غربة الروح بين أهلها
يُخيَّل إليَّ أنَّ الكاتب العربي المعاصر — وسنفترض فيه أمانة الأداء وصدق العبارة — محتوم عليه أن يقع بين نارين، لا يدري كيف ينجو بنفسه منهما؛ فهو إذا ما نظر إلى أمام، وجد ثقافة تعصف عليها أعاصيرها من الغرب، بكل ما تحمله من علوم وفنون وآداب ونظم سياسية وتيارات فلسفية، فيحس وكأنه الغريب الذي يبسط الفكين ابتغاء الصدقة؛ لأنَّه لا يملك من ذاته شيئًا يتبلغ به — ذلك إن قبلها — فإن أخذته الكبرياء الرافضة، وأشاح بوجهه عن زاد لم يكن له فضلٌ في إنباته وإنضاجه وإعداده، لم يجد أمامه عندئذٍ إلا أن يلوي عنقه إلى الوراء ليأخذ زاده من مخلاة آبائه، فمثل هذا الزاد — مهما يكن فيه من شظف — فهو نبات أرضه وعبير زهره، يكفيه ذلَّ الصَّغار الذي يعانيه حين يتسول في أسواق الآخرين، لكن الكاتب العربي المعاصر، لا يكاد يفتح خزانات آبائه، راجيًا أن يجد فيها مراده، حتى يأخذ منه القلق مأخذًا لا أظنه يصبر عليه طويلًا؛ لأنه إنما فتح تلك الخزانات وبين يديه مشكلات يعانيها ويريد لها الحلول، ولم يفتحها ليجعل من رفوفها متاحف يملأ بمرأى نفائسها المعروضة ناظريه، فكيف يطول به المقام عندها وهي لا تقدم له حلًّا واحدًا لمشكلة واحدة؟ أم ترانا ناصحيه بأن ينفض يديه من عصره ومن حياته ومن مشكلات العصر والحياة، ليطيب له العيش بين نفائس القديم بكل ما تعرضه عليه من أزمات ليست أزماته، بل كانت أزمات أصحابها، ومن معالجات لا يدري ماذا يصنع بها، إلا أن يعلقها على جدرانه للزينة؟
وهكذا يجد الكاتب العربي المعاصر نفسه بين هاتين النارين، فإمَّا أن يختار حياة فكرية حقيقية تنبض بمشكلاته وأزماته وما يُقترَح لها من منافذ للنجاة، لكنه في هذه الحالة يكون في حياته الفكرية متسوِّلًا — كما هو بالفعل متسول في حياته المادية بأنظمتها وأجهزتها — وإمَّا أن يلوذ بأصالة آبائه فيما خلَّفوه من إرث عظيم، لكنه في هذه الحالة الثانية مضطر أن يقضي حياته في متحف الآثار النفيسة، فلا تعود له صلة حيوية مع دنيا الفاعلية والنشاط؛ لأنه عندئذٍ يكون قد بَتَرَ شرايين الحياة الفاعلة النشيطة التي تصله بدنياه، وفي كلتا الحالين يحس الكاتب مرارة الغربة، فلا هو بين أهله إذا شرب من ينابيع الثقافة الأوروبية، ولا هو غنيٌّ بنبض حياته إذا قفل راجعًا إلى ثقافة آبائه.
وأستعير من أبي حيان التوحيدي بعض عباراته التي بث فيها شعورًا منه بالغربة في عصره — القرن العاشر الميلادي — برغم اختلاف الطرفين اللذين كان عليه أن يختار أحدهما، وكلاهما لا يلائمه، عن الطرفين اللذين علينا نحن الكُتَّاب المعاصرين أن نختار أحدهما، وكلاهما لا يلائمنا تمام الملاءمة. قال أبو حيان — وذلك في كتابه «الإشارات الإلهية»: «أمَّا حالي فسيئة كيفما قلَّبتها؛ لأن الدنيا لم تؤاتني لأكون من الخائضين فيها، والآخرة لم تغلب عليَّ فأكون من العاملين لها» … «فإلى متى نعبد الصنم بعد الصنم، كأننا حُمُرٌ أو نَعَم (= أنعام)؟ إلى متى نقول بأفواهنا ما ليس في قلوبنا؟ إلى متى ندَّعي الصدق، والكذبُ شِعارنا ودِثارنا؟ … إلى متى نستظل بشجرة تقلَّص عَنَّا ظلها؟ إلى متى نبتلع السموم ونحن نظن أن الشفاء فيها؟»
ويوجِّه أبو حيان شُواظًا من نار الغيظ إلى علماء عصره، ما أحرانا أن نوجِّه مثلها إلى طائفة مِنَّا تسد علينا منافذ الهواء، فيقول: «… والعجب أنك — أيها العالم الفقيه، والأديب النحوي — تتكلم في إعرابه وغريبه (يقصد القرآن الكريم)، وتأويله وتنزيله، … وكيف ورد، وبأيِّ شيءٍ تعلَّق، وكيف حُكمه فيما خصَّ وعمَّ، ودلَّ وشمل، وكيف وجهه، وكيف ظاهره وباطنه، ومُشتَمَلُه ورمزه، وماذا أوله وآخره، وأين صَدرُه وعَجُزُه، وكنايته وإفصاحه، وكيف حلاله وحرامه، وبلاغته ونظامه، وغايته ودرجته ومقامه، ومن قرأ بحرف كذا وبحرف كذا؛ ثم لا تجد في شيء مما ذكرتك به، ووصفتك فيه، ذرة تدل على صفائك في حالك وإدراكك ما لَكَ، بل لا تعرف حلاوة حرف منها … فعلمك كله لفظ، وروايتك حفظ، وعملك كله رفض …»
فإذا كان أبو حيان التوحيدي، إبان القرن العاشر، قد نظر إلى العلماء الفقهاء من حوله، الذين جعلوا دراسة الكتاب الكريم شغلهم الشاغل، فلم يَرَ فيهم إلَّا قومًا يلوكون بألسنتهم لفظًا، ويعيدون الرواية حفظًا، دون أن يسري شيء مما قالوه وحفظوه في حياتهم العملية، فالقول في وادٍ والعمل في وادٍ آخر، فماذا نقول نحن في علمائنا وفقهائنا الذين يظنون أنهم قد وقعوا على المَعين الفكري الثَّرِّ إذ وقعوا على دراسات من التراث، والله وحده أعلم كم من علمهم يتسرب إلى حياتهم الفعلية في مواقفهم التي يقفونها إزاء المجتمع بنظمه وأفراده، وإزاء العالم كله بمسائله ومشكلاته، بل إزاء أنفسهم وما تضطرب به من هموم … إلا أن علمهم كله حفظ، وروايتهم كلها حفظ — كما قال التوحيدي في علماء عصره، مضروبًا في ألف — وأمَّا عملهم ففي عالم آخر يقيس الأشياء بقيم أخرى، ولعلهم بهذه الازدواجية العجيبة بين العلم والعمل لا يشعرون، كالمُصاب بداء «الفصام» عند علماء النفس المعاصرين، يقولون لنا عنه إن أوهامه في ناحية ووقائع دنياه في ناحية، ولكنه لا يصبر على من يصف له حقيقته تلك، وربما فتك به من شدة الحنق والغيظ.
ألا ما أشدها غربة، تلك التي يحسها الكاتب العربي المعاصر بين معاصريه، الأبعدين منهم والأقربين على حد سواء، فلا هو من أولئك بحكم مولده وعشيرته، ولا هو من هؤلاء بطريقة نظره وفكره. وأستطرد في استعارة العبارة من التوحيدي، وهو يصف غربة كهذه أحسها هو بين أهله وفي عصره: «قد قيل: الغريب من جفاه الحبيب. وأنا أقول: بل الغريب من واصله الحبيب، بل الغريب من تغافل عنه الرقيب، بل الغريب من حاباه الشريب (= النديم)، بل الغريب من نودي من قريب، بل الغريب من هو في غربته غريب، بل الغريب من ليس له نسيب، بل الغريب من ليس له في الحق نصيب … يا هذا! … الغريب الذي لا اسم له فيُذكَر، ولا رسم له فيُشهَر، ولا طيَّ له فيُنشَر، ولا عُذر له فيُعذَر، ولا ذنب له فيُغفَر، ولا عيب عنده فيُستَر. هذا غريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولم يتزعزع عن مهب أنفاسه. وأغرب الغرباء من صار غريبًا في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيدًا في محل قُرْبه؛ لأن غاية المجهود أن يسلوَ عن الموجود، ويغمض عن المشهود، ويُقصَى عن المعهود … يا هذا! الغريب من إذا ذُكر الحق هُجِرَ، وإذا دعا إلى الحق زُجِرَ … يا رحمتا للغريب! طال سفره من غير قدوم، وطال بلاؤه من غير ذنب، واشتد ضرره من غير تقصير، وعظم عناؤه من غير جدوى.»
