صراع ثقافي قديم
سألت نفسي ذات لحظة متأملة: تُرى ما الذي تميزت به الحياة الفكرية العربية في قرونها الأولى؟ وإلى أي حد تغيرت هذه الحياة الفكرية في عصرنا الراهن؟ وعلى أي صورة نتمنى لها أن تكون؟ ثم أجبت نفسي إجابات تنقصها دقة التحديد، كما هو الشأن في كل إجابة عامة مجردة، يُجاب بها عن سؤال عام مجرد، لكنها كانت إجابات تصلح أن تكون فاتحة لطريق المحاولات، التي قد تُثمر أو لا تُثمر آخر الأمر.
فلعل أظهر ما تميزت به الحياة الفكرية العربية في قرونها الأولى، أنها كانت كالبحر، تنظر إلى سطحه فتراه على كثير من التجانس، فالماء قوامه أينما وجهت البصر في أرجائه، لكنك تغوص تحت السطح التماسًا لضروب الحياة الكامنة فيه، فإذا هي على درجة من الصراع وشدة التباين، حتى لتعجب كيف تكون هذه الأحياء المتقاتلة المتعارضة مكنونات بحر واحد؟ وتمعن النظر في قليل من الدقة، فتستطيع عندئذٍ أن ترى الصراع ناشبًا بين ثلاث مجموعات تشابكت بينها الروابط والصلات، لكنها مختلفة بعضها عن بعض اختلافًا يبلغ حد الحرارة والعداوة. فأما نقطة الالتقاء الواحدة فهي الكتاب المنزل، وبعد ذلك يذهب كلٌّ في طريق: فهنالك من يقف عند التنزيل نصًّا، يدرسه من كل ناحية، يستخلص منه الأحكام، ويدرس حوله لغةً وأدبًا وتاريخًا. وهنالك من ينظر إلى النص لا ليقف عنده، بل ليغوص فيما يظنه كامنًا وراءه من أسرار يحاول كشفها ليصل إلى «الحقيقة» وصولًا حدسيًّا مباشرًا هو من قبيل الإلهام الصوفي. وأمَّا الفريق الثالث فهو أولئك الذين لا هُم يكتفون بظاهر الآيات ليستخلصوا منها «الشريعة» ولا هم يرضَوْن بالوصول إلى «الحقيقة» المستترة وصولًا وجدانيًّا مباشرًا، بل يريدون أن يكون «العقل» أداتهم التي يعالجون بها الفهم والتأويل معًا؛ وإذن فلا بد لهم من حجاج يقيمونه في كل مسألة على أسس المنطق الأرسطي الذي جاءهم منقولًا من اليونان.
تلك صورة موجزة للمواقف الثلاثة التي لم تزل تقتتل، لا اقتتال المختلفين في الرأي، بل كان أقرب إلى مقاتلة أصحاب الديانات المختلفة بعضهم بعضًا، يكفِّر بعضهم بعضًا، وكلٌّ يريد أن يردَّ الضال إلى إيمانه الصحيح. ولقد يبدو الفارق بين تلك المواقف الثلاثة هيِّنًا، لكنه في الحقيقة كان في السعة والعمق، بحيث لا يجوز لنا — إلا مع التجوز الشديد — أن نتحدث عن حياة فكرية عربية أو إسلامية، وكأن ثمة حياة واحدة تتجانس في الأصول وتختلف في الفروع، وسوف نرى بعد قليل كيف كانت تلك التفرقة في وجهة النظر ذريعة يتذرع بها الناس ليرتد كلٌّ إلى جذور في حياته الخاصة أعمق جِدًّا من السطح الطاهر الذي يلتقون عنده، فلِيَاذُ اللائذين بالمعاني المستورة الباطنة وراءَ النصوص، إنْ هو إلا ثغرة ينفذون منها إلى عقائد دينية أُولى كانت لها السيادة بينهم قبل الإسلام، والمحتكمون إلى العقل — بتأييد من الفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني — إنما هم في أعماقهم جماعة لا يقنعها أن «تؤمن» إيمانًا ليس من طبيعته أن يسأل كيف؟ ولماذا؟ حتى لقد ذهبت الجرأة بأحدهم أن يقول: إنه إذا تبين أن ما نقبله على أساس الإيمان متفق مع ما يصل إليه العقل بمنطقه، فلماذا الإيمان إذن؟ وأمَّا إذا تبين بينهما اختلاف، فلا يجوز أن نتنكر للنتائج العقلية حفاظًا على الإيمان، والأمر لا يعدو أن يكون بين الإيمان والعقل اتفاق أو اختلاف، وفي كلتا الحالين حسبنا العقل ولا ضرورة توجب الإيمان.
فهذان فريقان: أحدهما يريد أن «يؤمن»، ولكنه إيمان بعقيدة مسبقة يظل يبحث عنها وراء النصوص حتى يجدها، والآخر لا يجد نفسه بحاجة إلى إيمان ما دام العقل يكفيه، وبين هذين فريق ثالث يلتمس لنفسه برَّ السلامة، فيستريح إلى شريعة يأخذها من ظاهر النصوص القرآنية والأحاديث، حتى ولو وجد في هذه النصوص متشابهات ومتناقضات. وأستطيع القول بصفة عامة: إنَّ الفريق الأول كان هدفه السياسة من وراء الدين، وإن الفريق الثاني كان همه الثقافة، وأمَّا الثالث فهو الذي أراد الدين لذاته ابتغاء الآخرة وجزائها. استطاع الطريق الأول أن يضيف إلى العقيدة الإسلامية أبعادًا صوفية، واستطاع الفريق الثاني أن يضيف إليها أبعادًا فلسفية، وأمَّا الفريق الثالث فهو كمن يطيع القوانين طاعة لا ثورة فيها ولا تمرد ولا مراوغة ولا حفر وراء أعماق وأغوار.
وإنه ليلفت النظر — نظري على الأقل — ما بين الفريق الذي استبطن النصوص ليجد «الحقيقة» الروحية وراءها، وجمهور الناس في عصرنا الراهن من تجانس وثيق، فالروح واحدة، وإن اختلفت الأهداف. وإذا صح هذا الشبه بينهما جاز لنا القول عندئذٍ إن الجانب في حياتنا الفكرية الراهنة الذي يقابل جماعة الباطنية قديمًا، هم عامة الناس، فإنك لتلحظ الواحد من هؤلاء العامة كيف يسعده ويرضيه أن تكون وراء الظواهر حقائق روحانية تخفى على الأبصار، لكنها جلية أمام البصائر. وحين أقول «عامة» الناس، فإنما أدرج في هذه المجموعة طائفة كبيرة جِدًّا من خاصة المثقفين، الذين لا يمنعهم علمهم من الاعتقاد بالخوارق التي تفعل فعلها في الخفاء، رضي العلمُ أو لم يَرضَ. وإن الحديث ليستطرد بي إلى قصص طريفة، لو أردت أن أروي ما سمعته بأذني، لا أقول ما قرأته من علوم الفيزياء والكيمياء والرياضة والبيولوجيا، وفي الفلسفة ذاتها، من أحاديث يتحدثون بها وهم في نشوة الطمأنينة والرضا، ليزعموا لك كيف يسير «المؤمنون» على ماء البحر وكأنهم يسيرون على يابس، وكيف يخلق المعدمون منهم أكداسًا من الطعام خلقًا من عدم، وكيف تجري ألسنة الجهلاء المؤمنين بلغات لم يدرسوها، وهكذا وهكذا، فهؤلاء جميعًا من عامة الناس في عصرنا، الذين أراهم يمثلون الفرقاء الثلاثة القديمة المتصارعة، مع فارق هام بين هذين الشبيهين لا بد من الإشارة إليه، وهو أنني أقصر وجه الشبه بينهما على عدم الاكتفاء بالظاهر، والبحث عن باطن يكمن وراءه، أمَّا الأقدمون فكان مجال تطبيقهم لهذا الاتجاه هو نصوص التنزيل والأحاديث، وأمَّا المحدثون من عامة الناس، فالأغلب أن يكون مجال التطبيق عندهم هو ظواهر الطبيعة. ونتج عن هذا الفارق نتيجة هامة، هي أن الأقدمين الباحثين عن الحقيقة الباطنة قد انتهوا في كثير من الحالات إلى بناءات فكرية لها قيمتها من الناحية النظرية، وأمَّا المحدثون من عامة الناس، فإن اتجاههم هذا نحو باطن خفي وراء الظواهر، ينتهي بهم إلى خرافات كثيرًا ما تُفسد عليهم سلامة التفكير النظري إذا كانوا من أصحابه.
