهم العليا كما يُعرَفون بتاريخهم الواقع، قد يعابون بهذا ويُمدَحون بذاك، لكن الجانبين معًا يكونان الصورة الحق، إذا أردنا الإنصاف.
(ب) الإنسان العربي، كيف يواجه الطبيعة؟
ماذا يكتب الكاتب العربي، حين تكون الثقافة القومية عنده هي موضوع النظر، سوى أن يلتمس لها موضعًا بين ثقافات عصره، فتسايرها بما يجعلها متفقة مع روح العصر، وتخالفها بما يحفظ لها كيانها المتميز؟ وأمَّا المسايرة فأدنى درجاتها أن نشارك أبناء عصرنا همومهم ومشكلاتهم، بحيث تكون المسائل الرئيسية المطروحة للبحث هي نقطة الالتقاء التي يجتمع عندها المفكرون جميعًا، كلٌّ بوجهة نظره، فالذي يجعل العصر الفكري المعين عصرًا واحدًا ليس هو أن تتفق إجابات المفكرين عن الأسئلة المطروحة، بل هو أن تكون الأسئلة المعينة الواحدة مطروحة للجميع، أمَّا أن يكون موضوع البحث الرئيسي في هذا الركن من أركان العالم هو كذا، وفي ذلك الركن هو كَيْت، فعندئذٍ لا يكون الركنان كائنين في عالم واحد بالمعنى التاريخي، برغم أنهما واقعان في عالم واحد بالمعنى الجغرافي لهذه العبارة. وانظر نظرة الطائر إلى عصور الفكر المتعاقبة، تجد أن سقراط وأفلاطون وأرسطو يكوِّنون عصرًا فكريًّا واحدًا؛ لأن المسائل الرئيسية الموضوعة عندهم للبحث واحدة، لا لأنهم اتفقوا في الرأي حولها. وتجد جماعة المتكلمين في تاريخ الفكر الإسلامي يكونون مدرسة واحدة ويعيشون معًا في عصر فكري واحد؛ لأن أمهات المسائل التي عرضوها للنظر واحدة عندهم جميعًا على وجه التقريب، لا لأنهم أجابوا كلهم عنها بجواب واحد، وكذلك قل في جماعة الفقهاء وجماعة الفلاسفة، وكذلك أيضًا قل في تاريخ الفكر الأوروبي الحديث منذ النهضة إلى يومنا، فكان للقوم في كل قرن من زمان مسائل رئيسية تنشأ، فيختلفون في حلولها، لكن يتفقون في جعلها موضوع البحث والنظر، فيكونون بهذا الاتفاق أبناء عصر فكري واحد … وعلى هذا الأساس نفسه، نقول إن المفكر العربي في عصرنا إنما يساير عصره الفكري، لا بكونه يردد الإجابات التي يجيب بها سواه في هذا الجزء أو ذاك من أجزاء العالم، بل هو يساير عصره بأن يشارك زملاءه المفكرين في مشكلات بعينها أنشأتها لهم جميعًا ظروف العصر الواحد وحوادثه.
تلك هي المسايرة، وأمَّا كيف يجيء الاختلاف بما يحفظ لثقافتنا العربية كيانها المتميز الفريد، فذلك واضح فيما أظن، فالأمة العربية تتكلم لغة خاصة بها، ليست هي الإنجليزية ولا الفرنسية، ولألفاظ اللغة وطرائق تركيبها جذور عميقة في طريقة الإنسان عندما يتناول الطبيعة من حوله بكل ما فيها ومن فيها. فانظر — مثلًا — في اختلاف لغة عن لغة في التعبير عن الزمن، تجد فروقًا شاسعةً في اللفتة العقلية عند أصحاب اللغتين، فقد يكون موضع الاهتمام عند فريق هو أن تجيء «الأفعال» في اللغة دالة على الضبط الزمني بين حادث سبق وحادث لحق، على حين يكون موضع الاهتمام عند فريق آخر هو مضمون الأحداث لا ترتيبها الزمني، أو انظر إلى اختلاف لغة عن لغة في العناية بأن يجيء ترتيب الألفاظ دالًّا على ترتيب أجزاء الفكرة، فاللغة التي لا تتغير أواخر كلماتها في الإعراب تعتمد كل الاعتماد في تنظيم الفكرة على ترتيب اللفظ، وأمَّا اللغة التي تتغير أواخر كلماتها في الإعراب فأكثر مرونة وحرية؛ لأنها تستطيع أن تقدم وأن تؤخر، معوِّلة في فهم الفكرة، لا على ترتيب لفظها، بل على شكل أواخر كلماتها، ففي الأولى دقة العلم وفي الثانية ليونة الشعر، الأولى أقرب إلى الآلات الحاسبة الحديثة التي تسير عملياتها في طريق واحد لا اختيار فيه؛ ومِنْ ثَمَّ تأتي دقة النتيجة، والثانية أقرب إلى الكائنات الحية، لها أن تختار أكثر من طريق ما دام الهدف واضحًا أمامها.