ولقد أطلنا الأخذ عن التوحيدي، ليتعزى الكاتب العربي المعاصر إذا هو أحس الغربة حين يذكر الحق فيُهجَر، أو يدعو إلى الحق فيُزجَر، وحين يعظم عناؤه بغير جدوى.
•••
إنَّ استعارتنا لما استعرناه من أبي حيان التوحيدي، للتشابه الذي رأيناه بين وقفته في زمنه والوقفة التي نظن أن الكاتب العربي المعاصر يقفها من معاصريه، لتَصلُح دليلًا على ما يؤخذ من التراث وما لا يؤخذ. وأستطيع أن ألخص رأيي في ذلك بعبارة واحدة قصيرة — تفصيلها وارد في سائر فصول هذا الكتاب — وهي أن ما نأخذه من تراثنا هو الشكل دون مضمونه؛ فقد نجد الأسلاف ذوي وقفة يغلب عليها النظر العقلي، فنأخذ منهم هذه العقلانية في النظر، وأمَّا موضوعاتهم التي صبوا عليها الفكر المنطقي، فلم تعد أغلب الحالات هي موضوعاتنا. وها هو ذا أبو حيان التوحيدي يضيق بنفسه، وتأخذه الحيرة؛ إذ يجد نفسه لا هو من أهل الدنيا الناجحين في أمورها، ولا هو من أهل الآخرة الذين يتجردون لها. وقد نضيق نحن بأنفسنا وتأخذنا الحيرة كذلك، لكن قلما يكون هذان هما الطرفان اللذان نتردد بينهما: الدنيا والآخرة، بل قد يكون الطرفان أمامنا هما: حياة معاصرة بكل أجهزة العصر وأدواته الفكرية، أو حياة تقليدية. وهكذا يكون التشابه في بنية الإطار، لا يتعداه إلى حشوه وفحواه.
وها أنا ذا أحمل طرفًا من مشكلاتي الراهنة — وقد أشرت إلى بعضها في الفصل السابق — لأعود به إلى جماعات الأسلاف باحثًا عن جماعة منها تصلح أن أنضوي تحت لوائها، لأجد عندها ما يرسم لي طريق الخلاص، فإذا وجدت تلك الجماعات كلها في وادٍ غير الوادي الذي أجتازه بهمومي، وإذا وجدت أن مسائلهم الشاغلة أمور أستكثر عليها اليوم لحظة واحدة من وقتي وجهدي ودراستي؛ لأنها أمور لا تشغل من ذهني خلية واحدة من خلاياه، إذا وجدت ذلك، كانت النتيجة التي لا مناص من قبولها، هي أن التراث الباقي من تلك الجماعات، هو أقرب إلى الآثار المحفوظة في المتاحف، لا أفرط فيها، لكني كذلك لا أستخدمها في شئون الحياة الجارية.
وأرجع إلى مؤرخي «الفِرَق» الإسلامية لأطالع ما كان يشغل تلك الفرق من مسائل، فأجدني كالتائه الغريب في مدينة تشعبت طرقاتها، يتكلم أهلها لغة لا يفهمها، ويتكلم هو لغة لا يفهمونها، كأهل الكهف إذ دخلوا المدينة بعد نومهم الطويل، فإذا هم في مدينتهم غرباء، في أيديهم نقود لم تعد قادرة على شراء، وعلى ألسنتهم ألفاظ لم تعد مؤدية.
نعم، إني لأرجع إلى مؤرخي «الفِرَق»، فأجدهم يبدءون عادةً بحديثٍ يُروى عن النبي عليه السلام بروايات تختلف قليلًا في لفظها، لكنها تتفق جميعًا على معنًى واحد، مؤداه أن أمة الإسلام ستتفرق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها على ضلال إلا واحدة فقط، هي وحدها الفرقة الناجية، يصفها عبد القاهر البغدادي فيقول إنها: «أهل السنة والجماعة من فريقي الرأي والحديث، دون من يشتري لهو الحديث، وفقهاء هذين الفريقين وقراؤهم ومحدِّثوهم ومتكلمو أهل الحديث منهم، كلهم متفقون على مقالة واحدة في توحيد الصانع وصفاته وعدله وحكمته، وفي أسمائه وصفاته، وفي أبواب النبوة والإمامة، وفي أحكام العُقبى، وفي سائر أصول الدين، وإنما يختلفون في الحلال والحرام من فروع الأحكام، وليس بينهم فيما اختلفوا فيه منها تضليل ولا تفسيق، وهم الفرقة الناجية، ويجمعها الإقرار بتوحيد الصانع وقِدَمه، وقِدَم صفاته الأزلية، وإجازة رؤيته من غير تشبيه ولا تعطيل، مع الإقرار بكتب الله ورسله، وبتأييد شريعة الإسلام، وإباحة ما أباحه القرآن، وتحريم ما حرَّمَه القرآن، مع قبول ما صحَّ من سنة رسول الله ﷺ، واعتقاد الحشر والنشر، وسؤال الملكين في القبر، والإقرار بالحوض والميزان» (راجع «الفَرْق بين الفِرَق» ص٢٦).
فواضح من ذلك أنَّ البغدادي يفتح أبواب الجنة لأهل السنة والجماعة، ويوصدها دون سائر الفِرَق من خوارج، وروافض، وقدرية، وغيرها، مما يحاول أن يشققها ويفرعها حتى تبلغ اثنتين وسبعين فرقة، ليتم الصدق لحرفية الحديث النبوي السالف الذكر، ولو كان المؤرخ من الخوارج أو من الروافض أو من القدرية، لجعل فرقته التي ينتمي إليها هي الناجية وحدها، وأمَّا سواها فصائرة إلى جحيم.
وواضح كذلك أننا منذ البداية واجدون أنفسنا بين جماعات تدير اهتماماتها على مشكلات دينية، مأخوذةً من زاوية بعيدة بُعدًا شديدًا عن المجال الفكري الذي يتحرك فيه هذا العصر ومن يريدون العيش فيه، فما الذي كان يشغل القوم مما استدعى بينهم ضروبًا من الاتفاق والاختلاف؟
كان من أهم ما اهتموا به إمامة علي — رضي الله عنه — فهل كان أولى بالخلافة من الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان؟ وهل نصَّ الرسول على إمامته؟ وإذا كان قد فعل، فهل كان هذا النص بالوصف أو بالاسم؟ وهل كفر الصحابة الذين اختاروا خلفاء غير علي، أو لم يكفروا؟ … ولَكَ أن تتصور تحت هذه المسائل وأشباهها فروعًا، وفروعًا للفروع، ثم لَكَ أن تقرر بعد ذلك من ذا يكون على صواب ومن ذا يكون على خطأ، لكن هل تستطيع أن ترى على أي وجه يمكن لهذا الباب كله، بفروعه وفروع فروعه، أن يعيننا فيما نحن بصدده اليوم من معضلات؟
كان «الروافض» هم الذين أثاروا هذا الإشكال وجعلوه مدار اهتمامهم، وهم — فيما يذهب البغدادي — ثلاث فرق، تتفرع كل فرقة منها فروعًا، فالزيدية منهم ثلاثة فروع، والكيسانية فرعان، والإمامية خمسة عشر فرعًا، وكانت الأفكار الرئيسية التي يدور حولها البحث والحوار هي — كما أسلفنا — الطريقة التي نص بها الرسول على إمامة علي؛ فبعضهم يقول إنه نص بالوصف، وبعضهم الآخر يقول بل هو نص بالاسم؟ وتكفير الصحابة بتركهم بيعة علي؛ فبعضهم يقول إن الصحابة كفروا عندما اختاروا الأئمة الراشدين وتركوا عليًّا، وبعضهم الآخر يكتفي بالقول إنهم أخطئوا، لكنه خطأ لا يبلغ أن يكون كفرًا. ثم مسألة الإمامة بعد ذلك لمن تكون؟ فبعضهم يجعلها لأي واحد من أولاد علي، ما دام قد خرج شاهرًا سيفه، داعيًا إلى دينه، وكان عالمًا عارفًا، وبعضهم الآخر يقصر الإمامة على رجل بعينه، هو المهدي المنتظر الذي يخرج فيملك الأرض، مع اختلافهم بعد ذلك حول هذا الإمام المنتظر من يكون؟
ولقد ذهب غلاة من الروافض إلى تكفير علي نفسه؛ لأنه إذا كان الصحابة قد كفروا — في رأيهم — لتركهم بيعة علي، فعلي كذلك قد كفر لتركه قتالهم، وكان يلزمه قتالهم، كما لزمه قتال أصحاب صِفِّين، ومن القائلين بهذا بشار بن برد الشاعر، على أن الروافض جميعًا — على اختلافهم في المسائل التي ذكرناها — قد اجتمعوا فيما يظهر على رأي واحد بالنسبة لمرتكبي الكبائر، وهو أنهم مخلدون في النار.
