ثورة في اللغة
(أ) من اللغة تبدأ ثورة التجديد
لستُ أتصور لأمة من الأمم ثورة فكرية كاسحة للرواسب، إلا أن تكون بدايتها نظرة عميقة عريضة تراجع بها اللغة وطرائق استخدامها؛ لأن اللغة هي الفكر، ومُحال أن يتغيَّر هذا بغير تلك، فقد تسود العصر روح دينية صوفية، تبحث عن الغيب وراء الشهادة، عن الخفاء وراء الظهور، عن الثابت وراء المتغير، عن المطلق وراء الجزئي النسبي العابر، عن البقاء وراء الفناء، فعندئذٍ ينعكس هذا كله على طريقة استخدام الناس للغة — في مدارج الثقافة العليا لا في تصاريف الحياة اليومية — فتراهم يجعلونها للإيحاء لا للدلالة، فهي أداة عروج إلى السماء لا وسيلة اتصال بالواقع. ثم قد تسود العصر روح علمانية واقعية، ينشغل الناس فيها بالعلوم الطبيعية والرياضية أكثر مما ينشغلون بالوَجْد الصوفي وتسبيح المتدين، فعندئذٍ كذلك ينعكس ذلك على اللغة، فترى أصحابها يتخذون منها أداة ترمز إلى الواقع المحسوس، أكثر مما يتخذونها عدسات ينفذون منها إلى اللانهاية والخلود، ذلك على وجه التعميم الذي لا ينفي أن يتناثر في الحالة الأولى أفراد أشبه بالعلماء في استخدامهم للغة، كما لا ينفي أن يكون في الحالة الثانية أفراد أشبه بالشعراء في صياغة القول.
فإذا كان الناس في مرحلة من تاريخهم الفكري تشبه الحالة وأرادوا الانتقال منها إلى مرحلة أخرى تشبه الحالة الثانية، كان لا بد لهم من تغيير الأداة. والعكس صحيح أيضًا بالنسبة إلى من يأخذون العلم الطبيعي برقابهم ويريدون الإفلات من قبضته ولو قليلًا، فهنا كذلك ترى الدعاة إنما يسوقون دعوتهم بلغة الإيحاء الشاعرة، لا بلغة الأعلام الواقعية العلمية المحدودة المعنى.
•••
وقبل أن أنصرف بالحديث إلى أنفسنا، أودُّ أن أنقل إلى القارئ لمحةً من النشاط الفكري الذي نشط به الفرنسيون في ثورتهم الكبرى، ليرى معي كيف أنهم ما كادوا يعلنون الثورة السياسية الاجتماعية حتى اجتمع رجال الفكر منهم ليبحثوا في اللغة على أي نحو يتصورونها، وفي أي اتجاه يوجهونها.
ولم يكن قد مضى على الثورة (١٧٨٩) أربعة أعوام حين حلت السلطة القائمة ما كان هنالك من مجامع علمية؛ رغبةً منها في أن تعيد بناءها على خطة جديدة تتفق وروح الثورة التي أرادت أن يستدبر الفرنسيون من تاريخهم مرحلة، ليستقبلوا مرحلة جديدة جدة كاملة شاملة. ومضى عامان بعد هذا الإلغاء، ثم أُنشئ (١٧٩٥) «المعهد القومي للعلوم»، قسموه أقسامًا ثلاثةً: قسم منها للعلوم الطبيعية، وقسم آخر لعلوم الأخلاق والسياسة، وقسم ثالث للفنون الجميلة بما فيها الأدب، ويهمنا في هذا الحديث القسم الثاني — قسم علوم الأخلاق والسياسة — فقد فرَّعوه فروعًا ستة: فرع لتحليل الإحساسات والأفكار، وفرع للأخلاق، وثالث لعلم الاجتماع، ورابع للاقتصاد السياسي، وخامس للتاريخ، وسادس للجغرافيا، شيء يذكرنا بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في الجمهورية العربية المتحدة اليوم.
•••
يقول «فولني»: إنه كلما وقف الناس عند مشاهدة الأشياء الواقعة كما هي واقعة، اتفقوا عليها، وأمَّا إذا رأيت بينهم خلافًا في الرأي، فاعلم أنهم عندئذٍ قد جاوزوا حدود الأشياء الواقعة، ولم يقفوا بمشاهدتهم لها عند ظاهرها المرئي المحدود؛ وإذن فكل ضروب الخلاف بين الناس، بل إن ما يصيبهم من تفكك اجتماعي، إنما ينشأ حين يتصدى الناس في أحاديثهم لأمور تستحيل على المراجعة والتحقيق على أساس الخبرة الحسية وحدها. وهنا خلص «فولني» إلى نتيجة، هي: «ينبغي أن نرسم خطًّا فارقًا بين ما يمكن التحقق من صوابه وما لا يمكن، وأن يُقام سور منيع بين عالم الوهم وعالم الواقع، وأعني بذلك ضرورة إخراج ما يقوله اللاهوتيون إخراجًا عن مجال العلوم الاجتماعية.»
وأمَّا «كاباني» فقد تقدم إلى اللجنة الفرعية ببحوث مستفيضة، عن انطباع الحواس — من بصر وسمع ولمس إلخ — بالأشياء الخارجية، كيف يتم من الناحية الفسيولوجية الصرف، ثم كيف تتحول تلك الإحساسات إلى «أفكار» بعد ذلك. ويكفي «كاباني» هذا من الأهمية في تاريخ الفكر، أنه هو الذي صاغ العبارات التي أصبحت بعد ذلك شعارات لأنصار المذهب المادي في القرن التاسع عشر، مثل قولهم إن المخ يفرز الأفكار كما تفرز الكبد الصفراء، وهم بذلك يعنون أن العالم كله مادة في مادة، وحتى الجانب العقلي منه فيمكن تحليله ورده إلى عضو مادي في الجسم، هو المخ.
•••
عرض «دي تراسي» على الأعضاء أركان هذا العلم الجديد المقترح إنشاؤه والبحث فيه — العلم الذي يكون موضوعه طبيعة الأفكار وما بينها من علاقات — ونظر إلى الأعضاء ليجدهم فلاسفة وعلماء فسيولوجيا، فأسف أن لم يكن بين الأعضاء نحويون، قائلًا: «إن تكوين الأفكار وثيق الصلة بتكوين الكلمات، فكل علم يمكن رده إلى لغة أُجيدت صياغتها، ومعنى قولنا عن علم معين إنه تطَوَّر وتقَدَّم، هو أن ذلك العلم قد ضبط لغته، لا أكثر ولا أقل، ضبطًا يتم إما بتغيير ألفاظه، وإما بأن يجعل الألفاظ القائمة أدق في معانيها.»
كانت الفكرة الأساسية التي أراد «دي تراسي» عرضها على أعضاء اللجنة الفرعية، مستمدةً من الإضافة التي أضافها «كوندياك» إلى «لوك»، وهي أن اللغة ليست لمجرد التعبير عن أفكار تكونت، بل هي جزء لا يتجزأ من عملية التفكير نفسها، فاستنتج «دي تراسي» من ذلك أن تطوير العلوم مرهون بتطوير اللغة؛ وهي نتيجة لها من الأهمية والخطورة ما لا يحتاج مِنَّا إلى بيان؛ لأنه في هذه الحالة يصبح مُحالًا أن يتغير للناس فكر دون أن تتغير اللغة في طريقة استخدامها.
•••
وبالطبع لم يكن «كوندياك» قد أرسل قوله هذا بغير سند وتدليل، بل أوضح (في كتابه «مقال في أصل المعرفة الإنساني»، ١٧٤٦) كيف أن قوام المعرفة تحليل لما يأتي إلى حواس الإنسان مدمجًا، «فلو أدخلنا إنسانًا — خلال عتمة الليلة — قلعة» تطل على منظر فسيح، حتى إذا ما أصبح عليه الصباح فتحنا له النافذة ثم أغلقناها على الفور، بحيث يُتاح له من المنظر كله لمحة واحدة شاملة، فها هنا سينطبع المشهد على بصره، ولكنه لن «يلاحظ» شيئًا مُعيَّنًا فيه، وبالتالي لن يستطيع وصفه لسواه، أمَّا إذا أراد أن «يعرف» ما يرى، كان لا بد للنافذة أن تظل مفتوحة أمامه فترة، تتيح له أن يوجه الانتباه إلى هذا الجزء ثم إلى ذاك. بعبارة أخرى، ما كان قد رآه من المنظر في لمحة واحدة، يجب الآن أن يُفَكَّ إلى عناصره ثم يُعاد ضم العناصر آخر الأمر في مشهد واحد، فعندئذٍ يكون الرائي قد «عرف» المشهد بأجزائه وبالعلاقات التي تربط تلك الأجزاء بعضها ببعض.
على أن المهم هنا هو أن نلاحظ أن هذا التحليل — في رأي كوندياك — مستحيل بغير أن تسايره رموز كرموز اللغة، فكلما وقفنا عند جزء من المشهد كانت عنه لفظة تميزه، كقولنا «شجرة» أو «جدول» أو غير ذلك، فبهذا وحده يمكن بعد ذلك أن يصور الرائي لغيره ما قد رآه، وبغيره تعود الأجزاء فيتداخل بعضها في بعض بغير تمييز. وخلاصة القول أنه لا معرفة بغير تحليل، ولا تحليل بغير رموز، أي بغير ألفاظ … وبعد ذلك يمضي كوندياك فيبين كيف تتطور هذه الألفاظ معنا من إشارتها إلى المفرد الجزئي، إلى إشارتها إلى الكلي الذي يُطلَق على مجموعة متجانسة من الأفراد.
•••
- (١)
هل يتحتم أن يستعين الإنسان برموز (= لغة) لينتقل من إحساسه المباشر بالأشياء إلى مرحلة يحول فيها ذلك الإحساس إلى أفكار؟
- (٢)
هل تعتمد دقة التفكير على دقة الرموز المستخدمة فيه؟
- (٣)
هل يرجع اتفاق المشتغلين بالعلوم المضبوطة النتائج إلى دقة الرموز التي يستخدمونها؟
- (٤)
هل تكون علة الخلافات التي تدب بين المشتغلين في فروع المعرفة التي هي موضع خلاف أن الرموز التي يستخدمونها تنقصها الدقة.
