ثقافة في تراثنا لا نعيشها
حقائق العالم الواقع لا تجيء إلا مفردات وأفرادًا، إنها لا تكون إلا أعيانًا مجسدة، لكل منها تفصيلات تدخل في قوامه من صفات وعلاقات، لا تتكرر في سواه، فهذه الصخرة الملقاة على رمل الشاطئ، لها من شكلها وتركيبها وموقعها وزمن وجودها وأبعادها من البحر ومن التل ومن الصخرات الأخرى، ما يجعلها متفردة بوجودها وتاريخها دون كائنات الدنيا بأسرها.
إنَّ هذا التمايز بين الأفراد يسير إدراكُه في أفراد الإنسان؛ لأننا نحرص على أن يكون لكل فرد منهم اسمه الخاص؛ لما لهؤلاء الأفراد في حياتنا من مكانة ممتازة، فإذا ما أحللنا من أنفسنا بعض أفراد الحيوان أو بعض مفردات الأشياء مثل هذه المكانة أو ما يَقرُب منها، وجدتنا حريصين كذلك أن نميزها بأسماء تجعلها بارزة بسماتها بين أفراد نوعها، كما يفعل نفر من الناس لكلابهم أو لجيادهم أو لما ينتقونه من نوادر الأشياء كالتحف الأثرية وغيرها.
أمَّا حين لا تكون لنا بهذه الكائنات علاقة خاصة حميمة، فإننا عندئذٍ نغض النظر عن خصائص أفرادها التي تميز كل فرد على حدة، ونكتفي بجمعها أنواعًا أنواعًا، فنهتم بما يميز النوع دون ما يخصص كل فرد من أفراده، وها هنا يتشابه البقر وتتشابه القطط بل ويتشابه الآدميون أنفسهم عند من يتخذ منهم موضوعًا لبحث علمي، أو من يجعل منهم هدفًا لقنابله أثناء القتال.
عندئذٍ يتجرد الأفراد من مميزاتهم التي تجعلهم أفرادًا، ولا يبقى منهم إلا صورة ذهنية كلية كل فحواها مضمونات عامة تصدق على جميع الأفراد على السواء، بمقدار ما تكذب في تصويرها لفردية الأفراد، نعم إنه لا غنى لنا عن هذه الصور المجردة في عملية التفكير العقلي، شريطة أن يكون في مقدورنا دائمًا أن نرد كل صورة منها إلى الأفراد الذين يندرجون تحتها، لكننا قد نبلغ من التجريد درجة يتعذر معها أن تجد العلاقة واضحة بين الصورة المجردة وما ينضوي تحتها من مفردات مجسدة، كما يحدث في كثير من حالات الرياضة، وفي مثل هذه الحالة الموغلة في التجريد، يصبح وقوعنا في الخطأ أقرب إلينا من حبل الوريد.
وذلك لأن الفكرة المجردة قد ننظر إليها من زاوية فإذا هي مشتملة على كل شيء، وقد ننظر إليها من زاوية أخرى فإذا هي الفراغ والعدم. انظر إلى هيجل حين أراد أن يتأمل بالفكر المجرد سلسلة الحلقات المتتابعة على طريق الجدل (الديالكتيك)، تجده قد بدأ بفكرة «الوجود» المجرد، أي الوجود الخالص الذي لا يتحدد بأية كيفية تميزه وتعينه، فهو وجود يخلو من الحركة ومن اللون ومن الشكل ومن الحجم ومن كل صفة أخرى من شأنها أن تجعله وجودًا موصوفًا ذا سمات، لكنه إذا ما بلغ بتجريده للموجودات من صفاتها هذا الحد الذي يجعلها مجرد «وجود» صرف، فإنما يصبح هذا الوجود نفسه هو «العدم». وهكذا يزعم هيجل أن «الوجود» قد انبثق منه نقيضه وهو «العدم»، حتى إذا ما ضممنا الوجود والعدم معًا، كان لنا هذه الكائنات التي نراها متسمة «بالصيرورة» والتغير؛ إذ الكائن المتغير موجود وغير موجود في آنٍ معًا.
والخطر أفدح الخطر هو أن نتناول في عملياتنا الفكرية مجردات، دون أن نكون على وعي بحالات تطبيقها على أرض الواقع، حين تكون هذه المجردات مزعومًا لها أنها مشيرة إلى مدلولات في دنيا الواقع التاريخي، الذي يملأ حيِّزًا من مكان معلوم ويشغل فترة في زمان محدود. إن النظرة من بعيد؛ النظرة التي تجرد الواقع من تفصيلاته مكتفية بحدوده الخارجية وملامحه البارزة، تيسيرٌ للنظر العقلي، لكنها في الوقت نفسه تفويت لنا عن رؤية الأجزاء؛ فالنظرة إلى الغابة من بعيد تعطيك صورة الغابة من الخارج، وتستر عنك أشجارها. لقد عبرت بالطائرة رقعة الصحراء ونظرت، فإذا كل الذي أراه بقعة فسيحة صفراء اصفرارًا شاحبًا، فقلت: كم هنالك يا تُرى لو هبطت بنا الطائرة فوق هذه الرقعة الشاحبة المتجانسة! كم هنالك من كثبان وكهوف ومن زواحف وسلاحف ومن شتى صنوف الحياة التي تعج بها كل ذراع من هذه الصحراء؟ لكنها النظرة من بعيد وما تُفوته على الإنسان.
أقول ذلك كله وفي ذهني معانٍ كلية أريد التحدث عنها، كمعنى «الثقافة» ومعنى «التراث» حين أقول عن ثقافة معينة إننا لا نعيشها، أو حين أقول عن تراث إننا نريد أن نُحييه لينسرب في حياتنا اليوم، فما أسهل أن نسوق ألفاظًا كهذه بمعانيها المجردة الخالية من التفصيلات والعناصر، ولكن ما أشد اختلاف الصورة حين ندنو بالأعين لنراها من قريب. إن الأخذ بفكرة وهي في صورتها المجردة، من شأنه دائمًا أن يميل بالإنسان إلى تعصب أعمى وأفق ضيق ونظر محدود؛ لأن الفكرة المجردة — كما قلنا — يمكن أن تشتمل على كل شيء، ويمكن ألا تشتمل على شيء؛ ومن هنا كان المناصر لها والمعارض لها كلاهما، يجدان فيها ما يشتهي كلٌّ منهما أن يجد من الشواهد والحُجج، وإن هذه القابلية المرنة الفضفاضة لتضيق شيئًا فشيئًا كلما حشوت خلاء التجريد بصفات محددة تعيِّنه. افرض — مثلًا — أنك تتحدث عن «الفن» كفكرة مجردة، فعندئذٍ قد لا تجد إنسانًا يعارضك فيما تقول عنه، لكنك ما إن تُضيف إلى هذا التجريد صفة تحدده، كأن تقول مثلًا: إنه الفن التكعيبي الذي أردته بحديثي. فها هنا ينفض عنك أكثر من كانوا يوافقونك قبل هذه الإضافة، وربما لو أضفت صفة أخرى تحدد صنفًا معينًا من الفن التكعيبي لانفضَّ عنك فريق آخر، وهلم جرًّا.
