قيم باقية من تراثنا
(أ) قيمة العقل في تراثنا
أمَّا أن الأمة «العربية» لا تكون «عربية» إلا إذا لحقت بثقافتها صفات تبرر هذه التسمية المميزة، ثم لا تكون هذه الصفات مبررة للتسمية تبريرًا كافيًا، إلا إذا كانت هناك حلقة رابطة بين العربي اليوم والعربي بالأمس، فذلك قول يحمل صدقه في لفظه، لا يحتاج منه إلى براعة في التدليل ولا مهارة في البرهان، وإلا فمن ذا الذي يطالبنا بالدليل وإقامة البرهان على أن ما هو «عربي» لا بد أن يكون «عربيًّا».
•••
لكن الذي يتطلب مِنَّا العناية حقًّا، ويقتضي شيئًا من العناء والحذر، حتى لا تَزِلَّ القدم، هو الجواب عن سؤالنا: «كيف»؟ كيف تقوم الحلقة الرابطة بين أمسنا ويومنا؟ كيف تكون الصلة بين الأسلاف وبيننا — في مجال الفكر والثقافة — بحيث تجيء هذه الصلة طبيعية فيها نبض الحياة، لا متكلفة ولا مصطنعة، فنصون تراث الأسلاف من جهة، ولا نطغى على شخصية الأحفاد من جهة أخرى؟
قد يكون الجواب عن هذه الأسئلة قريبًا ميسورًا عند بعضنا، وهم أولئك الذين يحسبون أن إعادة طبع الكتب القديمة — مهما بلغ الجهد في تحقيقها — فيها الكفاية. أليس «الجاحظ» قاعدًا هنا على رف — هكذا أتخيلهم يقولون — و«التوحيدي» مستريحًا هناك على رف؟ ألست ترى «الخليل وسيبويه» يعمران ذلك الركن، و«الأمالي» و«العقد الفريد» و«نهاية الأرب» تعمر هذا الركن من أركان المكتبة؟
أمَّا كاتب هذه السطور فلا يرى الجواب على سؤالنا: «كيف»؟ بهذا القرب كله وهذا اليسر كله، فإذا ما استوت كتب الأسلاف محققة على رفوف المكتبات، فعندئذٍ «يبدأ» العمل ولا ينتهي، عندئذٍ نطالع هذا التراث، ونلم به، لنسأل أنفسنا بعد ذلك: كيف يتاح للعربي المعاصر أن يتابع أسلافه ليسير معهم على خط فكري واحد، فيصبح عربيًّا بقدر ما كانوا هم عربًا، ويحق له القول في صدق إنه هو الحفيد وإنهم هم الأسلاف؟
•••
وإنني ليحضرني الآن مثلان، أذكرهما لأسترشد بهما في تلمس الطريق إلى جواب صحيح، فأمَّا أول المثلين فهو شرح — بين غيره من الشروح — النظرية الأرسطية في الشعر (وفي الأدب والفن جملة) وهي النظرية القائلة بأن الفن «محاكاة» للطبيعة، وهنا يسأل النقاد الشارحون: ماذا قصد إليه أرسطو ﺑ «المحاكاة» حين جعلها محورًا للأدب وللفن كله؟ كان بين الشارحين شارح فهم المحاكاة على أنها محاكاة في طريق الفعل والأداء، لا على أنها إعادة وتكرار للنتيجة التي انتهى إليها الفعل والأداء، فقد أنتجت الطبيعة شجرة الورد — مثلًا — وجئت أنا الأديب أو الفنان، وأردت محاكاتها، فهل تكون المحاكاة أن أصف شجرة الورد كما وقعت في الطبيعة، أو أن أرسمها باللون على لوحة؟ إن هذا يكون إعادةً وتكرارًا لما هو كائن، فلماذا أصف شجرة الورد، وشجرة الورد نفسها قائمة هناك في بستانها لمن يشاء؟ أو لماذا أرسمها باللون على لوحة، والأصل هناك أوفى من صورته؟
لا، ليست هذه المحاكاة هي المحاكاة المقصودة، إنما المحاكاة بمعناها المقصود هنا — وهو المعنى الخصب المفيد — هي أن أرى ماذا «تفعل» الطبيعة وهي تخلق نتاجها، «لأفعل» مثلها حين أخلق نتاجي، فإذا رأيتها تسوي كائناتها تسوية تجعل من كل كائن وحدة عضوية تتصل أجزاؤها جميعًا اتِّصالًا لا يجعل أحدها يستغني عن سائرها، ثم إذا رأيتها تسوي كائناتها تسوية تجعل من كل كائن فردًا فريدًا يستحيل أن يماثله كل المماثلة فرد آخر من أفراد نوعه، فضلًا عن أفراد الأنواع الأخرى، إذا رأيتها تفعل ذلك، ثم أردت محاكاتها في نتاجي من أدب وفن، وجب أن تجيء القصيدة من الشعر، أو المسرحية، أو اللوحة، أو التمثال، أو القطعة الموسيقية، بحيث تكون وحدة عضوية من جهة، وبحيث تحمل الخصائص الفردة الفريدة التي تجعل الثمرة الناتجة كائنًا لم يماثله، ولن يماثله، كائن آخر على طول التاريخ.