- (٥)
إذا قوَّمنا الرموز المصيبة في دقتها، هل تصبح كل العلوم على اختلاف ضروبها مضبوطة النتائج؟
تلك هي الأسئلة المطروحة للمتسابقين من رجال الفكر، وقد فاز بالجائزة الأولى في المسابقة الأولى رجلٌ لم يكن من الفلاسفة المحترفين، هو «جوزف ديجراندو»، ببحث قدمه في أربعة مجلدات ضخام، يجيب بها على الأسئلة (وكان الثاني هو بيير بريفو أستاذ الفلسفة في جنيف، وكانت إجابات ديجراندو مختلفة عما كان ارتآه كوندياك في علاقة الفكر باللغة، لا في أنه لا علاقة بينهما، فذلك أمر لا اختلاف عليه، ولكن في إمكان أن يتم الفكر أوَّلًا بعملية عقلية صامتة، كل ما فيها انتباه يوحي إلى هذا الشيء أو ذاك، وبعد ذلك يأتي الرمز اللغوي فيجسد الفكرة في لفظ يمكن نقله وتداوله.
فبدل أن نقول مع كوندياك: إنَّ تطور العلم هو نفسه تطور مصطلحه الرمزي، يقول ديجراندو: إنَّ تطور هذا المصطلح واكتمال دقته يأتي بعد أن يكون العلم قد حقق لنفسه التقدم والدقة، كما تأتي الآثار بعد وقوع التاريخ، وبدل أن نقول مع كوندياك إنه مع دقة الرموز اللغوية ترتفع درجات التفاوت بين العلوم المختلفة، وتصبح كلها قائمة على البرهان؛ إذ لا فرق — على حد قوله — بين «المعادلات الرياضية والقضايا المنطقية وأحكامنا على الأشياء»، فكلها تصنع منهجًا واحدًا، بدل ذلك ينبهنا «ديجراندو» إلى أن هنالك مصادر أخرى للخطأ والاختلاف غير دقة الرمز، كاختلاف الناس في المزاج وفي الظروف وفي آرائهم المسبقة وفي اهتماماتهم ومصالحهم، فمع هذه الاختلافات كلها لا يُجدي أن يتفقوا على دقة في الرمز الذي يستخدمونه … إلى آخر ما ملأ به «ديجراندو» مجلداته الأربعة من نظرات.
•••
بمثل هذا شُغل المفكرون في صبيحة الثورة الفرنسية؛ إيمانًا منهم — كما أسلفت — بأن الثورة الفكرية مستحيلة بغير معاودة النظر في اللغة المستخدمة، للعلاقة الوثيقة بين الفكر واللغة، فسواء كان الصواب مع «كوندياك» في دمج الفكر واللغة دمجًا يجعلهما عملية واحدة، أو كان الصواب مع «ديجراندو» في التفرقة بينهما تفرقة تجعلهما متتابعين، وإن يكن اللاحق منهما ضروريًّا للسابق، فهنالك بينهما تلك الصلة القوية على كل حال.
والآن فلنصرف الحديث إلى أنفسنا، في نهضتنا هذه الراهنة، التي تريد لها أن تكون قوية من جذورها إلى فروعها.
وأول ما أودُّ أن ألفت إليه النظر، هو أننا حين نربط الفكر باللغة، فلسنا نقصد أن كل نطق بألفاظ من اللغة يكون فكرًا؛ إذ من النطق ما هو هراء وتخليط كتخليط المجانين، فلا بد إذن من شروط ينبغي لها أن تتوافر في المنطوق ليكون ذا علاقة بما نسميه فكرًا، لقد كان أول ما افتتح به «ابن جِنِّي» حديثه في الجزء الأول من كتابه «الخصائص» هو أن يفرق بين «القول» و«الكلام»، بحيث جعل «القول» ما تتحرك به الشفتان، وأمَّا «الكلام» فلا يكون إلا إذا اكتمل اللفظ حتى بات مستقلًّا بنفسه، مفيدًا لمعناه، فلئن كان كل كلام قولًا، فليس كل قول كلامًا.
تلك ملاحظة أولى، والثانية هي أنني أودُّ أن أُلفت النظر إلى تقسيم بالغة الأهمية، يُفرِّقون به بين نوعين من اللفظ الذي يكون فِكرًا: فنوع منهما يربط — الكلام — بالواقع الخارجي المحسوس، ونوع آخر يربط الكلام بكلام آخر، بحيث يجيء الكلام الأول والكلام الثاني كلاهما — وإن ارتبط أحدهما بالآخر — ولا علاقة بينهما قط بما هو واقع في العالم الخارجي المحسوس، فمثلًا إذا قلت: «إن الكويت واقعة على الخليج العربي»، فهذا كلام ذو علاقة بأمر واقع يمكن رؤيته ويمكن رسمه على الورق، وأمَّا إذا قلت — مثلًا — «إن ركوب البحر أمتع من ركوب الطائرة، ولما كانت الطائرة أسرع من السفينة، كانت المتعة غير متوقفة على السرعة»، فها هنا كلام ارتبط بكلام آخر ارتباطًا أنتج نتيجة، لكن لا «الكلامان» ولا «النتيجة التي لزمت عنهما» تُشير إلى أي شيء في دنيا الأشياء الواقعة، وإني لأرجو القارئ أن يدقق النظر في هذه النقطة؛ لأننا سنرتكز عليها — مع نقاط أخرى — في تحديد النقص في طرائق استخدامنا للغة، وهو نقص لا مندوحةَ لنا عن معالجته إذا أردنا لأنفسنا فكرًا ذا أثر.
•••
وبعد هاتين الملاحظتين أقول بصفة عامة — وهو قول أتفق فيه مع جاك بيرك في كتابه عن «العرب»: إن اللغة العربية كما نراها في التراث الأدبي، وكما لا تزال تستخدم عند كثيرين ممن يظنون أنهم يكتبون أدبًا، توشك ألا تنتمي إلى دنيا الناس، فلا تكاد ترى علاقة بينها وبين مجرى الحياة العملية؛ ولذلك لم يجد المتكلمون بالعربية مفرًّا لهم من أن يخلقوا — إلى جانب الفصحى — لغات عامية يباشرون بها شئون حياتهم اليومية، وقد تقول: أليست لغة الصحافة — مثلًا — من الفصحى، وهي تعالج شئون الحياة العملية من سياسة واقتصاد وأحداث وما إلى ذلك، فأُجيب بأن هذه فصحى قد اقتربت من العامية لتنجح، وليست هي من قُبيل الفصحى التي تراها في التراث الأدبي.
لم تكن الفصحى في تراثنا الأدبي أداةً للاتصال بمشكلات العالم الأرضي، ولا وسيلةً للثقافة المتصلة بحياة الناس وأزماتهم، بل كانت مجالًا للفن الذي يهوم في السماء أو ما يشبه السماء، كان الكاتب بها يعني بالقول في ذاته كيف يجيء مسبوكًا، ثم بالقول الآخر كيف يتولد منه تولُّدًا يُراعى فيه الظرف أكثر مما يُراعى منطق التسلسل الفكري. ولن أنسى ما حييت قصة صبي من ذوي قرباي، كان تلميذًا في مدرسة ابتدائية، طلب أستاذ اللغة العربية منه — ومن زملائه معه — أن يكتبوا موضوعًا إنشائيًّا، خطابًا يوجهه الكاتب إلى أبيه بمناسبة بدء العام الدراسي، فكتب الصبي الذي أعنيه خطابًا إلى أبيه، مهتديًا فيه بالسليقة السليمة الحية، فجعله متصلًا بحياته المباشرة، وذكر له بعض الصعاب التي لقيها في حياته المنزلية مع من كان يساكنهم في المدينة والوالد في الريف، فطعامهم ليس على ما يشتهي، ومخادع النوم تقض المضاجع، والبيت ينقصه المواد الغذائية الأساسية؛ ولذلك أخذ يطلب في خطابه أن يرسل إليه أبوه مع فلان الفلاني شيئًا من البيض والسمن والرقاق … فدهش الأستاذ أن يكون هذا «إنشاءً» عربيًّا، وكانت الدرجة عنده «صفرًا»، وجاءني الصبي يشكو، ويسأل في حيرة: ماذا — إذن — يكتب في خطاب إلى أبيه؟ فعندئذٍ تذكرت ما لم أستطع أن أرويه للصبي؛ لأنه كان أصغر من أن يتابعه، تذكرت ما رويَ لي عن شيخ مرموق من أعلام اللغة كيف علَّم «الإنشاء» لمن كان مصيرهم أن يكونوا أساتذةً للغة في المدارس؛ إذ أخذ يُمليهم بادئ ذي بدء قائمة «بما يُقال في مدح الشيء»، ثم قائمة «بما يُقال في ذم الشيء»، لا يهمه أي شيء هو، وبعد ذلك بدأت كتابة الموضوعات الإنشائية على هذا الأساس، وداخل ذلك الإطار، يطرح على طلابه موضوعًا في «إكرام الضيف»، ثم يسأل: أهو مما يُمدَح أو مما يُذم؟ فيُقال له: إنه مما يُمدَح … إذن فعليكم «بما يُقال في مدح الشيء»، ثم يعقب عليه بموضوع في «النفاق»، فهل النفاق مما يُمدَح أو مما يُذم؟ إنه مما يُذَم، إذن فعليكم «بما يُقال في ذم الشيء».
•••
تلك هي وقفتنا من «اللغة» حين تكتب من أجل ذاتها، إنها عالم وحدها غير هذا العالم، بل إن الأمر لا يقتصر عليها مكتوبة، وإنما يتعدى ذلك إليها مقروءة، أفتحسب أن العرف قد جرى بيننا على أن نقرأ العربية — حين تكون في مستواها الأدبي التقليدي — كما يقرأ عباد الله ما يقرءون ليفهموا؟ كلا، وإن شئت فاستمع إلى التلاميذ في مدارسهم وهم «يطالعون»، المطالعة شيء من الخطابة، وبذلك يتعاون المكتوب والمقروء على الإيحاء بأننا — إذ ندخل في اللغة — فإنما ندخل عالمًا مسحورًا لا عالمًا مألوفًا، هو هذا العالم الذي يطعم فيه الطاعمون ويشرب الشاربون.