أقول: إنَّ الكاتب العربي إذ يشارك معاصريه همومهم، فهو قَمِين أن يختلف في طريقة التفكير وطريقة الحل، اختلافًا يحفظ له كيانه المتميز أوَّلًا؛ لأن له لغته الخاصة بكل ما تؤدي إليه تلك اللغة من أسلوب في تناول المشكلات، وثانيًا لأن لأمته وضعًا خاصًّا وضعتها فيه ظروف التاريخ الحديث، ذلك أنها غُلِبَت على أمرها أمدًا طال هنا وقصر هناك، والذي غلبها على أمرها كان إما حامل سلاح لم تحمل هي مثله، وإما حامل علم لم تحمل هي ما يشبهه، فإذا ما أزاحت عن كاهلها هذا العبء وأخذت تحمل السلاح وتحمل العلم ما استطاعت إليهما من سبيل، فهل يُعقَل — والحالة هذه — أن ينظر الغالب والمغلوب إلى مسألة بعينها، فينظرا إليها بعين واحدة؟ أئذا أخذت الغالبَ القديمَ نظرةُ تشاؤم إلى المستقبل بعد أن فقد سلطانه وهَيْلَمانه، يلزم أن ينظر المغلوب إلى المستقبل بهذا التشاؤم نفسه مع أنه في سبيله إلى أن يكون ذا هيلمان وسلطان؟ أئذا نظر شباب الغالب القديم إلى آبائه فيئس من حكمتهم التي بليت، وخرج عليهم مثل هذا الخروج الجامح الذي نشهده كل يوم أشكالًا وألوانًا، يلزم أن ينظر شباب الأمة التي هي في طريقها إلى الخروج من محنتها إلى آبائه نظرة اليأس نفسها مع أن الآباء هنا هم الذين حملوا لهم ألوية النصر في المعارك؟ إنه ليكفي الكاتب العربي أن تكون أحداث العصر قد ألقت في وجهه شيئًا اسمه إسرائيل، لتكون وجهة نظره إلى مشكلات العصر وحوادثه مختلفة أشد اختلاف مع زملائه الكُتَّاب من الجماعات التي اقترفت في حقه هذا الجرم، حين ينظر معهم إلى مسائل العصر وحلولها.
والكاتب العربي قَمِين كذلك أن يخالف المفكرين المعاصرين إذ يشاركهم النظر في الأمور المطروحة للبحث، لا لأنه مختلف بحكم لغته — أي بحكم أسلوب تفكيره — ولا لأنه قد وُضع في ظروف سياسية واجتماعية شاذة فحسب، بل لأنه أيضًا يرث تاريخًا غير التاريخ الذي يرثه الآخرون، فهذا التاريخ يُحمل إلينا على موجة تقاليد، قد نقبلها وقد نرفضها وقد نُدخل عليها تعديلًا، لكننا في جميع هذه الحالات منشغلون بها انشغالًا ينعكس على طريقة النظر. هكذا يساير الكاتب العربي عصره إذ يسايره، وهكذا يتخذ لنفسه موقفًا فريدًا إذ يختلف عن معاصريه بما يحفظ له شخصيته وكيانه.
•••
ومن المسائل المعروضة في المناخ الفكري لعصرنا، مسألة العلاقة بين الإنسان والطبيعة، ما حقيقتها وعلى أين نحو تكون؟ وليس الموضوع ابن اليوم، فهو من الموضوعات القليلة التي ما انفكت قائمة تتحدى المفكرين، ويكون لكل عصر طريقته في معالجتها، مستضيئًا بمبادئ مما يكون قائمًا شائعًا عندئذٍ، فقد يكون من هذه المبادئ الأولية الشائعة في عصر معين أن كل ما في الكون حياة وأحياء، وأنه ليس في الكون الفسيح جماد موات. وإذن فالإنسان بالنسبة إلى بقية الكائنات الحية درجة عليا في سلم متدرج، يختلف إدراكه عن إدراكها في درجة الوضوح فقط، لا في أنه هو وحده المدرك وبقية الكائنات صماء بغير إدراك. وقد تكون المبادئ الأولية الشائعة في العصر المعين نقيض ذلك، بأن تفترض أن كل ما في الكون — إنسانًا وغير إنسان — مجموعات ذرية، تجتمع على صورة ما فتكون كائنًا معيَّنًا، ثم تجتمع على صورة أخرى فتكون كائنًا آخر، وإذن فالإنسان بالنسبة إلى بقية الكائنات في هذه الحالة تشكيل بين صنوف منوعة من تشكيلات المادة، له خصائصه التي يمكن أن تُقاس بالعلم وتضبط قوانينه، وقد تكون المبادئ الأولية الشائعة هي رفض هذا التجانس بين الإنسان وغيره — حيوانًا أو جمادًا — فلئن كانت النظرة الأولى قد جانست بينهما في الحياة والإدراك، والنظرة الثانية قد جانست بينهما في عناصر التكوين المادية، فالنظرة الثالثة تأبى أن تجانس بينهما في شيء، وتجعل الإنسان في منزلةٍ وحدَه دون سائر الأحياء والأشياء، ولكل نظرة من هذه النظرات نتائجها التي تظل تتسع حتى تشمل أوضاع الحياة جميعًا.