هذا أحد المثلين اللذين حضراني، وأمَّا المثل الآخر، فهو جون ديوي حين أراد التجديد في الفلسفة على وجه العموم، وفي المنطق على وجه الخصوص، ليجيء تجديده مسايرًا للعلم الحديث، ذكر لنا في كتبه كيف أنه حين خرج على التقليد الأرسطي في تصوره للمنطق، فهو لا يخرج على أرسطو نفسه بل يحاكيه ويقتفي أثره، على أن فهمه للمحاكاة واقتفاء الأثر هو أن يصنع لهذا العصر مثل ما صنع أرسطو لعصره، لا أن يجيء قارئ آخر يُضاف إلى عشرات الألوف ممن قرءوا أرسطو ودرسوه، ووقفوا عند هذا الحد، كأنهم نسخات مُضافة إلى النسخات التي أخرجتها المطابع من مؤلفات الفيلسوف اليوناني، لا، بل سأل جون ديوي نفسه، أو هو كمن سأل نفسه: ماذا فعل أرسطو لعلم عصره لأفعل مثله لعلم عصري؟ أئذا كان أرسطو قد حلل علم عصره، فوجد علمًا استنباطيًّا كله، يقيم النتائج اللفظية على مقدمات لفظية توجبها وتحتمها، ثم صاغ هذا المنهج الاستنباطي الذي «يقيس» النتائج على المقدمات، صياغة كانت هي «المنطق»، أفيكون حتمًا علينا كذلك أن نفرض هذا المنهج القياسي اللفظي فرضًا على علوم عصرنا، وهي في تجاربها ومعاملها وحساباتها ومعادلاتها؟ بل الأصوب أن «نحاكيه» في الوظيفة التي أداها لعلم عصره، بأن نؤدي نظيرها لعلم عصرنا، وفي هذا إجلال له وتعظيم، وفيه متابعة السير على طريقٍ شَقَّها هو ولبث فيها إمامًا.
حضرني هذان المثلان، عندما سألت نفسي: كيف يواصل «العربي» المعاصر «العربي» القديم، ليُضاف إلى التليد، وليكون طريق السير موصولًا في تاريخ واحد، لأمة واحدة؟ وكانت بداية الجواب عندي هي الاهتداء بهذين المثلين في فهم «المحاكاة»، فما علينا إلا أن نتعقب هؤلاء الأسلاف، لنرى ماذا صنعوا تجاه دنياهم، لنصنع نظيره تجاه دنيانا، فعندئذٍ نحافظ على السمات الأصيلة التي تميزنا، دون أن تقتصر هذه المحافظة على إعادة الناتج نفسه مرة أخرى في نسخة أخرى.