وهكذا قل في أشياء كثيرة جِدًّا، فلو قلت «تراث» فيندر أن تجد من يوصي بأن يُلقى «بالتراث» في البحر أو في النار، لكنك بعدئذٍ كلما حددت ما تعنيه أخذ الناس ينفضُّون من حولك فريقًا فريقًا، والعكس صحيح أحيانًا، أعني أنك قد تجد المعارضة عند ذكرك لفكرة مجردة، حتى إذا ما أخذت تضيف إليها ما يعيِّنها ويحددها أخذ الناس عندئذٍ يرَوْن فيها ما لم يكونوا يرَوْنه من قبل، فأيدوك جماعة بعد جماعة، كما نلاحظ عند كل دعوة جديدة، بما في ذلك الدعوات الدينية نفسها. لقد حدث أن ورد ذكر «الإسلام» — بهذا التعميم المجرد من تفصيلاته — ذات يوم حين كنت في مجموعة من أساتذة الجامعات بالولايات المتحدة الأمريكية، وأحسست في الوجوه شيئًا من الرفض الصامت، وسرعان ما تهيأ الظرف ليُطلَب إليَّ أن أذكر شيئًا من التفصيلات التي تحدد الأركان العامة لهذه العقيدة، وفعلت، فقال قائلٌ منهم: إنه لو كان هذا هو الإسلام، أفنكون إذن مسلمين ونحن لا ندري؟ وتذكرت عندئذٍ ما قد لاحظه أحد أعلامنا — وربما كان الإمام محمد عبده — من أنك قد تجد في بعض البلاد الأوروبية «مسلمين» بغير «إسلام»، كما قد تجد في بعض البلاد العربية «إسلامًا» بغير «مسلمين»، أي أن الإسلام مجموعة من القيم التي لا أحسب عاقلًا على وجه الأرض يرفض شيئًا منها، من حيث هي مُثُل عليا، سواء مكنتنا التربية والتنشئة من تمثلها ومن العيش على غرارها أم لم تمكِّنَّا من ذلك، وربما وجدت بين من يرفضون «الإسلام» كفكرة مجردة من يعيشون تلك المثل بالفعل، ووجدت بين من يعتنقون هذا الإسلام نفسه كفكرة مجردة، من لا يعيشون من قيمه شيئًا.
فما هي الجوانب الهامة البارزة من تراثنا، التي نعنيها، حين نقول: إنَّنا لا نعيشها اليوم، وإنها ليست بذات صلة بمشكلاتنا المعاصرة، وإذن ينبغي أن تنحصر في جماعة الدارسين المتخصصين وحدهم، دون أن نفتح أمامها الأبواب لتنسرب في عقول الناشئة، أو في ثقافة المثقفين ثقافة عامة، وكأنما هي — ما دامت جزءًا من تراثنا — فهي مصونة معصومة صالحة؟
•••
متى يعيش الإنسان ثقافته، ومتى يكون لها كيان مستقل بذاته قائم برأسه ولا شأن له بحياة الإنسان كما يحياها كل يوم؟ إنَّ سؤالًا ليفرض نفسه علينا قبل هذا السؤال، وهو: ماذا تعني بالثقافة؟ ولقد كثر طرح هذا السؤال، وتنوعت الإجابات، حتى أصبح موضوعًا تمجُّه النفس؛ ولذلك فلست أنوي الوقوف عنده لا طويلًا ولا قصيرًا، وسأترك للقارئ حرية كاملة في أن يفهم من الكلمة ما شاء؛ لأنَّ ما سوف أرتبه على مفهومها، لا أظنه يتغير بتغير ذلك المفهوم، فلنفهم الثقافة على أنها طريقة العيش في شتى نواحيه، أو على أنها مجموعة القيم التي توجه الإنسان وتسيِّره وتقدم له المعايير التي يوازن بها بين الأشياء والمواقف ليختار، أو لنفهمها على مجموعة العلوم والمعارف وأحكام العرف والتقليد، أو لنقصرها على ما يتصل بالذوق وحده — دون العقل — من أدب وفن، فذلك كله لن يؤثر في الفرق بين أن تكون الثقافة — بأي معنًى أخذتها — سارية في جسم الحياة العملية سريان الزيت في الزيتونة، كما يُقال، وبين أن تجعلها موضوعًا للدراسة العلمية النظرية التي لا تمس حياتك العملية في كثيرٍ أو قليل.
انظر إلى الفرق بين المتصوف الزاهد، وبين من يجعل التصوف والزهد موضوعًا لدراسته، فالأول يعيش زهده وتصوفه، إنه قد لا يعي موقفه كما ينظر إليه المشاهدون، فهو بطبعه أو بإرادته يعصم نفسه من الرغبة ومن الشهوة ومن زخرف الدنيا، وهو بطبعه أو بإرادته يستبطن ذاته متأمِّلًا راجيًا أن يبلغ به ذلك التأمل مبلغًا يتمناه، هو أن يتحد مع «الحق» أو أن يقف من «الحق» موقف الشهود، ثم قد يفيق ذلك المتصوف من وجده ذاك وذهوله وتأمله، ليحلل خبراته التي كابدها، ما واتته اللغة في ذلك التحليل والوصف، ويجيء بعد ذلك دارس التصوف فيجد بين يديه ما كتبه المتصوفة فيجعل منه موضوعًا للدراسة والبحث والمقارنة والحكم له أو عليه؛ فهذا الفرق بين الرجلين هو الفرق بين رجل يعيش ثقافته ورجل لا يعيشها، هو الفرق بين المشاهدة من ظاهر والمكابدة من باطن، كالعاشق يعيش حالة العشق لأنه يُعانيها ويُكابدها وينبض بها قلبه وترتعش أطرافه، وأما من يجيئه خبر العاشق وحالته فهو يُلِمُّ بالظواهر البادية دون أن ينبض له قلب أو ترتعش أطراف.
شاهد الناس من حولك، تدرك من سلوكهم أي ثقافة يعيشون، فإذا رأيت رجلًا تعلم عنه المعسرة ولا تعلم عنه الميسرة، قد أقام المآدب في بذخ واصطنع الغنى أمام الناس مهما كلَّفه ذلك من دين، فاعلم أنه إنما يعيش ثقافة تُعلي من شأن المظهر مهما يكن ما وراءه، أو رأيت رجلًا اعتُديَ على إحدى من يعصمهن من النساء، فلا يلين مضجع تحت جنبيه إلا إذا أخذ بالثأر الذي يشفي غليله، فاعلم أنه إنما يصدر في ذلك عن ثقافة يعيشها، بغض النظر عما يُقال عن سلوكه قبل ذلك أو بعد ذلك. إننا نعيش ثقافتنا في كل ما تراه من تفصيلات احتفالاتنا بمناسبات الميلاد والزواج والموت، نعيشها في الطريقة التي نُكرم بها الضيف، وفي الطريقة التي نتشكك بها في أمانة الناس، والتي نرتاب بها في أصحاب الجاه ورجال الحكم، والتي نؤمن بها في أعمق أعماقنا بأن أنصبة الناس في حيواتهم مقسومة لهم، وأن آجالهم مكتوبة، وأن مشيئة الله قد سبقت بما كان وما سوف يكون.