فلما جاء عصرنا هذا الذي نحياه، وجد مسرح الفكر في هذا الموضوع لا يكاد يشغله إلا أصحاب نظرة ازدواجية تقابل بين الإنسان في طرف والطبيعة في الطرف الآخر، لكنه سرعان ما تبين أن مثل هذه النظرة قد لا تتسق مع الفيزياء النووية التي تسود عصرنا، ولا مع النظريات القائمة بالنسبة إلى تطور الأحياء، فأخذ فلاسفته يميلون شيئًا فشيئًا إلى أن يُحلُّوا ضربًا من الوحدانية بين الإنسان والطبيعة محل الازدواجية القديمة، على اختلاف بينهم في الطريقة التي يوحدونها بها، ففريق يختار في هذا التوحيد تعقيلًا للطبيعة، أي أن يجعل الطبيعة عاقلة في سيرها كالإنسان سواء بسواء، وفريق آخر يختار تطبيعًا للعقل، أي أن يجعل العقل ظاهرة كأية ظاهرة أخرى في الطبيعة، يبحث بالمنهج العلمي نفسه الذي تبحث به سائر الظواهر.
لكننا نريد مزيدًا من الشرح، لنرى بعد ذلك أي موقف يحسن بالمفكر العربي أن يقفه من الأمر، فيساير الزملاء في موضوع البحث، وينفرد دونهم بوجهة النظر؟
كانت المواجهة الأساسية بين الإنسان والطبيعة، التي ظفرت بالعناية من فلاسفة الغرب بصفة عامة، وفي القرون الحديثة البادئة في عصر النهضة الأوروبية بصفة خاصة، مواجهة الذات العارفة بالشيء المعروف، فالإنسان يدرك ما حوله ثم يتصرف على أساس إدراكه، وسؤالهم الرئيسي هو: كيف يُتاح للإنسان أن يدرك ما يدركه؟ أبالحواس يدركه؟ أم بالعقل المحض، أم بأداة أخرى لا هي مرهونة بحاسة ولا عقل، كالحدس مثلًا؟ (الحدس هو المصطلح الفلسفي لما قد نسميه «البصيرة»)، وكان هذا السؤال يتضمن فيما يتضمنه أن الذات الإنسانية وهي التي تعرف، والطبيعة المحيطة بالإنسان، وهي التي تُعرَف (بضم التاء وفتح الراء) جوهران مختلفان، قوام الذات روح وقوام الطبيعة مادة، وفي إدراك الروحاني للمادي صعوبات تحتاج من الفلاسفة إلى توضيح، ما دام الطرفان — الطرف العارف والطرف المعروف — على هذه الدرجة كلها من الاختلاف.
والعجيب أنه لا الأقدمون، ولا فلاسفة العصور الوسطى، قد تنبهوا تنبُّهًا كافيًا لما ينطوي عليه هذا الموقف العرفاني من مشكلات نظرية، فلم يقفوا عنده لا طويلًا ولا قصيرًا، إذ افترضوا افتراض التسليم بأن الجهاز الإنساني من حواس ومن عقل قادر على أن يصور لنا الأشياء والحوادث كما هي في عالمها الخارجي، حتى ظنُّوا أن ما في «الأذهان» يصور ما في «الأعيان» تصويرًا حرفيًّا — كما قد يُقال — فيكون الشيء أو الحدث الذي وقع، محاذيًا لفكرتنا الذهنية عنه محاذاة تامة، ففكرتي عن القلم الذي في يدي صورة دقيقة للقلم نفسه. وجاءت النهضة الأوروبية بما حملته معها من مجموعة العلماء الأفذاذ، وفي طليعتهم جاليليو ونيوتن، وبما ساير هؤلاء العلماء من فلاسفة كبار، مثل ديكارت وجون لوك، وعندئذٍ فقط تنبه المفكرون — علماء وفلاسفة على السواء — للمشكلة الكامنة في هذه المقابلة بين الأذهان والأعيان.