•••
وإني لأزعم ها هنا بأن أبرز ما كان يميز العربي القديم وقفته تجاه العالم من حوله، هو أنه نظر إليه نظرة «عقلية»، فإذا كان أمره هكذا، ثم إذا أردنا مواصلة السير على هدًى من تراثنا لنربط حاضرًا بماضٍ، لزمت علينا الوقفة نفسها تجاه عالمنا، فلئن كانت مشكلاتهم غير مشكلاتنا، واهتماماتهم غير اهتماماتنا، فذلك لا ينفي أن نصطنع «النظرة» التي اصطفوها فنتحد معهم في «وجهة النظر»، وإن لم نتشابه وإياهم فيما يُنظَر إليه من مشاكل ومسائل. لكن الأمر بحاجة إلى شرح وتوضيح:
•••
وأول التوضيح هو أن نبين في جلاء، ماذا نريد بقولنا «عقل»؟ فلا يجدينا شيئًا أن نقذف بهذه الكلمات المحورية قذفًا، لنبني عليها أقوالًا على أقوال، كأنما هي من الوضوح بحيث لا يُسأَل عن تحديدها، مع أنه إذا لم تكن أمثال هذه الكلمات غامضة مبهمة، فأين تجد الغموض والإبهام؟
ولا حيلة لنا — فيما أظن — عندما نتعرض لتحديد لفظ هام عام كهذا، تشعبت فيه الآراء، إلا أن نحدده نحن على الوجه الذي نريد له أن يؤديه، ولغيرنا أن يحدده على الوجه الذي يريد؛ إذ العبرة في هذه الحالات وأمثالها هي بطريقة استخدامك للفظ، في سياق حديثك، بحيث تتسق معك أطراف الحديث، وبحيث يظل للفظ معناه الذي حددته له من أول حديثك إلى آخره، أمَّا أن نقول إن فلانًا حدد اللفظ بكذا، وفلانًا الآخر حدده بكَيْت، فذلك «تاريخ» يصلح للقواميس، لكنه ليس طريقًا لاختيار معنًى معين واستخدامه بالفعل.
ومع ذلك، فمما تجدر ملاحظته في هذا الموضع، أنه مهما اختلفت تعريفات الناس للفظة «عقل» حين أرادوا استخدامها في شيء من الدقة، فأظنهم جميعًا — في عصرنا الراهن على الأقل — متفقون على إبعاد معنًى لا يجوز أبدًا أن ينصرف إليه مفكر واحد، وهو المعنى الذي يتصور أن ثمة في عالم الكائنات كائنًا، مستقلًّا بذاته، قائمًا برأسه، اسمه «عقل»، كما يشير اسم «هملايا» — مثلًا — إلى جبل معين معلوم، فلتتعدد التعريفات كما يريد لها أصحابها، على أن تلتقي كلها عند نقطة واحدة، هي أن «العقل» اسم يُطلَق على فعل من نمط ذي خصائص يمكن تحديدها وتمييزها، والفعل ضرب من النشاط، يعالج به الإنسان الأشياء على وجه معين، فإذا كنت أنفق مالي على أساس العقل، فليس هنالك بالفعل إلا طريقة تناول، وأسلوب في التصرف والسلوك، فكأننا إذ نسأل ماذا تريد ﺑ «العقل» — نسأل في الحقيقة: بماذا يتميز التصرف وأوجه السلوك، حين يوصف الموقف بأنه قائم على «عقل»؟
لقد كانت للشاعر الفيلسوف محمد إقبال ملاحظة جديرة بالنظر، أوردها في كتابه عن «التجديد في الفكر الإسلامي»، مؤداها أن مُحَمَّدًا — عليه السلام — كان لا بد أن يكون خاتم الأنبياء، وأن تكون رسالته آخر الرسالات؛ لأنه جاء ليدعو إلى تحكيم «العقل» فيما يعرض للناس من مشكلات، وما دمت قد ركنت إلى العقل، فلم تعد بحاجة إلى هداية سوى ما يُمليه عليك من أحكام. أليس العقل — كما يقول الجاحظ — هو وكيل الله عند الإنسان؟ (راجع رسالة المعاش والمعاد، الجزء الأول من رسائل الجاحظ ص٩١)، «وإنما سُمِّيَ العقل عقلًا» — كما يقول الجاحظ أيضًا (رسالة كتمان السر وحفظ اللسان، الجزء الأول من رسائل الجاحظ، ص١٤١) — «لأنه يزم اللسان ويخطمه … عن أن يمضي فرطًا في سبيل الجهل والخطأ والمضرة، كما يعقل البعير.»
