ضرورة التحول
(أ) من فكر قديم إلى فكر جديد
مواضع الزلل الفكري عند الإنسان لا تكاد تقع تحت الحصر، يهمنا منها الآن موضع واحد، هو أن يتفق الناس على معانٍ مجردة، فيحسبوا أن قد اتفقوا بذلك على التفصيلات الجزئية التي تقع تحت ذلك التجريد، فالناس جميعًا متفقون — مثلًا — على ضرورة «الطعام»، حتى إذا ما أخذوا يعدون لأنفسهم صنوفه اختلفوا ميلًا ونفورًا إلى أبعد درجات الاختلاف؛ حتى ليتقزز منهم نفر مما يجعله نفر آخر موضع الاحتفال والتكريم … وقل شيئًا كهذا في كل شيء: تقول للناس «فن» فلا تجد منهم أحدًا ينفر من الفن، وكيف ينفر والفن في ثيابه وأواني طعامه وعلى جدران داره؟ لكن ادخل معهم في تفصيلات ما يعدُّ فنًّا وما لا يعد، تجد منهم عجبًا، فالفن التجريدي — مثلًا — أو السريالي أو غيرهما من ضروب الفن الحديث، لا يلقى عند كثرة من الناس إلا هزَّ الأكتاف الهازئة وإلا الضحكات المتعجبة الساخرة. وخذ ما شئت من معاني الدين والسياسة والاجتماع، تجد من الناس اتِّفاقًا لا استثناء فيه ولا تردد، لكن أبدأ في ذكر التفصيلات والشروح التي تحملها تلك المعاني، فعندئذٍ تجدهم قد تفرقوا فرقًا يباعد بينها ما يباعد بين القطبين، فإذا كان المجال مجال الدين كفَّر بعضهم بعضًا، أو كان مجال السياسة قاتل بعضهم بعضًا، أو كان مجال أوضاع اجتماعية اتهم بعضهم بعضًا بالرجعية من فريق وبانحلال من فريق آخر.
وذلك لأنَّ الفكرة المجردة من شأنها أن تمحو الفواصل والفوارق التي تميز المفردات العينية الجزئية المندرجة تحت الفكرة، فالقط والكلب والسبع والنمر والحمار والحصان والجمل … كلها «حيوان»، والبرتقال والتفاح والتمر والرمان والموز والبطيخ … كلها «فاكهة»، فقد تجد رجلين يتفقان — مثلًا — على قيمة معينة يتصف بها الحيوان كله، أو تتصف بها الفاكهة كلها، حتى إذا ما نزلا إلى تفصيلات الحياة العملية وجدت أحد الرجلين يقتني في داره كلبًا ووجدت الآخر ينفر من نجاسة الكلب، أو وجدت أحد الرجلين يأكل البطيخ على اشتهاء، ووجدت الآخر يجتنبه لما يصيبه به من نفاخ، والحديث في هذا الباب أوضح من أن نمضي فيه.
وإنَّه ليندر جِدًّا أن يكون الانتقال الفكري من عصر إلى عصر، انتقالًا في المعاني العامة المجردة، كما تدل عليها ألفاظ عامة يتداولها الناس فيما بينهم من أحاديث ومعاملات، وإنما يكون الانتقال الفكري في تغير المضمونات التي يقصد إليها المتحدثون والمتعاملون بتلك الألفاظ العامة والمعاني المجردة. وبعبارة أوضح، نقول إنه لو كانت الألفاظ العامة والمعاني المجردة كئوسًا ومضموناتها هي الشراب داخل تلك الكئوس، أو لو كانت أطباقًا ومضموناتها هي الطعام في تلك الأطباق، فإن الكئوس أو الأطباق ليست هي التي تتغير من عصر فكري إلى العصر الذي يليه، وإنما الذي يتغير هو الشراب في الكئوس أو الطعام في الأطباق، وإلا فقل لي متى كان العصر الذي يتنكر «للفضيلة» بمعناها العام، أو «للعدالة» أو «للحرية» أو «لكرامة الإنسان» أو غير ذلك من المعاني الداخلة في هذا المضمار؟ فهذه ألفاظ تبقى ولا تزول، تجيء حضارة وتذهب حضارة، وتجيء ثقافة وتذهب ثقافة، وتجيء عقيدة وتذهب عقيدة، لكن تبقى ألفاظ «الفضيلة» و«العدالة» و«الحرية» و«الكرامة» إلخ مرفوعة الأعلام، فما الذي يتغير إذن بحيث نقول: ذهبت ثقافة وجاءت ثقافة؟ الذي يتغير هو المضمون الذي نعنيه، فقد تعني العدالة في عصر فكري معين أن يقتص المظلوم من ظالمه متى استطاع ذلك بشخصه، ثم يتغير العصر فتصبح العدالة أن يقف بين الطرفين قاضٍ محايد، وهكذا في سائر المعاني.
ولهذا لن تجد في حياتنا الفكرية المعاصرة معنًى مجردًا واحدًا، نشير إليه بلفظة عامة، إلا أن تجد ذلك المعنى المجرد نفسه وتلك اللفظة العامة نفسها — أو ما يرادفها — واردَيْن في تراثنا الفكري القديم، فهل يكون معنى ذلك أن فكر المعاصرين هو نفسه فكر الأقدمين؟ سوف يكون الجواب أنْ «نعم» عند من يكتفون من الشراب بالكئوس الفارغة، ومن الطعام بأطباقه الخاوية، وهذا على أفضل الفروض؛ لأن الكأس الفارغة والطبق الخاوي أفضل منهما، وقد امتلآ بما لم تعُدِ النفس تشتهيه. سيكون الجواب أنْ «نعم» عند من لا يفطنون إلى تيار الزمن كيف يجرف من العصور المتوالية لبابها الفكري، وإن أبقى لها القشور والأوعية التي كانت تحمل لها ذلك اللباب، وهو إذ يجرف ما يجرفه، فإنما يفعل ليجيء أبناء العصر الجديد فيضعوا في الآنية القديمة لبابًا جديدًا.