•••
ولعل جاليليو كان أول من صاح بالنذير، إذا أشار إلى أن الصفات التي نعرف بها الأشياء، ليست كلها في الأشياء، بل منها ما هو في الأشياء ومنها ما خلقناه نحن بعقولنا خلقًا، وأطلق على الصنف الأول الصفات الأولية، وعلى الصنف الثاني الصفات الثانوية. وكان تقسيمًا غاية في الأهمية والخطورة؛ لأنَّه مهَّد الطريق بضربة واحدة أمام إقامة علم موضوعي لا دخل للذات الإنسانية فيه. وذلك لأنه — هو وكل من جاءوا بعده — جعل العلم مقصورًا على الصفات الأولية التي هي في الأشياء نفسها، وأخرج من مجال العلم الصفات الثانوية التي تنتحلها الذات من عندها انتحالًا. فلو كان الذي بيدك برتقالة — مثلًا — فشكلها الكرِّي وثقلها وعددها صفات في البرتقالة نفسها، وأمَّا لونها الأصفر وطعمها عند مذاقها فصفات ابتكرها جهازك الإدراكي ابتكارًا؛ ومِنْ ثَمَّ فلا شأن للعلم الموضوعي به. نعم، قد ينبعث من البرتقالة موجات «ضوئية» ذات أطوال تترجمها عينك وأعصابك ودماغك «لونًا أصفر»، فإذا أراد العلم أن يبحث، فبحثه ينصب على موجات الضوء، لأعلى اللون الأصفر. وهكذا قل في سائر الصفات الأولية التي هي من اختصاص العلم لموضوعيتها، وسائر الصفات الذاتية التي تخرج من دائرة العلم لذاتيتها.
ولقي هذا التقسيم اهتمامًا كبيرًا من رجال العلم والفلسفة جميعًا إبان القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ لأنه في الحقيقة تقسيم يرسي الدعائم القوية لعلم فيزيائي يقوم بأقل درجة ممكنة من تدخل الذات وخصوصياتها بكل أنواعها، حتى لقد ألفنا — إلى يومنا هذا — التقسيم إلى الموضوعي والذاتي، إلفًا يتعذَّر معه أن تمحوه. كما يحاول بعض فلاسفة عصرنا هذا جهدهم كله أن يمحوه؛ لأنه لم يعد تقسيمًا يتفق مع معطيات العلم الفيزيائي نفسه، في صورته الذرية الجديدة.
وكلنا يعرف وقفة ديكارت المشهورة، التي ميَّزَ فيها بين الذات من جهة والطبيعة من جهة أخرى، فالأولى فكر خالص والثانية امتداد خالص، فهو حين قال قولته التي لم يعد بين المثقفين مثقف لا يحفظها، قولته:
«أنا أفكر، فأنا إذن موجود» أراد بها أن «الأنا» أو «الذات» قوامها فكر، قوامها عقل، وهي تدرك نفسها بنفسها، ولا تحتاج في إدراكها هذا إلى برهان. وواضح أن هذه «الأنا» المفكرة لا يداخلها شيء من مادة حتى ولا بدنها نفسه لأن البدن مندرج مع بقية العالم الطبيعي، وليس هو من دنيا الفكر الخالص. وبهذه الأنا المفكرة، يستطيع أن يبرهن على كل موجود آخر مما يقوم على وجوده برهان عقلي. من ذلك وجود الله، ووجود الطبيعة … على أن ما يهمُّنا نحن من هذا كله، هو هذا التباعد بين طرفي العارف وموضوع معرفته.
فلقد عاد «كانط» إلى القول بأن ما في الطبيعة يقابل ما في العقل، ولكن على أساس جديد لم نألف مثيلًا له فيمن سبقوه جميعًا، وذلك لأنه جعل الطبيعة التي هي موضوع العلم الطبيعي بجميع أقسامه، من صنع العقل وصياغته، فما يصوغه العقل في قوالبه المجبولة في فطرته (ويسمون هذه القوالب «مقولات») يصبح عند الإنسان «طبيعة» خارجية يقيم علمه على أساسها، وأمَّا البقية التي تبقي، أعني ما ليس يجد سبيلًا إلا تلك القوالب العقلية، فهو «الأشياء في ذاتها» — بمصطلح كانط — التي لا يعلم عنها الإنسان شيئًا سوى أنها هناك، فما يزال — حتى في هذه الحالة — الطرفان قائمين يواجه أحدهما الآخر، فعقل من جهة، وطبيعة من جهة أخرى، يحاول الأول أن يعرف الثانية بما أعد في فطرته من أجهزة الإدراك.