وأمَّا أنصار العقل قديمًا وحديثًا فهم جماعات المثقفين الذين يهتمون بالفكرة لذاتها، فهم لا يبدءون بفروض دينية — مثلًا — ثم يحاولون أن يسلسلوا حجاجهم الفكري على طريقة تضمن لهم أن يصلوا إلى نتائج بعينها كانوا يريدون الوصول إليها منذ البداية، بل يبدءون ﺑ «رغبة» في تحقيق طائفة من القيم، الحرية والمسئولية من أهمها، فكأنما هم يسألون أنفسهم: إذا أردنا للإنسان أن يكون حرًّا في إرادته وفي اختياره، فكيف نتصور هذا الموضوع أو ذلك، تصوُّرًا لا يؤدي إلى تقييد تلك الحرية التي نريدها له؟ ودور «العقل» عندهم هو في استنباط النتائج من تلك القيم الأولية المسلَّم بضرورتها. ويغلب على أنصار العقل هؤلاء أن يستمدوا أصولهم الثقافية من ينابيع الحضارة التي يكون لها الصدارة في العصر المعين. وكانت تلك الينابيع في العصر القديم هي اليونان وفارس والهند، وأمَّا ينابيع عصرنا فهي أوروبا وأمريكا. وسنرى بعد قليل كيف تجيء الثقافات الوافدة في كلتا الحالتين — قديمًا وحديثًا — فتصطدم بأفكار لا تتجانس معها، فينشقُّ الناس عندئذٍ شِقَّين: أحدهما يناصر الثقافة الوافدة لأنها منحدرة من حضارة لها صدارة، والآخر يتمسك بالأفكار المحلية السائدة رافضًا ما يناقضها من ثقافات الآخرين.
وإلى جانب من لا ترضيهم ظواهر الأمور فيبحثون وراءها عما تطمئن له نفوسهم من حقائق الغيب، والمثقفين العقلانيين الذين يهتمون لسلامة الأفكار استنادًا إلى قيم أساسية يأخذونها مأخذ التسليم، من أهمها حرية الإنسان، هنالك الفريق الثالث الذي يلتزم الشرائع كما نصت عليها ظواهر التنزيل والحديث والأخبار المتواترة عن السلف الصالح، وهو فريق تمثل في جماعات قديمة كما يتمثل اليوم في جماعات معاصرة. وهؤلاء يختصمون مع الباحثين عن باطن وراء الظاهر؛ لأن في ذلك مجالًا للأهواء والنزوات، ثم يختصمون كذلك مع المثقفين أنصار التفكير العقلي والفكر الحر؛ لأن ذلك معناه مجاوزة النص وما يستلزمه. على أن هذا الفريق يتدرج في مرونة النظر درجات متفاوتة، منهم من يسد الأبواب دون ابتكار العقل مكتفيًا بالأخبار المروية عن السلف، ومنهم من يجد ألا مناص من إفساح المجال أمام العقل حيثما أعوزتنا أخبار السلف التي نهتدي بها.
هكذا نرى الصورة متشابهة — من حيث التكوين — بالنسبة إلى الجماعات المتصارعة على مسرح الفكر قديمًا وحديثًا، حتى ليمكن القول إن المحدثين في طريقة انقسامهم واختلافهم، امتداد للتراث الموروث عن أسلافهم. ولست أظن أن مثل هذا الانقسام أمر طبيعي يتكرر مثيله في كل الثقافات؛ إذ لست أرى هذا التضاد بين أهل الظاهر وأهل الباطن مألوفًا من الثقافات الأخرى، كما أني أرى أن طريقة الجماعات الفكرية في تقبل الثقافات الوافدة من خارج تتخذ دائمًا هذه الصورة نفسها التي اتخذتها في ثقافتنا العربية قديمها وحديثها على السواء. ولو كانت لا تعمل، وأستبق حكمًا هو الذي أجدني أميل إلى الأخذ به في تنظيم نشاطنا الثقافي تنظيمًا يأخذ عن الماضي ويساير الحاضر، وهو حكم سترد له تفصيلات في فصول آتية من هذا الكتاب، لقلت إننا لو استطعنا أن نركِّز على محورين من المحاور الثلاثة السالف ذكرها، فذكر على الجانب العقلاني من جهة، وعلى الجانب السلفي المعتدل من جهة أخرى، لاستطعنا بأولهما أن نواجه عصرنا — وهو عصر العلوم القائمة على عقل خرف — متكئين في الوقت نفسه على أصول الشريعة الإسلامية والدراسات اللغوية والنحوية والفقهية التي قوام السلفي، قائلين في السلفية التي تجعل للعقل نصيبه من التأويل كلما اقتضت الحاجة إلى تأويل، أقول إننا لو استطعنا الجمع بين هذين المحورين، لكان لنا بذلك استمرار مع الماضي من أسس العلاقات الإنسانية، علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقة الإنسان بالله ومسايرة للعصر من علومه واتجاهاته الفكرية، لا سيَّما فيما يتصل بالاقتصاد والسياسة.
•••
كانت هنالك — إذن — ثلاثة أطراف في الحياة الفكرية عند الأقدمين: طرفٌ منها لا عقلاني يعتمد على الغوص إلى الحقيقة الروحانية مهتديًا بإلهام أو بحدس مباشر. وطرفٌ ثانٍ عقلاني يستخدم طرائق المنطق النظري في حجاجه، وغالبًا ما يتأثر بثقافة اليونان. وطرفٌ ثالثٌ لا يتخذ موقعه في مجال «الفكر» بقدر ما يتخذه في مجال «السلوك» سلوكًا يتفق مع شريعة الدين.
ولم يكن الطرف اللاعقلاني بسيط التكوين موحد الطريق والهدف، بل اختلطت فيه خيوط كثيرة منوعة الأهداف، ونقطة الجمع بينها هي مقاومة السيادة العربية، حتى ولو جاءت تلك المقاومة على حساب العقيدة الإسلامية نفسها. لعل أول فصول الرواية قد ظهر حين اعتزَّ الأمويون بعروبتهم وبقوميتهم، اعتزازًا أدى بهم إلى تفرقة صريحة بين نوعين من المسلمين: فمسلمون ينتمون إلى العرب في أصولهم، ومسلمون آخرون من غير العرب أُطلِق عليهم اسم «الموالي»، فكان لا بدَّ أن يحدث صراع بين الفريقين، قد يكون مستترًا حينًا أو مُعلَنًا حينًا آخر، بحسب قوة القابضين على أزِمَّة الحكم. ولما كان هؤلاء الموالي هم من الفرس، أصبح الصراع في حقيقته تنافسًا بين قوميتين: العربية والفارسية، وهو التنافس الذي عُرف باسم «الشعوبية». ولقد بدأت الحركة الشعوبية منذ العصر الأموي، في صورة متواضعة أول الأمر، وهي المطالبة بمجرد المساواة بين الموالي والعرب؛ وذلك لأن هؤلاء الموالي قد أحسُّوا خيبة الأمل المُرَّة بعد اعتناقهم الإسلام؛ لما رأَوْه من تفاوت جائر في منزلة كلٍّ من الفريقين، فلم يكن للموالي العصر الأموي من الحقوق ما كان للعرب. ولقد ترفَّع العرب على الموالي ترفُّعًا مُهينًا؛ فلم يتسامحوا في زواجٍ يتم بين رجل من الموالي وامرأة من العرب، بل ذهبوا إلى تمييز بين الجماعتين في بيوت الله نفسها؛ إذ جُعلت للعرب مساجد وللموالي مساجد، وجرى العرف بأن تُترك السياسة والحرب للعرب؛ ليضطلع الموالي بعد ذلك بالمهن الحِرفية.