أقول ذلك وأنا على علم بمدى التحفز الذي يتحفز به كثيرون، دفاعًا عن تراثنا الفكري، ظنًّا منهم أن هذا الدفاع لا تتم لهم قواعده وأركانه إلا إذا نبشوا في صحائف الأقدمين فأخرجوا لفظًا من هنا ولفظًا من هناك، وجملة من هذا الكتاب وأخرى من ذلك؛ ليثبتوا أن قيم هذا العصر الجديد — وأعني القيم المحمودة الشريفة — قد وردت كلها في تراثنا، وليس بنا حاجة إلى لغو المحدثين، فإن قال المحدثون «حرية» و«مساواة» و«علم» و«عدل»، أجبناهم في انفعال: صح نومكم يا هؤلاء، لقد سبقناكم بكذا قرنًا من الزمان إلى «الحرية» و«المساواة» و«العلم» و«العدل» وغيرها من القيم الرفيعة. ويفوتنا دائمًا أن نتروى حتى نستوثق من أن كئوس هذه الألفاظ ما زالت تحمل شرابها القديم، ولم تستبدل به شرابًا جديدًا، به وحده تسري في أجسادنا روح العصر وبغيره نتخلف لنعيش مع الأقدمين لفظًا ومعنًى، وشكلًا ومضمونًا.
•••
ولأضرب مثلين في شيء من التفصيل، لأوضح ما أريد:
إن من علامات هذا العصر المميزة، أنه عصر «العلم» المقترن ﺑ «العمل»، حتى لتجد فلاسفة عصرنا منصرفين بكثير من عنايتهم وجهدهم نحو تحليل العلاقة بين العلم والعمل تحليلًا ينتهي ببعضهم إلى القول بأن العلم والعمل موصول أحدهما بالآخر، فإذا وجدت «علمًا» مزعومًا لا يجيء بمثابة الخطة الدقيقة لعمل يؤدَّى، فقل إنه ليس من «العلم» في شيء إلا باسم زائف، وأن هذا الفريق من الفلاسفة المعاصرين لينكرون أشد إنكار أن يكون هناك ما يجوز تسميته ﺑ «العلم النظري» الذي لا صلة له بدنيا التطبيق، بل إنهم ليتطلبون من العلماء إذا حددوا مصطلحاتهم العلمية، أن يحددوها بما يسمونه «تعريفًا إجرائيًّا»، أي أن يحددوها بالجوانب العلمية التي تنطوي عليها تلك المصطلحات، فإذا وردت في لغتهم ألفاظ رئيسية لا تشير إلى «إجراءات» فعلية معينة رفضوا مشروعيتها من الناحية العلمية، وإننا لنقول عن عصرنا إنه عصر «التكنيات» (التكنولوجيا)، وما الأجهزة التكنية هذه إلا «الأفكار» العلمية وقد برزت إلى دنيا العمل.
•••
وأعود إلى تراثنا العربي، وبين يدي لفظتا «علم» و«عمل» الدالتان على جانبين يميزان العصر الحاضر وثقافته، فأجدني مع أبي حامد الغزالي في كتابه «ميزان العمل»، وأقرأ، فإذا هو يبدأ فيضع الأساس الذي يريد أن يقيم عليه البناء، وهو أن السعادة لا تُنال إلا بالعلم والعمل … ولو تعجلت النتائج كما يتعجل المتعجلون، لقلت من فوري: الله أكبر! ماذا أبقى القرن الحادي عشر للقرن العشرين من علامات ومميزات؟ لكني تريثت حتى أرى بأي المعاني استُخدمت كلمة «العلم» وكلمة «العمل»؟ ثم لا ألبث أن أجدني في مجال من القول لا يتصل أدنى صلة بما يُراد اليوم حين يُقال «علم» و«عمل». وحسبي أن ألخص النتيجة التي انتهى إليها الغزالي من بحثه، وهي «أن العلم المقصود هو العلم بالله وصفاته وملائكته وكتبه ورسله وملكوت السموات والأرض وعجائب النفوس الإنسانية والحيوانية، من حيث إنها مرتبة بقدر الله، لا من حيث ذواتها؛ فالمقصود الأقصى العلم بالله»، وأمَّا العلم فمقصود به — أساسًا — مجاهدة الهوى، حتى تزول الحوائل التي ربما أعاقت الإنسان عن العلم بالله.
تلك هي النتيجة، وذلك هو مجال القول، وإنها لنتيجة وصل إليها الغزالي بعد سلسلة من الحجاج على درجة عالية من الاستدلال المحكم المتين، ولكنها كذلك داخل مجالها من القول. إنها نتيجة تلزم لزومًا قاطعًا عن المقدمة التي وضعها الغزالي؛ إذ ذكر في حديثه أن السعادة التي يبحث لها عن علم وعمل يحققانها هي «السعادة الأخروية»، وهي سعادة قد تقتضي من الساعي إليها ترك اللذات الدنيا واحتمال عنائها، «فإن المدة في احتمال التعب منحصرة … واللذات الدنيوية منصرمة مقتضية، والعاقل يتيسر عليه ترك القليل نقدًا، في طلب أضعافه نسيئة».
وما دامت هذه هي السعادة المقصودة، فما على المفكر أوَّلًا إلا أن يثبت الحياة «الأخروية» إثباتًا عقليًّا يُفحِم به منكريها، حتى إذا ما أيقن القارئ بصحة الفكرة، انطلق منها إلى ما يترتب عليها من علم وعمل يؤديان إليها، فكانت له النتيجة التي أسلفنا ذكرها.
لست أظنني بحاجة إلى التوكيد بأن المقصود بهذه التفرقة بين طريقتين في استخدام لفظتي «علم» و«عمل» ليس هو أن نجعل إحدى الطريقتين أعلى من زميلتها، بل هي تفرقة لمجرد التفرقة، كما أفرق في دنيا المواصلات — مثلًا — بين السيارة والطيارة، وكل ما يعنيني من هذه التفرقة هو أن ورود الألفاظ في سياقها القديم، ثم ورودها هي نفسها في سياقها الجديد، قد لا يدل على أن الفكر الجديد هو نفسه الفكر القديم، إلا إذا حللنا المراد بتلك الألفاظ فإذا هذا المراد واحد في الحالتين.