الفجوة فسيحة فسيحة فسيحة بين دنيانا الفكرية كما يصورها لنا الكاتبون وبين خبراتنا الشعورية كما يكابدها المكابدون، ليست تلك هي هذه؛ ولذلك لا يقرأ مِنَّا أحد مقالًا أو كتابًا، إلا ويحس كأنما خرج من نفسه ليتقمص أنفسًا أخرى ليست هي أنفسنا، إنما هي أنفس الذين ننقل عنهم إذا نقلنا، أو يحس كأنما خرج من نفسه ليدخل في مجموعة نغمية تقصد أجراسها إلى الآذان ولا تقصد إلى العقول أو القلوب، وليس ببعيد عن ذاكرتنا ما كان يحدث بصغار الأطفال في الكتاتيب، حين يُطالَبون بحفظ أجزاء من القرآن الكريم، فلا يحفظون إلا نغمًا صوتيًّا، لا يدركون من معناه ذرة، وإني لأخجل أن أقول عن نفسي كم عامًا مضى من عمري قبل أن أتبين المفردات التي رُكِّبَت مها آيات حفظتها صغيرًا، كالآية: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ …، أو كالآية الكريمة: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ.
اللغة عندنا نغم يطير بنا عن أرض الواقع، يصعد بنا إلى اللانهائي المطلق، وإن شئت فاختر لنفسك أي كتاب شئت من عيون تراثنا الأدبي، واقرأ مقدمة المؤلف، والأرجح جِدًّا أن تجد نفسك في أحبولة عجيبة من ألفاظ وتراكيب، خيوطها سحرية تصرفك عما يُراد بها من معنًى، لتعكف على النغم والجرس، إنك تقرأ سطرًا كما تقرأ سطرين كما تقرأ عشرين سطرًا، فإحساسك هو أنك واقف مسمر القدمين في مكان واحد، لا تتقدم من فكرة إلى فكرة، إنما هو دوران في لا شيء، فمن الجائز — بل لعله من المؤكد — أن ذلك الضرب من الكتابة كان يتفق ومزاج من لم يرد أن يعمل شيئًا، فهو في فراغ يملؤه بالزخارف، لكنه ضربٌ من الكتابة لا يصلح أداة في عصرنا تصل بين كاتب وقارئ فيما يُراد عمله بالنسبة إلى أوضاع الحياة اليومية الجارية.
•••
لقد أسلفت لك ملاحظة عن الفرق بين ضربين من الكلام: ضرب منهما يتصل بالواقع الذي يتحدث عنه اتصالًا مباشرًا، كقولنا: «الكويت تقع على الخليج العربي». وضرب آخر يصل جزءًا من الكلام بجزء آخر دون أن يكون لأي من الجزأين أو للجزأين معًا شأن بدُنيا الواقع. وضربت لذلك مثلًا قول القائل: «إنَّ ركوب البحر أمتع من ركوب الطائرة، ولما كانت الطائرة أسرع من السفينة، كانت المتعة غير متوقفة على السرعة»، فمثل هذا الكلام قد يوهم بأن في الأمر تفكيرًا، لكنه في الحقيقة «كلام في كلام» لا يعني شيئًا، يوضح لك ذلك أن تقول نقيض هذا الكلام فلا يتغير في العالم شيء، كأن تقول: «إن ركوب الطائرة أمتع من ركوب البحر، ولما كانت السفينة أبطأ من الطائرة، كانت هنالك علاقة بين السرعة ومتعة السفر»، فأنت هنا بإزاء تركيبتين كلاميتين، لا تستطيع أن تصف إحداهما بصواب والأخرى بخطأ؛ لأنه لا صواب ولا خطأ في أمثال هذه التركيبات اللفظية التي تبني كلامًا على كلام، وانعدام الصواب والخطأ فيه علته أنها لا تقول عن دنيا الأشياء شيئًا، فلا المتكلم أفاد ولا السامع استفاد، هو نطق صوتي ينتقل من فم إلى أذن، وانتهى الأمر.
وإنِّي لأزعم — راجيًا أن أكون قد أخطأت فيما أزعم — أن نسبة ضخمة من اللغة التي نتداولها في كتاباتنا الأدبية هي من هذا القبيل الأجوف، لا يقدم حياتنا خطوة إلى أمام.
إنَّ ألفاظ اللغة تتصاعد في درجات متفاوتة من التركيب والتعميم، فقولك «إسماعيل» قد يصعد ليصبح «رجلًا»، وهذا بدوره قد يصعد ليصبح «أمة» ثم يصعد ليصبح «إنسانية». وواضح أنك كلما صعدت من مدارج التعميم والتجريد بعدت عن الواقع الملموس، ولا ضير في ذلك، فالعلوم كلها تعميمات مجردة تبعد عن الواقع الملموس بعدًا شديدًا، لكن هنالك حالتين من الصعود، حالة تندرج من أرض الواقع الحسي إلى سماء التعميم المجرد، تدرجًا لا تنطمس فيه الدرجات، بحيث يستطيع الصاعد أن يعود فينزل إلى الأرض مرة أخرى درجة درجة. فلو سألت عالمًا عن قانون علمي: كيف تبين أنه قانون صحيح ينطبق على الواقع؟ أخذ بيدك هابطًا من تعميم القانون إلى وقائع الأرض المشهورة التي كانت في الأصل نقطة البداية. غير أن هنالك حالة أخرى أمرها غريب، هي حالة يقفز فيها الإنسان إلى ألفاظ عامة مجردة، دون أن تكون هنالك الرابطة التي تربطها بوقائع الأرض، كقولك — مثلًا — «خلود»، هذا معنًى عام غاية التعميم، مجرد أقصى التجريد، ولا بأس في ذلك، لولا أن من يستخدمه يغلب ألا تكون عنده الحلقات الوسطى الموصلة بينه وبين الجذور الأرضية التي منها نبت ونما، وإذن فالكلمة في هذه الحالة رنين أجوف لا يفيد صاحبها علمًا.
وكلما كثرت كلمات كهذه في اللغة التي يستخدمها كاتب أو تستخدمها مجموعة ثقافية من الناس، ازدادت درجة الترجيح عندنا أن ذلك الكاتب، أو هذه المجموعة من الناس، إنما يسبح — أو تسبح — في سمادير، لا تطعم جائعًا ولا تروي ظمآنًا ولا تكسو عاريًا. وإني لأزعم — راجيًا أن أكون مُخطِئًا فيما أزعم — بأن نسبة ضخمة مما نقوله ونكتبه هو من هذا القبيل، وأحسب أني لست بحاجة إلى تنبيه القارئ إلى أنني بهذا لا أقصد أحاديث الناس في حياتهم اليومية، فالحمد لله أن هؤلاء الناس في حياتهم اليومية يعرفون كيف يتفاهمون بلغة دالة على واقع، وإنما أقصد من يقطنون في منازل الثقافة العليا — أو هكذا يظنون.
إنه لا يغيب عني أن نهضتنا الحضارية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين — أو قل إلى يومنا هذا — قد صحبتها بالضرورة نهضة في مجال اللغة، فذلك أمر محتوم في دورات التطور لا مفرَّ منه، لكنني ألاحظ أن النهضة اللغوية قد أخذت مجريين مختلفين، أمَّا أحدهما فطريق سلكه فريق من الناهضين أرادوا باللغة أن تنافس العامية في وسيلة أدائها، وأمَّا الطريق الآخر فهو الذي سلكه فريق ظن أن النهوض باللغة إنما يكون بإحياء القديم وكان الله يحب المحسنين.
وعندي أن الأمل المنشود هو أن تتطور اللغة بحيث تحقق شرطين: أن تحافظ على عبقريتها الأدبية أوَّلًا، وأن تكون أداة للتوصيل لا مجرد وسيلة لترنم المترنمين، ثانيًا: وبغير هذه الثورة في استخدامنا للغة فلا رجاء أن تحقق لنا الوسيلة الأولية التي ندخل به مع سائر الناس عصر التفكير العلمي الذي يحل المشكلات.
(ب) من حضارة اللفظ إلى حضارة الأداء
التحول انتقال من حال إلى حال، وأول الخطأ أن نوجه أنظارنا إلى حال المبتدأ، أو أن نوجهها إلى حال المنتهى، مع أن مرحلة التحول هي الواقعة بين حالين: حال المبتدأ وحال المنتهى. ومن هذا الخطأ في النظر تتفرع الأخطاء، منها أن نقيس الأمور بمعيار الماضي، أو أن نقيسها بمعيار المستقبل الذي سوف يكون، غاضِّين النظر عن الحاضر الذي هو كائن، حاضر الانتقال والتحول، فكأنما الحاضر التحولي هو مرحلة المراهقة في أعوام الإنسان الواحد، فلا هو الطفل الذي كان ولا هو الرجل الذي سوف يكون. وأفدح الخطأ في النظر إلى سلوك المراهق، أن نرده إلى طفولة خرج من طوقها، أو أن ندفع به إلى نضج الرجولة التي ما زالت بالنسبة إليه على مرمى البصر البعيد.
عصر التحول هو عصرنا، فالسفينة تتحرك به بين شطِّين، ولو غفلنا عن هذه الحقيقة الأولية زاغت أبصارنا إلى ماضٍ تركناه، أو شطح بنا الخيال إلى مستقبل مأمول لا نملك بعدُ وسائله، فإذا كانت الأولى التوت أعناقنا، وتحولنا إلى أصنام من الملح، كالذي ألمَّ بقوم لوط إذ لووا أعناقهم لينظروا إلى الوراء أسفًا وحسرةً، وإذا كانت الثانية أصابنا كساحٌ كالذي يُصيب الطفل حين يرغمه أبواه على المشي قبل أن تستقيم ساقاه وتقويا.
يصور «كافكا» صورة هادية، حين تصور إنسانًا أخذه النعاس واستيقظ ليجد نفسه خنفسًا ضخمًا، لقد تحول، فكان لهذا التحول مشكلات العصية العسيرة، فكيف يسير وعلى أي نهج يسلك هذا الإنسان الخنفس، بحيث يرضى عن سيره وسلوكه؟ أيجعل معياره حياة الخنفس، أم يجعله حياة الإنسان؟ إنه لو فعل هذا أو ذاك تجاهل حالته الراهنة، فلا هو بالإنسان حتى يصطنع قواعد الأناسي، ولا هو بالخنفس حتى يحيا كما تحيا الخنافس، إنَّه إنسان خنفس، وإذن فلا بد له من نظرة جديدة، ومن معايير جديدة، وإلا أخذته الحيرة واستبدت به الفوضى وضلله اللبس والغموض، واضطرب بين مجموعتين من المُثُل، فلا يدري بأيهما يأخذ، والصواب هو ألا يأخذ بأيٍّ منهما، وأن يخلق مجموعة من المُثُل ثالثة تصلح لهذا الكائن الجديد.