وإذا كان الأمر كذلك، فلم تكن إلا خطوة واحدة يخطوها الموالي في طريق التنافس، هي أن يلتمسوا لأنفسهم طريق الردة إلى دياناتهم الأولى، دون أن يعلنوا ذلك بالضرورة حتى لا يجلبوا على أنفسهم الأذى، فكان يكفيهم أن يعلنوا الإسلام ويضمروا ما شاءت لهم قلوبهم من عقائد؛ ومِنْ ثَمَّ نشأت الحركة القوية نحو ما عُرف باسم «الزندقة»، وهو اسم تعددت مقاصده واختلفت معانيه حتى في القواميس العربية، فالزنديق تارةً يكون القائل بالثنوية التي تجعل للعالم مبدأين هما النور والظلمة، الأول للخير والثاني للشر، والزنديق تارةً أخرى يكون هو القائل بأزلية الدهر وأبديته، والزنديق تارةً ثالثةً هو من اعتنق مذهب ماني أو غيره من مذاهب الفرس السابقة على الإسلام، والزنديق تارةً رابعةً هو من ينكر وجود الله، أو يذهب إلى أن لله شريكًا. وجاء عند أحمد أمين في «ضحى الإسلام» أن الزندقة تُطلَق على معانٍ أربعة: فهي إما تُطلَق على التهتك مع تبجح في القول يمس الدين، وإمَّا تُطلَق على أتباع عقيدة المجوس — وخاصةً مذهب ماني — مع التظاهر بالإسلام، وإمَّا تُطلَق على الإلحاد في الدين بصفة عامة. وهي على اختلاف معانيها تلك تتفق كلها — كما يقول طه حسين في «حديث الأربعاء» — في أنها ضربٌ من السخط على العرب وعاداتهم وأخلاقهم ومحافظتهم ودينهم بنوع خاص.
فالشعوبية والزندقة وجهان لموقف واحد، الأولى خروج على العرب، والثانية خروج على الإسلام وإن يكن في الأغلب خروجًا في الخفاء. فإذا كان العرب في عهد الأمويين قد وحَّدوا أنفسهم مع الإسلام ليجعلوا الإسلام فضلًا لهم على غير العرب، فالفرس قد وحَّدوا أنفسهم مع عقائد فارسية قديمة، وأخذت كفة الفرس تزداد رجحانًا، حتى جاء العباسيون على أكتافهم، فكان طبيعيًّا أن تجيء دولتهم وقد حققت لهم بعض ما أرادوا. وكان بعض ما أرادوه أن يبثوا الفرقة بين العرب ليحدُّوا من قوتهم، وأن يقللوا من شأنهم حتى لا يصبح لهم فضل على العجم، لا، بل أن يظهروا ما كان للحضارة الفارسية من شأن رفيع أين منه العرب في بداوتهم؟ وإنه ليلفت النظر بقوة — وهو أمر قد يلقي الأضواء على تيارات السياسة في عصرنا — أن العرب في الدولة الأموية كان من صالحهم أن يعلوا من فكرة «القومية» العربية على رابطة الإسلام؛ لأن الإسلام فيه عرب وغير عرب، وهما في رأيهما عندئذٍ لا يتساويان، فكان رد الفعل عندما اشتد بأس الفرس بمجيء الدولة العباسية، أن أخذوا يعلون من شأن الرابطة الإسلامية لتكون هي أساس التعامل، على حساب فكرة القومية؛ لأن تلك الرابطة من شأنها — مهما تكن سطحية أو مزيفة — أن تفسح لهم مجال المساواة بينهم وبين العرب.
كان الزنادقة فِرَقًا كثيرةً، بعضها تافه الدعوة وبعضها خطيرها، لكن سواء كانت دعوة الداعي تافهة أو خطيرة، فقد كانت — في جميع الحالات — سرعان ما تجمع حولها الأتباع بعشرات الألوف، كأنما هؤلاء الأتباع قد ضاقوا ذَرعًا بقيود الدين الجديد، وأخذوا يترقبون الفرصة السانحة ليتحللوا منها، في الحقيقة إن لم يكن في الظاهر. ولنذكر مرة أخرى — فهذه إحدى النقاط التي تهمنا فيما نحن بصدده من حديث — أن الدعوات الزنديقة التي كانت تصيخ لها آذان الأتباع، كانت تحقق لهم شيئًا مما ألفوه، وكان من أهم ما ألفوه في عقائدهم القديمة ألا يكون الفاصل حادًّا بين الله والإنسان، بل أن تكون هنالك الصلات الملغزة التي تصل الإنسان بالقوى الكونية الخفية؛ ومِنْ ثَمَّ كان يسيرًا عليهم أن يؤمنوا بأن الله قد حل في هذا الإنسان أو ذاك، كلما دعاهم داعٍ إلى مثل هذا الاعتقاد؛ إذ كان كامنًا في جذورهم الثقافية التقليدية أن يروا أمام أعينهم إلههم وقد تجسد في إنسان.
كان أبو مسلم الخراساني ممن أعانوا على قيام دولة بني العباس؛ إذ رأى في ذلك طريقًا موصلًا إلى أمله وآمال الفرس جميعًا، وهو أن يُعاد لشعبهم وثقافتهم وعقائدهم ما كان لها من مكانة ومجد، ولكي لا تكون هذه الأهداف مكشوفة عارية، سترها بالدعوة لآل بيت الرسول؛ انتقامًا من بني أمية الذين تعصبوا للعرب الخُلَّص دون غيرهم ممن انتموا إلى دين الإسلام؛ ولذلك نرى جماعات كثيرة من الزنادقة، قد وجدت في أبي مسلم الخراساني هذا شخصًا قريبًا إلى أذهانهم، يجعلون منه الإنسان الرباني، أو الرب الإنساني الذي كانت تتعلق به أهواؤهم. وسنذكر لك فيما يلي قصصًا متناثرةً تبين طبيعة الجو الوهمي الذي كان ينعم بالعيش فيه عدد ضخم من الناس؛ لنرى لأنفسنا كم يجب الحذر في القول، حين نقول للعرب المعاصرين إنه ينبغي لهم أن يحيوا تراث الأسلاف، فما كل تراث ينبغي إحياؤه بمعنى أن يسري في حياتنا العصرية، وإن يكن كل تراث واجب الدراسة عند المؤرخين:
ظهر في خراسان — أيام أبي مسلم — رجل يُدعى «بيها فريد»، يُقال إنه قدم من الصين بعد أن أقام فيها بضع سنوات، صعد ذات ليل في الخفاء إلى مخبأ في معبد، حتى كان الصبح، نزل مرتديًا قميصًا أخضر يلفت النظر، فالتقى بزارع يحرث أرضه للزرع، فزعم له أنه إنما هبط لتوه من السماء، حيث شهد الجنة والنار، وأن الله تعالى قد أنعم عليه بهذا القميص العجيب، وأرسله هاديًا للناس، فما أسرع أن تناقل الخبر أهل ذلك الريف، وجاءوا ليلتفوا حول هذا الرسول الجديد، يستمعون إلى رسالته، فأخذ الرجل ينشئ لهم كتابًا مقدَّسًا بلغة فارسية يفهمونها، يدعوهم به إلى أن يجعلوا صلاتهم للشمس سبع مرات كل يوم، وأن يمتنعوا عن ذبح الحيوان، مؤسسًا هذا التحريم على مذهب التناسخ، فكان كلما ازداد الناس إقبالًا عليه، ازداد إمعانًا في إحياء التعاليم المجوسية القديمة بينهم.