وينقلنا هذا الرأي إلى جماعة أخرى، هي جماعة «الخوارج» التي تتشعب عشرين فرقة، تختلف فيما بينها على تفصيلات هنا وهناك، لكنها تجتمع كلها على تكفير علي وعثمان والْحَكمَيْن وأصحاب الْجَمل، وتكفير كل من رضيَ بتحكيم الحكمين، وتكفير مرتكبي الذنوب، ثم أوجبوا جميعًا خروج الناس على الإمام الجائر.
فالخوارج — في عبارة الشهرستاني — هم كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين والأئمة في كل زمان. وأول من خرج على أمير المؤمنين جماعة ممن كانوا معه في حرب صِفِّين، حين طُلب إلى أمير المؤمنين الاحتكام إلى كتاب الله فيما بينه وبين معارضيه من خلاف، وكان أمير المؤمنين يريد إقامة الحق بالقتال، فخرج عليه هؤلاء الخوارج قائلين: القوم يدعوننا إلى كتاب الله، وأنت تدعونا إلى السيف؟! وحملوه على قبول التحكيم، وعلى أن ينيب عنه أبا موسى الأشعري في التحكيم، وكان مبدؤهم ألا حَكَمَ إلا الله، ويجمع الخوارج أيضًا — كما يقول الشهرستاني — «على التبرِّي من عثمان وعلي، ويكفِّرون الكبائر، ويرون الخروج على الإمام — إذا خالف السنَّة — حقًّا واجبًا.»
وإن القول بتكفير المذنب مقترف الكبائر، ليدعونا إلى ذكر جماعة «الْمُرْجِئة» الذين نادوا بألا يكون لأحد حكم على أحد في هذه الدنيا من حيث معصية أوامر الله أو طاعتها، بل ينبغي أن يرجأ الحكم إلى يوم الحساب، يوم يكون العبد بين يدي خالقه. وفي رأيهم أن يفسح الأمل أمام الإنسان في مغفرة، فلا تضر — مع الإيمان — معصية، ولا تنفع — مع الكفر — طاعة، كما كانوا يقولون. وإنَّا لنلمح في هذا القول من المرجئة موضعًا من مواضع التعارض بينهم وبين المعتزلة (وسيرد ذكرهم بعد قليل)، الذين يرتبون على العدل الإلهي نتيجة ضرورية، هي ألا يعامل المؤمن والكافر على حد سواء، وذلك عندهم هو مبدأ «الوعد والوعيد».
•••
ونود أن نقف وقفة أطول عند فرقة لها أهميتها البالغة، هي فرقة «الشيعة» وما يصاحبها من نزعة «باطنية» (على أن نلحظ هنا بأن النزعة الباطنية ليست مقتصرة على الشيعة وحدها)، فقد مرَّت بنا جماعات خرج على علي خروجًا بلغ أحيانًا إلى حد تكفيره؛ لأنه لم يقاتل من انصرفوا عن بيعته، وأمَّا «الشيعة» فهم الذين شايعوا عليًّا وقالوا بإمامته وخلافته، نصًّا ووصيةً، سواء كان ذلك النص أو هذه الوصية قد وردت جلية أو خَفِيَّة، وهم كذلك الذين اعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاد علي، وعندهم أن الإمامة ليست قضية مصلحية تناط باختيار العامة، لكنها قضية أصولية تعد ركنا أساسيًّا من أركان الدين.
وليس يقتصر أمر الشيعة على الجانب السياسي وحده، الذي يفضِّل رجلًا على رجل، أو أسرة على أسرة في أحقية الخلافة، ولكنه يجاوز ذلك ليمتد إلى أبعاد بعيدة في الفكر الإسلامي. وقبل أن نقدم إلى القارئ صورة موجزة لهذه الأبعاد — معتمدين في تقديمها، بصفة أساسية، على كتاب «تاريخ الفلسفة الإسلامية»، تأليف هنري كوربان، وترجمة الأستاذين نصير مروة وحسن قبيسي — نريد أن نبين للقارئ أجلى بيان مُستطاع، أن هدفنا في تتبع هذه التيارات الفكرية ليس هو أن نشايع أو أن نعارض، بل هو أن نمهد الطريق الذي يمكِّننا آخرَ الأمر من الإجابة المقنعة المنصفة على سؤال رئيسي طرحناه، وجعلنا هذا الكتاب كله محاولة للجواب عليه وهو: إلى أي حد يمكن للعربي المعاصر أن يستعين بالتراث الفكري في معالجة مشكلاته الراهنة. ولقد تناصرت في الصفحات السابقة لمحات، يدل مجملها على رأي نراه مرجحين لصوابه، وهو أن هذا التراث كله بالنسبة إلى عصرنا قد فقد مكانته؛ لأنه يدور أساسًا على محور العلاقة بين الإنسان والله، على حين أن ما نلتمسه اليوم في لهفة مؤرقة هو محور تدور عليه العلاقة بين الإنسان والإنسان.
ونعود إلى الأعماق الفكرية التي تمتد إليها النظرة الشيعية: فبين أيدينا كتاب أُوحي به إلى النبي عليه السلام، وواجب المسلم أوَّلًا وآخرًا هو أن يلم بما جاء في هذا الكتاب إلمامًا لا يكفي فيه الوقوف عند سطح اللفظ الظاهر، بل لا بد من أن يتعمقه إلى أبعد ما يكمن وراء هذا السطح من أغوار. لكن هذا الفهم المتعمق مرهون بوجود الإنسان الذي يستطيعه، ثم ينقله إلى الآخرين، فإذا ما وصل هذا الإنسان إلى الأعماق الكامنة وراء الظاهر، كان بذلك قد وصل إلى «الحقيقة» أي إلى المعنى «الحقيقي» الذي قصدت إليه الإيحاءات الإلهية كما هي بادية في ظاهر اللفظ القرآني. ولقد تستطيع أن تقف عند ظاهر النص فتفهمه من حيث هو تركيب لفظي ينكشف معناه بمعرفتك للألفاظ ودلالاتها القاموسية، لكن مثل هذا الفهم — وإن دلك على أحكام الشريعة في الحلال والحرام وما إلى ذلك — فهو ليس بالفهم الذي يوصلك إلى المعنى الروحي. على أن المسافة بين المعنى الظاهر في طرف، والمعنى الروحي في طرف آخر، ليست هي المسافة التي تقطعها بوثبة واحدة، إنما هي طريق تتدرج مستوياته، ولكل امرئ من هذه المستويات المتدرجة ما تسعفه به قدرته.
فهناك إذن «شريعة» و«حقيقة»؛ الشريعة هي المظهر الخارجي للحقيقة، والحقيقة هي البُعد الداخلي للشريعة؛ الأولى ظاهر والثانية باطن، والظاهر رمز يرمز إلى خفيٍّ مقصود، والباطن هو المرموز إليه، الظاهر له مكانه وزمانه، وأمَّا الباطن فأزلي بغير مكان أو زمان. ولقد ذكرنا أن إدراك هذا الباطن محتاج إلى عارف بالسر، وذلك هو النبي، لكن النبوة قد خُتمت بمحمد عليه السلام، فما وسيلتنا من بعده إلى كشف السر الحقيقي الخافي وراء الظاهر؟ لا بد أن يكون هنالك «إمام» معصوم من الخطأ، يخلف النبي، ليكون هو كاشف الأسرار، فالتشيع إلى إمام بعينه لا يستهدف الجانب السياسي وحده، بل أهم من ذلك أنه هو الإمام الذي سوف يركن إليه في فهم المسلم لدينه فهمًا حقيقيًّا، وإن هذا الإمام العارف بسر الحقيقة، لينقل ذلك السر إلى من يخلفه، وهذا إلى من يخلفه، وهكذا دَوَالَيْكَ إلى أن تنتهي السلسلة عند حلقة بعينها.
ويرتكز الشيعة في سعيهم إلى المعنى الحقيقي الباطن للقرآن، على حديثٍ يُروى عن النبي عليه السلام، يقول: إن للقرآن ظهرًا وبطنًا، ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن، وهو حديث يجعله المتصوفة أيضًا سندًا يستندون إليه في محاولاتهم التغلغل وراء ظاهر النص القرآني إلى ما قد يهتدون إليه من معانٍ حقيقية، يكون ذلك الظاهر المنصوص بمثابة الإيحاء الذي يشير إليها، وما «الإمام» عند الشيعة إلا الولي الملهم في بلوغ المعاني الحقيقة المستبطنة طي النصوص الظاهرة، ينقلها إلى الناس بطريقة «التعليم»؛ أي أن مسألة الفهم ليست موكلة إلى «عقل» يتأمل ويدرك ويقيس (كما هي الحال عند المعتزلة)، بل هي مسألة مرهونة بإمام عارف يلقِّنها إلى الناس تلقينًا، مستندًا في معرفته إلى الإلهام الروحي، لا إلى المحاولات العقلية.