فأما التحديد الذي أريد أن أحدد به معنى «العقل» — حين أستخدم هذه الكلمة في هذا السياق — فهو الحركة التي أنتقل بها من شاهد إلى مشهود عليه، ومن دليل إلى مدلول عليه، من مقدمة إلى نتيجة تترتب عليها، من وسيلة إلى غاية تؤدي إليها تلك الوسيلة. وأهم كلمة في هذا التحديد هي كلمة «حركة»، فإذا لم يكن انتقال من خطوة إلى خطوة تتبعها فلا عقل، إذا أدركت شيئًا دون أن «تنتقل» من هذه الحالة الإدراكية إلى حالة تليها وتتوقف عليها، فلا عقل، إذا حملقت ببصري في ثمرة صفراء، فلا أجاوز منها إلا أنها شيء أصفر، فلا عقل، وإنما يكون العقل إذا انتقلت من رؤية تلك الكرة الصفراء إلى العلم بأنها شيء يؤكل. إذا جاءني أحد بنبأ، فصدقته إيمانًا، ووقفت منه عند هذا الحد، فلا عقل، إنما يكون العقل حين أنتقل من ذلك المسموع إلى ما يؤيده أو ينفيه. إذا زعمت أن حقيقة ما أشرقت على ذهني بلمعة مفاجئة، لم يكن من قبلها من مقدمات تؤدي إليها، فلا عقل، حتى إن صدقت تلك الإشراقة؛ لأن صدقها حينئذٍ يعتمد على أداة أخرى من أدوات الإدراك — كالبصيرة مثلًا أو الإلهام — غير أداة العقل. فالعقل انتقالة دائمًا، هو انتقالة من عبارة لفظية إلى عبارة تلزم عنها، إذا ما كُنَّا في مجال «نستنبط» فيها حكمًا من حكم، أو هو انتقالة من شاهد محسوس إلى واقعة تترتب عليه وتتبعه، إذا ما كُنَّا في مجال «نستقرئ» فيه حُكمًا من مشاهدات.
واختصارًا، فإن حد «العقل» هو أن ينتقل الإنسان من معلوم إلى مجهول، من شاهد إلى غائب، من ظاهر إلى خفي خبيء، من حاضر إلى مستقبل لم يحضر بعد أمام البصر، أو إلى ماضٍ ذهب وانقضى ولم يعد مرئيًّا مشهودًا. ومِنْ ثَمَّ كان العقل هو الذي يتعقب الحدث إلى أسبابه، أو إلى نتائجه، في الحالة الأولى يكرُّ راجعًا من الحدث الظاهر إلى علة حدوثه وقد اختفت، وفي الحالة الثانية يتشوف المستقبل قبل حدوثه، مرتكزًا في ذلك على الحدث الماثل في لحظته الراهنة، وأمَّا أن نرى الشيء وقد انكشف وتجلى، فلا عقل في ذاك، بل لا فرقَ فيه بين عاقل ومخبول. ويحلو لي أن أستشهد بالجاحظ مرة أخرى، في قوله عن الحكيم إنه من يحسن الخطو إلى الهدف الذي يبتغيه، «ويبين أسباب الأمور ويمهد لعواقبها، فإنما حمدت العلماء بحسن التثبت في أوائل الأمور، واستشفافهم بعقولهم ما تجيء به العواقب، فيعلمون عند استقبالها ما تئول به الحالات في استدبارها، وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم، فأمَّا معرفة الأمور عند تكشفها وما يظهر من خفياتها، فذاك أمر يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعالمون والجاهلون» (رسالة المعاش والمعاد).
•••
بهذا التعريف الذي يحدد «العقل» قلنا إن العربي القديم قد تميز به كلما تأمل أو نظر. ومن شأن هذه الوقفة العقلية أن ترد الأشتات إلى وحدة تضمها ضمة المبدأ الواحد لنتائجه المتفرعة، أو العلة الواحدة لسلسلة معلولاتها. إنه — وقد رأى العالم كثرة كثيرة من كائنات — لم يهدأ حتى التمس لها الرباط الموحد، وحين رأى اللغة تجري على قواعد، أقلقه ألا يجد لهذه القواعد نفسها ما يعللها، ولما رأى أحكام الشرع قد تشعبت، اجتهد في أن يقع لها على فقه يجمعها في أصول قليلة مشتركة. وهكذا طفق العربي يرد الكثرة إلى وحدة تبرز ما فيها من تجانس، وتميز المؤتلف بين وحداتها من المختلف؛ وبذلك استطاع أن يهيئ لنفسه سبيل «الفهم» — وما «فهم» بشيء إلا رده إلى أصله ومبدئه الذي يفسره — فوقف من العالم، ومن حياته وقفة بصيرة واعية، وهكذا ينبغي أن تكون وقفة العربي المعاصر من عالمه ومن حياته، إذا شاء أن يصل حاضره بماضيه، وصلًا حيًّا نابضًا خصبًا ولودًا.