ويتركنا «عمانوئيل كانط» والعالم بين أيدينا شطران، أحدهما حقيقي خارجي لا نعرفه لأنه لا ينساق في أجهزتنا العقلية، والآخر ظاهري؛ بمعنى أنه هو الظواهر التي تلقطها حواسنا بحكم استعداداتها الإدراكية، ثم تحيلها إلى مقولات العقل ينسجها مفهومات وقضايا، فلئن كان العالم الطبيعي الذي هو مجال الفكر العلمي، خلقًا خلقناه لأنفسنا بعقولنا، أو قل إنه بناء أشرف على تصميمه وتشييده العقل الإنساني، فإن هذا العالم الطبيعة الذي أسلس للعقل قياده، ليس هو كل الحق، بل بقيَ من حقيقته جانب فوق متناول الإنسان، هذا إذا اقتصر الإنسان على عقله النظري.
•••
ونحن إذا ربطنا الأواصر بين الوعي وما يعيه، بطل السؤال القديم: هل أفكارنا تُطابق الواقع أو لا تطابقه؟ وذلك لأنني إذ أكون على وعي بهذا القلم الذي في يدي بصرًا ولمسًا، فقد أصبحت أنا والقلم حقيقة واحدة إبان لحظة الوعي به، فإذا سألني سائل: ما الذي يدلُّك على أن القلم موجود فعلًا؟ أجبته: لأني أراه وألمسه. وفي هذا الجواب ما ينبغي أن يقطع كل شك بعد ذلك، فليس عالمي منفصلًا عن وعيي به؛ لأني طالما أعيه فأنا أعيشه. إن التحليل النظري وحده هو الذي يفتت الحقيقة؛ إذ الحقيقة كما نعيها أمر آخر غير تحليلها، فربما نظرت إلى وردة حمراء، فيقول لي التحليل إن هذا الذي تراه وردة واحمرار أضيف إليها. لكن الذي أراه في الحقيقة ليس حاصل جمع الوردة على لونها مع التفرقة بين المفردات التي جُمعت، بل هو وردة حمراء دفعة واحدة، وفي لحظة وعيي بالوردة الحمراء، لا نكون اثنين، بل نكون كيانًا واحدًا.
ومن هنا تبطل التفرقة القديمة بين صفات أولية كائنة في الأشياء نفسها، وصفات ثانوية هي من صنع عقولنا — تلك التفرقة التي سادت القرن السابع عشر بصفة خاصة، وكان لها أثرها البعيد في دنيا الفيزياء عندئذٍ — إذ قصر العلم نفسه على الصفات الأولية وحدها، ولم يكن له شأن بالصفات الثانوية، على اعتبار أنها جانب ذاتي يدل على صاحبه ولا يدل على العالم الموضوعي. أمَّا على يدي هوسرل فهذه التفرقة غير مفهومة ولا مقبولة، فإدراكي للوردة الحمراء، وامتزاجي بها في كيان واحد ساعة الوعي بها، ليس فيه ما هو أوَّلي وما هو ثانوي، ليس فيه ما هو موضوعي وما هو ذاتي، هو لحظة حية لا تقبل التحليل؟ ليس في العالم الخارجي وردة تبعث موجات ضوئية، وفي الذهن صورة لها ترجمت الموجات الضوئية إلى لون أحمر. لا ليس الأمر هكذا، بل إن وعيي بهذا الجزء من العالم الخارجي حقيقة متصلة، فالأشياء حقائقها هي ظواهرها في وعينا، وليست هي بكَوْمات من الصفات يتكوم بعضها فوق بعض في صندوق اسمه «عقل». واختصارًا فقد ضمت فلسفة تحليل الظواهر عند هوسرل، ما كانت الفلسفة عند سواه قد بعثرته أشتاتًا بعضها خارج وبعضها داخل.
•••
هذه «عينات» موجزة مما يقوله مفكرو الغرب، لو طرحوا على أنفسهم مشكلة المواجهة التي يواجه بها الإنسان الطبيعة، ما عناصرها؟ وإنهم ليطرحون هذه المشكلة بالفعل، كما طرحها أسلافهم، لكنهم ربما ازدادوا بها اليوم عنايةً واهتمامًا، فماذا يقول مفكر عربي لو أراد المشاركة في البحث والرأي؟ هب جماعة من أولئك الفلاسفة جلست على مائدة للحوار، وأجلست معها مفكِّرًا عربيًّا سمع ما دار بينهم من نقاش حول علاقة الإنسان بالطبيعة، ثم طُلب منه أن يُدليَ هو الآخر برأيه، شريطة أن يصدر فيه عن ثقافة عربية أصيلة غير مجلوبة له من هنا أو هناك، فماذا تراه قائلًا؟
أحسبه يبدأ الحديث باعتراض يتناول به الأسس والجذور، فزملاؤه من فلاسفة الغرب، لم يستوقف أنظارهم شيء في العلاقة بين الإنسان والطبيعة بمقدار ما استوقفتهم عملية «المعرفة» كيف تتم للإنسان حين يكتسب عن بيئته علمًا؟ فإذا اتسع معهم نطاق البحث، جاءت السعة بمثابة الفروع المشتقة من ذلك الأصل والأساس، الذي هو «المعرفة» كيف يرتبط بها الطرفان، الإنسان العارف والطبيعة التي هي موضوع معرفته؟ أقول إنني أظن أن صاحبنا العربي يبدأ حديثه باعتراض على أساس البحث والنظر؛ لأنه — على ضوء ثقافته التقليدية العريقة — يرى أن العلاقة الأساسية الأولى، التي يواجه الإنسان بها الطبيعة التي حوله، ليست هي علاقة العارف بموضوع معرفته بل هي علاقة الفاعل بما ينصب عليه فعله، أو قل إنها ليست علاقة العقل بالمعقول بل هي عنده أوَّلًا علاقة الإرادة بالفعل المراد.