ذلك حين تكون الثقافة المعينة منسابة في عروق الناس مع دمائهم، فحياتهم هي ثقافتهم وثقافتهم هي حياتهم، لا حين تنسلخ عن الحياة ليضطلع بها محترفون يُطلِقون على أنفسهم اسم «المثقفين»، ولا يحدث انسلاخ كهذا — فيما أظن — إلا حين تكون الثقافة وافدة إلى الناس من خارج، لا منبثقة من نفوسهم. إنه لم تكن عند اليونان الأقدمين — كما يقول هربرت ريد — كلمة خاصة تعني «ثقافة»؛ لأنه لم تكن هنالك المجموعة الفكرية القائمة بذاتها والتي تستحق أن تستقل وحدها بلفظة تسميها، كانت الثقافة كاللغة تدور بين الناس في معاملاتهم اليومية، دون أن يشعروا لها بوجود خاص، أمَّا حين أخذ الرومان ثقافة اليونان، أصبحت ثقافتهم — في بادئ الأمر — كيانًا قائمًا وحده متميزًا بخصائص؛ فأوحى ذلك لهم بأن الثقافة كالسلعة يستوردها القوم أو يصدرونها. ولما صنع الرومان بعد ذلك ثقافتهم الخاصة بهم من فن العمارة وأدب وأخلاق وقانون وإدارة، وأخذوا يقيمون لأنفسهم إمبراطورية فسيحة الأرجاء، حملوا ثقافتهم معهم وأرادوا فرضها على الشعوب التي يسيطرون عليها.
وجاءت العصور الوسطى التي سادها الدين — إيمانًا بالقلوب أو بحثًا وتحليلًا بالعقول — فعادت الثقافة كما كانت قبل عهد الرومان، جزءًا من الحياة العملية، وفقدت استقلالها الذي يجعلها كالسلعة ينفرد بها فريق من الناس دون فريق، يأخذونها ويعطونها ويرسلونها مع قادة الجيوش إلى البلاد التي يغزونها، عادت الثقافة لتكون هي طريقة الحياة ووجهة النظر وأساس العمل والسلوك، تظهر في بناء المساجد والكنائس والمنازل، وفي صناعة الأواني والمصابيح، وفي زخرفة الجدران وأغلفة الكتب وصفحاتها، وعلى البُسُط والمقاعد والوسائد وزجاج النوافذ وأقمشة الثياب. كان الناس في العصور الوسطى — كما كانوا أيام اليونان الأقدمين، وكما كانوا قبل ذلك إبَّان الحضارة المصرية القديمة وغيرها من حضارات الشرق — يحملون ثقافتهم وكأنهم يحملون الهواء الشفاف يستنشقونه وهم لا يشعرون بوجوده. وذهبت العصور الوسطى، وجاء عصر النهضة الأوروبية ومعه بدايات الاستعمال الجديد لكلمة «ثقافة»، وهو الاستعمال الذي يشيع بين جماعة المتعلمين إلى يومنا هذا، ومع الثورة الصناعية في أوائل القرن الماضي، جعلت الثقافة تزداد انسلاخًا عن دنيا العمل؛ إذ لم يعد الصانع — بعد ظهور الآلة في الصناعة — يستخدم عقله ويديه في عملية واحدة.
ونعود بعد هذا الاستطراد القصير إلى ما كُنَّا نتحدث فيه، وهو أن الناس يعبرون عن ثقافتهم في مواقفهم من الحياة العملية، حين يندمج الطرفان في كيان عضوي واحد، وعندئذٍ لا تنشأ أمام الفكر مشكلات؛ لأن طرق السلوك ممهدة مرصوفة بالعرف والتقليد، فإذا حدث كذا استجاب له الناس بكذا، وكانت الاستجابة موضع القبول والرضا عند الجميع، وإنما تنشأ المشكلات حين تحدث فجوة وتتسع بين الثقافة الجارية من جهة ومواقف جديدة من جهة أخرى اقتضتها حياة جديدة لم يألفها القوم، فعندئذٍ لا استجابات العرف والتقاليد تكون ملائمة وكافية، ولا الناس يملكون الطرق الجديدة التي يواجهون بها الجديد.
لننظر إلى حياتنا اليوم وما تواجهنا به من مشكلات أساسية لم يعد يصلح لها ما قد ورثناه من قيم مبثوثة في تراثنا، لسبب بسيط، هو أنها لم تكن هي نفسها المشكلات التي صادفت أسلافنا حتى نتوقع منهم أن يضعوا لها الحلول، وعلى رأس هذه المشكلات مشكلة الحرية بمعناها السياسي ومعناها الاجتماعي، وهما المعنيان اللذان تدور حولهما أرحاء الحياة المعاصرة، معظمها إن لم يكن جميعها، وهما كذلك المعنيان اللذان لم يكونا موضع النظر عند الأقدمين.
فقد كانت فكرة «الحرية» تنصرف عندهم إلى المعنى الذي يقابل «الرق»، فالفرد من الناس إما أن يكون حُرًّا ذا حقوق وواجبات، وإمَّا أن يكون عبدًا مملوكًا لغيره، فلا حقوق له إلا ما يأذن له به مولاه، وكل ما يأمره به مولاه هو واجب محتوم: فأولًا قد زالت هذه التفرقة ولم يعد أمامنا إلا مجموعة من المواطنين هم أنفسهم مجموعة الأحرار، ثُمَّ اتسع المعنى — ثانيًا — ليشمل جوانب جديدة لم تعرفها الحياة القديمة، وهي الجوانب السياسية التي من شأنها أن تُقام الحكومة بانتخاب المواطنين، إما بطريق مباشر وإما بطريق غير مباشر، على الصورة التي نألفها — على اختلاف أشكالها — في الدول الحديثة. لقد كان يسيرًا علينا — أعني أبناء الأمة العربية في مختلف أقطارها — أن نقفو أثر أوروبا وأمريكا فيما اصطنعوه من أنظمة للحكم تكفل للمواطنين أن ينتخبوا من يمثلونهم أمام من تسند إليهم مناصب الحكم، بحيث تكون السلطة كلها في نهاية الأمر للشعب، فإذا رضيَ عن الحكومة أبقى عليها، وإذا سخط عمل على إزالتها في غير حاجة إلى معارك ومذابح وتعذيب وسجن وتشريد، لا من قِبَل الحاكم ولا من قِبَل المحكوم. أقول إن نقل هذه الأنظمة كان يسيرًا علينا من الوجهة النظرية الشفوية، وهل يتعذر أن ننتقي عددًا من المواد نجمعها في بضع صفحات، لنقول: هذا هو دستورنا الذي يكفل لنا الحرية في حكم أنفسنا بأنفسنا عن طريق الذين نختارهم لينوبوا عَنَّا في كل ما نهتم له من شئون التشريع والقضاء والإدارة؟
لكن الفجوة فسيحة وعميقة بين أنظمة كهذه تصون للناس حرياتهم السياسية، وبين صورة ورثناها فيما ورثناه من السلف؛ فعلى طول التاريخ العربي، ندر — وكدت أقول «استحال» لولا أني تعمدت الحيطة في الصياغة — ندر أن زالت حكومة لأن الشعب المحكوم بها لم يعد يريدها، فهنالك فوق أريكة الحكم خليفة أو أمير، أخذ الحكم وراثة أو أخذه عَنْوَة، وفي كلتا الحالين لا يزحزحه عن أريكته إلا غدر أو قتل أو سجن أو ما رأيت من سبل تكون في وسع المتآمر عليه، فلا الشعب اختار ولا الشعب يملك حق العزل ولا القلة ممن لهم الصدارة في المجتمع يستطيعون بإزاء الأمر الواقع شيئًا إلا الطاعة أو العصيان والمؤامرة.