لا جُناح على الإنسان أن تستقر حياته على قواعد ثابتة، إذا ما رسا فُلكه على شط الوصول، أمَا وهو ما يزال يسبح في اللُّجة، يُلاطم الموج ليصل، أعني أما وهو في مرحلة التحول، فصاحب القواعد الجامدة الثابتة هو المحكوم عليه بالتهلكة والضياع، فالقاعدة الأولى في مرحلة التحول هي ألا تكون هنالك قاعدة تسدُّ علينا طريق المغامرة والمبادرة والخلق. إن «الجديد» لم يتحدد بعدُ حتى يجوز لنا أن نُقَعِّد له القواعد ونُقنِّن له القوانين، الجديد هو في طريق الصنع، نحن الذين نصنعه في مرحلة التحول هذه، نبتكر لكل موقف ما يلائمه، ونلاقي كل مشكلة بما يناسبها. إننا إذ نشكِّل المواقف نتشكل في صورتنا الجديدة، فلا بد أن يكون من صفات هذه المرحلة تغيرٌ كلَّ عام، كل شهر، كل يوم. ليس العيب هو في هذه المراجعة الدائبة لنظم الأسرة، والحكومة، والتعليم، والاقتصاد، وإنما العيب هو في الوقوف عندما كان قائمًا، كأنما هو الأزل الذي لا يبيد.
لقد ارتسمت حقائق الأشياء أمام أفلاطون صورًا سماويةً لا تتبدل ولا تتغير، وعلى الأشياء في دنيا الطبيعة والواقع أن تقترب من تلك النماذج ما استطاعت. كذلك ارتسمت حقائق الأشياء أمام أرسطو أجناسًا وأنواعًا، لكل منها تعريف ثابت ساكن أزلي أبدي، يضعه حيث هو من بقية الأشياء، لكن حقائق الأشياء لا تثبت هكذا ولا تستقر، إلا حين تجمد أوضاع الحياة على حالة هادئة ساكنة يرضى عنها الإنسان، أمَّا حين يزول عن الإنسان هذا الرضا، ويهم بالانتقال إلى حالة أخرى، فعندئذٍ تكون حقيقة الكائنات أنها تتغير، وبخاصة الإنسان، ولا يعيب الإنسان إذ هو في مرحلة التغير، مرحلة التحول، مرحلة السفر، أن تهتزَّ القيم وترتجَّ المعايير، بل العيب هو ألا ترتج هذه وألا تهتز تلك، فلا ينبغي أن تكون لشيء أو لفكرة أو لوضع أو لنظام حصانة تصونه من النقد والتجريح. إن كل الأشياء والأفكار والأوضاع والنظم تريد أن تتغير وتتجدد، فكيف يتم لها ما تريده إذا لم نقع على أوجه النقص فيها، ننقده ونجرِّحه لكي تتكشف حقيقته وتتعرَّى؟
إنَّ الحكم على المستقبل قياسًا على الماضي لا يجوز إلا في حالات الثبات والاطِّراد، أمَّا في حالات التحول، فبحكم الفرض نفسه — والفرض هنا هو أننا «نتحوَّل» — لن يجيء المستقبل على صورة الماضي وغراره، وإذن فلا يحق لأحد أن يحكم بالذي كان على الذي سوف يكون. بعبارة أوضح: لا يجوز اليوم للتقاليد أن تكون حَكَمًا يُبيِّن الصواب والخطأ، «فالتقليد» هو محاكاة الكائن لما كان، ولو جرت هذه المحاكاة لجاء غدنا كأمسنا، ولم يكن ذلك ليستوجب العجب لو كُنَّا في حالة مستقرة من تاريخنا، أمَّا ونحن «نتحول»، فمُحال لغدنا أن يحاكي أمسنا، فلئن كان الاطِّراد في الجماعات المستقرة هو الأصل، والتغير هو الشذوذ، ففي مرحلة التحول ينعكس الموقف ليصبح التغير الدائم الدائب هو الأصل، والثبات المطرد هو الشذوذ.
في الحياة المستقرة يفيد الشبان من خبرة الشيوخ؛ ومِنْ ثَمَّ فواجبهم الخلقي هو في توقير الشيوخ واحترام ما يدلون به من رأي؛ لأنه رأي الخبرة، والخبرة هي صورة الماضي، والمستقبل سوف يجيء على غرار الماضي؛ وإذن ففي رأي الشيوخ إضاءة وهداية. وأمَّا في الحياة المتحولة، ففي كل لحظة جديدٌ لا يعرفه الشيوخ، ولم تعد خبراتهم بالماضي لتفيد حتى وإن أمتعتنا بذكرياتها. إن من يطرد معه سير الحياة يستطيع أن يتعلم الدرس من الماضي ليفيد منه في المستقبل؛ ومن هنا كان يُقال إن قادة الجيوش وهم يعدُّون لحرب آتية بمثابة من يعدُّون العدة لحرب وقعت بالفعل، توقُّعًا منهم أن الموقعة الآتية ستكون كالموقعة الماضية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى رجال الاقتصاد، كانوا وهم يفكرون في مواقف الغد، بمثابة من يحلُّون أزمات الأمس، افتراضًا منهم بأن قوانين الاقتصاد التي تحكمت أمس هي التي ستتحكم غدًا … وذلك كله مفهوم ومقبول في حياة ثبتت أوضاعها واستقرت، أمَّا في حياة «متحولة» فلا قياس لغدٍ على أمس، لأنه لن يكون غدٌ كأمس.
مِفتاح الصواب اليوم هو أن نبدأ بهضم هذه الفكرة هضمًا جَيِّدًا، فكرة أننا في تحول، وإذن فنحن في تغير، وإذن فلا حكم لماضٍ على آتٍ، مِفتاح الصواب اليوم هو أن ننظر إلى حالة التحول هذه من الداخل، لنعيشها ونعانيها. انظر إلى الفارق البعيد بين شجرة الورد وهي تعتمل من باطنها، بكل أليافها وقشورها، وبكل جذوعها وأوراقها؛ لكي تخلق آخر الأمر وردة، تكون ثمرة المعاناة. أقول: انظر إلى الفارق البعيد بين شجرة الورد وهي تعتمل وترهص لتلد وتثمر، وبين من يجيء عابرًا على الطريق فيقطف الوردة جاهزة، يشمها ثم يضعها في عروة سترته! تلك هي حالنا مع ثمرات الحضارة في عصر التحول هذا، فالعالم المحتضر بحق، يعاني من الداخل مخاضًا ليلد الثمرة، ونجيء نحن على طريق الحياة عابرين فنقطف الثمرة من خارج، دون أن تهتزَّ في أبداننا خلية، نقطف الثمرة نظمًا للتعليم ونظمًا للحكم، ومذاهب وفلسفات وأفكارًا، وسيارات وطيارات وفنًّا وأدبًا وعلمًا، نقطف الثمرة ثم نتبجَّح، فإذا قال خالقو الثمرة إنهم يحسُّون في حياتهم قلقًا لأنها حياة متحولة زعمنا — على أقلام كُتَّابنا — أننا نحن كذلك نحسُّ قلقًا مثل قلقهم؛ لأننا في تحول مثل تحولهم. هم هناك يجرعون المر، ونحن هنا نقرأ تركيبة هذا المر كما فُصِّلَت عناصرها على ظاهر الزجاجة من خارج … وأقول إن مفتاح العيش في عصرنا ومعه، هو أن ندرك من الأعماق، ما معنى أنه عصر للتحول، ولن يتم لنا هذا الإدراك واضحًا إلا إذا عرفنا أوَّلًا: تحولٌ مِنْ ماذا؟
•••
في البدء كان الكلمة. هذا صحيح، لكن هل تكون الكلمة في الوسط وفي النهاية كذلك؟ ذلك هو السؤال.
كانت «الكلمة» — في البدء — هي كل ما هنالك، هي الفكرة، وهي الثقافة، وهي المعرفة، وهي المهارة، بل كانت «الكلمة» هي التي ترفع عارفها إلى مكان الصدارة، وتخفض جاهلها إلى الدرجات الدنيا من سلم المجتمع، وارتبطت الكلمة بالكهانة، وبالقداسة، وبالوساطة بين الإنسان والله، فمن قرأها ومن كتبها كانت له قوة السحر في خلق الأشياء وتبديلها وإعدامها، فما على الكاهن الساحر إلا أن يقرأ كلامًا أو أن يكتب كلامًا، لتنفتح له أبواب السماء، وليشفي المرضى، وليفتك بالعدو، ولتربح التجارة، ويسلم المسافر، وينتصر المحارب. كلامٌ ينط ق به القادر على الكلام أو يكتبه، كان هو الكفيل بتيسير العسير وتذليل الصعاب وبلوغ الهدف.
ولم يكن ذلك غريبًا؛ فالكلمة — أعني الرمز إلى الشيء بعلامة تنوب عنه وتُغني عن حضوره — كانت هي الحد الفاصل بين الحيوان والإنسان. لقد ظلَّ الحيوان حيوانًا «أعجم»، فلما زالت برموز اللغة عجمته ارتقى إلى منزلة الإنسان. التطور من الحيوانية إلى الآدمية قد تحقق عندما نطق الحيوان باللفظ الرامز فصار بالنطق إنسانًا، الإنسان هو الحيوان، والناطق هو المفكر، إذ لم يكن فكر إلا بنطق، ولم يزِد الأمر في جوهره كثيرًا عندما أُضيفت الكتابة إلى النطق صورة أخرى لعملية الرمز باللفظ إلى دنيا الحقائق. أَقْسم الله — جل وعلا — بالقلم، وبما يُسطِّر القلم. أقسم بهذه القدرة العجيبة التي أبرزت الإنسان من دنيا الحيوان ليصبح سيدها ومُسخِّرها، أعني قدرة الإنسان على الكلمة ينطقها أوَّلًا، ويَسْطُرها بالقلم كتابةً بعد أن تَحضَّر.