فقد أتصور مُفكِّرًا مُعاصِرًا يقابل الغزالي في زمنه، ويتصدى لبحث مثل بحثه؛ ليدل معاصريه على «ميزان العمل» المؤدي إلى «السعادة». أقول إنني قد أتصور مُفكِّرًا معاصرًا يبدأ بداية أخرى غير البداية التي بدأ بها الغزالي ورتب عليها نتائجه، فأوَّلًا هو يتفق مع الغزالي في أن «السعادة لا تُنال إلا بالعلم والعمل»، لكنه يمضي ليقول إن السعادة التي يقصد إليها هي سعادة الإنسان ها هنا على هذه الأرض وفي هذه الحياة الدنيا، وإن هذه السعادة «الدنيوية» التي هي مقصد — لا السعادة «الأخروية» التي كانت هي كل شيء عند الغزالي — إنما تُنال بالعلم والعمل، ولكن أي علم وأي عمل؟ ربما وجد هذا المفكر المعاصر أن العلم المقصود هو العلوم الطبيعية بمعناها الحديث من فيزياء وكيمياء وما إليهما، وأن العمل المقصود هو من قبيل ما يجري في المعامل من تجارب من شأنها أن تخلق لنا من الوسائل والأدوات والأطعمة والأشربة والثياب والمساكن والمواصلات ما لم يكن للعصور السابقة عهدٌ بمثلها.
وأحسب أني لو سألت الآن: كيف ننتقل من فكر قديم إلى فكر جديد؟ كان الطريق إلى الجواب واضحًا، وهو أن أستخدم الألفاظ — التي هي في الحقيقة دالة على رءوس الموضوعات — استخدامًا يساير العصر في مفهوماته ومضموناته حتى ولو كانت هي نفسها الألفاظ التي استخدمها الأولون، لكنهم استخدموها بمفهومات ومضمونات مختلفة.
•••
وأنتقل إلى مثل آخر، هو فكرة «الحرية».
ولعلي في هذه المرة في غِنًى عن كثيرٍ من الشرح الذي اضْطُررت إلى ذكره في الفقرة السابقة؛ لأن التناول طريقته واحدة، فلا يكفي أن أجد على صفحات التراث كلمة «الحرية» مذكورة لأصرخ في وجه القائلين بأن «الحرية» مطلب يشغل عصرنا، ساخرًا بهم، وزاعمًا أنهم يستيقظون الآن لما دعونا إليه نحن منذ كذا قرنًا من الزمان! فقد تكون اللفظة واحدة ومضمونها مختلفًا على ألسنة المعاصرين، عنه على ألسنة الأولين.
والحق أنه لو كان المقصود بالكلمة شيئًا واحدًا في الحالتين، لعجبنا بدورنا أشد العجب من هؤلاء المعاصرين الحمقى، الذين يجعلون من فكرة «الحرية» هذه مدارًا لجزء كبير جِدًّا من نشاطهم الفكري، سواء كان ذلك في مجال الفكر الفلسفي، أو في مجال الفكر السياسي والاجتماعي، وحسبك أن تعرف أن المطابع تخرج عشرات الكتب عامًا بعد عام، ليس فيها إلا غوص في فكرة الحرية هذه، بمعناها عندما يوصف بها الفرد الواحد من الناس، ومعناها عندما يوصف بها المواطن — لا الفرد من حيث هو فرد — بل المواطن من حيث هو عضوًا في مجتمع واحد تحكمه دولة واحدة، ومعناها عندما ترد في ميدان المعاملات الاقتصادية، وهلمَّ جرًّا. ولو قرأ قارئ كتابًا واحدًا لفيلسوف واحد من المعاصرين — وليكن مثلًا من الفلاسفة الوجوديين، الذين عنوا أكثر من سواهم بفكرة الحرية — لأدرك عن يقين أن المشكلة ذات أبعاد وأطراف وأعماق لا يحلها أن يُقال متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أحرارًا، بل قد تجد بعد تحليل قليل أن الناس تلدهم أمهاتهم مكبَّلين لا أحرارًا، مكبَّلين بجهاز نفسي خاص، فيه الغرائز والميول الموروثة والاستعدادات الفطرية، مما لا قِبَل للفرد أن يكون حُرًّا بإزائها، أمَّا أن يقع بصري على كلمة «حرية» في عبارة هنا أو هناك، ثم أسمع المتحدثين عن هذا العصر يقولون إن أزمة الحرية هي من أعقد الأزمات التي يعانيها المعاصرون، وإن الحرب الدائرة أرحاؤها — باردة وساخنة — إنما هي حرب على التحديد الذي تحدد به فكرة «الحرية» ماذا يكون؟ أقول: أمَّا أن يقع بصري على كلمة «حرية» في عبارة وردت في تراثنا، ثم أسمع هذا الحديث كله وأرى هذا الصراع كله في عصرنا حول «الحرية» وتحديدها وأبعادها، فأقول: صح نومكم يا هؤلاء! لقد حللنا العقدة منذ كذا قرنًا من الزمان، فضرب من الخمول الفكري، لو كان ليطول معنا بقاؤه، فلا أظن أن الأمل قريب في نهوضنا نهوضًا بالفعل لا بالكلام، وبالفكر الحي لا بالتثاؤب ونحن نيام.
وأعود إلى التراث، فأجد «الحرية» قد شغلت بالفعل فريقًا من الفلاسفة والمفكرين، ولكن بأي معنى؟
كان المعتزلة أهم من أثاروا البحث في حرية الإنسان، بحيث حرصوا على أن يجعلوا الإنسان قادرًا خالقًا لأفعاله، خيرها وشرها على السواء؛ ليكون مسئولًا عما يفعل مسئوليةً تبرر ثوابه أو عقابه يوم الحساب، قائلين إن العدل الإلهي يقتضي ذلك، ومرجع الإنسان في اختياره لأفعاله هو عقله.
فأنت ترى من ذلك أن المعنى الذي قصدوا إليه «بالحرية» هو حرية الإنسان في اختياره لأفعاله، وهي حرية تحدد علاقة الإنسان بربه، ولا شأن لها بالروابط التي تصل بين الإنسان والإنسان في هذه الدنيا؛ فهي لا تمس علاقة الناس بالحكومة، هل هم أحرار في إقامتها وفي عزلها، ولا تمس صور التبادل التجاري والاقتصادي، بل ليست هي بذات الشأن في علاقة الوالد بولده ولا الزوج بزوجه، إلا من جهة أن الأفعال التي يختارها الإنسان بإرادته الحرة في كل هذه الميادين، تضعه موضع الحساب يوم الحساب.