ووجدنا أنفسنا في عصرنا هذا بين هذين الطرفين: أنظمة الحكم التي تكفل الحرية للشعب ننقلها على الورق، ثم صورة موروثة تخلع على الحاكم صفات «الخليفة» أو «الأمير» بالمعنى التاريخي القديم، يعطي من يشاء ويمنع عمن يشاء بغير حساب؛ ومِنْ ثَمَّ نشأت أمام المفكرين مِنَّا مشكلة المطالبة بتحقيق الحرية السياسية تحقيقًا يجاوز الكتابة على الورق، ليصبح سلوكًا جاريًا في صلب الحياة التي نحياها كل يوم.
وشاء لنا القدر الغشوم أن نستيقظ لنجد أنفسنا في قبضات المستعمرين، فكان من الطبيعي أن نوجه الطاقة الثائرة كلها أوَّلًا نحو هؤلاء المستعمرين لنتخلص من قيودهم، ثم ننصرف بعد ذلك لتنظيم البيت ما دمنا قد أصبحنا سادته.
مشكلة الحرية السياسية إذن هي على رأس مشكلاتنا المعاصرة، ولن أجد في «التراث» حلولًا لها، لا بل إنها إنما نشأت أساسًا بسبب الفجوة الفسيحة العميقة التي تباعد بين أنظمة الحكم في العصر الحديث، والصورة التي ورثناها عن الحاكمين وما يحيط بهم من جاهٍ وسلطان وهَيْل وهَيْلَمان.
وأصعب من هذه الحرية السياسية منالًا، حرية أخرى يقتضيها عصرنا ولم تكن معروفة ولا مألوفة — في صورتها الحديثة — عند أسلافنا، وأعني بها الحرية الاجتماعية التي تكفل الحياة المادية للمواطنين، حتى لا يجدوا رقابهم في أيدي من يوفرون لهم سُبل العمل والعيش. إنها لمهزلة أن نقول للناس: اذهبوا فأنتم الأحرار في انتخاب من يمثلونكم في مجلس النواب، ومن يحاسبون رجال الحكم نيابةً عنكم، وبهذا تصبحون أنتم الحاكمين والمحكومين معًا، فإذا ما ارتدَّ هؤلاء الناس ليؤيدوا هذا الحق السياسي، وجدوا أنفسهم وجهًا لوجه أمام سادة يتحكمون في أرزاقهم، وعلى هؤلاء الناس أن يختاروا بين انتخاب أولئك السادة وبين التعطل والتشرد والجوع لأنفسهم ولعيالهم؛ وإذن فلا بد من حرية اجتماعية تصون للناس حق الحياة لكي يُصان لهم بالتالي حق انتخاب النائبين فالحاكمين، ولم نكن لنجد حلًّا لهذه المشكلة الجديدة إذا نحن ارتددنا إلى التراث؛ لأننا إذا وجدنا في هذا التراث مبادئ نظرية تكفل لنا الحرية الاجتماعية المنشودة، وجدناها من جهة أبعد ما تكون عن التطبيق الشامل بحيث تهبط إلينا وكأنها العرف الذي ليس من سيادته مناص، ووجدناها من جهة أخرى أقرب إلى التوصية بالصدقات يتصدق بها الغني على الفقير، فإن فعل كان له الجزاء عند ربه، وإن لم يفعله كان له الجزاء كذلك عند ربه، وفي كلتا الحالتين لا شأن للدولة بالأمر.
وليست مشكلة الحرية بمقصورة علينا في هذا العصر، بل إنها لتتسع حتى تكاد تعم العالم كله، وإن تنوعت أشكالها بتنوع الظروف، فهو عصر تميز بكثرة ما شهده من نظم دكتاتورية ونازية وفاشية وعسكرية، قد يكون لكل منها ما يبرره في سياسة إقليمه الذي ظهر فيه، كأن يتطلب شعب ما وحدة قوية يجابه بها عدوًّا طامعًا فيه، فلا يكون لهذه الوحدة من سبيل أمام القادة إلا أن يفرضوها على الناس بحكم فردي مستند إلى الحديد والنار حتى يزول الخطر، أو أن يتطلب شعب آخر وحدة قوية ريثما يتم له التحول من نظام قديم إلى نظام جديد، ويخشى ألا يتم هذا التحول إذا تمزق الرأي العام تحت ضغوط المذاهب والاتجاهات المتنازعة، لا سيَّما إذا كان وراء هذه المذاهب والاتجاهات أعداء يتربصون. وهكذا وهكذا، أسباب كثيرة وظروف متنوعة قد تؤدي إلى صورة من صور الحكم الفردي الذي لا يسمح بحرية الرأي ولو إلى فترة محدودة، انتهت بالعالم في عصرنا إلى قيود فُرِضَت على الحريات في أجزاء كثيرة من العالم.
وكان مُحالًا أن تمر الحريات بمثل هذه الأزمات الصارمة، دون أن ينهض لها منقذون في دنيا الأدب والفن والفكر، فتستطيع أن تقول على وجه الإجمال أن معظم تيارات الفلسفة المعاصرة والفن المعاصر والأدب المعاصر، ينصبُّ على هذا الإنقاذ، من وجودية تجعل للفرد كل السلطان على نفسه في اتخاذ لقراراته فيما يصادفه من مواقف، إلى فن تجريدي أو تكعيبي أو سيريالي يجعل للفنان الحق في أن يتحرر من الموضوع الخارجي ليكون هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في تكوين العالم الفني الذي يريد العيش فيه، إلى أدب العبث واللامعقول الذي يجمع عدة أشخاص في مسرحية واحدة يتحدثون دون أن يكون هناك ضرورة اتصال بين قائل وسامع. هذه وغيرها مما يملأ الكتب والصحف والمعارض والمسارح والقصص والشعر، قد انتقل إلينا نحن رجال الفكر والأدب والفن في البلاد العربية، فشاركنا فيه مشاركة من وجد فيه تعبيرًا عن حالته، لكنها كذلك مشاركة من أعوزته قوة الابتكار والإبداع، فأخذ الصور الأدبية والفنية والمذاهب الفكرية والفلسفية من الآخرين، ليملأها بمادة محلية من عنده. والمهم في سياق حديثنا هذا هو أن نلحظ كيف أننا حين تأزمت معنا مشكلة الحرية، وجدنا الحلول وأشباه الحلول، لا في التراث العربي القديم، بل وجدناها في النتاج الأوروبي الحديث.
وتفرعت من مشكلة الحرية مشكلات لها خطرها وعمق أثرها في حياتنا العربية المعاصرة، منها حرية المرأة، فالمرأة العربية الجديدة إنسانة أخرى غير امرأة الأمس، ومع ذلك فقد وجدت نفسها في مجالات العرف والتقليد والتشريع حبيسة أوضاع وُضعت لسالفاتها من بنات «الحريم» و«الجواري» و«الغانيات». لقد أصبحت المرأة العربية اليوم طبيبة ومهندسة ومحاسبة ومدرسة في مختلف مدارج التعليم من المدارس الأولية فصاعدًا إلى كراسي الأستاذية في الجامعات، أصبحت المرأة العربية اليوم عالمة في معامل الفيزياء النووية وكيماوية أمام مخابير التركيب والتحليل، وقانونية وممثلة للشعب في مجالس النواب، ووزيرة مع الوزراء في قيادة أمتها. نعم، أصبحت المرأة العربية اليوم ثم أصبحت وأصبحت، فهل يُعقَل أن يُقال لها — وهذا هو كيانها الجديد — ما كان يُقال لسالفتها من قوامة الرجال عليها بالمعنى القديم، ومن حق الرجل في أمثالها العاملات العالمات المثقفات القائدات، مثنى منهن وثلاث ورباع؟ هذه إذن إحدى المشكلات الفرعية التي تفرعت من المشكلة الأم؛ مشكلة الحرية بمعناها المطلق العام في دنيا السياسة والاجتماع. وإن امرأة عصرنا لتجد نفسها في أزمة حادة، نلمسها في كل من نعرفهن من ذوات القربى ومن الزميلات في مجال العلم والعمل؛ لأنها تجد نفسها مشدودة بين قطبين نقيضين، فمن هنا تقاليد تضعها موضعًا لم يعد يصلح لها، ومن هناك مشاركة في نشاط العصر وثقافته تجذبها جذبًا إلى أن تقف مع الرجل الزوج الأخ والزميل في صف واحد، فأين عساها أن تجد منافذ الخلاص؟ إن ذلك لن يكون في تراث عربي قديم، مهما نشط المتحذلقون في جمع قول من هنا وقول من هناك، وحكمة من هنا وحكمة من هناك، ومثل من هنا ومثل من هناك، ليدلوا بذلك على ما كان للمرأة العربية من مكانة يمكن أن تكون مطمعًا لزميلتها المعاصرة، ومرة أخرى لن نجد للمشكلة حلولها إلا في حضارة الغرب الحديث.