•••
رسم أرسطو طريق العقل في سيره المحكم، حين صنف رسائله المنطقية، وألَّف ما سُمِّيَ بالأورجانون، فمن ذا الذي يلقط الخيط من بعده إذا لم يلقطه العرب الأقدمون؟ فقد كان أرسطو حين يحلل مراحل الفكر المسدد لقومه اليونان، كأنما يوجه تحليلاته تلك إلى المفكر العربي من بعده، ليجعلها هذا المفكر لا مجرد هداية يهتدي بها، بل ليجعلها من أهم علامات المثقف في عصره — وعلامات المثقفين تختلف باختلاف العصور — فلا ثقافة لمثقف إلا أن يتقن — فيما يتقنه — طرائق الاستدلال المنطقي السليم، ولئن نُعِتَ أرسطو بأنه المعلم الأول لمنطقه، فقد نُعِتَ الفارابي بأنه المعلم الثاني لتقديمه ذلك المنطق إلى العرب.
لماذا لم تستجب الهند — مثلًا — للمنطق الأرسطي استجابة العرب؟ قل في الجواب ما شئت، لكن جزءًا من الجواب عندي هو أن وقفة العربي من الأمور طابعها العقل، ولو لم يسبقها أرسطو بمنطق يسدد خطاها لكان حتمًا على العرب أنفسهم أن يستخلصوا لأنفسهم تلك الخُطى.
•••
وأكاد أسمعك تسألني: أليس «العقل» بخطواته الاستدلالية تلك التي رسم أرسطو بعضها، وبقيَ على المحدَثين أن يرسموا بعضها الآخر؟ أليس هذا «العقل» طابع الإنسان من حيث هو إنسان؟ هل تفيدنا شيئًا إذا ميزت العربي أو غير العربي بما هو صفة للإنسانية كلها؟ فأُجيبك بان للإدراك وسائل أخرى غير العقل، منها الإدراك بالحدس (أي بالبصيرة) إدراكًا مباشرًا لا نحتاج فيه إلى مقدمات وبراهين، ثم تأتي الشعوب المختلفة بثقافاتها المتباينة، كما تأتي العصور المتعاقبة المتميز بعضها من بعض بالروح التي تسودها، فيكون لكل شعب، أو لكل عصر، ما يجعل له الأولوية من تلك الوسائل الإدراكية، فمنها ما يعول على تجربة الحواس قبل تأملات العقل ولمعات البصيرة — كالشعب الإنجليزي كما نراه في فلاسفته — ومنها ما يعول على استدلالات العقل القائمة على مقدمات مفروضة أو مشهودة — والعرب من هؤلاء فيما أزعم — ومنها ما يجعل الأولوية للإدراك الحدسي، قبل الحواس وقبل العقل، كالذي نراه في ثقافات الشرق الأقصى، بل كالذي نراه عند المتصوفة جميعًا، في كل عصر وفي كل شعب، غاية ما هناك أن هذه النزعة الصوفية الحدسية قد تكثر حتى تسود في شعب أو قد تقل حتى يُغَضَّ عنها البصر في شعب آخر.