وقد انشعبت المعتزلة فرقًا كثيرةً، وكان موضوع الإرادة الحرة في اختيار الفعل بين الموضوعات التي أدلت كل فرقة منها برأيها فيها: فالواصلية — وهم أتباع واصل بن عطاء — قالوا «بالقدر» ومعناه قدرة الإنسان على خلق أفعاله ليصبح مسئولًا عنها؛ إذ لا يجوز في رأيها أن يحتم الله على عباده شيئًا ثم يجازيهم عليه.
وأمَّا «النظامية» — وهم أتباع إبراهيم بن سيار النظَّام — فقد زادوا على القول بقدرة الإنسان على اختياره لأفعاله، خيرها وشرها، قولهم إن الله تعالى لا يُوصَف بالقدرة على الشرور والمعاصي، فليست هي مقدورة له، مخالفين بذلك الآخرين الذين قضوا بأنه قادر عليها لكنه لا يفعلها. وكان من إضافات النظام كذلك أن حرية الإنسان في فعله محدودة بقدرته، وأمَّا ما جاوز قدرته فهي من فعل الله، مثال ذلك أن تلقي بحجر فتكون حركته نتيجة قدرتك، لكن إذا بلغت قوة الدفع غايتها، سقط الحجر بحكم طبيعته، أي بفعل الله لأنه هو الذي أنشأ في الحجر طبيعته.
وقصدت جماعة الجَهمية لمعارضة المعتزلة في قولهم بحرية الإنسان في خلقه لأفعاله، إذ الإنسان عند الجهمية — نسبةً إلى جهم بن صفوان — لا يقدر على شيء، ولا يوصَف بالاستطاعة، وإنما هو مجبر في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على غرار ما يخلق في سائر الجمادات، فإذا نسبنا إلى الإنسان أفعاله، كان ذلك على سبيل المجاز، كما تنسب إلى الجمادات أفعالها، حين يُقال — مثلًا — أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس وغربت، وأمَّا الثواب والعقاب فهما جبر من الله.
وبين هذين الطرفين — المعتزلة والجهمية — جماعة وسط، هي جماعة الأشعرية — أصحاب أبي الحسن الأشعري — فقد فصلت بين الإرادة الإنسانية والفعل الذي يتبعها، فعندما يريد الإنسان فعلًا مُعيَّنًا إرادة مخلصة يخلق الله له الفعل؛ وبهذا يكون الفعل مخلوقًا لله، ولكنه مخلوق له عند إرادة الإنسان، لا بإرادة الإنسان.
ذلك هو مجال القول عندهم في موضوع الحرية وما يحيط بها من قدرة وفعل ونتائج تترتب على الفعل، وهكذا، ولست أعرف مفكِّرًا عربيًّا واحدًا تصدى للبحث في الحرية الإنسانية بمعانيها التي هي موضوعات البحث اليوم، ولقد كان مألوفًا أن يحدث التقابل بين «الحر» و«العبد»، فإذا وجدنا كلامًا عن الإنسان الحر، كان ذلك بالقياس إلى الرقيق، فهو حر بمعنى أنه غير مملوك لأحد، وأمَّا حرية هذا الحر ما مداها في أوضاع الحياة الفكرية والعملية، فلا أظن أنها ظفرت بالنظر؛ ولذلك لا أذكر أن الحرية قُرنت إلى «الفكر»، ولا كانت حرية الفكر مشكلة تُثار، الذي أُثير دائمًا هو موضوع الحرية «الفعل» على النحو الذي بيَّناه، وقد يكون ذلك لأن مصدر التشريع — من حيث معيار السلوك — نزل وحيًا أو ورد سنةً عن رسول الله، فكانت مهمة الفكر عندئذٍ هي تحليل النص، لا خلق الفكرة وابتكارها فيما يختص بالنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة في عصرنا هذا الحديث، فلم تكن حرية الفكرة ذات موضوع.
أفيجوز بعد هذا كله أن يسمع سامع عن العصر الراهن أنه منشغل بفكرة الحرية الإنسانية وتحليلها وتحديدها، فيقفز من فوره غاضبًا ليقول: هذه فكرة فرغنا نحن منها، ووضعنا لها أصولها وفروعها منذ كذا قرنًا من الزمان. إني لأقولها صريحة واضحة: إما أن نعيش عصرنا بفكره ومشكلاته، وإما أن نرفضه ونوصد دونه الأبواب لنعيش تراثنا … نحن في ذلك أحرار، لكننا لا نملك الحرية في أن نوحِّد بين الفكرين …
(ب) المبادئ: حقائق هي أم فروض؟
من الكلمات ما قد امتزج بمشاعر الناس امتزاجًا، بحيث باتت تلك الكلمات وكأنما هي المقدسات، التي لا يجوز لكاتب أن يمسها إلا على حذر شديد، فليست هي عند الناس بألفاظ كسائر الألفاظ يستطيع الباحث أن يتحدث عنها حاسبًا أنه يتحدث عن رموز باردة مجردة، مهمتها أن تشير وأن تُسَمِّي، دون أن يكون لها في ذاتها حياة نابضة حساسة، ليست هي كالألفاظ التي من قبيل قولك: «شجرة» و«نهر» و«جبل»، لا، بل هي إلى الكائنات الحية أقرب، إن مسستها بقلمك فقد مسست بالمشرط جهازًا عصبيًّا شديد الحساسية سريع التأثر والهيجان. ومن هذه الكلمات كلمة «مبادئ»، فقد ألف الناس استخدامها مقرونةً بالقيم الخلقية، حتى لأوشك اللفظان أن يكونا مترادفين، إذا قلت عن رجل إنه ذو مبادئ فكأنك قلت عنه إنه على خلق قويم، والعكس صحيح كذلك، أعني أنك إذا رويت عن إنسان بأنه على خلق قويم كانت روايتك منطوية على القول بأنه ثابت على مبادئه.