فالطريق إذن مزدوجة، لها شعبة للنزول وأخرى للصعود، إن جاز هذا التعبير، فهنالك «تنزيل» من ناحية، ثم «تأويل» من ناحية أخرى، أمَّا التنزيل فهو ما أملاه جبريل على النبي من آيات، وأمَّا التأويل فهو حركة نئول بها — أي نعود — بدءًا من هذه الآيات فرجوعًا إلى الحقيقة الأولى التي كانت ينبوعًا لها، فلو بلغنا بالتأويل تلك الحقيقة الأولى، فقد بلغنا الجوهر الأزلي، وعرفنا الله سبحانه؛ وإذن فوجهة الفكر هي معرفة الله الذي يتجلى في هذا الكتاب المنزل. على أن هذه المعرفة لا تكمل للإنسان إلى على مراحل، فإذا وجدنا فكرة «الانتظار» أساسية عند الشيعة، فليس هو انتظارًا لوحي بشريعة جديدة، بل هو انتظارًا حتى تنكشف كل المعاني المستورة، وما انتظارهم للإمام الغائب إلا انتظارًا لمن يتمم عملية الظهور لما تنطوي عليه الإيحاءات الإلهية من إشارات.
إنه إذا كان دور النبوة قد انتهى، فإن دور الولاية يبدأ بذلك الانتهاء، ودور الولاية هو دور الإمام يعقب النبي، أعني هو دور الباطن يعقب الظاهر، أو هو دور الحقيقة تتلو دور الشريعة. وها هنا تجد بين فِرَق الشيعة تفاوتًا في درجة التوازن الذي يقيمونه بين الشريعة والحقيقة، بين الظاهر والباطن، فهنالك من لا يستغني بأحدهما عن الآخر، وهنالك من إذا وصل إلى الحقيقة أسقط الشريعة. ومهما يكن من أمر اعتدال المعتدلين أو تطرف المتطرفين في العلاقة بين وجهي الظاهر والباطن: هل يتعادلان أو يطغى أحدهما على الآخر، فإنه لا بد — في جميع الحالات — أن يقترن الجانبان اقترانًا لا ينفك قائمًا. ولعل أبسط صورة تصور لنا العلاقة بين الرسالة والنبوة والولاية، أعني بين الرسالة وهي في ظاهرها والرسالة وهي في باطنها، أن نتصور هذه الجوانب الثلاثة في صورة دوائر ثلاث ذات مركز واحد، الدائرة الوسطى في قلب الدائرة الكبرى، والدائرة الصغرى في قلب الوسطى، فالرسالة في ظاهرها هي بمثابة الدائرة الخارجية، وباطنها — أي الدائرة الوسطى — هي النبوة، وباطن النبوة — أي الدائرة الداخلية — هي الولاية، وبهذا يكون الرسول رسولًا ونبيًّا ووليًّا في شخص واحد، وإنما تكون له هذه الصفات بحسب العمق الذي يتعمق به بواطن رسالته تأويلًا لها بحيث يئول إلى الحقيقة الأزلية التي عنها صدرت رسالته، ويكون النبي هو كذلك وليًّا، وأمَّا الولي فهو ولي فحسب، بمعنى أن الولاية تتحقق له حالة إدراكه للسر الإلهي الكامن تحت النصوص الظاهرة. وإذا شئت تصويرًا آخر لهذه الطبقات الثلاثة، فقل إن الرسالة هي قشرة الثمرة، والنبوة لبها، والولاية هي الزيت الساري في ذلك اللب، فلو أُخِذَت الرسالة وحدها كان ذلك هو الشريعة مجردة عن النظرية الصوفية، وعلى أساس هذا التصوير تكون الولاية هي الغاية القصوى المقصودة من وراء الرسالة والنبوة معًا؛ لأن هاتين وسيلتان مؤديتان إليها.
إنه لا بد للكتاب من قَيِّمٍ يُناط به العلم به علمًا كاملًا، فنص القرآن وحده لا يكفي، لأنه — فضلًا عن معناه المستور وراء ظاهره — يشتمل على تناقضات ظاهرية، لا ترتفع إلا بالتأويل، وهو تأويل لا ينفع فيه اللجوء إلى الجدل الكلامي القائم على منطق العقل وقياسه، وإنما يحتاج الأمر إلى رجل ملهم ورث عن سلفه إرثًا روحيًّا يمكنه من الإلمام بالظاهر والباطن معًا في وحدة متصلة، وهذا هو ما ننعته بأنه حجة الله، أو قيِّم الكتاب، أو الإمام.
ولست أرى كيف أنتفع بهذه العُدَّة كلها، بملحقاتها وملحقات ملحقاتها، سلاحًا أخوض به مَعْمَعان هذا العصر؟ إن أبناء هذا العصر في سباق مميت نحو القوة بكل ضروبها، من سلاح وصناعة وعلم ومال وصحة وغيرها، فهل تفيدنا هذه المئونة الفكرية زادًا على الطريق؟ نعم، قد تنفع زادًا على الطريق إلى الجنة في اليوم الآخر، وهذا هدف — لا شك — منشود، لكن سؤالنا في هذا الكتاب منصرف دائمًا — دون التغاضي عن السعادة الأخروية وسبلها — إلى هذه الحياة الدنيا، وفي هذا العصر الذي نعيش تحت سمائه؟ إنني أترك للقارئ أن يجيب.
بل قد تجد من صفوة الأئمة الأقدمين من ينكر عليَّ مثل هذا النظر أن يكون سبيلًا إلى سعادة اليوم الآخر، ويرى فيه محاولة للانسلاخ من شرائع الدين، فهذا هو الإمام الغزالي، يؤلف كتابًا بأكمله، يسميه «فضائح الباطنية»، ليكشف به ما قد تنطوي عليه هذه الوجهة من النظر، فيقول:
إنَّ الباطنية سُمِّيَت بهذا الاسم لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار، بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشرة، وعندهم أن من ارتقى إلى علم الباطن، انحط عنه التكليف واستراح من أعبائه، وغرضهم الأقصى إبطال الشرائع، فإنهم إذا انتزعوا عن العقائد موجب الظواهر فهموا الباطن فهمًا يمكنهم من الانسلاخ عن قواعد الدين؛ لأنه إذا سقطت الثقة بموجب الألفاظ الصريحة، فلا يبقى للشرع عصام يُرجَع إليه ويُعوَّل عليه.
فالسبب الباعث لهم على نصب هذه الدعوة — هكذا يقول الغزالي في الفصل الثاني من الباب الثاني — هو الانسلال من الدين كانسلال الشعرة من العجين. ثم يقول: تشاور جماعةٌ من المجوس والمزدكية وشرذمة من الثنوية الملحدين وطائفة كبيرة من ملحدة الفلاسفة المتقدمين، وضربوا سهام الرأي في استنباط تدبير يخفف عنهم ما نابهم من استيلاء أهل الدين، وينفس عنهم كربة ما دهاهم من أمر المسلمين، حتى أخرسوا ألسنتهم عن النطق بما هو معتقدهم من إنكار الصانع، وتكذيب الرسل، وجحد الحشر والنشر والمعاد إلى الله في آخر الأمر.
فبعد أن استولى المسلمون على ملك أسلافنا — هكذا يتصور الغزالي مخاطبة تلك الطوائف لنفسها — وانهمكوا في التنعم في الولايات، مستحقرين عقولنا … ولا مطمع في مقاومتهم بقتال، ولا سبيل إلى استنزالهم عما أصرُّوا عليه إلا بمكر واحتيال … فسبيلُنا أن ننتحل عقيدة طائفة من فرقهم، وهم الروافض، ونتحصن بالانتساب إليهم، ونتباكى لأهل البيت عما حل بآل محمد … ونتوصل بذلك إلى تطويل اللسان في أئمة المسلمين، حتى إذا قبَّحنا أحوالهم في أعينهم، انسدَّ عليهم باب الرجوع إلى الشرع وسهُل علينا استدراجهم إلى الانخلاع عن الدين، فإن بقيَ عندهم معتصَم من ظواهر القرآن ومتواتِر الأخبار، أوهمناهم أن تلك الظواهر لها أسرار وبواطن، وأن أمارة الأحمق الانخداع بظواهرها، وعلامة الفطنة اعتقاد بواطنها، ثم نبث إليها عقائدنا، ونزعم أنها المراد بظواهر القرآن.