•••
ولماذا أذهب بعيدًا، وقد نرى الرجل الواحد — إذا اشتد به الوعي — متردِّدًا متحيِّرًا بين هذه الأدوات الإدراكية الثلاث، بأيها يأخذ إذا ما جدَّ الجد وحزب الأمر؟ فهذا هو إمامنا الغزالي يصف لنا مثل هذا التردد أدق وصف وأروعه — في كتابه «المنقذ من الضلال» — وقد انبهمتْ معالم الطريق أمامه، ويحكي حكايته وكأنما هو في حوار مع تلك الأدوات الإدراكية، تناقشه ويناقشها، «فأقبلتُ بجد بليغ، أتأمل في المحسوسات والضروريات، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها …»
… «فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات، فلعله لا ثقة بالعقليات … فقالت المحسوسات: بِمَ تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات، وقد كنت واثقًا بي، فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي؟ فلعل وراء إدراك العقل حاكمًا آخر، إذا تجلى كذب العقل في حكمه … ولعل تلك الحالة ما يدَّعيه الصوفية أنها حالتهم؛ إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم التي لهم — إذا غاصوا في أنفسهم وغابوا عن حواسهم — أحوالًا لا توافق المعقولات.»
هذا هو رجل واحد يداول الأمر بينه وبين نفسه ليختار من وسائل الإدراك وسيلةً يطمئن إليها (وقد اختار آخر الأمر وسيلة الحدس، أي وسيلة المتصوفة في الإدراك المباشر)، فأي غرابة إذا قلنا إن الشعوب أو العصور يتميز بعضها من بعض بسيادة وسيلة إدراكية على الوسيلتين الأخريين؟ إنه لا غرابة، ولقد تميزت الثقافة العربية القديمة — فيما أزعم — باختيارها لوسيلة العقل، برغم ما شهدته من متصوفة جاءوا كرد الفعل الذي يحدث شيئًا من التوازن، أكثر مما جاءوا ليكونوا هم اللسان المعبر عن وقفة العربي ونظرته.
بل إني لأعتقد أن الشعب الذي يتميز بالنظرة العقلية، إذا ما رأيناه — في بعض رجاله، أو في بعض حالاته — لائذًا بطراوة الوجدان ورخاوته، من ضغط العقل وقسوته (والإدراك الحدسي هو إدراك بالوجدان)، فإنما نرجح عندئذٍ أن قد أصابه شيء من الوهن والضعف، فالركون إلى حدس الوجدان كثيرًا ما يُغري عامة الناس دون القادة الأعلام، وهو يُغري عامة الناس في عصور التدهور.
الركون إلى حدس الوجدان يعزَى أكثر ما يعزَى للنساء (عندما كن مرتكزات على الغريزة وحدها) والأطفال وصنوف من الحيوان، فهؤلاء جميعًا لا يحسنون ربط الأسباب بمسبباتها؛ ولذلك يكثر منهم السلوك المفاجئ الطارئ غير المطرد وغير المتوقع، وأحيانًا يكون هو السلوك المودي بصاحبه إلى تهلكة، ومع ذلك، فإذا ما غلبت روح الانهيار جماعة من الناس، كثر فيهم من يكاد يأخذ بلمحات الأطفال الحدسية، قبل أن يأخذ بنتائج العلماء العقلية، اعتقادًا منهم أن الأولين إنما يدركون بالروح الشفافة الصافية، وأمَّا الآخرون فيدركون بالعقل الرذل الثقيل. ومن هذا التشكك في قدرة العقل — في حالات الضعف والمرض والشيخوخة والهزيمة والجهل والفقر والسذاجة — تشيع الخرافة، ويشيع الإيمان بحدوث الخوارق المعجزة التي تقصر العقول العلمية المنطقية دون فهمها.
شهدنا هذه الحالة في فترة الظلام من تاريخنا الفكري — في الثلاثة القرون التي امتدت من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر — فكانت هي الحالة التي ركز عليها المصلحون ضرباتهم لتزول، وعلى رأس هؤلاء كان الإمام محمد عبده. وليس الأمر في ذلك بمقصور علينا، فكذلك حدث في الفكر الأوروبي أن ظهرت دعوات قوية إلى الركون إلى حدس الوجدان، قبل الأخذ بأحكام العقل، كما رأينا — مثلًا — في برجسون وغيره، وما ذلك — في رأينا — إلا لخور أصاب الفكر الغربي، فاستجار من العقل بالوجدان، لعله يجد الطمأنينة في فترة سقوطه.