لبث مجردُ النطق بالكلام كفيلًا أن يجعل من الحيوان إنسانًا، حتى ظهرت الكتابة وظهرت معه — بالطبع — القراءة، فلا قراءة إلا لمكتوب، ولا كتابة إلا لما يحتمل أن يُقرَأ. وعندئذٍ اختُصت قلَّة قليلة من الناس بهذا الامتياز العظيم، وأصبح القارئ الكاتب بين الناس ذا قدرة يفعل بها المعجزات، هو وحده القادر على مخاطبة السماء، يخط الطلاسم فينزل المطر بعد جفاف ويهدأ البركان بعد ثورة.
وها هنا كانت المعرفة هي أن تُقرأ وتُكتب، ثم تبليغ المعرفة إلى أقصى درجاتها، حين تبلغ المادة المكتوبة المقروءة أبلغ صورها وأفصحها وأجملها، أعني حين تكون «أدبًا» أو ما يتصل بالأدب بصلات القربى. ولئن كان ذلك كذلك بالنسبة إلى الإنسان عامة، فهو كذلك بصفة أخص، وعلى نحو يلفت النظر بالنسبة إلى العرب الأولين.
اللغة هي عزهم، وهي مجدهم، وهي ثقافتهم، وهي فنهم، وهي علامة إعجازهم، وخصوصًا إذا ما ارتفعت إلى مستوى الشعر. انظر كم بذلوا من جهود في حفظها وصيانتها، ولما نشبت معركة التفاخر بالأصول والأنساب فيما يُسَمَّى بالحركة الشعوبية، طفق المفاخرون بعروبتهم يجمعون ويرصدون، فماذا جمعوا وماذا رصدوا ليقدِّموا علامة السؤدد والأصل الكريم؟ جمعوا الألفاظ ورصدوها، وجمعوا الشعر الذي قاله الأسلاف … صوَّرَ أبو العلاء الجنة وصوَّرَ الجحيم، فلم يكن في جنته أو في جحيمه إلا شعراء أو مَنْ صناعتهم «الكلمة»، وصوَّرً ابن شُهَيد في «التوابع والزوابع» وادي الجن، فلم يعمره إلا بالشعراء والكُتَّاب، حتى البغال والحمير والطير التي صادفها ابن شهيد في وادي الجن ذاك، كانت كلها صانعة للشعر أو منشغلة بنقد الأدب. ولقد حكَّموه بين قصيدة قالتها بغلة وأخرى قالها حمار ليوازن بينهما، وحكم للبغلة بالتفوق، فاحتجت إوزة أديبة هناك على ضلال الحكم وفساده.
كم أمرًا كان يكفيه ليقضي أن يقول صاحب الحاجة قولًا فيقع القول موقع الإعجاب من سامعه؟ جمال الكلمة في ذاته مفتاح للأبواب المغلقة، يفتح الطريق إلى مناصب الدولة، ويفتح الخزائن بالرزق الغزير. كان يكفي لصد الرجل عن قضاء غايته ألا يكون موهوبًا بالنطق الجميل، كما يكفي لإقبال الدنيا بكل زخرفها على رجل أن يوهَب القدرة على صياغة الكلام … «إنَّ الرجل ليكلمني في الحاجة يستوجبها، فيلحن، فأرده عنها، وكأني أقضم حب الرمان الحامض لبغضي استماع اللحن، ويكلمني آخر عن الحاجة لا يستوجبها فيُعرِب، فأجيبه إليها، التذاذًا لما أسمع من كلامه» — هكذا قال عمر بن عبد العزيز، وهكذا كان موقف العربي على إطلاقه.
وليس لهذا الحديث نهاية نقف عندها، فما أظنُّ أحدًا مِنَّا لا يلم بكثير أو قليل بما كان للغة — من حيث هي لغة وكفى — من أهمية وخطر، في الثقافة العربية كلها، لكنَّ الذي يفوتنا إدراكه هو أن هذه الثقافة العربية — في كثيرٍ جدًّا من الحالات — لم يكن يعنيها أن تكون للصيغة الكلامية دلالة في دنيا الطبيعة وعالم الكائنات. إن الصيغ اللغوية إنما تفعل فعلها كله ما دامت حسنة التركيب جميلة الجرس، ولا على صاحبها ولا على قارئها بعد ذلك أن يهتدي بها في تجارة أو صناعة أو سفر أو قتال أو في أي شأن من شئون العيش. هي كالقماش المخرَّم (الدانتيل) يكفينا فيه جمال زخرفه وجودة خرومه وحسن وشيه وتطريزه، ونضعه على المناضد لننظر إليه، بل قد نخزنه في خزانة النفائس لنعلم أنه هناك وكفى، ولا نطلب منه أن يؤدي في حياتنا شيئًا؛ إننا لا نلبسه، بل وقد لا نتزين به. وهكذا قُل في صيغ الكلام التي تؤلف شطرًا ضخمًا من الثقافة العربية، تقرأ المقامة من المقامات، بل تقرأ صفحات طِوالًا عند رجل عاقل كأبي العلاء — في رسالة الغفران مثلًا — فلا تجد إلا الرغبة في إقامة البرهان على أنه يعرف اللغة من حيث هي لغة قائمة بذاتها، لا من حيث هي أداة للمعرفة وناقلة للأخبار والمعلومات عن أشياء الدنيا وكائناتها. اللغة في تراثنا أقرب إلى الأشكال الهندسية، تكفي نفسها بنفسها، منها إلى مسائل الجبر والحساب، يوصل فيها إلى حلول، ماذا تبغي من زخرف هندسي رُكِّبَت فيه مثلثات ودوائر إلا أن تنظر إليه وتُنْعِم النظر؟ لكنك لا تكتفي بمجرد النظر إلى رموز الجبر وأرقام الحساب، بل تسارع إلى السؤال حيالها: ماذا يُراد بها؟ ووقفتك من الزخارف الهندسية هي وقفة المثقف العربي من بناءات الكلام.
وهنا يكون موضع التحول العظيم لينتقل العربي من حال إلى حال، ألم نسأل في ختام الفقرة السابقة قائلين: إذا سلَّمْنا بأن عصرنا هذا هو عصر التحول، فمن حقنا أن نسأل سؤالًا لا محيصَ عنه، وهو: تحولٌ مِن ماذا؟ وها نحن أولاء نضع الجواب: مِنْ حضارة اللفظ إلى حضارة الأداء.
وليس الأمر مقصورًا علينا، بل إنه ليعمَّ الدنيا بأسرها في تحوُّلها الراهن، إنه تحول يسير في خط واحد، ولا مجال فيه للاختيار والتردد؛ إذ هو — دائمًا وفي جميع الحالات — انتقال من ثقافة الكلمة إلى ثقافة العلم المؤدي إلى عمل، بل إن هذا «العمل» لم يَعُد يُترَك على إطلاقه، وإنما هو عمل محدد الخصائص، إذا أريد للأمة أن تكون «معاصرة»، وذلك أن يكون عملًا في دنيا «الصناعة» بمعناها الآلي الحديث، لا بصورتها اليدوية القديمة. الصناعة، والصناعة وحدها، هي طابع التحول الحديث، الصناعة القائمة على علوم وعلى تقنيات، لا القائمة على خبرة العامل الذي مَهَرَ في مهنته.
كان مجتمع ما قبل العلم والصناعة أحد اثنين: فهو إما مجتمع بدائي ما يزال يعيش مع الساحر والكاهن — وقلَّما نجده الآن — وإما هو مجتمع ذو أبعاد عميقة في ثقافته وفي حضارته، لكنهما ثقافة وحضارة لا تقومان على العلوم والتقنيات الآلية، وها هنا تقع الأمة العربية مع سواها من البلدان «النامية» برغم ما لها من مجد ثقافي عريق.
قَتَلَ قابيل أخاه هابيل، فقيل في ذلك إنه رمزٌ على أن الزارع قتل الراعي، وأن مرحلة من مراحل الحضارة البشرية — هي مرحلة الزراعة — قد أعقبت مرحلة أكثر بدائية منها هي مرحلة الرعي. ونريد اليوم من ينهض ليقتل قابيل الزراعة، حتى يُخلي المكان لمرحلة ثالثة هي مرحلة الصناعة الآلية. الصناعة لا تحتاج من الإنسان إلى عضلات ذراعه أو ساقه، وكل ما تحتاج إليه أزرار تَضغط عليها أضعف الأنامل، فتدور العجلات وتؤدي الآلة سائر الشوط كله.
ولو تحقق التحول على هذا الوجه، انتقل الإنسان من فكر إلى فكر، من حياة إلى حياة، من أخلاق ومعايير إلى أخلاق ومعايير. إنه ينتقل من ثقافة «الكلمة» إلى ثقافة «التشكيل» الذي يُغيِّر بها وجه الأرض، ويحاول بعدها أن يُبدِّل وجه السماء وأجرامها، على الأقل بأن يُزيح عنها السحر ويرفع النقاب.
•••
لم يعد في أمر التقدم سِرٌّ — كما يقول «سي، بي، سنو» — لأن طبيعته قد انكشفت، والوسيلة إليه لم تعد تُحيط بها الشكوك؛ فقد كان يمكن للكاتب المفكر منذ نصف قرن أن يسأل: ما سر تقدم هذه الأمة أو تلك؟ أهي أخلاق أبنائها؟ أهو علمها؟ أهي الحرية في نظامها السياسي؟ إلى آخر هذه الأسئلة. أمَّا الآن فلا حاجة إلى سؤال لأن الجواب معروف.
التقدم أينما حدث في عالمنا المعاصر خطواته المحتومة هي: علوم فتصنيع فتهذيب للتقنيات يترك للآلة أن تُسيِّر الآلة، وحتى إن كانت زراعة فهي زراعة تقوم عليها الآلات، لم يعد التقدم مرهونًا «بالعلماء» الفقهاء الذين يقصرون العلم على شروح على النصوص، ثم على حواشٍ تلحق بالشروح، أو الذين يجعلون الفقه «فقهًا» بما هو مسطور في الكتب، مهما كانت لهذه الكتب مكانتها. تلك ثقافة «الكلمة»، ذلك علم «بالكلام»، وفقه بالقراءة والكتابة، تلك جميعها بضاعةُ من أجاد أن يقرأ وقد يُحسن أن ينضد اللفظ في عقود وموشحات ومطرزات، لكن لا تلك الثقافة ولا ذلكما العلم والفقه بمديرٍ عجلات المصانع، ولا برافع لطائرة جناحًا، ودع عنك أن يوجِّه تقنيات الحرب في ساحات القتال.