ومن مشكلاتنا الكبرى كذلك — إلى جانب مشكلة الحرية بكل فروعها — مشكلة الدخول في عصر العلم والصناعة، لقد بدأ العالم كله عصرًا جديدًا أصبحت المعرفة فيه من جنس يختلف عما كان يسميه آباؤنا «معرفة» اختلاف الأبيض عن الأسود، وسأخصص فصلًا من فصول هذا الكتاب لشرح الانتقال الانقلابي العميق الذي انتقل به الإنسان المعاصر — في البلاد المتقدمة علمًا وتكنيةً وصناعةً — من عهود طويلة كانت «معرفته» خلالها كلامًا في كلام في كلام — كما يقول هاملت — إلى عصره هذا الذي أصبحت فيه «المعرفة» التي تستحق هذه التسمية أجهزة بالغة الدقة لقياس الانتقال والسرعة وضبط الاتجاهات، ولنقل الصوت والضوء، ولتحريك الطائرات والغائصات والصواريخ. واختصارًا، قد انتقل إنسان هذا العصر من معرفة «اللفظ» إلى معرفة «الأداء».
لم يكن «العالِم» في العهود السابقة يبلغ من علمه حَدًّا يجاوز إحسانه للكتابة والقراءة، ولا يغير من هذه الحقيقة البسيطة أن يكون الموضوع المكتوب أو المقروء فلسفة عميقة أو أدبًا رائعًا، فلا تكاد تجد فرقًا ظاهرًا من حيث القدرة على تغيير وجه الأرض بحضارة جديدة، بين تلاميذ المدارس الابتدائية أو الثانوية وبين كبار الفلاسفة والأدباء، فكلا الفريقين على حد سواء يكتب ويقرأ، لكن لا تحركت طائرة بتلك الكتابة والقراءة ولا غاصت غائصة ولا نطق مذياع.
وإن هذه التفرقة بين نوعي المعرفة يصدق علينا نحن العرب ألف مرة إذا صدق على شعوب أخرى مرة واحدة؛ لأن عبقرية العرب كانت في لسانها، لم تكن اللغة في ثقافة العرب «أداة» للثقافة، بل كان هي الثقافة نفسها، فأنت مثقفٌ بلغ القمة إذا أنت أجدت الإلمام باللغة في مفرداتها ومترادفاتها وفي نحوها وصرفها وفي رواية نثرها وشعرها.
فإذا جاء علينا عصر يُركِّز في أجهزة وأنابيب ومعامل ومصانع، أُسقط في أيدينا؛ لأن بضاعتنا شعر ونثر ونحو وصرف ومفردات لغوية ومترادفات، وهي كلها لا تقوى على ضبط إبرة في جهاز.
والمشكلة الكبرى الآن هي كيف نتحول من ثقافة اللفظ إلى ثقافة العلم والتكنية والصناعة؟ واضح أن ذلك لن يكون بالرجوع إلى تراث قديم، وأن مصدره الوحيد هو أن نتجه إلى أوروبا وأمريكا نستقي من منابعهم ما تطوعوا بالعطاء وما استطعنا من القبول وتمثل ما قبلناه.
ومن مشكلاتنا التي نصبح معها ونُمسي، والتي تشغل قلوبنا وعقولنا مع القيام والقعود، وخلال العمل وإبَّان الفراغ، مشكلة الوحدة العربية والقومية العربية وما يتهددها من عوامل التسلط والعنصرية متمثلة في الغزو الصهيوني. لقد تعرض العرب من قبل لغارات المغول وغزوات التتار، لكن الغزو الصهيوني أفدح خطرًا؛ لأنه غزو جاء ليقيم وليكتسح وليتسع وليضرب بجذوره في الأرض، ولأنه غزو تناصره دول لا يبدو في الأفق ما يوحي أقل إيحاء بأنها سوف تهن وتضعف في وقت قريب. وإنه لخطر مزدوج؛ لأنه دهمنا ونحن على غير اعتصام بحبل القومية الواحدة، والنظرة السياسية الواحدة، والرأي الواحد فيما يختص بالهدف والمصير، فترانا نعترك بعضنا مع بعض في ساحات الكلام، ثم نعترك مع العدو المهاجم في ساحات القتال بالسلاح. وإلى هذه الساعة التي تُكتب فيها هذه السطور، لا معركة الكلام انتهت بأصحابها إلى إقناع واقتناع، ولا معركة السلاح انتهت بنا مع العدو إلى موقف نطمئن له ونستريح.
وفي غمرة هاتين المعركتين ترتفع أصوات المشفقين على الأمة العربية من مصير قد ينتهي إلى ما يُشبه الدمار السياسي والحضاري، وهو دمار لا ينتقص من حدته أننا موجودون بالأبدان وبالتكاثر، ترتفع أصوات هؤلاء المشفقين بأن طريق الخلاص أن نستمسك بالدين وبالعروبة وبغيرهما من المفهومات التي من أجل توضيحها كُتِبَ هذا الكتاب.
فسؤالنا المطروح الذي نبحث له عن جواب، هو: على أي نحو يكون التمسك بتراثنا الديني والثقافي العربي ممسكًا لنا من الانهيار والهزيمة والدمار؟ بديهي أن ذلك لا يكون بأن نطمئن إلى وجود الكتب المحتوية على هذا التراث فوق رفوف المكتبات، سواء أكانت موجودة هناك مخطوطة أو مطبوعة طباعة قديمة أو طباعة محققة حديثة، وإنما الوجود الذي نعنيه والذي يرجو به الداعون إلى إحياء تراثنا أن يجيء هذا الإحياء وسيلة إنقاذ مما نحن فيه، وطريقة حياة جديدة نحياها في مستقبل قريب أو بعيد، هو ذلك الوجود الذي تتحول به الثقافة المعينة إلى وجهة نظر حية تدفع صاحبها في مسالك الحياة اليومية العملية. إنه ما من خطوة يخطوها الإنسان في حياته إلا ووراءها خلفية فكرية في رأسه، استمدها من التقاليد بالتربية أو من الدراسة بالتعلم، أو استمدها من التأمل النظري الذي يتحول معه إلى عمل وتطبيق. إنك إذا غيرت مجموعة الأفكار المجتمعة في رأس آدمي تغير بالتالي سلوك صاحبه، وما «غسل الدماغ» الذي يتحدثون عنه اليوم إلا تغيير أفكار بأفكار في رءوس الناس، وما هدف الدعاوى السياسية والمذهبية والتجارية إلا زرع أفكار معينة في رءوس الخاضعين لها، فنضمن بذلك أن يتغير سلوكهم.