•••
على أنَّ الاعتراض الأقوى لما نزعمه من أن الروح العربي الأصيل روح عاقل، قد يجيء من قبل الشعر، أكثر مما يجيء من جهة التصوف؛ إذ لا مراء في أن سمة من أهم سمات الثقافة العربية القديمة، سيادة الشعر وأهمية مكانته، وماذا يكون الشعر إن لم يكن صادرًا عن «وجدان»؟ فحتى الجاحظ الذي يمكن القول عنه إنه نقل الثقافة العربية من شعر إلى نثر، تعبيرًا عن انتقالها من بداوة إلى حضارة، حتى الجاحظ بكل نثره وكل عقله وكل منطقه، لم يغمض عينه عن الحقيقة البارزة في ثقافة العرب، وهي أنها ثقافة شعر، فيقول في ذلك وهو في معرض الموازنة بين الأمم في خصائصها المميزة: «وفضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلم بلسان العرب» (الحيوان، ج١، ص٧٥)، وكذلك يقول في موازنة أخرى بين مميزات الأمم، إن العرب «وجَّهوا قواهم إلى قول الشعر، وبلاغة المنطق، وتثقيف اللغة، وتصاريف الكلام» (رسالة «في مناقب الترك»).
وهذا هو أبو العلاء، يكتب — في رسالة الغفران — عن الجنة والجحيم، فإذا هو لا يكاد يطلعنا منهما إلا على زمرة من الشعراء، يلتقي بعضهم ببعض ليتبادلوا نقد الشعر وروايته. إنك لا تصادف في جنة أبي العلاء أحدًا من رجال السياسة والحكم، بل توشك ألا تصادف فيها أحدًا من عباد الله إلا الشعراء، وحتى من غُفر له من الشعراء، فقد غُفر له بسبب بيت أو أبيات من شعره، ومن لم يُغفر له منهم، وزُجَّ به في الجحيم، فإنما كان — كذلك — لزندقة وردت فيما نَظَمَ من شعر. وحين جيء بآدم عليه السلام في سياق الوصف، فإنما جيء به ليحكم في بعض قضايا اللغة والشعر، بل حين يجعل أبو العلاء ركنًا للجنيات والعفاريت، فهو يجعل هؤلاء من الشعراء، أو ممن خلده الشعر. وفي جنته قِيَان ومغنون، لكنهم هناك لإحياء مأدبة دُعيَ إليها الشعراء، فجنة أبي العلاء — كما يقول نكلسون — «صالون» فخم أُعِدَّ لطائفة عربيدة من الشعراء، لكنها على عربدتها ظفرت بالخلود بسبب شعر قالوه فأجادوا. الشعر هو كل شيء أو يكاد، في جنة أبي العلاء. وكذلك قل في الجحيم، فليس فيها من غير الشعراء الزنادقة إلا إبليس — وإلا نفرًا من جبابرة الملوك — وحتى إبليس هناك قد لبس شخصية الأديب حين ينفث الشر في أدبه. وشعراء الجحيم: ومنها امرؤ القيس، وعنترة، وعلقمة، وبشار، لم تشغلهم جهنم عن مناقشة بعضهم بعضًا عن أشعارهم وأشعار سواهم، وكل منهم يدفع عن شعره عبث الناقلين وأخطاء الرواة.
للشعر — إذن — مكانة عليا في الثقافة العربية فكيف نوفق بين صفة الشعر الغالبة، وبين زعمنا بأن العرب قد تميزوا بنظرة عقلية؟
وأنا أسأل هذا السؤال لأسد الطريق على من يسأله، كأنما بين الأمرين تناقض يحول دون أن يجتمعا معًا، فكم وقع لنا — في خبراتنا الشخصية المحدودة — من أمثلة لرجال جمعوا بين العقل العلمي إذا ما كان المجال مجال عقل وعلم، ووجدان الأديب كلما استثارت وجدانَهم أحداثُ الحياة! وإذا صدق هذا على أفراد من الناس، فماذا تكون الأمم إلا مجموعات من أفراد؟ وهو على كل حال أصدق في الأمة العربية منه في أي أمة أخرى مما نعرف، فنحن هنا إذ نثبت للثقافة العربية حظها من العقل، لا يطوف لنا ببال أن ننفي عنها الوجدان الشاعر.