•••
والأجدر بي — قبل أن أمضي في الحديث — أن أوضح هذه المقابلة بين ما هو حقائق من جهة، وما هو فروض من جهة أخرى، فأما الحقائق فهي ما لا حيلة للإنسان فيه، عليه أن يتقبلها لأنها وقائع قيمة هنالك، رضيَ الإنسان أو كره، ثم يبني عليها إذا شاء، ويستنبط منها النتائج إذا شاء، أمَّا هي نفسها فكيان مستقل عن الإنسان ورغباته وميوله وإرادته، فالمحيطات ماؤها أجاج والأنهار ماؤها عذب، وفي هذه البقعة من جوف الأرض نفط، ولا نفط في تلك، والضوء يسير بسرعة كذا ميلًا في الثانية، وينعكس شعاعه على الأسطح المصقولة بزاوية يتناسب مقدارها مع زاوية السقوط، وهكذا وهكذا مما يستطيع كل قارئ أن يذكر من أمثلته ألوفًا — تلك هي الحقائق التي يتقبلها الإنسان ولا يصنعها، وفي مستطاعه الإفادة منها إلى أي مدًى وسعت قدرته.
وأمَّا الفروض فشأنها آخر؛ لأنها ممكنات يتصورها الإنسان ليستنبط منها النتائج، فإذا قلت لمن أتحدث إليه: افرض أن أ ب ج مثلث متساوي الأضلاع، فماذا تكون الحال بالنسبة إلى زواياه؟ فيجب بعد عملية استنباطية يجريها على هذا الفرض أن زوايا مثلث تساوت أضلاعه يلزم أن تكون هي الأخرى متساوية، وأن هذا الحوار ليتم بيني وبين محدثي دون أن يتحتم علينا إيجاد مثلث من هذا القبيل في عالم الواقع.
وسواء كان الذي بين أيدينا «حقائق» واقعة أو «فروضًا» من عندنا، فهذه أو تلك بداية محتومة لأي تفكير. إنه ليستحيل على العملية الفكرية — كائنة ما كانت مادتها — أن تتحرك قيد شعرة إلا إذا كانت بين أيدينا «نقطة الابتداء» التي منها نسير، وقد تكون نقطة الابتداء هذه هي من «الحقائق»، وقد تكون من «الفروض»، فإن كانت الأولى كانت العملية الفكرية من الضرب السائد في علوم الطبيعة، وإن كانت الثانية كانت العملية الفكرية من الضرب السائد في علوم الرياضة، ولا ثالث لهذين الضربين في عمليات الفكر، فمهما تنوعت موضوعات البحث ألفيتها — بعد شيء من التحليل — إما منتمية إلى النوع الذي يُبنى على الحقائق الواقعة، وإما منتمية إلى النوع الذي يُبنى على الفروض. وقد تُسمى هذه الفروض بأسماء أخرى كالبديهيات أو المسلَّمات أو غير ذلك، لكن ذلك لا ينفي عنها طبيعتها، وهي أنها فروض نفرضها لنستنبط منها، وكان في وسعنا أن نفرض سواها فتخرج لنا نتائج أخرى.
•••
وكلمة «المبدأ» إنما تعني ما يدل عليه لفظها؛ إذ تعني النقطة التي «نبدأ» التفكير من عندها، غير أن نقطة البدء إذا كانت حقيقة واقعة من حقائق الطبيعة، فإنه لا يحسن تسميتها «بمبدأ»؛ لأنَّها عندئذٍ تكون مفروضة على الإنسان، ولا يكون الإنسان هو فارضها، فإذا كان من حقائق الطبيعة أن الضوء يسير بالسرعة الفلانية، ثم أقمنا على هذه الحقيقة بعض نتائجها، فإن اللغة عندئذٍ لا تسيغ أن يقول العالم إن «مبدئي» هو أن سرعة الضوء هي كذا، لكن الأمر على خلاف ذلك حين تكون نقطة البدء من اختيار الإنسان، اختارها حين أدرك أنها قد تعطيه من النتائج أكثر مما يعطيه سواها، وها هنا في وسعه — دون غضاضة — أن يقول إن «مبدئي» هو كذا، وقد يجيء إنسان آخر فيختار لنفسه في الموضوع نفسه مبدأ آخر، ولا يكون بين الرجلين تناقض، فكل منهما بمثابة من ابتنى لنفسه من مبدئه بيتًا يئويه، ثم تجاور البيتان، لا ينقض وجود أحدهما وجود الآخر.
والأمثلة في دنيا الفكر كثيرة لا تُحصى؛ فالفروض في الرياضة هي «مبادئ» مُختارة، ليس فيها إلزام لأحد من غير أصحابها، فقد يفرض الرياضي أن المكان مستوٍ ثم يبني النتائج على فرضه هذا، أو قد يفرض أن المكان كُرِّيٌّ ثم يستنبط، أو أن المكان أسطواني، وهكذا. وإنها لفروض ثلاثة تخرج لنا ثلاث هندسات مختلفة النتائج، لا تنقض واحدة منها واحدة، فكل مجموعة من النتائج تكون صوابًا بالنسبة إلى فرضها الأول؛ أعني بالنسبة إلى «مبدئها».
•••
والديانات المختلفة مثل آخر للنسقات الفكرية التي تنبني على «مبادئ»، كل منها يضع كتابه أمامه «مبدأ» يسير منه ويستنبط، وإنما تكون الأحكام الفقهية في كل دين صوابًا بالنسبة إلى نص كتابها، ولا بد لي هنا أن ألفت الأنظار إلى نقطة هامة وخطيرة، وهي أن المنظومات الفكرية المختلفة، وإن تكن كل منها مستقلة عن الأخرى في صواب أحكامها أو خطأ تلك الأحكام، أعني أن كلًّا منها إذا استشهد على صواب حكم معين، فمرجعه هو مبدؤه، لا مبدأ المنظومة الأخرى، إلا أننا نستطيع المفاضلة بين هذه المنظومات الكثيرة المتجاورة، على أساس ما تؤديه كل منها للحياة الإنسانية من سعادة أو من تسامٍ أو غير ذلك، فالأمر هنا شبيه بأن ترى بيوتًا متجاورة، لكل منها أساسه الذي أقيم عليه، ولكل منها أجزاؤه الداخلية التي بُنيت على ذلك الأساس، فلا يكون بيتٌ منها حجةً على بيت آخر، فقد يهوي أحدهما لضعف أساسه بينما يبقى الآخر بقوة أساسه، لكن استقلال هذه البيوت المتجاورة بعضها عن بعض لا يمنع من المفاضلة بينها من ناحية ما تؤديه في حياة ساكنيها.