وسرعان ما ظهر دَعِيٌّ آخر، يُدعى «سنباذ»، آخذًا عن «بيها فريد» مذهب الحلول والتناسخ، ثم أضاف عقيدة مؤداها أن أبا مسلم الخراساني لم يُقتَل، بل تحول — عند قتله — إلى حمامة بيضاء، ولاذ بالفرار. ولقد أنذر سنباذ المجوسي هذا بأن سلطان العرب وشيك الزوال على يديه، وبأنه مصمم على هدم الكعبة وغيرها من الأماكن المقدسة عند المسلمين.
وتبعه في الطريق إسحاق التركي، الذي قَدَّسَ أبا مسلم الخراساني، وأراد أن ينتقم لقتله (كان قتله على يدي أبي جعفر المنصور) إذ كانت عقيدته أن أبا مسلم لم يمت، بل اختبأ في الجبال، وأنه عائد يومًا ليؤمَّ أنصاره. وقد دعا إسحاق التركي هذا إلى المجوسية، كما ادَّعى كذلك أنه نبيٌّ مرسلٌ من زرادشت ليردَّ الفرس إلى الطريق القويم.
وجاءت جماعة «الراوندية» لتنشر العقيدة بأن أبا مسلم قد حلَّت فيه روح الله، وأنه الإمام، وأنه لم يمت ولن يموت حتى يعود إلى الظهور ليملأ الأرض عدلًا بعد أن مُلئت جَوْرًا!
وظهر زنديق أبرص، يُدعى «الأبلق» فزعم أن الروح التي كان يحيا بها عيسى — عليه السلام — قد صارت إلى عليِّ بن أبي طالب، ثم صارت بعد عليٍّ إلى الأئمة إمامًا بعد إمام. ولقد دعا الأبلق هذا إلى مذهب الحلول وتناسخ الأرواح، صارفًا القوم عن أداء فرائض الإسلام، مبيحًا لهم صنوف اللذة المحرمة.
وكانت قصة المقنَّع الخراساني من أطرف ما يُروَى من قصص الزنادقة؛ فقد كان رجلًا دميمًا قميئًا أعور، فصنع لنفسه قناعًا من ذهب، وزعم للناس أن هذا هو وجهه؛ يشع نورًا؛ لأنه ليس بشرًا من البشر، بل هو إله، وطالب أتباعه بالسجود له وعبادته. وقد دعا هذا المقنَّع كذلك إلى مذهب التناسخ، وأنكر هو أيضًا أن يكون أبو مسلم قد مات حين قتله أبو جعفر المنصور، وإنما قتل المنصور شيطانًا شُبِّه له في صورة أبي مسلم. وعاد المقنَّع بأتباعه إلى تعاليم مزدك (وقد ظهر مزدك في القرن الخامس الميلادي، داعيًا إلى الثنوية التي تقول بأن الكون يُسيِّره نور وظلمة، ثم هو يدعو إلى شيوعية المال والنساء، قائلًا إن السلام يتحقق للناس إذا أُبيحت النساء وأُبيح المال مشاعًا بينهم جميعًا)، فإلى هذه التعاليم المزدكية من هدم للأسرة وهدم للملكية الخاصة كانت دعوة المقنَّع. وقد لعب المقنَّع على خيال الأتباع السُّذَّج بحيلة توهمهم أنه يظهر قمرًا في الأفق، وجمع لنفسه مقادير ضخمة من الطعام، وأحاط نفسه بعدد كبير من النساء، وحصَّنَ نفسه داخل قلعة لأنه خشيَ أن تدهمه قوة ترسلها الدولة، وذلك ما حدث، هاجمته قوة لم يستطع ردها، وأدرك أن نهايته قد دنت، فأشعل النار في القلعة، وأحرق كل من فيها وما فيها من بشر ومن دواب ومن ثياب ومتاع، وألقى بنفسه فيها آخر الأمر.
ووجدت الدعوة نفسها استمرارًا بعد ذلك على يدي رجل آخر يُدعى «بابك الخُرَّمي»، الذي أراد — هو الآخر — أن يثأر لأبي مسلم، وقد دعا بدوره إلى إحياء العقيدة المزدكية بما فيها من إباحات اللذات وشيوع المال والنساء والقول بالأصلين النور والظلمة.
على أن حركة الزندقة لم تكن كلها في هذا الاتجاه الظاهر البطلان، وعلى أيدي أمثال هؤلاء المهرجين، بل كانت لها صور أخرى أقوى جُذورًا وأخفى ظهورًا، ويكفي أن نجد من الزنادقة شعراء كأبي نواس وبشار، وكُتَّابًا كأبي المقفَّع؛ فقد اشتد الصراع الثقافي بين العرب والفرس، حتى لقد لجأ كل فريق منهما إلى بذل الجهود الثقافية الجادة تأييدًا لوجهة نظره، كانتحال الأحاديث النبوية، فالعرب يروون أحاديث فيها تفضيل للعرب، والفرس يروون أحاديث أخرى فيها تفضيل للفرس، ثم أخذ كل من الفريقين يؤلف الرسائل والكتب في الاتجاه الذي يراه مؤيِّدًا للثقافة التي يدافع عنها، فأنصار العرب يؤلفون في اللغة والأدب، وأمَّا الآخرون فينشرون من ضروب الثقافات ما تنطفئ بجانبه لمعة الثقافة العربية الأصيلة؛ ومن هنا كانت حركات الترجمة والنقل عن اليونان وغير اليونان من الأمم ذوات الثقافة العريقة.
فالزندقة صلتها وثيقة بحركة الشعوبية التي اقتضت أن يباهي الفرسُ العربَ، والعربُ الفرسَ، وما كانت المعركة التي احتدمت بين الأمين وأشياعه من العرب، والمأمون وأشياعه من الفرس، إلا انعكاسًا لحركة الشعوبية تلك، وكانت الزندقة من القوة ومن سعة الشمول بحيث شغلت قادة الفكر عندئذٍ، وهذا هو أبو العلاء المعري يختصها بقسط موفور من رسالة الغفران، فنراه هناك يصنف الزنادقة أنماطًا وصنوفًا بحسب الدوافع التي مالت بهم إلى زندقتهم. ويحسن أن نوجز هنا قول أبي العلاء؛ لأنه — في رأينا — فضلًا عن كونه وصفًا لحركة الزندقة، فهو كذلك صورة لبعض العوامل التي كانت تعتمل في نفوس الناس إبان القرون الأولى من الثقافة العربية والإسلامية.
فهنالك الزنادقة الذين جاءت زندقتهم شاهدًا على اتجاه الناس نحو النفاق، الذي يُظهر شيئًا ثم يُخفي غير ما يُظهِر، يقول أبي العلاء: «فنطق اللسان لا ينبئ عن اعتقاد الإنسان؛ لأن العالم مجبول على الكذب والنفاق، ويحتمل أن يُظهِر الرجل بالقول تديُّنًا وإنما يجعل ذلك تزيُّنًا، يريد أن يصل به إلى ثناء أو غرض من أغراض الخالبة أم الفناء (يقصد أغراض الدنيا)، ولعله قد ذهب جماعة هم في الظاهر متعبدون وفيما بطن ملحدون»، ويقول في موضع آخر: «ومن الناس من يتظاهر بالمذهب ولا يعتقده، يتوصل به إلى الدنيا الفانية، وهي أغدر من الورهاء الزانية.» ثم يقول في موضع ثالث: «كم متظاهر باعتزال، وهو مع المخالف في نزال، يزعم أن ربه على الذَّرَّة يُخلِّد في النار، بله الدرهم وبله الدينار، وما ينفك يحتقب من المآثم عظائم … وينهمك على العهار والفسق.» ويضرب أبو العلاء أمثلة على مثل هذا النفاق، ندهش لها غاية الدهشة؛ لأنها تتناول رجالًا نضعهم نحن في طليعة القادة من عالم الفكر العربي الإسلامي القديم؛ من ذلك ما أورده أبو العلاء عن الأشعري: «والأشعري إذا كُشِفَ، ظَهَرَ نُمِيٌّ (أي ظهر له طبع أصيل) تلعنه الأرض والسُّمِيُّ (أي السموات) …» ويقول أبو العلاء عن الأشاعرة بصفة عامة إنهم إما مقلدون لإمامهم تقليدًا أعمى، وإما هم يكشفون عن حقيقة الأمر لكنهم يؤثرون الصمت. وفي عبارة أبي العلاء: «إن شَعَرَ (أي إذا انتمى أحدهم إلى مذهب الأشاعرة) قَلَّد المسكين سِواه، فإنما وثق بمن أغواه، وإن بَحَثَ عن السر وتَبَصَّر، أقصَرَ عن الخبر وقَصَّر.»