ويمضي الغزالي في بقية أبواب الكتاب وفصوله يبين مذهب الباطنية جملةً وتفصيلًا؛ ليظهر فيه مواضع المؤاخذة والتناقض، ويكفي أنه مذهب يستند إلى قول الإمام المعصوم، منكرًا على العقول أن تكون مدرجة للحق.
فإذا كان هنالك من يرى في هذا المذهب طريقًا مسدودةً بالنسبة إلى علاقة الإنسان بالله وباليوم الآخر، فماذا عساه أن يكون بالنسبة إلى أمور الحياة الدنيا، وفي هذا القرن العشرين؟
•••
ويبدو لكاتب هذه الصفحات أن أهم جماعة يمكن لعصرنا أن يرثها في وجهة نظرها — بغض النظر عن الموضوعات التي كانت مطروحة لبحثها؛ لأن لكل عصر موضوعاته التي تعنيه قبل سواها — أعني أن يرثها في طريقتها ومناهجها عند النظر إلى الأمور، هي جماعة المعتزلة التي جعلت «العقل» مبدأها الأساسي كلما أشكل أمر. ومع ذلك فلم يكن يُنظَر إلى هذه الجماعة نظرة الرضا، بل عُدَّتْ عند كثيرين جماعة ضالَّة انحرفت عن طريق الإيمان الصحيح، فالذين اعتقدوا أن الحقيقة إنما وسيلتها الإيمان الصحيح، فالذين اعتقدوا أن الحقيقة إنما وسيلتها الإلهام ثم التعليم، أي أن الإمام الملهم تنكشف له الحقيقة انكشافًا، ومِنْ ثَمَّ ينقلها إلى عامة الناس بالتعليم؛ لم يكونوا ليستريحوا لجماعة المعتزلة بسبب اعتماد هذه الجماعة على العقل؛ لأن إمعان النظر في موقفهم يبين أنهم بمثابة من أنكر النبوة ذاتها؛ إذ يتلخص موقفهم هذا — كما عبر عن ذلك مفكر متطرف كالراوندي — في هذا القياس الإحراجي: إما أن تتفق رسالة النبي مع العقل وإما أنها لا تتفق، فإذا كانت الأولى فلا فائدة منها لأن في العقل ما يكفي، وإن كانت الثانية فهي أولى بالرفض من القبول.
ويضعهم عبد القادر البغدادي (في كتابه «الفَرْق بين الفِرَق») مع فِرَق الضلال، ويقول: إنَّ المعتزلة افترقت فيما بينها عشرين فرقة، كل فرقة منها تُكفِّر سائرها، يضيف إليها اثنتين يصفهما بأنهما كانتا من غُلاة الكفر، وهو يرى أن الفِرَق العشرين المعتدلة — على ضلالها — تختلف فيما بينها حول تفصيلات كثيرة، لكنها جميعًا تتفق على أمور:
منها: نفيها كلها عن الله عز وجل صفاته الأزلية، وقولها بأنه ليس لله عز وجل علم، ولا قدرة، ولا حياة، ولا سمع، ولا بصر، ولا صفة أزلية. وزادوا على هذا بقولهم: إن الله تعالى لم يكن له في الأزل اسم ولا صفة.
ومنها: قولهم باستحالة رؤية الله عز وجل بالأبصار، وزعموا أنه لا يرى نفسه، ولا يراه غيره. واختلفوا فيه: هل هو راءٍ لغيره أم لا؟ فأجازه قوم منهم، وأباه قوم آخرون منهم.
ومنها: اتفاقهم على القول بحدوث كلام الله عز وجل، وحدوث أمره ونهيه وخبره، وكلهم يزعمون أن كلام الله عز وجل حادث، وأكثرهم اليوم يسمون كلامه مخلوقًا.
ومنها: قولهم جميعًا بأن الله تعالى غير خالق لأكساب الناس، ولا لشيء من أعمال الحيوانات، وزعموا أن الناس هم الذين يقدرون على أكسابهم، وأنه ليس لله عز وجل في أكسابهم، ولا في أعمال سائر الحيوانات صنع وتقدير، ولأجل هذا القول سماهم المسلمون «قدرية».
ومنها: دعواهم في الفاسق من أمة الإسلام بالمنزلة بين المنزلتين، وهي أنه فاسق، لا مؤمن ولا كافر، ولأجل هذا سماهم المسلمون «معتزلة»؛ لاعتزالهم قول الأمة بأسرها.
هذا ما يقوله البغدادي عن مواضع الاتفاق التي جمعت فِرَق المعتزلة في جماعة واحدة. وإنه ليجدر بنا قبل ترك هذا السياق أن نذكر نقطة فرعية في تعليل اسم «المعتزلة»، فلئن كان البغدادي يعزو هذه التسمية إلى كون هذه الجماعة قد «اعتزلت قول الأمة بأسرها» حين رأت رأيها في الفاسق بأنه لا هو مؤمن ولا كافر، فللشهرستاني (في كتابه «الملل والنحل») تعليل آخر هو أكثر شيوعًا بين الدارسين، وهو أنهم سُمُّوا «بالمعتزلة» لقول الحسن البصري، وقد كان يجلس في حلقته من الجامع، وبين تلاميذه المحيطين به عندئذٍ واصل بن عطاء، ثم جاء من يسأل عن الحكم في الفاسق أمؤمن هو أم كافر؟ فتصدى واصل للإجابة بأنه يكون في منزلة بين المنزلتين، ولم يوافق الحسن البصري على هذا الرأي، فانتقل واصل بن عطاء — مع مؤيديه — وجلس وحده على مبعدة، فقال الحسن البصري: «اعتزل عَنَّا واصل.» ومن هنا سُمِّيَ من تبعوا هذا الخط الفكري الذي بدأه واصل «بالمعتزلة». وهناك تعليل ثالث ذكره النوبختي (في كتابه «فرق الشيعة»)، وهو أن اسم المعتزلة إنما أُطلق على عدد من الصحابة «اعتزلوا» عن الإمام علي؛ بمعنى أنهم حايدوا بينه وبين معارضيه، فلا هم حاربوه ولا هم حاربوا معه.
ونعود إلى المعتزلة بالمعنى الأشيع، لنوجز القول في مذهبهم — وقد أسلفنا تلخيص البغدادي لأهم أركانه المتفق عليها بينهم — ثم لنشير إلى الوجه الذي نراه نافعًا لنا في عصرنا الراهن، فيمكن القول بأن مذهبهم يدور حول محورين (وقد قال ذلك هنري كوربان في كتابه الجيد «تاريخ الفلسفة الإسلامية») هما: مبدأ التوحيد بالنسبة لله تعالى، ومبدأ حرية الاختيار بالنسبة للإنسان. وأمَّا «التوحيد» — كما نظروا إليه — فهو بمثابة الرد على مظاهر التثليث في العقيدة المسيحية؛ وذلك لأن المعتزلة ينفون عن الجوهر الإلهي كل صفة، وهم ينفون عن الصفات (الإلهية) كل حقيقة إيجابية متميزة عن الجوهر الواحد، فلو كان «العلم» الإلهي — مثلًا — أو «القدرة» أو «الكلام» صفة ذات كيان متميز مستقل، لحدث تعدد، ولم يعد الجوهر الإلهي «واحدًا»، ولقد نتج عن موقفهم هذا — فيما نتج — تأكيدهم على أن القرآن «مخلوق» وأنه ليس «بالقديم»، أي أن القرآن حادث، له مكان وزمان نزل فيهما على النبي عليه السلام، ولو قيل إن القرآن هو كلام الله القديم، الذي ظهر في الزمان على الصورة التي نزل بها، حين نزل باللغة العربية، أو قل إن كلام الله قديم بمعناه حادث بلفظه، لو قيل ذلك، كان أشبه بالتجسد في العقيدة المسيحية، حين يقول أصحاب هذه العقيدة بأن المسيح عليه السلام هو «كلمة» الله القديمة، وقد ظهرت في مجرى الزمن على صورة إنسان من البشر.
أمَّا التوحيد كما يراه المعتزلة فهو مطلق وخالص، لا يتكثر بتكثر صفاته، ولا يُرَى بالأبصار، شأن كل تجريد مُطلَق خالص.