•••
على أن الجانب الذي يعنينا هنا هو جانب نظري بحت، فنحن نسوق الأمثلة على المنظومات الفكرية كيف تقام على «مبادئ» أي أن كلًّا منها يختار نقطة يبدأ من عندها السير، وقد ضربنا مثلين هما: مثل العلوم الرياضية، ومثل البناءات الدينية، ونستطيع أن نسوق مثلًا ثالثًا من الفكر السياسي، فها هنا كذلك تبدأ النظرية السياسية من «مبدأ» معين تقيم عليه بناءها كله. خذ مثلًا فيلسوفين إنجليزيين من أصحاب النظريات السياسية المعروفة هما «هوبز» و«لوك». الأول يقيم نظريته السياسية على أساس أن الحق الحكم للأقوى، وأن هذا الأقوى إذا ظفر بالسلطان لم يعد من حق الشعب المحكوم أن يقيله أو أن يعترض عليه. وأمَّا الثاني فيقيم نظريته السياسية على أساس أن حق الحكم لمن يختاره الشعب؛ وبذلك يكون للشعب حق إقالة الحاكم إذا انحرف عما أرادوه من أجله. من المبدأ الأول ننتهي إلى حكم الفرد المستبد، ومن المبدأ الثاني ننتهي إلى حكم الشعب لنفسه، وهكذا نجد أنفسنا أمام منظومتين فكريتين، كل منهما ترتكز على ركيزة، وكل منهما يُحكم على نتائجها بالصواب أو بالخطأ بحسب طريقة استنباطها من مبدئها، فكيف نفاضل بينهما إذا أردنا أن نختار لأنفسنا إحداهما دون الأخرى؟
إننا لا نفاضل بينهما على أساس صواب إحداهما وخطأ الأخرى؛ لأن كلًّا منهما قد تكون صحيحة الأجزاء ما دامت هذه الأجزاء مستنبطةً استنباطًا سليمًا من المنبع، بعبارة أخرى قد تكون كلتا المنظومتين الفكريتين صوابًا على ما بين تفصيلاتهما من اختلاف بعيد، لا، لسنا نفاضل بينهما على أساس الصواب والخطأ؛ لأن كلًّا منهما مبنية على «مبدأ»، والمبدأ «فرض»، والفرض لا يوصف بصواب أو خطأ، وإنما تكون المفاضلة بينهما على أساس النفع للإنسان في حياته، فقد تكون إحدى المجموعتين — برغم صواب الاستدلال فيها — قليلة النفع عند التطبيق في حياة الإنسان العملية، وقد تكون زميلتها غزيرة النفع عند التطبيق العملي؛ فعندئذٍ تكون هي أولى بالتفضيل والاختيار.
وأسوق مثلًا رابعًا لزيادة التوضيح، مثل النسقات الفلسفية، فلكل فيسوف شيء يسميه في فلسفته «بالمبدأ الأول» قاصدًا بذلك الفكرة الأم في نسقه الذي يبنيه، وهي الفكرة التي يعتصر منها كل أجزاء بنائه الفلسفي، فيها يقيم البرهان على كل ما يزعمه بعدها، وأمَّا هي فلا برهان عليها؛ إذ لو كان عليها برهان لكانت فكرة البرهان هي الأسبق في أولويات العقل، ولم يعد «المبدأ الأول» لا «مبدأ» ولا «أول»، فإذا جاء فيلسوف آخر، فالأغلب ألا يوجه نقده إلى الفيلسوف السالف من ناحية طرائقه في استدلال النتائج الفرعية من المبدأ الأول، بل يوجه نقده إلى «المبدأ لأول» نفسه، بأن يضع «مبدأ أول» آخر، فتختلف النتائج، ونصبح أمام بناء فلسفي جديد، والمفاضلة بين البناءين تكون على أساس مدى قدرة كل منهما على تفسير أكبر عدد ممكن من ظواهر الوجود، فالأقدر منهما على التفسير أولى بالتفضيل، فمثلًا كان المبدأ الأول عند أفلاطون هو افتراضه وجود «المُثُل» التي على غرارها جاءت الطبيعة وكائناتها، ثم تبعه أرسطو ونقده، ثم وضع لنفسه مبدأ أول جديدًا، هو فكرة «الصورة والهيولى» زاعمًا بالطبع أنها أقدر من فكرة المُثُل الأفلاطونية على تفسير الوجود.
من هذه الأمثلة كلها يتبين أن «المبادئ» في شتى البناءات الفكرية، ليست «حقائق» تفرض نفسها على الإنسان بحيث لا يكون له قِبَل على تغييرها وتبديلها، بل هي — بحكم طبيعتها — «فروض» يفرضها الإنسان لنفسه حُرًّا مختارًا، وهو يفرضها لتخدم أغراضه، فإن هي أفلحت في خدمة تلك الأغراض كان بها، وإلا فهو يبدلها بسواها حتى يقع على أنفع المبادئ لحياته العملية.