ومصدر آخر لحركة الزندقة؛ الثقافات الأجنبية التي وجدت سبلها إلى عقول المسلمين؛ مما جعلهم يقارنون ويوازنون، فينتهي ذلك بفريق منهم إلى التحول باعتقاده إلى طريق آخر: «… فلما ضرب الإسلام بجرانه، واتسق ملكه على أركانه، مازَجَ العربُ غيرهم من الطوائف، وسمعوا كلام الأطباء وأصحاب الهيئة وأهل المنطق، فمالت منهم طائفة كثيرة».
ومصدر ثالث للزندقة — في رأي أبي العلاء — لا عقلانية الإنسان بحكم طبيعته، فإذا قسرته على نظام عقلي، فسرعان ما يفك القيد ويرتد إلى فطرته، «… وبنو آدم بلا عقول، وهذا أمر يُلْقَنه صغير عن كبير …» «أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون؟ إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلًا.» ويقول أبو العلاء في موضع آخر ليبين كيف أن معظم الناس لا يهتدون بهدْيِ عقولهم، وإنما يأخذ بعضهم عن بعض تقليدًا ومحاكاةً بغير تفكير مستقل: «… يَلْقَنُ الطفل الناشئ ما سمعه من الأكابر، فيلبثُ معه في الدهر الغابر، والذين يسكنون في الصوامع، والمتعبدون في الجوامع، يأخذون ما هم عليه كنقل الخبر عن المُخبِّر، لا يميزون الصدق من الكذب لدى المعبِّر، فلو أن بعضهم ألفى الأسرة من المجوس لخرج مجوسيًّا، أو من الصابئة، لأصبح لهم قرينًا سيًّا (السيُّ = المماثل)، وإذا المجتهد نكَّب عن التقليد، فما يظفر بغير التبليد، وإذا المعقول جُعِلَ هاديًا، نَقَعَ بِرِيِّه صاديًا، ولكن أين من يصبر على أحكام العقل، ويصقل فهمه أبلغ صقل؟! هيهات! عُدِمَ ذلك في من تطلع عليه الشمس، ومن ضَمِنَه في الرمم رمس، إلا أن يشذ رجل في الأمم، يُخَصُّ من فضل بعمم.»
ومصدر رابع للزندقة، ارتداد نفر من الفرس إلى ديانة المجوس، بما يتبعها من قول بالتناسخ وقول بالحلول، ومن أبرز من قال بالحلول الحسن بن منصور الحلاج، فيهاجمه أبو العلاء مهاجمةً ربما جاوز بها حدود الإنصاف؛ إذ يقول: «… فأما الحسن بن منصور، فليس جهله بالمحصور … أراد أن يدير الضلالة على القطب، فانتقل عن تدبير العُطْب.» (العُطْب هو القطن، والإشارة هنا إلى اسم «الحلاج»، أي أنه بدلًا من أن ينصرف إلى حلج القطن كما كان ينبغي له تحول إلى الضلالة وأراد أن يرسيها على أسس وركائز). ويشير أبو العلاء في موضع آخر إلى أن القول بالحلول، يؤدي إلى القول بالتناسخ، «وهو مذهب عتيق يقول به أهل الهند، وقد كثر في جماعة من الشيعة.» ثم يقول في مكان آخر: «أمَّا الذين يدَّعون في علي عليه السلام ما يدَّعون، فتلك ضلالة قديمة …»
ومصدر خامس عنده، لا يفوته أن يذكره، وهو أن «الإلحاد» انحراف لم يخلُ منه عصر ولا أمة، أي أنه حقيقة واقعة، حتى ولو لم نجد لها تعليلًا يفسرها: «ولم يزل الإلحاد في بني آدم على ممر الدهور»، «ولا ملة إلا ولها قوم ملحدون، يتظاهرون لأصحاب شرعهم أنهم موالفون، وهم فيما بَطَنَ مخالفون.» ولقد ذكر لنا مؤرخو الأدب العربي والفكر العربي — هكذا يقول أبو العلاء — جماعة من الشعراء في طبقة أبي نواس، ووصفوهم بالزندقة «وسرائر الناس مُغيَّبة، وإنما يعلم بها علام الغيوب، وكانت تلك الحال تُكْتَمُ في ذلك الزمان خوفًا من السيف.»
ذلك ما يقوله أبو العلاء في جماعات الزنادقة وأفرادهم، رويناه لنزيد هذا الجانب من جوانب الصورة وضوحًا. على أن «نيكلسون» — فيما تروي عنه الدكتورة عائشة عبد الرحمن في كتابها عن رسالة الغفران — من رأيه أن أبا العلاء لم يحاول أن يتعمق حركة الزندقة إلى ما دون سطحها الظاهر، وملاحظاته في أصل الزندقة لم تزد عن كونها جزئية تافهة؛ إذ إن حقيقة الأمر هي أن كثيرًا من النِّحَل قد تسرب إلى الإسلام منتشرًا عن طريق الفرس لإفساد العقيدة الإسلامية وتطعيمها بعناصر وأفكار فارسية، ولكي تعيد إقامة الدين القديم على أنقاض الدين الذي اضطهده.
•••
وإذا كانت الشعوبية وما تبعها من زندقة تصوران جانبًا من الصراع الثقافي القديم، فالباطنية تصور جانبًا آخر، وسنوجز خبرهم هنا نقلًا عن كتابَيْ: «الفَرْق بين الفِرَق» لعبد القاهر البغدادي، و«فضائح الباطنية» للغزالي. ولو كان هدفنا هو إصدار حكم على الباطنية أو لها، لوجب أن نذكر من أخبارهم أقوال المؤيدين إلى جانب أقوال المهاجمين، لكن هدفنا الرئيسي هنا ليس التخطئة أو التصويب، بل هو البيان بأن «التراث» منطوٍ على أضداد ومتناقضات، فعلى الداعين في غير حذر إلى وجوب العودة إلى التراث، أن يحددوا أي هذه الأضداد والمتناقضات يريدون؟ أم يريدون أن ندخل في الصورة كما هي لنتخبط اليوم كما كانوا يتخبطون بالأمس؟
يذكر لنا الغزالي في «فضائح الباطنية» الأسماء المختلفة التي تُطلَق عليهم، وهي أسماء تدل وحدها على التداخل الشديد بين حركة الباطنية وحركات الزنادقة، فضلًا عن التداخل بينها وبين الشيعة، فلقد سُمِّيَت «باطنية» لدعوى أنصارها أن لظواهر القرآن والأخبار بواطنَ تجري في الظواهر مجرى اللب من القشرة، ولكنهم كذلك كانوا يُسَمَّوْن «القرامطة» نسبةً إلى رجل يُدعى حمدان قِرْمِط، كان أحد دعاتهم، ويُسَمَّوْن أيضًا «بالخُرَّمِيَّة» نسبةً لهم إلى حاصل مذهبهم وزُبدته، فإنه مذهب يطوي بِساط التكليف، ويحط من المتعبدين أعباء الشرع، ويغري الناس بطلب شهواتهم وقضاء حاجاتهم من المباحات والمحرمات على حد سواء. وكلمة «خُرَّم» لفظ أعجمي ينبئ عن الشيء المستلَذ المستطاب، الذي يرتاح الإنسان إليه بمشاهدته، ويهتز لرؤيته، وقد كان هذا لقبًا للمزدكية، وهم أهل الإباحة من المجوس. ويُسَمَّوْن أيضًا «البابكية» لأن طائفةً منهم بايعت رجلًا يُدعى «بابك الخُرَّمي». ويُسَمَّوْن كذلك «الإسماعيلية» نسبةً لهم إلى أن زعيمهم هو محمد بن إسماعيل بن جعفر، الذي يزعمون أن أدوار الإمامة انتهت به؛ إذ كان هو السابع من محمد عليه السلام، وعندهم أن أدوار الإمامة تأتي سبعة سبعة؛ ولذلك فهم يُسَمَّوْن أيضًا «بالسبعية». كما يُسَمَّوْن «بالمُحَمِّرة» لأنهم صبغوا ثيابهم بالحمرة أيام بابك، ولبسوها لتكون شعارًا لهم. ويُسَمَّوْن كذلك «بالتعليمية» لأن أساس مذهبهم هو إبطال الرأي وإنكار أن يكون العقل حَكَمًا، وإنما واجب الإنسان التعلم عن إمام معصوم ملهَم.