وإذن فسؤالنا الأساسي المطروح هو: أي الأفكار التي يريدوننا أن نبتعثها من تراث الأسلاف، يمكن أن نعلق به الرجاء؟ وهل صحيح أننا واجدون في أفكار أسلافنا بالأمس ما يمكن أن ينير أمامنا الطريق؟ لقد كانت أفكارهم وليدة مشكلاتهم، فهل تكون مشكلاتنا هي نفسها مشكلاتهم، بحيث نهتدي بحكمتهم في اقتراح الحلول؟
•••
ضربنا أمثلة قليلة لمشكلات حقيقية حية نعيشها اليوم، حتى لنراها تحاصرنا من جميع أقطارنا، وتمسك برقابنا، لا يستطيع فكاكًا منها إلا أولئك الذين ينفضون أيديهم من عصرهم، ليلوذوا بمعتصم في ركنٍ من الماضي يأوون إليه، لكن هؤلاء لا يستطيعون الادِّعاء بأنهم هم المثقفون الذين يرتبطون بمجتمعهم بآصرة من أواصر الفكر.
فماذا لو تصدينا لهذه المشكلات الحقيقية الحية، فأخذنا الظن بأن طريق السلامة والأمان، هو أن نعرضها على ضوء ما قد نجده من ثقافة الأقدمين؟ إنني لأحسب أنه لو كان المقصود بإحياء التراث الفكري هو أن نفتح له المنافذ ليسري في كياننا العضوي سريانًا يكون لنا وجهة النظر التي نهتدي بها في الحياة العملية بما يعتورها من صعاب ومشكلات، أقول إنه لو كان هذا هو المقصود، إذن فإحدى الوسائل الفعالة هي أن أفكر في مشكلاتي الراهنة على ضوء ما قد رآه الأسلاف إزاء مشكلاتهم التي بينها وبين مشكلاتي شبه، فمن هم رجال الفكر من هؤلاء الأسلاف، وماذا كانت مشكلاتهم؟
إنه لبعثرة للجهد أن أحلل الماضي كله لألتمس الجواب، ويكفيني في هذا السياق الذي نحن بصدده أن نأخذ شريحة زمنية نختارها من فترة ارتفعت فيها ثقافة السلف إلى أوجها، وتعقدت بهم خلالها سبل الحياة حتى كثرت مشكلاتهم التي كان على رجال الفكر أن يتصدوا لها، وأظنني لا أخطئ الاختيار لو وقفت في الموضع نفسه الذي وقف فيه الغزالي لينظر وراءه قليلًا وحوله ويسأل نفسه: من هم جماعات المفكرين؟ وماذا كانت مشكلاتهم وطرائق حلولها عندهم؟ وبعد أن أوجز وصف الموقف سأرى وسيرى القارئ معي: إلى أي حد يتشابه أو لا يتشابه عصرنا ومشكلاته مع عصر أسلافنا ومشكلاته؟ ولو وضعنا السؤال في عبارة أخرى، قلنا: إلى أي حد أستطيع أن أجد العون على حل مشكلاتي العصرية عند أسلافي؟ ولو وجدت أن لا عون يمكن أن أستمده من هؤلاء الأسلاف، كانت الدعوة إلى إحياء التراث دعوة تغري السامع بنغمتها الجذابة، لكنها لا تنطوي على نتيجة عملية، سوى ما يجده محترفو الدراسة الأكاديمية النظرية فيها من رياضة للذهن، ومن حفاظ على الأثر بعد العين، يتذكر به أبناء العصر أن قد كان لهم آباء عاشوا حياتهم في نشاط فكري، وأجدر بهؤلاء الأبناء أن ينشطوا بالفكر كما نشط الآباء، ولكن في مشكلاتهم هم وبعقولهم هم وبحلولهم هم، لا في مشكلات الآباء ولا بعقول الآباء وحلولهم.
- (١)
المتكلمون، وهم الذين يدَّعون أنهم أهل الرأي والنظر.
- (٢)
الباطنية، وهم الذين يزعمون أنَّهم أصحاب التعليم، والمخصوصون بالاقتباس عن الإمام المعصوم.
- (٣)
الفلاسفة، وهم الذين يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان.
- (٤)
الصوفية، وهم يدَّعون أنهم خواص الحضرة، وأهل المشاهدة والمكاشفة.
يقول الغزالي: إن «الحق» لا يعدو هذه الأصناف الأربعة، فإن شذ الحق عنهم فلا يبقى في درك الحق مطمع؛ إذ لا مطمع في الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته.
- الملاحظة الأولى: هي هذه العبارة التي أودُّ أن تتحول إلى أجراس تُقرع في آذاننا حتى يصحو النائم ويتنبه الغافل، وأعني العبارة التي تقول إنه «لا مطمعَ في الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته»، فإذا كان رجل كالغزالي في منزلته العقلية وفي مكانته الفقهية، وفي زمنه الذي يقع في صميم الفترة التاريخية التي يريد بعضنا اليوم أن يُحييها ليحاكيها، إذا كان رجل كهذا في ظروفه تلك يُبعد «التقليد» من جملة الأساليب الفكرية التي يصح الوقوف عندها، فهل يجوز لعاقل بعد ذلك أن يقول في عصرنا هذا بمبدأ التقليد؟ ألا إنه لو كان في تراثنا ما يُنقَل ويُقلَّد، فهو هذه الوقفات المنهجية العظيمة التي وقفها الأولون.
- وأما الملاحظة الثانية: التي لا أحب أن أجعلها تمر مرورًا عابرًا في سياق الحديث؛ ولذلك فسوف أعود إليها في موضع أو مواضع تالية من هذا الكتاب، فهي: كلمة «الحق» ماذا تعني؟ كان رجال الفكر الذين قسمهم الغزالي إلى أصناف أربعة — أو إلى مدارس أربعة إذا استخدمنا لغة عصرنا — يطلبون «الحق»، تمامًا كما يطلبه رجال الفكر في كل العصور، لكن يا ويلتاه «للحق» من تعدد معانيه على أيدي المفكرين، إنه يتشعب على أيديهم ألف معنًى ومعنًى، كلٌّ منهم يأخذه من زاوية معنًى واحد، فيظن بعد ذلك أنه إذا اختلف مع غيره مذهبًا ورأيًا، فقد اختلف معه اختلافًا يجعله هو على «حق» ويجعل الآخر على باطل، مع أن هذا الآخر لا يختلف عنه إلا في أخذه لجانب آخر من جوانب الحق الكثيرة المتعددة.