•••
ثم ماذا؟ ماذا نستهدف بهذه النتيجة التي بلغناها؟ ها نحن أولاء قد رأينا وآمنَّا بأن «المبادئ» هي نقاط ابتداء لا بد منها لمسار الفكر، هي نقطة الصفر التي لولاها لما تسلسل العدد، هي خط جرينتش الذي بغيره لا نستطيع تحديد الزمن في أي جزء من أجزاء الكرة الأرضية، ثم ها نحن أولاء قد رأينا وآمنَّا بأن «المبادئ» هي بمثابة فروض يفرضها الإنسان لنفسه، وفي مُكْنته تغييرها ليضع فروضًا أخرى. كان الإنسان ذات يوم — مثلًا — يضع لنفسه مبدأ — أعني يفرض لنفسه فرضًا — هو أن الناس حيث الحقوق والواجبات صنفان: أحرار وعبيد، ثم يرتب على هذه التثنية نتائج ونتائج في إقامة نظامه الاجتماعي، وعلى مرِّ الزمن تغيرت دنياه، فاضْطُر إلى اصطناع مبدأ آخر، هو أن الناس من حيث الحقوق والواجبات صنف واحد: أحرار ولا عبيد، ولو كانت المبادئ من قبيل الحقائق لا الفروض لما أصابها التغيير على مر الزمن، لو كانت من قبيل قولنا إن الماء ينحلُّ إلى نسبة معينة من الهيدروجين والأوكسجين لظلت على حالها إلى أبد الآبدين.
نعم، ها نحن أوَّلًا قد رأينا ذلك عن «المبادئ» وآمنا به، فماذا عندك بعد ذلك؟ عندي أن ما أسلفته هو التمهيد الضروري لما أردت أن أقوله؛ ذلك أني أردت أساسًا أن أقول إن العرب في حاضرهم إذا أرادوا أن يكونوا استمرارًا للعرب في ماضيهم، فلا يلزم عن ذلك أن ينقل الحاضرون عن الماضين كل ما اصطنعه هؤلاء الأسلاف من مبادئ، بل من حقهم أن يغيروا وأن يبدلوا كلمة رأوا الفروض النظرية التي افترضها أسلافهم لم تعد تثمر لهم في حياتهم الثمرة المرجوة، كانت مبادئهم فروضًا فرضوها لأنفسهم لتصلح بها الحياة بظروفها الماضية، ثم تغيرت ظروف الحياة فلم يعد بُدٌّ من تغير الفروض. كان الفرض — مثلًا — أن المسافر في الصحراء لن يجد «فندقًا» ولا «مطعمًا» يأوي إليه إذا جنَّ الليل أو إذا ألمَّ به الجوع؛ وإذن فلا بد — تأسيسًا على هذا الفرض — أن يكون كلٌّ لكلٍّ فندقًا ومطعمًا، وتغيرت ظروف الحياة بحيث أصبح مسافر الصحراء كمسافر الأرض المزروعة سواء بسواء، كلاهما يركب الطائرة من طرف إلى طرف، لا يعنيه ما تحته، أفلاة هو أم حقول؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلم يعد أمامنا محيص عن تغيير الفرض الأول بفرض جديد تنبثق منه أحكام الناس على سلوك الناس من فضيلة ورذيلة.
فالوقفة الصحيحة — إذن — هي أن ما بقيت ظروفه على حالها تبقى مبادئه مثلًا عليا للحاضر كما كانت للماضي، وما تغيرت ظروفه تتغير مبادئه، فالموروث عن الأسلاف هو لنا بمثابة نقاط ابتداء، نُبقي بعضها ونحذف بعضها بحسب ما تقتضيه حياتنا العصرية. ولنضرب على ذلك أمثلة موضحة:
كانت لأسلافنا مبادئ معينة فيما يُعَدُّ شعرًا وما لا يُعَد شعرًا، وفيما يكون أدبًا من النثر وما لا يكون أدبًا، وقياسًا على هذه المبادئ يعمل النقاد، وليس في وسعي الآن أن أتتبع تلك المبادئ تفصيلًا لأقترح ما لا يزال يصلح منها وما لم يعد صالحًا لعصرنا، وحسبي قاعدة واحدة أذكرها — اجتهادًا مني وربما كنت فيه على خطأ — وهي أن الأدب العربي القديم بكل شعره ونثره لم يكن يتطلب من صانعه إلا أن يصوغ في لفظ جميل حقيقة معلومة من قبل، فليس فيه كشف جديد ينكشف لقارئه، تقرأ المقامة — مثلًا — لا ابتغاء الوقوع على تحليل للطبيعة البشرية، بل تقرؤها لترى كيف نُسِّق اللفظ وكيف رُصِّع كما تُنسَّق قطع العاج وتُرصَّع على أبواب المساجد ومنابرها. نعم، لم يكن المبدأ هو أن ينظم الشاعر أو أن يكتب الكاتب كاشفًا للخبيء من طبع الإنسان ولا محلِّلًا للمعقد الغامض، بل ينظم ذاك ويكتب هذا ليقيم البرهان على غزارة علمه باللغة وعيونها. بالطبع كانت هناك استثناءات قليلة أراد فيها الكاتب أن يقول شيئًا — مثل الجاحظ — ولكن القاعدة العامة هي أن الأديب يكتب ليتمزَّز القارئ بجرس اللفظ وحسن ترتيبه وتنسيقه، لا ليعلم منه القارئ عن حقائق الدنيا ما لم يكن يعلم. كان هذا هو المبدأ في الأدب نظمًا ونثرًا، فهل يجوز أن يظل هو مبدأ الأدب في عصرنا الذي تحتم علينا زحمته ألا نضيع من وقتنا دقيقة واحدة دون أن نكتب للناس لنزيدهم علمًا بما ليس يعلمون؟
وهذا مثل آخر، لعله أفدح خطرًا، فقد كان «المبدأ» في نظام المجتمع أن يكون الحاكم هو صاحب السلطان وهو في الوقت نفسه صاحب الرأي، ولم يكن ثمة من غضاضة على النفوس أن يُملي ولي الأمر في حكومة الناس ما يتفق ومذهبه هو ليكون هو المذهب لا مذهب سواه عند المحكومين، بعبارة أخرى كان رأي السلطان هو سلطان الآراء، وليس لأحد بعد قول القابض على سيف القضاء من قول، وبهذا المزج العجيب بين قوة الحكم وسداد الرأي، بحيث يكون الأقوى هو الأصوب، ورثنا مزجًا عجيبًا بين ولاية الحكم وزعامة حتى لم نعد نتصور أن تكون هذه بغير تلك.