وواضح من هذه الأسماء التي أُطلِقَت على الباطنية، أن منهم من كان من طوائف الشيعة؛ ومِنْ ثَمَّ اسم «الإسماعيلية» واسم «التعليمية»، ومنهم من كان من الزنادقة المرتدين إلى المجوسية في صورها المثالية، ومِنْ ثَمَّ اسمه «الخُرَّميَّة»، واسم «البابكية»، ويروي عن الباطنية في جملتهم عبد القاهر البغدادي فيقول ما خلاصته: إن دعوة الباطنية ظهرت لأول مرة في عصر المأمون، ثم انتشرت في عهد المعتصم، وذكر أصحاب التواريخ أن الذين وضعوا أساس دين الباطنية كانوا من أولاد المجوس، وكانوا مائلين إلى دين أسلافهم، ولم يجسروا على إظهاره خوفًا من سيوف المسلمين، فوضع الأغمار منهم أسسًا، مَنْ قَبِلَها منهم صار في الباطن إلى تفضيل أديان المجوس، وتأوَّلوا آيات القرآن وسُنَن النبي عليه السلام على موافقة أسسهم. وبيان ذلك أن الثنوية زعمت أن النور والظلمة صانعان قديمان، والنور منهما فاعل الخيرات والمنافع، والظلام فاعل الشرور والمضار، وأن الأجسام ممتزجة من النور والظلمة، وكل واحد منهما مشتمل على أربع طبائع، وهي: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والأصلان الأولان من هذه الطبائع الأربع مُدَبِّرات هذا العالم، وشاركهم المجوس في اعتقاد صانعين، غير أنهم زعموا أن أحد الصانعين قديم، وهو الإله الفاعل للخيرات، والآخر شيطان مُحْدَث، فاعل للشرور. وذكر زعماء الباطنية في كتبهم أن الإله خلق النفس، فالإله هو الأول، والنفس هو الثاني، وهما مدبرا هذا العالم، وسموهما: الأول والثاني، وربما سموهما العقل والنفس. وقولهم: إن الأول والثاني يدبران العالم، هو بعينه قول المجوس بإضافة الحوادث لصانعين، أحدهما قديم والآخر مُحْدَث، إلا أن الباطنية عبَّرت عن الصانعين بالأول والثاني، وعبَّرَ المجوس عنهما بيزدان وأهرمن، فهذا هو الذي يدور في قلوب الباطنية ووضعوا أساسًا يؤدي إليه.
وكانوا وفق دينهم يرَوْن أن التعبد إنما يكون للنار، فلما لم يمكنهم إظهار ذلك احتالوا عليه بأن قالوا للمسلمين: ينبغي أن تُجَمَّرَ المساجد كلها، وأن تكون في كل مسجد مجمرة، يوضع عليها الندُّ والعُودُ في كل حال. وكانت البرامكة قد زيَّنوا للرشيد أن يتخذ في جوف الكعبة مجمرة يتبخَّر عليها العود أبدًا، فعلم الرشيد أنهم أرادوا من ذلك عبادة النار في الكعبة، وأن تصير الكعبة بيت نار، فكان ذلك أحد أسباب قبض الرشيد على البرامكة.
ويستطرد عبد القاهر البغدادي في ذكر فروع الباطنية وحركاتها هنا وهناك من أجزاء العالم الإسلامي إذ ذاك، ثم يقول: الذي يصحُّ عندي من دين الباطنية أنهم دهرية زنادقة، يقولون بقِدَم العالم، وينكرون الرسل والشرائع كلها، لميلها إلى استجابة كل ما يميل إليه الطبع، ويبطلون القول بالمعاد والعقاب، ويعتقدون أن الجنة نعيم الدنيا، وأن العذاب إنما هو اشتغال أصحاب الشرائع بالصلاة والصيام والحج والجهاد، وأن أهل الشرائع يعبدون إلهًا لا يعرفونه، ولا يحصلون منه إلا على اسم بلا جسم، ويُفصِّل البغدادي القول تفصيلًا في طرق الاحتيال التي كان يستخدمها الباطنية في دعوة الناس إلى فريقهم، وهي طرق أخذها عنه الغزالي في كتابه «فضائح الباطنية» وزادها شرحًا وتوضيحًا، حتى لأراها قد أصبحت على يديه درسًا من دروس علم النفس في وسيلة الإقناع: كيف يقنع إنسان إنسانًا آخر بقبول دعوته حتى وإن كانت تدعو إلى باطل، لكنه يُزيِّن الباطل ويدلسه حتى يصير عند المتقبل وكأنه الحق.
والذين يروج عليهم مذهب الباطنية — فيما يرى البغدادي — إما عامة قَلَّت بصائرهم بأصول العلم والنظر، وإما شعوبية يرون تفضيل العجم على العرب، ويتمنَّوْن أن يعود إلى العجم ملكهم القديم، وإما قوم من بني ربيعة غاظهم أن يخرج النبي من مضر …
فلنذكر من كل هذا شيئًا واحدًا، هو أن هذا الخليط كله داخل في مجموعة «التراث»، عندما ننظر: ماذا يأخذ المعاصر من أسلافه ليكون عربيًّا ومعاصرًا في آنٍ؟ واضحٌ لي أنه لا يأخذ من هذا كله شيئًا.
•••
رب وسيلة أصبحت غاية في ذاتها، ذلك يحدث في حياة الأفراد وفي حياة الأمم وفي حياة الثقافات وفي كل صور الحياة، فقد ضربت الحركات اللاعقلية التي أشرنا إلى أطراف منها، ضربت بجذورها في الأرض ونشرت فروعها في الهواء. ليس ما يهمني الآن هو تفصيلات ما زعمته طوائف الزنادقة من سخافات، ولا ما استهدفت إليه في حقيقة الأمر من غايات سياسية شطرت المسلمين عَرَبًا وفُرْسًا، إنما الذي يهمني فيما أنا بصدد الحديث فيه، هو أوَّلًا وقبل أي شيء آخر ما نتج عن هذا كله من ميل يشد الناس إلى الغيب الملغز المجهول، يريدون أن يصلوا إليه في خفائه، وأن يهتكوا حجب الظاهر ليشهدوا شهادة مباشرة؛ فقد تكون دعوات الزنادقة مقتصرة في أهدافها النفعية العملية على قلة مغرضة هادفة مستغلة، لكن هذا الذي كانوا يدعون إليه قد تسلل — من حيث صحيحه إن لم يكن من حيث تفصيلاته — تسلل إلى قلوب الجماهير؛ لأن جماهيرنا منذ الأزل — أزل التاريخ المدون — مفتونة بالغيب دون الشهادة، بالباطن دون الظاهر، بالخفاء دون العلن، بالإضمار والرمز دون الإفصاح وصراحة التعبير، فإذا وجدت رياحًا تهب علينا من هنا أو هناك، تميل برءوسها نحو المستور المحجوب، مالت معها وهي في حالة من سكر النشوة والوجد.