والمبدأ الثاني عندهم هو حرية الاختيار بالنسبة للإنسان، ويترتب على ذلك مبدأ العدل الإلهي — وكثيرًا ما قال المعتزلة عن أنفسهم إنهم أهل توحيد وعدل؛ إبرازًا لهذين الجانبين في مذهبهم — ومقتضى العدل الإلهي عندهم أن يُثاب الإنسان وأن يُعاقَب على أفعاله، فما دام الإنسان حُرًّا في اختياره، فحريته هذه لن يكون لها معنًى إلا إذا كان مسئولًا عما يفعل، ثم لا يكون لهذه المسئولية معنًى إلا إذا ترتب الجزاء المناسب على العمل، أمَّا أن يقترف الإنسان الإثم باختياره فنقول إن الله تعالى قد يغفر له إثمه، أو أن يعمل الإنسان العمل الصالح فنقول إن الله تعالى قد يشاء له من الجزاء شيئًا غير الذي نراه متفقًا مع العدل، فأمور لا يقبلها المعتزلة؛ لأنهم يرونها مناقضة لفكرة العدل الإلهي، ثم يترتب على صفة العدل هذه مبدأ من مبادئهم، هو مبدأ الوعد والوعيد، فالعدل الإلهي يقتضي عندهم ألا يتساوى المؤمن والكافر في الجزاء، فقد وعد الله تعالى المؤمنين بأشياء، وتوعد الكافرين بأشياء، فلا يُعقَل ألا يكون الله عند وعده ووعيده. على أن طرفي الكفر والإيمان يمكن أن تتوسطهما درجات من العصيان، فليس كل ذي معصية كافرًا، بل يقولون إنه في منزلة بين الكفر والإيمان، فلا هو بالكافر الذي تنكر لأركان الدين كلها، ولا هو بالمؤمن الذي أطاع تعاليم الدين كلها.
فهذه — إذن — أربعة أصول في مذهبهم: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، يُضاف إليها أصل خامس يعالجون به موقف الفرد من المجتمع، هو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يكفي أن تؤمن — من حيث أنت فرد واحد — بالعدل، وبالحرية، بل لا بد من إشاعتهما في المجتمع الذي تعيش فيه عُضوًا مواطنًا؛ لتتحقق الظروف التي تمكن سائر الأفراد من أن يكونوا أحرارًا في اختيارهم لما يعملون، وفي أن يتحملوا تبعات أفعالهم التي اختاروا فعلها وهم أحرار الإرادة.
إنه برغم الاختلافات البعيدة بين مضمونات هذه الألفاظ؛ ألفاظ العدل والحرية والأمر بالمعروف، عندما يستخدمها المعتزلة، عنها حين نستخدمها نحن اليوم في سياق الحياة الفكرية المعاصرة، فما زلت أرى أنه لو أراد أبناء عصرنا أن يجدوا عند الأقدمين خيطًا فكريًّا ليمسكوا بطرفه فيكونوا على صلة موصولة بشيء من تراثهم، فذلك هو الوقفة المعتزلية من المشكلات القائمة؛ فنحن أحوج ما نكون اليوم إلى سند من التراث يسندنا في الدعوة إلى حرية الفرد في فكره وسلوكه، وفي حمله التبعة عن نفسه دون أن يحمل عنه هذه التبعة وليٌّ أو حاكم، ونحن أحوج ما نكون إلى سند من التراث يسندنا في الدعوة إلى مشاركة الفرد في حياة المجتمع مشاركة فعالة مسئولة، لعلنا نقضي على هذه اللامبالاة العجيبة وهذه السلبية وهذا الاستهتار، الذي يميل بالفرد إلى أن ينحصر في أهدافه الفردية، حتى لو كان بعد ذلك طوفان يُغرِق الأرض وما عليها. وإنَّا لنلحظ هنا تناقضًا يلفت النظر، فبينما الفرد من أفرادنا اليوم يوشك أن يُلقي بزمام أموره الاجتماعية والسياسية كلها إلى غيره يُسيِّرها له، فتنعدم حريته الفردية انعدامًا شبه تام، بحيث يمكن أن يستيقظ ذات صباح فإذا الصحف تعلن له تغيرات أساسية في قواعد عيشه وقوانينها، وهو لم يكن يدري عشية الأمس من أمر تلك التغيرات مقدار ذرة، ثم لا يأخذه من ذلك العجب؛ لأنه شيء مألوف في حياته المعتادة، تراه يدير حياته من ناحية أخرى على فرديته كأنما الدنيا لم يعد فيها من الناس سواه، وإنه لعسير علينا أن نقول أيهما هو الأصل عندنا، تقرير الذات المفردة أم إنكارها؟ ومن أجل هذا أعتقد أن إحياء التراث المعتزلي في صورة جديدة قد ينفع في معالجة هذه المفارقة التي تمزق فينا وحدة النظر.
ولقد عُرف المعتزلة كذلك بمذهبهم في «التوحيد» الذي يلزم عنه في رأيهم نفي أزلية الصفات الإلهية، بمعنى أنهم لم يتصوروا أن يكون مع الذات الإلهية القديمة — أي الأزلية — صفات قديمة كذلك، كالعلم والقدرة والحياة وما إليها؛ لأن ذلك من شأنه — عندهم — أن يجعل من الوحدة كثرةً؛ ولذلك فهم يرون أن الله عالم بذاته، قادر بذاته، حي بذاته … إلى آخر صفات الله، فليس هنالك «علم» و«قدرة» و«حياة» تُضاف إلى الله عز وجل، وكأنما هو شيء وصفاته شيء آخر بل الذات الإلهية نفسها علم، وهي نفسها قدرة، وهي نفسها حياة، وهكذا، فإذا طبقنا هذا المبدأ على صفة «الكلام» و«البصر» و«السمع» وغيرها، انتفى أن يكون الكلام (الذي هو القرآن) قديمًا، كما انتفى أن يكون لله — عز وجل — بصر وسمع بالمعنى الذي يكون به للإنسان مثلًا بصر وسمع، فقد أتصور الإنسان ذا بصر وقد أتصوره فاقد البصر، أو أتصوره ذا سمع وغير ذي سمع؛ لأن أمثال هذه الصفات مصاحبة للإنسان وليست جُزءًا من ذاته، ولا كذلك الأمر بالنسبة إلى الله تعالى، فهو — كما يقول المعتزلة — بصير بذاته سميع بذاته.
ولم تظهر أزمة فكرية في شيء من هذا كله بقدر ما ظهرت في مسألة «كلام» الله، أهو قديم أزلي، أم هو حادث مخلوق؟ هل كان القرآن كما نقرؤه ونسمعه موجودًا قبل وقت نزوله على النبي عليه السلام؟ أو أنه استُحدث استحداثًا وقت نزوله، ولم يكن قبل ذلك؟ قال المعتزلة إنه مخلوق حادث، وقال أهل السنة بل هو أزلي قديم، وكان ما كان في هذه المسألة من خلاف أدى إلى محنة أيام المأمون.
وربما بدا أن لم يعد لنا صلة بهذه المشكلة لا شكلًا ولا مضمونًا، لكن أظن أنه — وإن يكن مضمون المشكلة قد خرج من حياتنا الفكرية خروجًا تامًّا أو شبه تام — إلا أن شكل المشكلة وموقف المعتزلة منها يمكن إحياؤه لننتفع به في وقفتنا المعاصرة؛ وذلك أن المسألة تستتبع رأيًا في التشبيه، أعني في تصور الله مشبَّهًا بالإنسان سمعًا وبصرًا وإرادةً وغير ذلك. وموقف المعتزلة من شأنه — كما نرى — أن يتجرد الله تعالى من كل صفة خارجة عن ذاته، وأعتقد أننا إلى يومنا هذا يتعذَّر علينا — أو على سواد الناس مِنَّا على الأقل — ألا نتصور الله تعالى مشبَّهًا وكأنما هو إنسان كبير، كل ما يختلف به عن الإنسان الصغير، إنه غير مرئي من جهة، وأنه أوسع مكانًا وأطول زمانًا من جهة أخرى، وهو تصور يجعل الفرق بين الله والإنسان فرقًا في الكم لا في الكيف. ثم هو تصور — وذلك هو المهم عندنا — يجعل الرقابة الأخلاقية على الإنسان آتية من خارج لا نابعة من داخل، ولو تصورت الله تعالى في الصورة المجردة الموحدة التي أرادها المعتزلة، لكان شيئًا أقرب ما يكون إلى «الضمير»، ولأصبحت وحدته وحدة في القيم، بحيث يصعب على المؤمن — بهذا المعنى — بعد ذلك أن يتصرف هنا على أساس آخر، فلا يشعر بالتناقض ولا بالتمزق في شخصه، حين يرى نفسه قد انعدمت فرديته وزالت حريته في ناحية، وتضخمت فرديته وطغت أنانيته في ناحية أخرى.
•••
ونغض أنظارنا عن فِرَق كثيرة لا تستحق مجرد الذكر لتفاهة اهتماماتها وهزال رأيها، وهي الفرق التي جمعها عبد القاهر البغدادي في الباب الرابع من كتابه، وميَّزها بأنها «فِرَق انتسبت إلى الإسلام وليست منه.» وإن كنت لا أتعاطف مع البغدادي حين يدرج في صنف واحد فرقًا تشغل نفسها بتأليه هذا الرجل أو ذلك من عباد الله، وجماعات أخرى كان لمواقفها الفكرية قيمة كبرى، سواء وافقناهم أو خالفناهم في وجهات النظر، كالصوفية والباطنية مثلًا.