وأكتفي هنا بذكر مثل واحد من تاريخنا الفكري، هو ما يُسَمَّى «بالمحنة» الخاصة بالرأي في القرآن، أقديم هو أم حادث؟ فهل تصدق أن الخليفة المأمون — وهو الذي اتسع أفقه العقلي ليقبل التراث اليوناني كله علمًا وفلسفةً، لم يضِقْ به أن يُترجَم إلى العربية — هل تصدق أن الخليفة المأمون هذا هو الذي أرسل إلى وزيره إسحاق بن إبراهيم ليمتحن القضاة والمحدِّثين؛ ليخرج منهم من ضلَّت به السبيل فوصف القرآن بأنه أزلي قديم، فما دام أمير المؤمنين على رأي بأن القرآن حادث ومخلوق، إذن فالقائلون بالرأي المعارض هم — كما ورد عنهم في رسالة المأمون التي أشرنا إليها — «… من حشو الرعية وسفلة العامة، ممن لا نظر له ولا روية ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته … (وهم) أهل جهالة بالله وعمًى عنه وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به … لضعف آرائهم ونقص عقولهم … فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ورءوس الضلالة … وأوعية الجهالة، وأعلام الكذب، ولسان إبليس … إلخ إلخ» (الطبري، ج٨، ص٦٣١ وما بعدها).
وكان من بين الأئمة الذين امتُحِنوا أحمد بن حنبل، كما سبق أن أشرنا في فصل سابق … ونعيد فيما يلي نص محاكمته:
– ما تقول في القرآن؟
– هو كلام الله.
– أمخلوق هو؟
– هو كلام الله لا أزيد عليها.
– ما معنى قوله «سميع بصير»؟
– هو كما وصف نفسه.
– فما معناه؟
– لا أدري، هو كما وصف نفسه …
وإنما أوردت هذه النتفة من محاكمة ابن حنبل لنلمح فيها كيف اضْطُر إمام كهذا كان ينبغي ألا يكون لولي الأمر الحاكم شأن برأيه؛ لأنه أثبت أنه من أصحاب الرأي، حتى وإن لم نتفق معه فيه، أقول: لنلمح كيف اضْطُر إمام كهذا أن يتحفظ في إجاباته حتى لا يقع به مكروه العقاب، ومع ذلك فقد وقع به المكروه.
وأكتفي بهذا القدر من قصة المحنة، فهذه القصة ليست موضوع الحديث، وإنما هي لمحة عابرة أذكرها لأدل بها على «مبدأ» كان قائمًا، وهو أن يكون صاحب الحكم هو صاحب الرأي. والسؤال الذي يهمنا الآن هو هذا: هل يجوز «للعربي» المعاصر أن يبقى على مبدأ كهذا في حياته الفكرية، لكي يجيء استمرارًا للسلف؟ إنه لو كانت «المبادئ» حقائق ثوابت لوقفنا أمامها لا حول لنا ولا حيلة، فما كان لا بد أن يكون والأمر بعدئذٍ لله، لكن المبادئ فروض تتغير إذا تغيرت الظروف، فربما لاءم السلف أن يجتمع السيف والرأي في يد واحدة، لكن هذا الجمع لم يعد اليوم يلائم أحدًا.
•••
وهذا مثل ثالث: كان المبدأ في التعليم أن يكون مداره إعادة الموروث وتحليله وشرحه، فكان العالم هو من ازداد إلمامًا بالتراث وقدرة على فهمه وشرحه وتحليله وإعرابه، فإذا حفظ التلميذ عن شيخه كل هذا، جاز له أن يكون بدوره شيخًا لتلميذ يحفظ عنه، فنتج عن ذلك أن كان مفهوم العلم هو الدراية بما ورد في الكتب، حتى وإن جهل «العالم» كل شيء عن الطبيعة وظواهرها. إن أحدًا لم يكن يتصور مجرد تصور أن يكون «التعليم» تعليمًا لمعالجة الطبيعة، بحيث ينصب العلم على الزراعة وتركيب الآلات وهندسة المدن، فذلك حتى إن وجد شيء منه، كان متروكًا «للخبرة» ينقلها الحرفي الكبير إلى الحرفي الناشئ، ولا شأن «للعلم» به، ونحن لا نذكر هذا لننتقص من شأن الأقدمين، بل نذكره لنؤكد أن هؤلاء الأقدمين كانوا يصدرون عن «مبدأ» في تصورهم للعلم والتعليم، فإذا جئنا نحن في عصر تغيرت ظروفه على النحو الذي نرى، فهل يجوز أن نبقى على المبدأ نفسه؟
قد يُقال: لماذا نذكر شيئًا كهذا ولم يَعُد لذكره مبرر، بعد أن نشأت عند العرب المحدثين جامعات فيها كليات للطب والهندسة والزراعة وغيرها! لكنني لا أظن أني أفجأ القارئ بجديد لا يعلمه، إذا قلت إننا ما زلنا — حتى في هذه الكليات العلمية — نجري على المبدأ القديم نفسه، وهو أن يحفظ التلميذ عن الشيخ، وليس ثمة من فرق بعيد بين أن يكون المحفوظ هو ألفية ابن مالك أو كتابًا في الكهرباء؛ لأن المدار في كلتا الحالتين هو الحفظ الذي يمكن التلميذ من «تسميع» ما حفظه أمام شيخه، وبعد ذلك يسأل السائلون لماذا لا نسهم في دنيا العلوم بإضافات جديدة إلا القليل الذي يمكن تجاهله؟ والجواب واضح، وهو أن «المبدأ» القديم في العلم والتعليم لم يغيره مبدأ جديد.
لقد بدأت حديثي بداية نظرية، فانتهيت به إلى نهاية عملية، بدأته بتحليل نظري «للمبادئ» يكشف عن حقيقتها وعن طبيعتها، وانتهيت إلى نظرات في التحول من قديمنا إلى الحديث، بأنه لا تحول إلا إذا بدأناه من الجذور: من المبادئ، نقتلعها لنضع مكانها مبادئ أخرى فنستبدل مُثُلًا عُليا جديدةً بمُثُلٍ كانت عليا في أوانها ولم تَعُد كذلك، ولا ضيرَ علينا في شيءٍ من هذا، فأسلافنا قد صنعوا الصنيع نفسه، استبدلوا مبادئ بمبادئ، وأفكارًا بأفكار، ومُثُلًا بمُثُلٍ، ولا نريد سوى أن نكون خير خلفٍ لخير سلف.