فماذا يعني هؤلاء المفكرون — ومعهم الغزالي نفسه وغيره من أئمة المفكرين في تراثنا — ماذا يعنون «بالحق» الذي يطلبونه ويتفرقون في سبيله فِرَقًا وجماعات؟ خذ معناه كما صاغه الغزالي في هذا السياق: «ألقى الله تعالى إلى عباده على لسان رسوله عقيدة هي الحق.» وفي ظني أننا لو وقفنا من هذا التعريف وقفة نزيهة موضوعية متأملة، لكفانا ذلك جهدًا وعناءً ما أغنانا عنهما فيما ينشب بيننا من نقاش؛ لأنه إذا كان «الحق» عند أولئك الأسلاف من المفكرين هو «العقيدة» التي أنزلها الله إلى عباده على لسان رسوله، إذن فليس هو إلا جانبًا واحدًا من الحق كما نطلبه اليوم، فنحن منصرفون اليوم بمعظم سعينا نحو طلب الحق من حيث هو قوانين الطبيعة من صوت وضوء وكهرباء ومغناطيسية وجاذبية وغيرها، ومن حيث هو بناءات رياضية نقيمها بالتفصيلات المعقدة المركبة التي يعرفها علماء الرياضة، والتي لا يعلم أمثالي منها إلا مجمل الاتجاه في عمومه، ومن حيث هو نظم اقتصادية ونظم اجتماعية ما زلنا حتى هذه الساعة نتخبط حيالها في ظلام؛ لأن العالم منقسم في موضوعها لم يَرْسُ بعد على برٍّ يستريح إليه ويطمئن.
فما أبعد «أصناف الطالبين» اليوم عن أصنافهم بالأمس! إن حقيقة موقفنا الفكري اليوم، هي — على أحسن الفروض — أن الأصناف القديمة الأربعة ما زالت ممتدة في رجال يعيشون بيننا إلى اليوم، لكنهم إذ يبحثون ويتجادلون، فإنما يخاطب بعضهم بعضًا، ولا تسمع الدنيا إلا إلى قليل جِدًّا مما يقولون ويكتبون؛ لأن المسائل التي تشغل دنيا اليوم ليست هي مسائل المتكلمين والباطنية والفلاسفة الأقدمين والصوفية، فكل ما قاله هؤلاء مجتمعين لا يغني فتيلًا — لا أقول في دفع الصواريخ في الفضاء — بل أقول: إنَّه لا يغني فتيلًا في إعداد المواطن المعاصر تجاه مواطنيه في قومه وتجاه سائر الناس في سائر الأقوام.
ونكتفي بهذا الآن، لنسمع ماذا يقول الغزالي في «أصناف الطالبين» الأربعة.
وأولهم جماعة «المتكلمين»، وهم — بتعريف الغزالي — «الذين ينصرون السنة بكلام مرتب يكشف عن تلبيسات أهل البدعة»؛ ذلك أن الله تعالى قد ألقى إلى عباده على لسان رسوله — كما أسلفنا — «عقيدة هي الحق»، لكن حدث أن شاب هذا الموقف النقي ما ألقاه الشيطان من وساوس المبتدعة من أمور جاءت مخالفة للسنة، فتصدى «المتكلمون» للدفاع عن العقيدة التي تلقاها المسلمون من النبي بالقبول، وهي مهمة تجد عند الغزالي كل تشجيع وتقدير.
لكنه يأخذ عليهم أنهم اعتمدوا في أداء مهمتهم تلك على مقدمات تسلموها من خصومهم، فلماذا فعلوا؟ اضطروا إلى ذلك إما متأثرين بالتقليد، أو بإجماع الأمة، أو بمجرد القبول الذي اصطنعوه تجاه القرآن وتجاه ما تواتر من الأخبار، تلقوا ذلك كله، وجعلوا همهم الأكبر هو استخراج أوجه التناقض التي تكمن في أقوال خصومهم؛ فطريقتهم هي أن يسلموا لهؤلاء الخصوم — جدلًا — بما يدَّعون، ليأخذوا في تحليله وعرض ما ينطوي عليه من نقائض. ويعلق الغزالي على هذا الموقف قائلًا إنه قد يفي بمقصودهم، لكني وجدته «غير وافٍ بمقصودي»، وإنه «قليل النفع في حق من لا يُسلِّم سوى الضروريات شيئًا أصلًا»؛ أي أن جهود المتكلمين كلها تذهب عبثًا إذا خوطب بها من يقف موقف الشك من كل شيء فيما عدا الحقائق العقلية الأولية الضرورية، كمبادئ المنطق الصوري والرياضيات.
ومرة أخرى نودُّ لو جاءت عبارات الغزالي في هذا السياق أجراسًا تدوِّي في آذاننا؛ لتوقظنا على حقيقة ساطعة صارخة، وهي أن طرائق المتكلمين التي يدافعون بها عن العقيدة على أساس التسليم بالعقيدة نفسها من حيث المبدأ، لم تقنع رجلًا كالغزالي، مع أنه يشاركهم في نوع المشكلات المعروضة للحل، فما بالك بأبناء هذا العصر، والمشكلات نفسها لم تعد مشكلاتهم؟
لقد تحوط الغزالي في حديثه عن المتكلمين وطرائقهم في معالجة المشكلات؛ إذ قال إنه لم يجد عندهم شفاءه، فربما وجد سواه عندهم ما يبتغي، «فإن أدوية الشفاء تختلف باختلاف الداء، وكم من دواء ينتفع به مريض ويستضر به آخر.» ويُريد كاتب هذه الصفحات أن يتحفظ التحفظ نفسه حيال جانب ضخم من تراثنا، لا يراه جزءًا من حياتنا الفكرية التي نعيشها، ومحال أن يكون، فيقول: إن عصرنا هذا لن يجد شفاءه فيما قاله هؤلاء السلف في أمورهم، حتى وإن ثبت أن غيرنا قد وجد فيه الدواء الشافي لما يعرض لهم من معضلات.
وينتقل الغزالي بعد المتكلمين إلى الفلاسفة كالفارابي وابن سينا؛ وهنا نراه — كعادته في كتاباته النقدية على اختلافها — لا يقبل بالجملة ولا يرفض بالجملة، بل ينظر إلى التفصيلات والفروع، فلعل فيها ما يقبله كما أن فيها ما يرفضه.
ويبدأ بتقسيم الفلاسفة — كما وجدهم بالفعل في الثقافة الإسلامية التي يتناولها بالنظر والتحليل — ثلاثة أقسام، هم: الدهريون، والطبيعيون، والمؤلِّهة. ثم يأخذ في تحديد كل فئة من هؤلاء تحديدًا موجزًا لكنه نافذ ودقيق؛ فأما الدهريون: فهم الذين جحدوا الصانع المدبر العالم القادر، وزعموا أن العالم لم يزل موجودًا بنفسه وبغير صانع. وأمَّا الطبيعيون: فيعترفون بالصانع الحكيم المطلع على غايات الطبيعة التي صنعها وخلقها، غير أنهم اعتقدوا أن القوة العاقلة — كسائر قوى الحيوان — نابعة من مزاج الإنسان، وأنها تبطل ببطلان ذلك المزاج فتنعدم، ثم لمَّا كان من غير المعقول أن يُعاد المعدوم، فقد جحدوا الآخرة؛ وبالتالي أنكروا العقاب والثواب «فانحل عنهم اللجام، وانهمكوا في الشهوات انهماك الأنعام.» ولا ريب في زندقة هؤلاء الطبيعيين وأولئك الدهريين؛ لأن أصل الإيمان — كما يقول الغزالي — هو الإيمان بالله واليوم الآخر، والدهريون ينكرونهما معًا، والطبيعيون ينكرون اليوم الآخر وإن يكونوا يؤمنون بالله. وأمَّا الفئة الثالثة من الفلاسفة، فهم جماعة «الإلهيين»؛ مثل فلاسفة اليونان: سقراط وأفلاطون وأرسطو، ومن تبعهم من فلاسفة المسلمين؛ مثل الفارابي وابن سينا. ولقد رد هؤلاء الإلهيون على الصنفين الأولين من دهريين وطبيعيين. وإذن فهم إلى هذا الحد لا عيب فيهم ولا غبار عليهم، لكنهم يضيفون إلى ذلك الرد مواقفَ وأقوالًا يكفرون في بعضها من وجهة نظر الغزالي، الذي وجد في تفكيرهم ثلاثة أقسام، لا يجوز الحكم على أحدها بما يحكم به على الآخر؛ فقِسم فيه كفر وقِسم فيه بدعة وقِسم ثالث يجوز قبوله.