أحسب أن سلسلة التحولات «المحتومة» عند ماركس والماركسيين هي كما يلي: رءوس أموال تتراكم، فمصانع تُقام بتلك الأموال تعاونها سواعد الرجال ومهاراتهم، فثورة من هؤلاء الرجال العاملين؛ إذ يرَوْن أنفسهم وجهودهم في ناحية، وثمرات عملهم في ناحية أخرى، فاشتراكية تُعطي ملكية أدوات الإنتاج للعاملين، فيكون المالك عندئذٍ عاملًا، والعامل مالكًا، فهو تسلسل يجعل التصنيع سابقًا والاشتراكية نتيجة لاحقة، لكن ما هكذا جاء ترتيب الأمور؛ إذ رأينا — في جميع الحالات بغير استثناء — أن تجيء الثورة الاشتراكية في بلد ما، من روسيا إلى كافة البلدان التي حررت نفسها في آسيا وإفريقيا، ثم يهمُّ الناس بالعلمنة والتصنيع (أريد بالعلمنة أن يتحول نوع المعرفة السائدة من دراسة للنصوص الأدبية التاريخية إلى إجراء لتجارب العلم).
فالتحول في عصرنا هو نحو أن يكون الناس ذوي علم وصناعة، وسواء بعد ذلك أكانت الخطوة المؤدية إلى هذه النتيجة نظامًا فرديًّا أو نظامًا اشتراكيًّا، فها هي ذي الولايات المتحدة في طرف الفردية، والروسيا في الطرف المقابل، طرف الاشتراكية، لكن كلتيهما سواء في العلمنة والتصنيع؛ وإذن فتلك هي العلامة التي لا علامة سواها لأي بلد يُقال إنه قد تحول.
وأعتقد أن الماركسية قد أخطأت خطأً آخر في تنبئها بمجرى الحوادث، فخطأ أول ذكرناه هو ظنها بأن التصنيع أوَّلًا ثم الاشتراكية تجيء بعد ذلك لزومًا، وقد رأينا العكس هو الصحيح؛ إذ ظهرت اشتراكيات كثيرة في بلدان كثيرة، ثم أعقبتها حركات التصنيع. أمَّا الخطأ الثاني فهو في حسبانها أن التحول «محتوم» أراده الناس أم لم يريدوه. والصحيح — كما نراه في تواضع له ما يسوغه في ضآلة علمنا بأطراف الموضوع وتفصيلاته — هو أن هذا التحول مرهون بأن يختاره الناس لأنفسهم ويريدوه ليعملوا على حدوثه.
يا ليته كان أمرًا محتومًا كما ظنُّوا؛ إذن لاستراحت الأمة العربية في تواكلها التقليدي وتراخيها بعد طول مجد وتاريخ. نعم، يا ليته تحول محتوم، لنضمن فعل الإرادة الكونية في أن تنقلنا من «دروشة» النصوص وشروحها وحواشيها، إلى العلم ومخابيره ومعامله، ثم إلى التصنيع بكل تقنياته، لكنه — وا أسفاه — مرهون بإرادة الناس، فما لم نعمل على استحداثه لبثنا حين نحن: نزرع ونقلع — كما يقولون — ثم نجلس تحت ظلال التوت والجميز، نسمع شعرًا وزجلًا ومواويل، أو نتحضر قليلًا فنجلس أمام المذياع — صوتًا وصورةً — لننصت إلى مواعظ الواعظين، أن نتمسك بما نحن فيه منذ قرون، ووالله لولا خشيتي سوء التأويل، لعارضت شاعرنا أحمد شوقي في قوله:
لأقول له: إنما الأمم في يومنا التقنيات ما اطَّرَدَتْ وتغلغلت، فإن همو انعدمت علومهم وصناعتهم وتقنياتهم تخلفوا إلى حيث لا أمل ولا رجاء، اللهم إلا إذا فهمنا الأخلاق بمعنًى يجعل منها أن أعرف كيف أضغط على الأزرار ومتى.
لا، لم أعد أشك لحظة في أن هذا هو الطريق، طريق التحول من تخلف إلى عصرية، وهو أن ننتقل من «معرفة» قوامها الكلام، إلى «معرفة» قوامها الآلة التي تصنع. ولقد وضعتُ كلمة «المعرفة» بين حواصر، لألفت نظر القارئ إلى هذه الكلمة العجيبة، فهي هي موضع الزلل والعثار؛ لأننا نطلقها على ضروب كثيرة من اللغو، ولو استخدمناها استخدامًا دالًّا، لقصرناها على المعرفة العلمية العملية. وعلى هذا الأساس، يكون الانتقال المنشود هو حركة من حالة اللامعرفة إلى حالة المعرفة، من حالة اقتصر مثقفوها على «فك الخط» — كما يُقال — أعني أنهم اقتصروا على القدرة على القراءة والكتابة — وهل تزيد دراسة النصوص على إلمام بالقراءة؟ — إلى حالة يكون المثقفون فيها هم أنفسهم المُصرِّفون للآلات، ألا فلنعلم جَيِّدًا أن الآلة ليست كتلة من الحديد، وإنما هي علم مجسَّد، ومهارة مركزة، إنها هي الحضارة وهي الثقافة.
واعجبًا لقوم — وما أكثرهم في عصرنا — يجعلون من «الثقافة» كيانًا قائمًا برأسه، كأنه ثوب أو مظلة، بحيث يستطيع من شاء أن يستعير الثوب أو يُعيره، ويشتري المظلة أو يبيعها، دون أن يتأثر شيء في مجرى الحياة بتلك الإعارة والاستعارة، أو بهذا الشراء والبيع. وا عجبًا لقوم — وأعترف أنني ما زلت واحدًا منهم للأسف الشديد — ينظرون إلى الثقافة والمثقفين كأنها وكأنهم مهنة ومحترفوها، فقد تسأل أحيانًا: ماذا يصنع فُلان؟ فيُقال لك: إنه مشتغل بالثقافة! على غرار ما يشتغل الناس بغزل الصوف ونسج القماش.
لكن الثقافة لم تكن هكذا — فيما أظن — إلا في عهود الضعف والعقم، وأمَّا في عصور القوة والخلق الحضاري فهي وجهة النظر، تُضاف إلى ما يعمله العاملون تأسيسًا على علم، وإلا فهل تتصور — مثلًا في التاريخ المصري القديم كله — أحدًا كانت حرفته «الثقافة»؟ كان الواحد من مثقفيهم ينحت التماثيل أو يرسم الصور على المعابد أو يُقيم البناء، أو يصوغ الذهب والنُّحاس، اللهم إلا إذا جعلنا «المثقف» عندهم مرادفًا للكاهن، ولو قيل ذلك لكفاني حجة بضرورة أن نتخلص — وبأسرع وقت مُستطاع — من جماعة الكهان في حياتنا، أعني جماعة «المثقفين» الذين يروِّجون لبضاعتهم، وما بضاعتهم إلا كلام في كلام.
عصر التحول عصرنا، ولا تحول لنا إلا إذا أقلعنا بالسفائن من شط ليس فيه، أو لا يكاد يكون فيه، إلا ذرابة اللسان وصناعة الكلام، لنقصد إلى شط آخر، تقوم فيه، لا أقول مهارة الأيدي، فمهارة الأيدي ذهب زمانها أو أوشك، بل تقوم فيه الأجهزة الآلية القادرة بكل ما تقتضيه من علم وكفاءة عند الإنسان الواقف خلفها.
وتسألني: وماذا نحن صانعون بآدابنا وفنوننا ومعارفنا التقليدية كلها، والتي كانت تحتكر عندنا اسم «الثقافة»؟ فأجيبك بأنها مادة للتسلية في ساعات الفراغ، ولم أعد أقول — كما قلت مِرارًا مُقلِّدًا هيوم وجاريًا مجراه — لم أعد أقول إنها خليقة بأن يُقذَف بها في النار. وحسبي هذا القدر من الاعتدال، ابتغاء الوصل بين جديد وقديم.
(ﺟ) نقلة من اللفظ إلى معناه
فكرة تؤرقني كلما أصبحت أو أمسيت، وأحسبها مؤرقة لكثيرين غيري، ممن يعنيهم أن تكون لنا — في عصرنا هذا بكل خصائصه — ثقافة عربية لا تُخطئها عين ولا أذن، أم هل يكون هذا السعي وراء تفرد متميز، سعيًا وراء أوهام وأشباح، في عصر من خصائصه أن تُقال الكلمة هنا، فتدور حول الأرض في مثل اللمحة بالبصر؟
ما هي الصفة أو الصفات الرئيسية، التي عنها تتفرغ صفات، إذا ما وقعت عليها عين الرائي في صورة أو تمثال، أو استمعت إليها أذن في قصيدة أو قصة، قال الرائي من فوره — أو السامع — هذا فن عربي وهذا أدب عربي، أُنشئ في النصف الثاني من القرن العشرين؟ أم ترى ليس لسؤال كهذا من جواب؟
أمَّا أن الثقافة الإقليمية قد كانت لها الخصائص المميزة في العصور السابقة، فذلك ما لست أظنه موضع خلاف، فقد كان معلومًا ومتفَقًا عليه أن الفرنسيين — مثلًا — يتميزون في فكرهم بالوضوح الرياضي، الذي يضع لنفسه المقدمات اليقينية ليستنبط منها نتائج يقينية كذلك، كما استن لهم إمامهم ديكارت، وأنهم من أجل هذه الرغبة في كمال الدقة — أو دقة الكمال — بذلوا عناية ملحوظة في الصقل الشكلي كلما أنتجوا أدبًا وفنًّا، حتى لو جاء هذا الشكل المصقول على حساب المضمون نفسه، فالمسرحية عند راسين أو كورني، هي — كالنسق الفلسفي عند ديكارت — بناء مُحْكَم، متصلة حلقاته في غير زائدة هنا أو ناقصة هناك، بل إن العارفين بالحياة الفرنسية فيما مضى ليقولون كذلك، إن نظم الحكم وأساليب الإدارة كانت عندهم بهذه الدقة نفسها — أو قل بهذه الآلية نفسها — التي عُرِفوا بها في مجالات الفكر والأدب والفن، فلم يكن ثمة فارق — من حيث الجوهر — بين النسق الديكارتي والمسرحية الكلاسية وبيروقراطية الإدارة في دواوين الحكم.