الطبيعة في الثقافة العربية مسرح للحركة والنشاط والفاعلية، أكثر منها موضوعًا للنظر المجرد، وحتى المعرفة العقلية النظرية إنما ينظر إليها على ضوء الثقافة العربية على أنها فاعلية أُريدَت، فالإرادة لها الأولوية المنطقية، عنها تتفرع سائر الجوانب. ويكفي أن نقول إن القرآن الكريم هو كتابنا الذي نهتدي به، لنقول بالتالي إنه مصدر التشريع، أي مصدر القوانين والأوامر والنواهي، وهي كلها من قبيل الفعل لا من قبيل الفكر المجرد. ولقد وردت في هذا الكتاب الكريم مجموعة من القيم — الأسماء الحسنى قد يُنظر إليها على أنها دالات على قيم — المنظمة للسلوك: سلوك الإنسان مع أخيه الإنسان، وسلوكه مع سائر الكائنات. وكل هذا هو بالنسبة للسالك «طبيعة» تُحيط به، ويُراد له أن يتصرف إزاءها على خير الوجوه.
ولقد تبدو مجموعة القيم السلوكية هذه، منوعة مفرقة إلى درجة ربما غابت معها الوحدة التي تضمها جميعًا في نسق واحد مرتب، فيه الأعلى وفيه الأدنى، بمعنى أن تكون هنالك قيمة — أي معيار أو مقياس للسلوك — أعم وأشمل من قيمة أخرى، وبحيث تأتي هذه الأخرى بمثابة النتيجة المتفرعة، وفي هذه الحالة تكون مهمة الفيلسوف العربي — بدل أن يتناول أفكارًا عقلية ليرى كيف جاءت وعلى أي نحو تنساق في بناء واحد — أن يتناول قيمًا ليرى كيف يتصل بعضها ببعض اتصال الأعم بالأخص، لتكون في النهاية مرشدًا عمليًّا لسلوك الإنسان في محيطه الاجتماعي والطبيعي على حد سواء. وإن وحدانية الله نفسها لا أظنها تُفهم فهمًا جَيِّدًا إلا إذا استتبعت في ذهن من يفهمها وحدانية في مجموعة القيم، أعني تنسيقًا لها، من شأنه أن يسدد السالك نحو الهدف، إذ لو كانت متنافرة متناقضة فيما بينها، لأدت بالسالك إلى تمزق وتشتت وضلال، بل إن كلمة «الإسلام» نفسها تتضمن تسليم الإنسان إرادته لإرادة الله، أي أن يجعل إرادته في خدمة ما أراده له الله من فعل يؤديه.
فإذا كان محور المواجهة بين الإنسان وما يحيط به عند مفكري الغرب هو «العلم»، فمحور المواجهة عند المفكر العربي هو «الأخلاق»، وأنا أستعمل هذه الكلمة هنا «لتعني مبادئ السلوك الصحيح تجاه مختلف المواقف، على أن المواقف «الاجتماعية» أولى عنده بالنظر والتقنين، فمن أهم الإضافات التي أضافتها الثقافة العربية — صادرة في ذلك عن العقيدة الإسلامية — تنظيمها لأخلاقية الفعل، بعد أن كانت الأخلاقية قبل ذلك مقصورة على النية والضمير. ولنلاحظ هنا أن أخلاقية الفعل لا تنفي أخلاقية الضمير، بل تُضاف إليها لتزيد عليها، فبدل أن تصفوَ النية ثم يقف الإنسان عند هذا الحد، تطالب أخلاقية الفعل بنقل النية إلى فعل يُؤدَّى. أخلاقية النية تجعل من الفرد الإنساني فردًا ممتازًا في فرديته، وأمَّا أخلاقية الفعل فتخرج الفرد من فرديته لتجعله مواطنًا صالحًا، أي لتجعله عُضوًا نافعًا في جماعة. في أخلاقية الضمير ليس هنالك من حكم إلا الضمير نفسه، إذا استراح ورضي عن صاحبه كان صاحبه سعيدًا راضيًا، وحسبه جزاءً أن يرضى عن نفسه لأنه أرضى ضميره، ولا عبرة عندئذٍ لوقعه على الناس الآخرين، وأمَّا في أخلاقية الفعل فلا يكفي أن يستريح الضمير ويرضى ليكون الفرد ساميًا، بل لا بد أن توضع النية الحسنة على محك الفعل، ومحك الفعل عادة هو الآخرون، هو المجتمع، هو الإنسانية، وبغير هذا الطرف الخارج لا تتم للموقف أخلاقيته.