فماذا يحس المفكر العربي المعاصر إلا الشعور بالغربة الشديدة، وكأنه بين جماعات من مخلوقات ليست من الأناسيِّ، حين يقرأ عن فِرَق كالسبئية مثلًا تزعم أن عليًّا — رضي الله عنه — إله، ولما قُتِلَ عليُّ زعموا أنَّ المقتول لم يكن عليًّا، وإنما كان شيطانًا تصور للناس في صورة علي، وأن عليًّا صعد إلى السماء كما صعد إليها عيسى ابن مريم. ثم زعموا أنه في السحاب، وأن الرعد صوته والبرق سوطه، ومن سمع منهم الرعد قال: عليك السلام يا أمير المؤمنين.
أو حين يقرأ عن فرقة «البيانية» التي زعم أصحابها الربوبية وملحقاتها لزعيمها بيان بن سمعان، الذي قالوا عنه إن روح الإله تناسخت في الأنبياء والأئمة حتى صارت إلى إمامهم هذا.
أو حين يقرأ عن «المغيرية» — أتباع المغيرة بن سعيد — الذي ادَّعى النبوة، وأنه عليم بالاسم العظيم الذي يُحيي به الموتى ويهزم به الجيوش، وأن الله تعالى لما أراد أن يخلق العالم تكلم باسمه الأعظم، فطار ذلك الاسم ووقع تاجًا على رأسه، ثم إنه بعد وقوع التاج على رأسه كتب بإصبعه على كفه أعمال عباده، ثم نظر فيها فغضب من معاصيهم، فعرق، فاجتمع من عرقه بحران، أحدهما مظلم مالح، والآخر عذب نيِّر، ثم اطَّلع في البحر فأبصر ظله، فذهب ليأخذه، فطار، فانتزع عيني ظله، فخلق منهما الشمس والقمر، وأفنى باقي ظله، وقال لا ينبغي أن يكون معي إله غيري، ثم خلق الخلق من البحرين، فخلق الشيعة من البحر العذب النير، فهم المؤمنون، وخلق الكفرة — وهم أعداء الشيعة — من البحر المظلم المالح.
وهكذا وهكذا، تقرأ أمثال هذا الخلط الصبياني العجيب عند جماعات كثيرة، هي لا شك جزء من تراثنا، لكنه جزء لا يجوز النظر إليه إلا كما ننظر إلى ألاعيب الصبية الحالمين؛ فهل يحق لنا أن نضع الحلاج — مثلًا — مع أمثال هؤلاء، كما فعل البغدادي؟ لقد وجد البغدادي وجهًا للشبه بين الحلاج وبينهم في أن كليهما ينزع إلى «الحلولية»، لكنني أحس بأن الحلولية عند الحلاج صادرة من عمق الخبرة وغزارة الوجدان، على حين كانت عند تلك الفرقة صادرة عن سذاجة دونها سذاجة الأطفال.
لنغضَّ أبصارنا — إذن — عن فِرَق كثيرة، لنقف وقفة عند الفرقة التي قيل عنها إنها هي وحدها الفرقة الناجية، ومن أهم ما يهمُّنا من أمرها أنها تقف من المعتزلة موقف الضد، وذلك — على الأقل — من جهة أن المعتزلة تنفي أن يكون لصفات الله كيانات أزلية قائمة بنفسها، وأمَّا هذه الجماعة — وهي أهل السنة المعتمدة على أخبار السلف دون مطلق الركون إلى العقل — فيثبتون حقائق الصفات الإلهية كما وردت بها النصوص؛ ومِنْ ثَمَّ تسميتهم «بالصفاتية» أحيانًا؛ لإبراز الفرق بينهم وبين المعتزلة الذين هم من الناحية «مُعَطِّلة» أي مجردون للصفات.
وأهمية هذه الجماعة — ولعلها أكثر الجماعات عددًا — إنها هي الجماعة التي يكوِّن فكرها ومواقفها الجزء الأكبر مما يعنيه القائلون بضرورة إحياء التراث في حياتنا الفكرية العصرية، فأهل السنة والجماعة — كما يُسَمَّوْن عادةً — يشملون فئات هي نفسها الفئات التي تَمْثُلُ في ذهن المتكلم حين يحدثك عن الفكر الإسلامي في أرفعه وأقواه، فهم يشملون كل من أحاط علمًا بفقه الدين، وتبرءوا من بدع الفرق المنحرفة الضالة بأهوائها، ويشملون أئمة الفقه من فريقي الرأي والحديث من الذين اعتقدوا في أصول الدين مذاهب الصفاتية في الله وفي صفاته الأزلية، وتبرءوا من القدرية والمعتزلة، وأثبتوا رؤية الله تعالى بالأبصار، من غير تشبيه ولا تعطيل، وأثبتوا الحشر من القبور، مع إثبات السؤال في القبر، والصراط، والشفاعة وغفران الذنوب التي هي دون الشرك، وهم الذين اعتقدوا دوام نعيم الجنة على أهلها ودوام عذاب النار على الكفرة، ولم يشكوا في إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وأحسنوا الثناء على السلف الصالح من الأمة، ورأوا وجوب استنباط أحكام الشريعة من القرآن والسنة ومن إجماع الصحابة، ورأوا تحريم المتعة، ووجوب طاعة السلطان فيما ليس بمعصية.
ويدخل في هذه الجماعة الأئمة الفقهاء: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وابن حنبل.
وتشمل هذه الجماعة كذلك من أحاطوا علمًا بطرق الأخبار والسنن المأثورة عن النبي عليه السلام، كما تشمل من أحاطوا علمًا بأكثر أبواب الأدب والنحو والتصريف، وجرَوْا على سَمْت أئمة اللغة، كالخليل وأبي عمرو بن العلاء وسيبويه وغيرهم من أئمة النحو، كوفيين كانوا أو بصريين، وكذلك تشمل من أحاطوا علمًا بوجوه قراءات القرآن، ووجوه تفسيره وتأويله وفق مذاهب أهل السنة دون تأويلات أهل الأهواء الضالة، وتشمل أيضًا الزهاد الصوفية الذين أجروا كلامهم في طريق العبارة وفي طريق الإشارة على سمت أهل الحديث، دون من يشتري لهو الحديث، كما تشمل المجاهدين في سبيل الله الذين يقاتلون أعداء المسلمين.
تلكم هي الفئات التي تؤلف الفرقة الناجية — كما يذكرها عبد القاهر البغدادي — ولقد تعددت ميادين نشاطها، لكنها جميعًا تلتقي في أركان أساسية، هي التي تكون ما يميز الفرقة الناجية من عذاب الآخرة، فما هي تلك الأركان التي أجمعوا عليها؟ يحصرها البغدادي في خمسة عشر، هي: إثبات الحقائق والعلوم، والعلم بحدوث العالم، ومعرفة صانع العالم وصفات ذاته، ومعرفة صفاته الأزلية، ومعرفة أسمائه وأوصافه، ومعرفة عدله وحكمته، ومعرفة رسله وأنبيائه، ومعرفة معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، ومعرفة ما أجمعت الأمة عليه من أركان شريعة الإسلام، ومعرفة أحكام الأمر والنهي والتكليف، ومعرفة فناء العباد وأحكامهم في المعاد، والخلافة والإمامة وشروط الزعامة، ومعرفة أحكام الإيمان والإسلام في الجملة، ومعرفة أحكام الأولياء ومراتب الأئمة الأتقياء، ومعرفة أحكام الأعداء من الكفرة وأهل الأهواء.
وبغضِّ النظر عما في هذه الأقسام من تداخل واضح، نفترض أن مسلمًا معاصرًا قد ألمَّ بتفصيلات هذه الأقسام كلها إلمامًا كاملًا وشاملًا، فهل تكون الحصيلة النهائية إلا رجلًا كمل إسلامه بحيث يرجو عند الله — يوم الحساب — نعيم الفردوس؟ إنه بهذا الإلمام كله سينظم علاقته بربه على النحو الذي يأمل به أن يظفر برضوان الله، وهو في الحق أمل كبير، وأكبر من كبير، لكن تبقى — برغم ذلك — عُدَّة لدنيا هذا العصر، إما تزود بها وإما هلك بمقاييس الحياة الدنيا.