اجتاحت جماهير الناس موجات من اللاعقلانية الهيمانية، بل ربما كانت هذه اللاعقلانية مفروزة في طبائعها كألوان جلودها، تنفر ممن يحاول إزالتها وتميل مع من يزيدها في أنفسهم رسوخًا، فجماهيرنا دراويش بالوراثة، فإذا عَقِلَ بعضهم كان ذلك قبسًا دخيلًا على طبع أصيل، ولا عجب أن تروج فيهم الخرافات و«الكرامات» والخوارق بأسرع من رؤية البرق إذا لمع.
فكان لا بدَّ من تيار مضاد، كان لا بد من «عقل» ينهض ليلجم الخيال الشاطح في سمادير الوهم، فكان أن ادَّعى الداعي إلى أن تنقل الفلسفة والعلوم من مصادرها. إن كاتب هذه السطور لتساوره شكوك كثيرة بالنسبة إلى الدوافع الحقيقية التي دفعت الدُّعاة إلى نقل الفلسفة والعلوم، ظاهر الأمر قد يعمينا عن باطنه — ومن الخير أن يعمينا — فظاهر الأمر أن خلفاء الدولة العباسية أرادوا الحضارة بكل ازدهارها، فأرادوا أن تُضاف إلى علوم الغرب من لغة وشعر علوم الأولين من هنود وفرس ويونان، وخصوصًا اليونان، لكن الذي يستوقف النظر ولو للحظة قصيرة عابرة أن أصحاب الحركات التي أدت إلى دعوات الزنادقة في لا عقلانيتها هم أنفسهم الذين أخذتهم الرغبة في أن يُترجَم العلم وأن تُترجَم الفلسفة بكل ما يحمله العلم والفلسفة من عقلانية تقيس النتائج على المقدمات، لماذا؟ هل أحسوا إذ أطلقوا مارد العصبية الثقافية أنهم ربما أطلقوا جبَّارًا يهدد سلطانهم فأرادوا له الشكيمة؟
لقد كان الفارق فسيحًا بين ما ينزع إليه الناس بحكم الطبع الموروث، وبين ما نُقلت الثقافة اليونانية لتدعوهم إليه، فالناس في هذه المنطقة من الأرض، وفي ذلك الزمن — على الأقل — إن لم يكن على امتداد الزمن، تهولهم الفجوة الفاصلة بين ظاهر العالم وباطنه، بين المخلوقات وخالقها، ويتشوفون إلى طريق يعبرون عليه تلك الفجوة مستدبرين الظاهر ومقبلين على الخفي الباطن؛ ومِنْ ثَمَّ كانت الرغبة الجامحة في أن يروا ذلك الخفي وقد لبس ظاهرًا ليشهدوه، على حين صميم الروح اليونانية هو هذا الشخص الإنساني بما يمتاز به من منطق ومن إدراك للقيم الموضوعية التي ينظم بها سلوكه فردًا وعُضوًا في جماعة. صميم الروح اليونانية هو أن تنزل الآلهة من قمة الأولمب لتعيش مع الناس، لا أن يتحول الناس إلى دخان ليلحقوا بالآلهة في مساكنها من السماء.
وبرغم هذا الفارق الفسيح، نُقلت ثقافة اليونان، ورحبت بها الصفوة المفكرة كما رحبت بها الدولة الرسمية؛ لتكون أداة فعالة بعقلانيتها في محاربة الحركات اللاعقلانية التي تشد المسلمين إلى ما قبل الإسلام من عقائد زرادشت وماني ومزدك وغيرهم. وكان المتكلمون — والمعتزلة منهم بصفة خاصة — هم أول فئة تستخدم هذه الأداة العقلية اليونانية في دفاعها عن الإسلام وقيمه وعقائده وشرائعه، ولم يكن المتكلمون كلهم من صنف عقلي واحد، بل تفاوتوا في ركونهم إلى العقل درجات، بين متطرف ومعتدل، لكنهم اتفقوا جميعًا على الهدف، وهو تخليص الإسلام مما أوشك أن يصيبه من ردة روحية، تستبدل بوحدانيته ثنوية، وبقيمه الأخلاقية إباحة للشهوة والمتاع، وبتجريده وتنزيهه تجسيدًا وتشبيهًا.
أَفْرِغْ هذا الموقف بطرفيه من مضمونه ومادته، ليبقى لك هيكله وصورته، ترَ الصراع عندئذٍ هو صراعنا الثقافي اليوم، وكل ما في الأمر من خلاف، هو أن موضوعات العقيدة والرأي مختلفة، وأمَّا صورة الموقف فواحدة لم تتغير عبر القرون، فهنالك دروشة تعجب الجماهير العريضة، يقابلها عقل مستعار من ثقافة أخرى، تستخدمه الصفوة القليلة لتقاوم به دروشة الكثرة الغالبة. ليس الأمر مجرد تقابل بين أنصار القديم وأنصار الجديد، أو بين رجعية وتقدمية، كالذي نراه في كل بلد وفي كل عصر، وإلا لما كان فيه طابع خاص يميزنا، وإنما الأمر فيه أكثر من هذا التقابل بين محافظين ومجددين؛ لأنه في حقيقته تعارضٌ بين صوفية الدراويش وعقلية العلماء، مع ملاحظة نضيفها إلى هذا التعارض، وهو أن صوفية الدراويش تلقى الرضا والقول عند عامة الناس، وأن عقلية العلماء تجيء وافدة دائمًا ولا تنبثق من أهل الإقليم. ولقد عنيتُ بصوفية الدراويش تلك الرغبة الحادة التي تدفع الإنسان دفعًا إلى مجاوزة حدود العالم الظاهر لتلتقي وجهًا لوجه بحقيقته الإلهية الباطنة، إن لم يكن بالفعل، فبالأمل والرجاء.
وتلك هي محنتنا اليوم في حياتنا الفكرية والثقافية، كما كانت بالأمس، فلو كان إحياء التراث لنحياه، معناه أن نتقمص هذا التعارض الثقافي بعينه؛ إذن فقد أحييناه وعشناه إلى نخاع النخاع.
وإنه لمما يزيد اليأس يأسًا — بالنسبة لكاتب هذه الصفحات على الأقل — أن الصفوة العاقلة بثقافتها المستعارة، سواء كان ذلك عند أسلافنا الأقدمين أو في مجتمعنا القائم، سرعان ما تنشق على نفسها، فيخرج منها فريق يحارب فريقًا، بأن يستكبر أولهما على ثقافته أن تكون مستعارة، ويعيب على الآخر إقباله المخلص على فكر ليس نبات أرضه، وأمَّا هذا الفريق الآخر فيسقط في يده، لا يدري ماذا يصنع؟ لأنه لا يجد أمامه سبيلًا — إذا أراد ثقافة عقلية إلا أن يفتح لها النوافذ لتهب عليه مع رياح الشمال والغرب — وهو ينظر خصمه المستكبر، فيراه في حالة عجيبة من النفاق الفكري، يأخذ الحسنة من المتصدق بها ثم يستعلي عليه ويشمخ بأنفه كأنه هو الذي أعطى وتصدق!
ولننظر إلى ما كان عليه الأسلاف في هذا السبيل، لنرى أنفسنا في مرآتهم:
نقلوا عن اليونان فلسفتهم وعلومهم، وسرعان ما أطلق عليها اسم «علوم الأوائل» أو علوم القدماء؛ ليعارضوا بينها وبين ما هو «علوم العرب». وكان في علوم الأوائل تلك صنوف العلم على اختلافها، من علوم رياضية وعلوم طبيعية وإلهيات، وما اشتملت عليه هذه الأقسام من طب وفلك وموسيقى وغيرها. ورحَّبَ بتلك العلوم جماعة أرادت أن تستخدمها دفاعًا عن دين الإسلام عقيدة وشريعة ضد أعدائه من مرتدين ومن يهود ونصارى، لكن هل طال معهم هذا الترحيب؟ كلا، فما لبثوا أن تألب منهم فريق على ثقافة اليونان هذه، داعيًا إلى «علوم العرب» وحدها والإعلاء من شأنها، حتى لقد اضْطُر رجل كالغزالي أن يتخذ لنفسه موقفًا وسطًا، ينادي منه إلى وجوب التدبر والتريث، فما كل علوم الأوائل حقيقةٌ بالرفض، فمنها علم الرياضة ومنها علم المنطق، وهما علمان صوريان لا دخل لهما بمضمون العقيدة الدينية، كما سوف نذكر بعد قليل.