وكان معلومًا ومتفقًا عليه أن الأمريكيين — وهذا مثل ثالث — قد بنَوْا فكرهم على قاعدة المنفعة، فالفكرة تُقاس بنفعها، فهي صواب إذا نفعت وهي خطأ إذا لم تنفع، ولا يكفي عندهم أن يُقاس صواب الفكرة بسلامة استدلالها، من فكرة غيرها، وإلا دارت الطاحونة على خلاء، وأمحلت الأرض وسكنت العجلات وجاعت البطون. وإنك لتجد لهذا المبدأ انعكاسات شتى في السياسة والتربية والأدب والفن، فليس للسياسة عندهم غايات في ذاتها تدوم دوام الأبد، بل إن وقفاتها لتدور مع المنفعة المرجوة وجودًا وعدمًا، وليس للتربية مواد يتحتم درسها في المعاهد مهما تكن الظروف، بل التربية إعداد للفرد يعينه على النجاح في المصانع والأسواق، والأدب عندهم مليء بأمثلة تدل على أن مدار القيمة هو على النجاح، وعلى أن هذا النجاح يُقاس بمقدار الكسب ومنه سدت أمامه موارد الكسب اضطربت نفسه إلى حد الموت في كثيرٍ من الأحيان.
•••
وإنَّ الحديث ليطول بنا إذا تعقبنا الثقافات الإقليمية كيف كانت تتنوع بخصائص تميز إحداها عن سائرها، لكنه لا بد لنا من وقفة عند الثقافة العربية القديمة، لنسأل عن خصائصها البارزة المميزة؛ تمهيدًا لانتقالنا بعد ذلك إلى الحديث عن الثقافة العربية المعاصرة ماذا نريد لها أن تكون. وأحسبني لا أضل طريقي إلى الصواب ضلالًا بعيدًا إذا زعمت أن المقدمة الأولى التي أستطيع أن أستخرج منها الخصائص الفرعية للثقافة العربية القديمة هي التعارض الحاد بين الذات والموضوع، فلا سبيل عند العربي إلى خلطه بين ذات نفسه من جهة، والأشياء في عالم الواقع من جهة أخرى، فهو هنا في ناحية وهي هناك في ناحية أخرى، وعليه بعد ذلك أن يحدد علاقته بها، أيجعلها علاقة الزاهد فيها التارك لها، أم يجعلها علاقة الغالب المنتصر المسيطر؟ إنه لا يدع نفسه تسري في الأشياء، ولا يدع الأشياء تسري في نفسه، إنه بالنسبة إليها في عزلة ووحدة، ولكنه — وهذه هي النقطة الهامة الخطيرة التي أجازف فأقذف بها قذفًا — ولكنه يستعيض عن «الأشياء» بألفاظ، ومِنْ ثَمَّ جاءت حياة العربي في «لغته» أكثر مما جاءت في أشياء بيئية، ومن هنا أيضًا كان للغة العربية ما كان لها من سيطرة عليه ومن جذب له، فكم ألْف بحثٍ أداره العربي حول لغته؟ وكم جعل العربي لغته منظارًا ينظر خلاله إلى ما أراد النظر إليه؟ وإذا أراد تقويم قطعة أدبية فذلك إنما يكون بالنظر في ألفاظها وتركيب تلك الألفاظ قبل أن يكون بالبحث عن المضمون وما يستتر فيه من أضواء وظلال. إني لأذكر في شيء من الغموض قول أديب عربي حديث — لعله مصطفى لطفي المنفلوطي — حين قال إنه يفضل أن يقرأ وصفًا جميلًا لبستان، على أن يشهد البستان نفسه. وسواء قالها المنفلوطي، أو قالها سواه، أو لم يقلها أحد، ففي هذه العبارة صدق يكاد يجعل منها مفتاحًا لخصائص الثقافة العربية كما كانت طوال العصور، والكلام هنا بالتعميم والإجمال لا بالتفصيل والتحديد.
إننا لنزداد لذلك فهمًا ووضوح رؤية، إذا وضعنا نصب أذهاننا هذه الحقيقة الآتية، وهي أن هنالك في حياة الإنسان عالمين يعيش في أحدهما أو في كليهما بنسب متفاوتة، عالم الطبيعة من جهة، وعالم الرموز (وخصوصًا رموز اللغة) التي يبتكرها الإنسان ليشير بها إلى الطبيعة وأشيائها وكائناتها، فهناك الشجرة التي هي نبات، وهنالك إلى جنبها «الشجرة» التي هي كلمة تُكتَب أو تُقال، فمن مجموع الأشياء يتكون عالم، ومن مجموعة الألفاظ والرموز يتكون عالم آخر، وقد تجد من الناس من يؤثر الخوض في العالم الأول، وقد تجد منهم من يؤثر السكنى في العالم الثاني، الأولون يعالجون الأشياء ذاتها بالرؤية واللمس والتشكيل، والآخرون يكتفون من الأشياء برموزها، فيكتبون ويستنبطون عبارة من عبارة ويشتقون لفظًا من لفظ، ويئولون النصوص ويفسِّرون الأحاجي والمعميات، والزعم هنا هو أن المثقف العربي كان يفضل الإقامة في عالم اللغة أكثر جِدًّا مما يطيل البقاء في عالم الأشياء.
اقرأ معي حديث الليلة السادسة في كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، وهي أمسية كان الحديث فيها عن خصائص الأمم، وكان المتحدث هو ابن المقفع، فأوجز الحديث عن العرب في قولهم إنهم «أهل بلد قفر ووحشة من الإنس، احتاج كل واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله.» وهو إنما قال ذلك ليدل به على أن العرب خير الأمم جميعًا، فهم لا ينقلون العلم عن أحد، إنما يعتمدون جميعًا على ومضات بصائرهم، أي أن العربي لا يحيا «في» الأشياء، بل يحيها «معها»، وهو في انفصاله هذا عن الأشياء تراه يلحظها ويدون صفاتها كما يرصد الصانع عدته، لا كما يؤاخي الصديق صديقه «علموا أن معاشهم من نبات الأرض» — كما يقول ابن المقفع في السياق الذي ذكرناه — «فوسموا كل شيء بسمته … ثم علموا أن شربهم من السماء، فوضعوا لذلك الأنواء … واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض، فجعلوا نجوم السماء أدلة على أطراف الأرض وأقطارها فسلكوا بها البلاد.» أي أن أشياء الطبيعة عند العربي أدوات تُستخدَم للنفع ويُجتنَب بها الضرر، ولكنه يقف منها — قبل ذلك وبعد ذلك — موقف المعتزل المحايد، الذي لا يحب ولا يكره، أمَّا الذي ينغمس فيه مَرِحًا فرحًا نشوان، أمَّا الذي يعاشره متغزلًا متعشِّقًا مأخوذًا بجماله هيمانًا بفتنته، فهو «اللغة»، يتذوق ألفاظها وتراكيبها كأنه يتذوق طعامًا يأكله وشرابًا يشربه.
إن نظرة طائرة سريعة إلى الفن الإسلامي، كافية للتفرقة بين هذا الفن والفن اليوناني — مثلًا — أو الفن الهندي، أو الفن الفرعوني القديم. الفن الإسلامي هندسي يقيم أشكاله من خطوط وزوايا ومربعات ومثلثات ودوائر، إنه لا يرسم كائنات الطبيعة وأشياءها لأن هذه الكائنات لا تمتزج بنفسه، ولا العربي الفنان يسعى إلى مزج نفسه بها، إنه إعلان من الفنان العربي بانفصال ذاته انفصالًا تامًّا عن الأرض وكائناتها، إنه احتجاج على المتناهي ولياذ باللامتناهي؛ لأنَّ عين الرائي إذ هي تتابع قطعة من «الأرابسك» لا تصدمها نهاية تفرض عليها الوقوف عندها، بل هي تسترسل في سلسلة الأشكال الهندسية إلى غير نهاية معلومة، وكذلك قل في قصيدة الشعر عند الشاعر العربي، لماذا يحددها «بوحدة» عضوية تحكم أولها وآخرها، لماذا لا يدع أبياتها — كوحدات التركيب الهندسي — تتعاقب إلى غير نهاية مفروضة محددة؟ وإنه لمما يزيد مسافة البعد بين المثقف العربي والأشياء، أنه لم يكن ينظر إلى هذه الأشياء على أنها مجسدة لقوانين، ولو فعل لازدادت عنايته بها — لا من أجل ذاتها — بل استخراجًا للقوانين الخافية وراءها.
ولهذه النقطة الأخيرة عندنا أهميته البالغة؛ لأنك إذا نظرت إلى أشياء الكون على أنها كائنات مفردة لا تجمعها قوانين وقفت منها وقفتك من كثرة، لا وقفتك من كيان موحد، وبالتالي أحسست بدهرك وقد تحول إلى لقطات وومضات ولحظات، وإن هذه اليقظات — على وقدتها وسطوعها — من شأنها أن تحلَّ فكرة المصادفة المفاجئة محل القانون الدائم، وفكرة العفوية التلقائية محل الخطة الطويلة المدى.