إنَّه لا نكران بأن بعض هذه المبادئ زاد صحي في تكوين الإنسان المنهجي النظر، مهما يكن زمانه ومكانه، وإلى هذا الحد يمكن استعانة المعاصرين بتراث الأقدمين. خذ المبدأ الأول مثلًا، وهو إثبات الحقائق والعلوم، فها هنا نرى منهاجًا يكاد يكون علميًّا حتى بالمعنى الحديث، لكن مجال التطبيق المقصود هنا ليس هو المجال الذي نقصد إليه حين نتحدث اليوم عن العلوم ومناهجها؛ فهم في شرحهم لهذا الركن من أركان الدين، يهاجمون من يتشككون — على الطريقة السفسطائية — في أن يكون بمستطاع العلم الوصول إلى حقائق ثابتة، بل هم يكفِّرون من يعاند أحكام العقل الضرورية. ولقد توسع أهل السنة في تفصيلات العلوم، فقسموا العلوم ثلاثة أنواع: ما جاء منها عن طريق البديهة، وما جاء عن طريق الحواس، وما جاء عن طريق الاستدلال؛ وذلك لينظروا في شروط الصواب في كل نوع، وأفاضوا القول في تواتر الأخبار؛ لأن الخبر المتواتر أصل من أصول العلم، شريطة أن يستوفي التواتر الصحيح أركانه … فهذا كله مؤدٍّ إلى تربية عقلية يحتاجها المثقف كائنًا ما كان عصره، لكننا لا نكاد نترك هذه القواعد النظرية — والتي جاء عصرنا في مجالها بما لم يعد معه باحث بحاجة إلى إضافة من السابقين، لتطور العلوم وتطور مناهجها وطرائق البحث فيها، تطوُّرًا لم يكن يحلم به أحد من الأولين — أقول إننا لا نكاد نترك هذه القواعد النظرية إلى مواد البحث نفسها، حتى نجد أنفسنا في وادٍ، والجماعة التي نُطلق عليها اليوم اسم «عُلَما» في وادٍ آخر.
فماذا يغير من نظريات العلم الطبيعي وقوانينه أن «تؤمن» بأن العالم قديم أو حادث — أعني بأنه أزلي أو أنه مخلوق — بل وماذا يغير من نظريات العلم الطبيعي وقوانينه أن تعرف صانع العالم وصفاته الأزلية وأسماءه وعدله وحكمته ورسله وأنبياءه؟ … إنني ها هنا أريد أن أكون واضحًا أمام القارئ، خشية الكبس؟ فلست أعني بذلك ألا «نؤمن» بهذا الصانع وبما يتصف به، لكن هذا «الإيمان» شيء والعلوم الطبيعية والرياضة وميادينها وقوانينها شيء آخر؟ فقد يكون أعلم علماء الأرض مؤمنًا وقد لا يكون، عارفًا بصانع العلم أو جاهلًا به؟ إن شرط معرفة صانع العالم وصفاته إلخ ضرورية حين يكون معنى «العلم» التفقه في الدين وأحكام الشريعة، وأمَّا حين يكون معناه الكشف عن قوانين الضوء والصوت والكهرباء وسائر ما في الطبيعة من ظواهر، ثم تطبيق هذا الكشف على أجهزة كالتي نراها اليوم في كل ركن من أركان الأرض، فعندئذٍ لا شأن للإيمان الديني به. ولقد نتصور أن يكون العالم منتميًا إلى أي دين، إلى اليهودية أو المسيحية أو الإسلام، إلى الهندوكية أو البوذية، قد نتصوره من غير المؤمنين بأي دين، قد نتصوره من عبدة النار أو من عبدة الأوثان؛ لأن «علمه» — بالمعنى الذي نقصد إليه اليوم بهذه الكلمة — لا صلة له بالطريقة التي يتدين بها إذا كان ذا ديانة.
وفي هذه التفرقة يكمن أصل من أهم الأصول التي نعتقد أنها هادية حين نتحدث عن اهتداء المعاصرين بتراث الأقدمين، فلا ينبغي قطُّ — فيما نرى — أن يكون الإيمان الديني مما نمسه بالقول في هذا المجال؛ لأن المعاصرة لا تتنافى ولا تتأيد بالإيمان الديني كائنًا ما كان في شكله ومضمونه، وإنما المعاصرة هي فيما له علاقة بمشكلات اليوم، المعاصرة هي في متابعة العلوم وتقنياتها وتطبيقاتها، وفي متابعة الفنون على مقتضى نوازع الحياة الحاضرة، وفي متابعة أنظمة الحكم والتعليم والاقتصاد وغيرها من وسائل العيش وفق الحضارة التي نحياها.
كان أهل السنة في مجموعهم يقفون في طرف اليمين المحافظ، على حين وقف المعتزلة في طرَف اليسار الشُّوريِّ، إذا جاز لنا استخدام هذه المفهومات الجديدة بالنسبة إلى الحياة الفعلية القديمة، فبينما أصرَّ المعتزلة على أن تُئَوَّل آيات القرآن لتتفق مع أحكام العقل، آثر أهل السنة أن يتمسكوا بحرفية النصوص حتى لا يتعرضوا للخطأ والضلال، فقالوا: نؤمن بما ورد به الكتاب والسنة، ولا نتعرض للتأويل. ولقد أمسكوا عن تفسير الآيات وتأويلها لأمرين: أولهما المنع الوارد في التنزيل من قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ. والثاني هو أنَّ التأويل أمر مظنون بالاتفاق، ولا يجوز قول بالظن في صفات الله تعالى.
فها نحن أولاء بين طرفين فكريين: أحدهما يلتزم النص ويبطل صلاحية العقل الإنساني للتأويل والتفسير، والآخر يعتمد الاعتماد كله على العقل هاديًا من فهم التنزيل بتفسيره وتأويله. وواضح أنَّ الأمر لا يقف عند هذه النقطة الأولية بين الفريقين، بل يطَّرد معها إلى كل موقف مما يوجب الحكم بالصواب والخطأ، فالحكم عندئذٍ لا يكون بمتابعة السلف متابعة دقيقة عند أحد الطرفين، ولكن يكون بالانصياع لمنطق العقل عن الطرف الآخر.
وكان لا بد أن يجيء من يختار لنفسه موقفًا وسطًا بين الطرفين، فكان هذا التوسط نصيب أبي الحسن الأشعري، الذي خشيَ أن يذهب دين الله وسنة رسوله ضحية الآراء المتطرفة من يمين أو يسار، فحاول أن يوفق بين هذه الآراء، وانتهى إلى ألا يجعل العقل كل شيء كما أراد المعتزلة، وألا يجعل الإيمان بالنص وحرفيته كل شيء كما أرد المتطرفون من أهل السنة وأتباع السلف، فمن جهة، رأى أن العقل وحده لا يكفي لدعم الدين، كما ظن المعتزلة؛ إذ لو كان أمره كذلك فماذا تكون قيمة الإيمان بالله وبالكتاب المنزل؟ أليس الإيمان بالغيب مبدأ أساسيًّا في الحياة الدينية؟ لكن الغيب يتجاوز حدود البراهين العقلية؛ وإذن فالعقل وحده لا يكفي، فلماذا إذن لا نجعل المسائل مشاركة بين العقل والإيمان معًا، فللعقل ما يستطيعه من تحليل وتفسير وتأويل، وللإيمان ما تقتضيه مبادئ الدين وأصوله، مما يجاوز حدود العقل؟ بهذا يكون لكل من العقل والإيمان ميدان، وينحسم كل خلاف. وكان للغزالي موقف شبيه بهذا في مدى ما يتركه العقل حيال النص القرآني؛ إذ يقول (ص٥٣ من فضائح الباطنية): «إن لنا معيارًا في التأويل، وهو أن ما دلَّ نظر العقل ودليله على بطلان ظاهره، علمنا ضرورةً أن المراد غير ذلك، بشرط أن يكون اللفظ مناسبًا له بطريق التجوز والاستعارة.»
وهذا هو نفسه الموقف الذي نريد لأبناء عصرنا أن يستخلصوه من تراثهم — شكلًا لا مضمونًا — وهو ألا يجعلوا بين العقل والإيمان تعارُضًا بل أن يجعلوا بينهما تعاونًا على الوصول إلى هدف واحد، فلكل من الأداتين قسطها من الفهم وتنظيم السلوك، وإذا كان الأولون قد جعلوا التعارض مقصورًا على النص القرآني والأحاديث، هل يعملون فيها العقل بالتأويل، أو يقبلونها بظاهر لفظها، فنحن اليوم نجعل التعارض أو التعاون بينهما في ضدين آخرين، هما: الدين من ناحية والعلم من ناحية أخرى، فإذا شئنا أن يكون لنا موقف نستمده من تراثنا، فليكن هو موقف المعتزلة والأشاعرة معًا، فمن المعتزلة نأخذ طريقتهم الفعلية ومن الأشاعرة نأخذ الوقوف بالعقل عند آخر حد نستطيع بلوغه؛ وبهذا نجعل الدين موكولًا إلى الإيمان، ونجعل العلم موكولًا إلى العقل، دون أن نحاول امتداد أي من الطرفين ليتدخل في شئون الآخر.