وإذا أنت أمعنت النظر قليلًا في ذلك، ألفيت نتيجة هامة تلزم عنه، هي ضرورة الوجود الاجتماعي ليكمل الفرد؛ وبذلك تكون الثقافة العربية الأصيلة قد أضافت هذا البُعد الاجتماعي إلى حياة الأفراد، لا ليكون عَرَضًا من أعراضها، بل ليكون ضرورة للوجود الإنساني المتكامل. ومن هنا كانت عزلة الزاهد أو المتصوف شيئًا لا ينسجم مع الروح العربية، انسجامه في الثقافات الأخرى. ولما كان تنظيم الفعل في مجتمع يحتاج إلى «قانون» يضع له الحدود، كان التشريع، أو كان «الفقه» ورسم الحدود لما يجوز وما لا يجوز للإنسان أن يفعله، من أهم وأعظم نتاج الثقافة العربية. وأكرر مرة أخرى، أن احتكام الفاعل إلى قانون أو شرع، لا ينفي احتكامه إلى ضميره بل يضيف إليه، فالاكتفاء بمحكمة الضمير وحدها، قد لا يلزم الإنسان بالانغماس في حياة العمل. إن العلاقة بين الحالتين هي كالعلاقة بين آلة ننظر إليها وهي ساكنة، ثم نختبر صلاحيتها وهي تعمل، فلا تتحقق الحالة الثانية إلا إذا تحققت قبلها الحالة الأولى. لكن العكس غير صحيح، أي إنه قد يُكتفى في الآلة بحالة سكونها، فلا ندري ماذا تكون في دنيا العمل، وهكذا قل في أخلاقية الضمير وحده، ثم أخلاقية الفعل المبنية على موافقة الضمير.
•••
الفعل وديناميته، لا العلم المجرد في ثباته وسكونه، هو حجر الزاوية من البناء الإنساني من وجهة النظر العربية. وأحسب أن ذلك قد انعكس في اللغة العربية وطرائق بنائها، فهي تبدأ الجملة ﺑ «الفعل» وتُعقِّب عليه بالفاعل، على خلاف اللغات الأوروبية التي تبدأ جملتها بالفاعل، ثم تلحقه بالفعل. نحن نقول «جاء» زيد أكثر مما نقول «زيد» جاء، وهم يعكسون، ولما كان الفعل ينم في الأغلب عن إرادة، ثم لما كانت الإرادة توشك أن تنحصر في الإنسان دون سائر الكائنات في العالم المخلوق، كانت المواجهة التي تشغل الثقافة العربية، ليست هي مواجهة الإنسان بعقله للطبيعة بخصائصها ابتغاء الوصول إلى قوانين العلوم الطبيعية، وإنما هي مواجهة الإنسان بإرادته للمجتمع الإنساني في فاعليته، وأوجه نشاطه، ابتغاء المشاركة في فعل موحد يوصل إلى أهداف ترضى عنها القيم العليا. فقُطب الرَّحَى عند فلاسفة الغرب هو إحكام للعقل، وقُطب الرَّحَى عند المفكر العربي هو قيم السلوك، والخير كل الخير في أن تضم هذه إلى تلك، فإذا كان الغرب ينقصه ما يكمله فنقصه في القيم التي تدمج الفرد في جماعة الإنسانية دمج التعاطف والتعاون، وإذا كان العربي ينقصه ما يكمله، فنقصه في قضايا العلوم التي هو الوسيلة للسيطرة والإمساك بزمامها. ولا عجب أن شهد التاريخ الفكري حركتين سارتا في اتجاهين متضادين، فمن إقليمنا سارت ديانات إلى الغرب وانتشرت، بما تحمله تلك الديانات من رسالة القيم، ومن إقليمهم سارت إلينا علوم، بما تحمله تلك العلوم من وسائل التصرف في ظواهر الطبيعة.