لكن المتطرفين من أهل السنة وأتباع السلف، لم يكونوا ينظرون نظرة الرضا إلى أي فكر دخيل، «فالعلم» عندهم لفظة لا تنصرف إلا إلى معنًى واحد، هو العلم الموروث عن النبي عليه السلام، أمَّا ما عدا ذلك فهو إما خارج عن مجال العلم إطلاقًا، وإما هو معرفة لا تنفع ولا تستحق التحصيل، لا، بل إن مثل هذه المعرفة الدخيلة التي لا تنفع، قلما يقف أمرها عند هذا الحد السلبي؛ إذ يغلب أن تجاوزه إلى ضرر فعلي؛ لأنها كثيرًا ما تميل بحاملها إلى الاستخفاف بالدين ودراسته.
ونعود إلى موقف الغزالي، فهو برغم نظرته الموضوعية التي فرَّقَت بين علوم وعلوم، فلم تجد بأسًا في دراسة الرياضة والمنطق من بين فروع الفلسفة؛ لأنها دراسة لا تتعرض في ذاتها بالأمور الدينية نفيًا ولا إثباتًا، أقول إنه برغم نظرته تلك، فلم يفُتْه أن يحذِّر من آفات قد تنجم منهما، فقد تعجبنا الدقة العقلية التي نراها في الرياضة والمنطق، واليقين الذي ينتهيان إليه، فنتوهم أن هذا نموذج لجميع أقوال الفلاسفة مهما اختلفت موضوعاتها، وعندئذٍ نظن اليقين بما ليس من اليقين، بل قد يأخذنا الإعجاب بدقة الفلاسفة كما تتبدى في علومهم الرياضية والمنطقية، ثم يبلغنا عن بعضهم الكفر فنكفر معهم؛ إيمانًا مِنَّا بأنهم أصحاب حق يقيني ودقة معصومة من الخطأ.
وإنَّه لمما يلفت النظر أن الغزالي مع أنه أراد أن يحدَّ من إسراف أهل السنة المتطرفين في رفضهم للفلسفة اليونانية بكل أجزائها، بأن يُفرِّق لهم بين الدراسات الصورية اليقينية كالمنطق والرياضة، وبين الدراسات المتصلة بالطبيعة وبالإلهيات فهذه قد تكون مزيجًا بين حق وباطل، أقول إن الغزالي برغم موقفه هذا المعتدل المعقول، لم يشأ أن يستخدم كلمة «منطق» في صورتها اللفظية الصريحة، عنوانًا لمؤلفاته المنطقية، كأنما أراد لها ألا تلفت النظر بعنوانها، ما دام مثل هذا اللفظ قد امتزج في أذهان المحافظين بالمقت والكراهية، وأخذ يختار لمؤلفاته المنطقية — وهي ليست بالقليلة — أسماء مختلفة، مثل «معيار العلم» و«محك النظر» وما أشبه ذلك (نستثني الجزء الخاص بالمنطق في كتابه «مقاصد الفلاسفة» فها هنا ذكر «المنطق» عنوانًا لموضوع دراسته ذكرًا صريحًا)، أضف إلى ميل الغزالي إلى اجتناب هذا اللفظ في عنوانات مؤلفاته — فلقد بلغت كراهية المحافظين للفلسفة، بما فيها جانب المنطق بصفة خاصة، أن جعلوا دراستها ضربًا من الزندقة، وقيل في ذلك: مَنْ تَمَنْطَق تَزَنْدَق — أنه (أعني الغزالي) قد حرص في دراساته المنطقية أن يبين بطريق غير مباشر نفع المنطق في الدراسات الفقهية، بأن جعل يسوق أمثلته من الفقه، وذلك واضح في كتابه «المستصفى» الذي جمع فيه ما أراد أن يقوله في أصول الفقه، وقدم للكتاب بمقدمة لخص فيها جوانب المنطقة الأساسية.
ذلك كان موقف الاعتدال من الفلسفة اليونانية عند أئمة الفقه، وأمَّا الموقف الشائع السائد فهو الرأي بأن طرق البراهين الأرسطية كما وردت في منطقة خطر على سلامة العقيدة عند المؤمن. وظهرت مؤلفات بأكملها تصدى فيها مؤلفوها للرد على المنطق الأرسطي خصوصًا والفلسفة اليونانية عمومًا. وللشهرزوري فتوى أفتى بها سائلًا سأله عن رأي الدين في الاشتغال بالمنطق تحصيلًا وتعليمًا، وماذا يجب على ولي الأمر فعله بإزاء المشتغلين بالمسائل الفلسفية عمومًا، فأجاب الشهرزوري قائلًا: «إن الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عَمِيت بصيرته عن محاسن الشريعة المطهرة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبَّس بها تعليمًا وتعلُّمًا قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان … وأمَّا المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارعُ ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين، والسلف الصالح، وسائر من يُقتدَى به من أعلام الأمة وساداتها … ولقد تمت الشريعة وعلومها، وخاض في بحر الحقائق والدقائق علماؤها، حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة … فالواجب على السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المياشيم، ويخرجهم عن المدارس، ويبعدهم، ويعاقب على الاشتغال بفنهم، ويعرض من ظهر عنه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أو الإسلام.»
وكذلك كان موقف أئمة آخرين، فابن تيمية معروف بعداوته للفلسفة والمنطق، وله مؤلفات في الرد عليهما. وتاج الدين السبكي يقف في خصومة الفلسفة موقفًا حاسمًا، وإن يكن قد خفف هجمته بالنسبة إلى المنطق، فلم يحرمه تحريمًا كاملًا، فيكفي أن قد اشتغل به أئمة سابقون كالغزالي. وأمَّا السيوطي فيحرم الاشتغال بالمنطق، قائلًا عن نفسه: «كنت في مبادئ الطلب قرأت شيئًا في علم المنطق، ثم ألقى الله كراهته في قلبي، وسمعت أن ابن الصلاح الشهرزوري أفتى بتحريمه، فتركته لذلك؛ فعوَّضني الله تعالى عنه علم الحديث الذي هو أشرف العلوم» (راجع مقالة بقلم المستشرق جولد تسيهر بعنوان «موقف أهل السنة القدماء بإزاء علوم الأوائل» ضمن بحوث ترجمها الدكتور عبد الرحمن بدوي لطائفة من المستشرقين، وجمعها في كتاب عنوانه: التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية).
فإذا كانت الفلسفة عامة والمنطق خاصة يؤخذان دليلًا على النظرة العقلية الخالصة، جاز لنا القول إنه حين نُقلت الثقافة اليونانية لتكون أداة في محاربة التيار اللاعقلي الذي لقيَ عند جماهير الناس أصداء الرضا، وحين التقط المثقفون هذه الأداة ليستخدموها في دفاعهم عن العقيدة الإسلامية في وجوه من أرادوا تحريفها وتجريحها، فإن هؤلاء المثقفين أنفسهم — كما أسلفنا القول — سرعان ما انشقوا على أنفسهم بإزاء العقل ومناهجه وأحكامه، وخرج منهم رجال الفقه، ليهاجموا الفلسفة والمنطق هذا الهجوم العنيف، تاركين علماء الكلام وحدهم في الميدان، أو قل تاركين فريقًا واحدًا من علماء الكلام، هم المعتزلة الذين ثبتت في ميادين العقل أقدامهم لم يتحولوا؛ وذلك لأن من المتكلمين — كالأشاعرة — من استكثر أن يترك العقل وحده حكمًا في الميدان، فقالوا: نجعل للإيمان الصِّرْف قسطًا وللعقل قسطًا.