•••
وأعود إلى استئناف الحديث فيما بدأت به، وهو أن الثقافات الإقليمية كان لها من الخصائص ما يميزها، واحدتها عن الأخريات، وقد نصيب الآن أو نخطئ في تشخيص الملامح الرئيسية لكل ثقافة على حدة، لكن المبدأ العام متفق عليه، والسؤال الآن هو: هل تبقى هذه الفوارق في عصرنا بكل ما فيه من وسائل النقل السريع؟ وإذا بقيت، فماذا نريد لخصائص الثقافة العربية المعاصرة أن تكون؟
أمَّا السؤال الأول فجوابه عندي هو أن وسائل النقل السريع في عصرنا لن يسعها أن تنقل إلا ما يمكن نقله، فهي تنقل الأفكار والأخبار، ولكنها لن تنقل نبضة من قلب إلى قلب، وإذن فستبقى الخصائص المميزة للثقافات المفردة، مهما اتسع النطاق المشترك بينها في حقائق العلم وفي قيم الأخلاق وفي عادات العيش وطرائق العمل والفراغ، إننا لا نقول بهذا إن بين الأمم فوارق بحكم الفطرة أو بحكم التكوين، لكنها فوارق تنشأ نتيجة لعوامل التاريخ، ولكل أمة تاريخها، ولكل أمة ماضيها الذي أصبح — أو يجب أن يكون — جزءًا من حاضرها، فمثقفو اليوم بغير تراث ينظرون إليهم، هم حبات مفردة يعوزها الخيط الذي يسلكها في عقد واحد، وكذلك لو هبط علينا التراث بغير مثقفين يتناولونه تناوُلًا خلَّاقًا فيه مشاركة وإبداع، يظل قشرة ولا لباب.
وأمَّا السؤال الثاني فهو مربط الفرس، وجوابه هو ما يثير في نفوسنا القلق والحيرة، ماذا نريد لخصائص الثقافة العربية المعاصرة أن تكون؟ والجواب الذي أُلقي به هنا راجيًا أن يكون موضوعًا للمراجعة وموضوعًا للتصحيح، هو أن نبني على أساس تقليدنا الثقافي طابعًا جديدًا، يبقى على الأساس، لكنه يضيف إليه، فإذا كنت قد أصبت حين زعمت أن «روح» تراثنا الثقافي، هو إيثار السكنى في عالم اللفظ على معالجة الأشياء والفتنة باللغة في ذاتها حتى لتصرفنا — أو تكاد — عن دنيا الكائنات والحادثات التي ما جاءت اللغة إلا لتكون رموزًا مشيرةً إليها، فإنني أودُّ لو أننا احتفظنا بهذا الحس الجمالي نحو اللغة، ثم أضفنا إليه حسًّا آخر، يجاوز اللغة إلى ما عداها، يجاوزها إلى دنيا الطبيعة والحوادث. إن الماء السائغ الزلال لذيذ حين يُطفئ الظمأ، لكنه لو زاد على هذا الحد فقد يؤدي إلى شَرَق أو غَرَق، وكذلك اللغة الجميلة الفاتنة، يكون لها سحرها ما دمنا نقف منها عند حدود فنونها، لكنها تنقلب إلى ما يشبه المخدر إذا جعلناها حجابًا يحجب عَنَّا ما وراءها. وإذن فلا بد للثقافة العربية المعاصرة أن تُضيف إلى اللغة الجميلة لغة «قبيحة» — وأنا أتعمد هذه المغالاة في اللفظ لألفت النظر — نعم، لا بد أن تُضيف ثقافتنا العربية المعاصرة إلى الجانب الجميل من اللغة، لغة شائهة قبيحة ينفر منها النظر والسمع، فيُسرع الإنسان إلى مجاوزتها إلى دنيا الوقائع الكائنة على أرض الحوادث.
إنه إذا كانت الترجمة من لغة إلى لغة أخرى أمرًا متعذَّرًا في جميع الحالات، فهي لا شك أكثر تعذُّرًا إذا أردنا ترجمة ما يكتبه مثقفونا بلغتنا العربية الجميلة؛ وذلك لأن هؤلاء المثقفين تفتنهم الألفاظ وجرسها، فيقفون عندها ويطيلون الوقوف، فينتهي بهم الأمر إلى غير حصيلة فكرية يمكن نقلها بالترجمة إلى لغات أخرى، فلكي تكون لنا رسالة فكرية نسهم بها في عالمنا الصخَّاب بمذاهبه ودعاواه، فلا بد أن يكون لدينا ما نقوله، أي أنه لا بد أن نجعل من اللغة أداة لا غاية في ذاتها، فنضيف بذلك «فكرًا» إلى «أدب».
على أن هذه الخُطوة التي أقترح أن نخطوها من اللفظ الجميل إلى اللفظ الدال، من جرس اللفظ إلى مدلوله، من تركيب الجملة إلى بنية الواقع، هذه الخطوة قد خطونا جزءًا كبيرًا منها في الأدب الحديث حين انتقلنا من فسيفساء المقامات إلى شخصيات القصة ومواقفها، ومن كتب الأخبار المنشورة إلى المسرحية وحوارها، ومن قصيدة الطبل إلى قصيدة الخبرة، أمَّا في مجال الفكر فما زالت طاحونة اللفظ هي صاحبة الدوي الأعلى، مع أننا نعيش في عصر مزدحم بقضايا الإنسان التي تمس حقوقه وواجباته ومعاملاته وأقداره، وهي نفسها القضايا التي كُنَّا نستطيع أن نستلهم فيها تراثنا الفكري فيمُدُّنا هذا التراث بزاد دسم يغنينا عن هذه الزوابع اللفظية التي نثيرها في الجو حتى تمتلئ بعثيرها الخياشيم فتفقد قدرتها على الحس والتمييز.
ففي العصر الذي ذهبت فيه العصبيات أخطر مداها، نجد من تراثنا ما يعطينا دستور المعادلة بين مختلف الأقوام والثقافات: «… فلكل أمة فضائل ورذائل، ولكل قوم محاسن ومساوئ، ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحلها وعقدها كمال وتقصير، وهذا يقضي بأن الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مفاضة على جميع الخلق مفضوضة بين كلهم» (الإمتاع والمؤانسة، ج١، ص٧٣). وفي العصر الذي اشتدت فيه عنصرية اللون والجنس والدين، وازداد البطش واتسع الظلم، نجد في تراثنا الفكري ما يضع بين أيدينا وقفة مثلى، فيها التسامح وفيها العدل والاعتدال، وفيها المساواة وفيها تدرج القيم من الأعلى إلى الأدنى، خطة للسلوك السوي، ولو نسجنا من هذه الخيوط نسجًا ثقافيًّا يتناول قضايا عصرنا، كان لنا بذلك ما يصحُّ أن نوصَف بسببه بأننا أمة الاعتدال في الفكر والعمل، أمة تجمع بين العقل والدين، بين الدنيا والآخرة، بين الفرد والجماعة، أمة لو سار حاضرها على نهج ماضيها جمعت بين ثقافة الروح وحضارة العيش، في هذا العصر الذي كادت الثقافة والحضارة أن تفترقا إلى غير تلاقٍ، فإما جماعة تتقلب في السيارات والثلاجات والناطحات ولكن بغير أعماق، وإما جماعة ركنت إلى طمأنينة الأعماق ثم كستها بأكواخ الطين وهلاهل الثياب وشظف الرغيف.
•••
والسؤال نطرحه من جديد: ما سبيلنا إلى ثقافة عربية معاصرة؟ لقد قدمت من جوانب الإجابة جانبًا واحدًا، وهو ضرورة الخروج من دنيا اللغة إلى دنيا الأشياء، ثم استدركت بقولي إننا قد خطونا خطوة طيبة في هذا السبيل بما غيرناه من تصورنا للأدب فيما نحاوله اليوم من قصة ومسرحية وقصيدة، لكننا ما نزال في دنيا الفكر متخلفين، إلى الدرجة التي أستأذن القارئ في أن أقول عنها إنها الدرجة الدنيا التي ليس لنا فيها فكر يُوصَف بأنه فكر عربي معاصر، مع أن تراثنا — كما قدمت — يمدنا بالخامة الولود التي يمكن أن نتخذ منها محورًا لموقفٍ عربيٍّ أصيل إزاء القضايا الإنسانية الكبرى المطروحة على الألسنة والأقلام، ومع ذلك ترانا أحد رجلين، فإما ناقل لفكر غربي وإما ناشر لفكر عربي قديم، فلا النقل في الحالة الأولى ولا النشر في الحالة الثانية يصنع مُفكِّرًا عربيًّا مُعاصِرًا؛ لأننا في الحالة الأولى سنفقد عنصر «العربي» وفي الحالة الثانية سنفقد عنصر «المعاصرة»، والمطلوب هو أن «نستوحي» لنخلق الجديد، سواء عبرنا المكان لننقل عن الغرب، أو عبرنا الزمان لننشر عن العرب الأقدمين.
فإذا أوحت إلينا الثقافتان بخلق ثقافي جديد، فيه النظرة العربية وفيه الوقفة العصرية، كان من أهم ما يميز هذا النتاج الجديد — فيما أرجح — خروجنا إلى عالم الوقائع والأحداث، بالمعايير نفسها التي كُنَّا ننسجها لفظًا ثم نكتفي منها بذلك، فننظر إلى ذلك العالم الخارجي النظرة التي تلتمس فيه القوانين المطردة التي تنظمه، والتي على أساسها يمكن التخطيط لمسارات المستقبل تخطيطًا يحقق الأهداف المأمولة، بدل أن ننظر إلى ذلك العالم النظرة التي تجعله ضاربًا في تيه من المصادفات، لا ندري معه بماذا يجيء الغد فيفجؤنا حين يجيء.
واختصارًا، إن وقفة الفنان العربي التي وقفها وهو يُنشئ فنه الهندسي في النوافذ والشرفات، وعلى جدران المنازل، ومنابر المساجد ومآذنها، هذه الوقفة الرياضية الدقيقة المحكمة التي عبرت عن روح الحياد المعقول عند العرب الأولين والتي كانت هي نفسها الوقفة التي هندس بها الشاعر تفعيلاته وقوافيه، وزخرف بها كاتب المقامة سجعه ونغماته، هذه الوقفة التي تضع المفرد الجزئي المتناهي المحدود، في مكان من تركيب يشمله، بحيث يجيء التركيب كله موحيًا بالمجرد الكلي اللامتناهي واللامحدود، هذه الوقفة التي وقفها المتصوف العربي حين رأى في فردية ذاته ومجسد خبرته حقيقة الكون في تجردها وشمولها، وفي الفرد الواحد الإنسانية بأسرها، هذه الوقفة التي نراها منبثة في تراثنا من عقيدة وأدب وفن وفكر، هي التي ندعو إلى أن تكون وقفتنا التي ننظر منها إلى قضايا الإنسان في عصرنا الراهن، فتنتج لنا ما يجوز بحق أن يُسَمَّى بالثقافة العربية المعاصرة …