ويمضي الغزالي — على طريقته في عدم الحكم الإجمالي قبل النظر في التفصيلات — في تحليل نتاج الفلاسفة، فإذا هو عنده ستة علوم: رياضة ومنطق وطبيعة وإلهيات وسياسة وأخلاق. أمَّا الرياضة والمنطق فلا شأن لهما بالعقائد الدينية؛ إذ تنظر الرياضة في الكم وينظر المنطق في طرق الأدلة؛ مما لا يمس العقائد الدينية في مضموناتها. ولا يفوت الغزالي هنا أن ينبه إلى خطرين: خطر أن يرى بعض الناس دقة البراهين الرياضية عند الفلاسفة، فيحسن الظن بجميع علومهم مع أن دقتهم في جانب لا يستلزم دقتهم في جانب آخر. والخطر الثاني هو أن يتصدى قوم لتأييد العقيدة الدينية بجهالة فيظنون أن نصرة العقيدة لا تتم إلا بإنكار شامل لكل ما قاله الفلاسفة، حتى ما هو قائم فيه على برهان حاسم كالمنطق والرياضة. وأمَّا علم الطبيعة عند الفلاسفة فليس به بأس ما داموا يعلمون أن الطبيعة مُسَخَّرة لله ولا تعمل بنفسها. وأكثر أغاليطهم ترد في قسم الإلهيات؛ ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيها؛ إذ لم يستطيعوا في الإلهيات أن يوفوا بالبراهين على النحو الذي شرطوه في المنطق. ويحصر الغزالي مجموع أغاليطهم في عشرين مسألة، يجب تكفيرهم في ثلاث منها، وتبديعهم في بقيتها — وترى تفصيل ذلك في كتابه «تهافت الفلاسفة» — والمسائل الكفرية الثلاث هي: إنكارهم لبعث الأجساد، وقولهم إن الذي يبعث هو الروح وحدها دون الجسد. والمسألة الكفرية الثانية هي قولهم إن الله يعلم الكليات دون الجزئيات. والثالثة قولهم إن العالم المادي أزلي قديم، أي أنه غير مخلوق لله، ويبقى من علوم الفلاسفة علمان هما: السياسة والأخلاق، وهذا ليس فيهما ما يعرضهم لكفر وزندقة.
يفرغ الغزالي من النظر في موقف الفلاسفة من المسائل الفكرية السائدة في عصره، بعد أن فرغ من النظر في موقف المتكلمين. ثُمَّ ينتقل إلى الفئة الثالثة، وهي فئة الباطنية، الذين يذهبون إلى أن الحق لا يُعرَف إلا عن طريق التعليم — أي أن العقل وحده لا يكفي لإدراك الحق — وأن ذلك التعليم لا يسلم من الخطأ إلا إذا جاء عن طريق إمام معصوم (وسوف أعود بشيء من التفصيل إلى موقف الباطنية لخطره وأهميته حين توزن الثقافة التي نسميها تراثًا، وزنًا يبين لنا ماذا نأخذ اليوم من تلك الثقافة وماذا ندع). وقد لا يختلف مسلم في وجوب المعلم الذي نتلقى عنه، وفي وجوب عصمته من الزلل، وإلا لجاز الشك فيه، لكن موضع الاختلاف بين مسلم ومسلم هو فيمن يكون هو هذا المعلم المعصوم؟ فأمَّا الباطنية فيمدون هذه الصلاحية إلى سلسلة من الأئمة يختلفون فيما بينهم في عددهم، وأمَّا السنيون — ومنهم الغزالي — فيرون أن مُحَمَّدًا وحده هو الحقيق بهذه الصفة، فقواعد العقائد يشتمل عليها الكتاب والسنة، وأمَّا ما وراء ذلك من التفصيل فيُعرَف الحق فيه بموازين العقل، مما يكفي فيه كل إنسان ينهج نهج القسطاس المستقيم، ومما يؤدي إلى الاستغناء عن إمام معصوم يجيء بعد صاحب الرسالة. لقد ذهب الباطنية إلى أن ظاهر القرآن يخفي وراءه باطنًا، وأنه إذا كان في وسع الإنسان من عامة الناس أن يقرأ ظاهره، فليس في وسع أحد — إلا من ألهمه الله بالقدرة — أن يئَوِّل هذا الظاهر بما قد استبطنه، وهذا هو ما يوجب أن يقوم فينا إمام معصوم ملهم، ليدلنا على ذلك الباطن. أمَّا الغزالي فمبدؤه هو (راجع ص٥٣ من كتاب فضائح الباطنية) أن يؤخذ النص بظاهره، إلا حيث يحكم العقل بالضرورة المنطقية على ذلك الظاهر بالبطلان، وعندئذٍ فقط نعلم أن المراد لا بد أن يكون شيئًا غير الظاهر، فنلجأ إلى التأويل المعقول.
وأخيرًا ينتقل الغزالي إلى الفئة الرابعة — فئة المتصوفة — فيجد عندهم طريقًا يصلهم «بالحق»، هو طريق الإدراك الذوقي المباشر، فيضم نفسه إلى جماعتهم.
ماذا أردنا بهذه الوقفة الطويلة التي أخذنا تفصيلاتها من الغزالي؟ أردنا أن نُطلع القارئ على رجال الفكر عندئذٍ، كيف كانوا، وبأي السمات يتميزون، وما ضروب المشكلات التي تعنيهم؛ ليرى القارئ في وضوح ناصع أن المفكرين في عصرنا من طراز مختلف، وأن مسائلهم من طبيعة مختلفة، وإذن فلن يجد المعاصرون عند الأقدمين قبسًا يهتدون به في أزماتهم الفكرية من حيث مضموناتها، وربما وجدوا عندهم ما يصح الاهتداء به في النظرة والمنهج بصفة عامة.
لقد كان محور البحث عند هؤلاء المفكرين — إذا استثنينا بعض معارف الفلاسفة ومباحثهم — هو علاقة الإنسان بالله وبالرسول وبالرسالة، وكيف كان الأمر ليجيء على غير هذا النحو؟ ألم يجدوا بين أيديهم نصًّا قرآنيًّا وأحاديث مروية عن الرسول، يُراد بهم أن يأخذوا أخذ المطيع لما جاء فيهما؟ فما السبيل إلى معرفة ما جاء فيهما؟ هنا وقع معظم الاختلاف بين الطوائف الأربع التي ذكرناها.
أمَّا نحن اليوم، فقد كادت هذه المشكلة تستقر في نفوسنا عل حلول نستقر عليها في حياتنا السلوكية، ولا ضير أن نتفرق في ذلك فِرَقًا، لكن المهم هو أن المشكلة فقدت حدتها النظرية، شأنها شأن جميع ما يعرض للإنسان في تاريخه الفكري من مشكلات، تستقر على حلول، فتبرد حرارتها، وتجيء الأيام بغيرها مما يستنفد همم المفكرين.
وإنَّ لنا اليوم لمشكلات أخرى، تدور حول علاقة الإنسان بالطبيعة، وبالصناعة، وبزميله الإنسان.