لقد تميزت ثقافة العربي — أبرز ما تميزت به — بالشعر وغيره من فنون الأدب التي تستطيع أن تُدرجها مع الشعر في مقولة فنية واحدة، وما الشعر؟ إنه — في صميمه — تعاطف مع كائنات الدنيا، ومعايشة لها. إن الشاعر لا يقف — كما يقف العالم — من الأشياء على مبعدة لينظر إليها في ذواتها دون أن يسقط ذاته هو عليها. كلا، بل الشاعر يتعمد أن يرى نفسه في ماء البحر وفي نجوم السماء وفي زرع الأرض، وكأنما هي جميعًا أفراد معه في أسرة واحدة. فتأمل معي هذه المفارقة العجيبة: إذا نظر العلماء إلى الإنسان حولوه إلى شيء ليبحثوه بحثًا علميًّا موضوعيًّا، وإذا نظر الشعراء إلى الأشياء حوَّلوها إلى أناسيَّ يتبادلون معها الحديث! وذلكم هو نحن في نظرتنا … الطبيعة بغير ناس لا تكاد تشغلنا، والناس عند المفكر الغربي يكادون يتحولون إلى طبيعة.
وأستطيع أن أستثني من تيارات الفلسفة المعاصرة تيَّارًا واحدًا، بين نظرته ونظرتنا وشائج قربى، هو تيار الفلسفة الوجودية في شعبتها المؤمنة — فللوجودية شعبتان: مؤمنة وملحدة — لأنها فلسفة (بشعبتيها معًا) تركز على أن يكون الإنسان فاعلًا حُرًّا مسئولًا عن فعله، فلا تُغنِي نفس عن نفس في مسئولية الفعل شيئًا. وأمَّا التيارات الأخرى جميعًا، يقرأ عنها العربي المنقوع في ثقافة عربية أصيلة، فيحس كأنه في جو غريب عنه، يحس كأنه يتنفس دُخانًا لا هواءً طلقًا. ولكاتب هذه السطور تجربة حية في ذلك، فقد انتهت به ثقافته «الإنجليزية» في ميدان الفلسفة إلى اختيار أحد التيارات العقلية العلمية، واعتقد في صلاحيته، هو تيار التجريبية العلمية — أو الوضعية المنطقية — وكتب في شرحه الكتب والفصول، لكنه لحظ عن كثب كيف كانت تصادف تلك النزعة التحليلية العقلية غير أهلها، فإذا تحدث في الوجودية أو في فلسفة برجسون مثلًا، فهنا تُرهف الآذان لتسمع.
لقد رأى إمام من أئمة الفقهاء المسلمين — هو ابن تيمية — أن معرفة الله من حيث هو ماهية، مستحيلة على الإنسان، وأنه لا سبيل أمام الإنسان لمعرفة الله إلا بمعرفة إرادته التي كشف عنها لأنبيائه، والتي ينحصر واجب العباد في طاعتها، وما إرادة الله إلا مجال القيم التي يُراد لسلوك الإنسان أن يُسير على مقتضاها. ولما كان هذا السلوك المراد يغلب أن يكون ذا صلة بحياة الآخرين في المجتمع، كانت فكرة «الأمة» ذات أهمية بالغة، والذي يجعل من مجموعة الناس أمة واحدة، ليس هو أنهم يعيشون على رقعة جغرافية واحدة، ولا أنهم يستدبرون تاريخًا مشتركًا، ولا أنهم يتكلمون لغة واحدة، بل هو — عند ابن تيمية — المشاركة في «فعل»، وبهذه المشاركة، يجاوز كل فرد حدود نفسه، لينفتح على الآخرين الذي هم شركاؤه في فعل واحد. وليس بي حاجة إلى ذكر الموقف الراهن ﻟ «الأمة العربية» إزاء الوجود الإسرائيلي، تأييدًا لرأي ابن تيمية، فالأمة العربية في هذه الحالة لا تتوافر لها صفة «الأمة» إلا وهي في حالة فعل مشترك.
لقد كدنا ننسى أن موضوع المحاورة الذي اجتمع من أجله جماعة من مفكري العصر، هو مشكلة بلغت حدتها في عصرنا، وهي علاقة الإنسان بالطبيعة حين يواجهها، ما أصلها وما فصلها؟ وكدنا ننسى كذلك أننا افترضنا وجود مفكر عربي مع تلك الجماعة، ليشارك بالرأي من وجهة نظر عربية أصيلة، فماذا عساه يقول على سبيل الإضافة المفيدة. فزعمنا أنه يغير من زاوية النظر، فالمواجهة عندهم مواجهة للطبيعة تنتهي بعلم، والمواجهة عنده مواجهة للمجتمع الإنساني تنتهي بالقيم، فيدرك كل من الفريقين بأي طابع يتميز، وما الذي ينقصه ليكتمل الإنسان إنسانًا.