نقول: إنَّ هذا الجمع بين العقل والوجدان لا يتمثل في تراث ثقافي بمثل الوضوح الذي يتمثل به في الثقافة العربية وتراثها، فلئن غلبت ثقافةُ الوجدان على تراث الشرق الأقصى من هند وصين، وغلبت ثقافةُ العقل — فلسفةً وعلمًا — على تراث أوروبا من يونانها فنازلًا إلى يومنا، فقد كان في شرقنا العربي هذا الجمع المتزن بين عقل ووجدان. ولست أقول ذلك عن زهو ودفاع، وإنما أقوله من وقفة المؤرخ للثقافة، المحلل لخصائصها، ينظر فيما قد حدث بالفعل، وما قد نتج بالفعل، ثم يُصدر الأحكام.
لقد تمثلت الثقافة العربية فلسفة أرسطو بكل ما فيها من علم وعقل، بنفس القوة التي تمثلت بها صوفية أفلوطين بكل ما فيها من ركون إلى الحدس بالوجدان. إن الأمر هنا لم يكن أمر جوار، بحيث نجد الفلسفة الأرسطية في غرفة وفلسفة أفلوطين في غرفة مجاورة لها، بل الأمر أمر دمج ومزج في نظرة واحدة.
وإن هذه المزاوجة الثقافية بين العقل والوجدان، لتلائم المزاج العربي واللغة العربية ملاءمةً كاملةً، فبحكم ذلك المزاج يفصل العربي بين السماء والأرض، بين المطلق والنسبي، بين اللانهائي والمحدود، بين خلود الآخرة وفناء الدنيا، يفصل بينهما ذلك الفصل الذي لا يجعل لكل عالم من العالمين أهلًا غير أهل العالم الآخر بل عنده أن أهل هذا هم أنفسهم أهل ذلك، غير أن الواحد تمهيد للثاني، كما تكون المقدمة للكتاب؛ فإذا أساغ غير العربي أن يكون لقيصر عالم ولله عالم، وأن تكون مملكة الأرض غير مملكة السماء، فالعربي يُفضِّل أن يجعل العالمين كليهما لله ولقيصر، ليكون الله حاكمًا في كليهما، وقيصر محكومًا في كليهما. وجاءت اللغة العربية فشاركت في هذه المزاوجة مشاركة عجيبة، فهي حين تزخرف نفسها وتصقل بدنها، يُخيَّل إليك أنها ليست لغة لأهل هذه الأرض، إنما هي إلى ملكوت السماء أقرب وأدنى فإذا شاءت أن تمشي مع الناس في أسواق التجارة ودواوين الحكم والسياسة، استقامت وكأنها قد باتت لغة أخرى. ولا عجبَ بعد ذلك أن نحس شيئًا من الحيرة حيالها: ألها من القداسة نصيب، أم أنها اتفاق صِرْف تواضع عليه أصحابُها؟
•••
على أنني — بعد هذا كله — كلما قرأت شعرًا عربيًّا، أحسست بما لست أحس نظيره إذا ما قرأت شعرًا إنجليزيًّا؛ إذ يُخيَّل إليَّ عند قراءة الشعر العربي، أن الشاعر يُعْمِل عقله في التركيب والصياغة، وأن «الصنعة» جزء لا ينفك قائمًا في بناء الشعر العربي، مهما أوتي الشاعر من تلقائية الطبع. نعم، يُخيَّل إليَّ هذا دائمًا، وقد لا يعدو الأمر أن يكون خيالًا عندي، لكني أجد له في كثير من الأحيان ما يبرره، فأولا: أجد في الشعر العربي من اللقطات الحسية — أعني مما يقع عليه البصر أو السمع فعلًا في دنيا الأشياء — أكثر مما ألحظه في شعر سواه، واللقطة الحسية من الواقع المشهود، هي أول خطوة في طريق العقل. وثانيًا: يحتوي الشعر العربي على قدر من «الحكمة» أكثر مما أجد في سواه، والحكمة حقيقة موضوعية يعمم بها الشاعر حكمه على الناس والعالم، لا تختلف في أحيان كثيرة عن تعميمات علم النفس وعلم الاجتماع. وثالثًا: لم يكن نادرًا بين شعراء العرب أن يقصدوا بشعرهم أهدافًا غير الشعر نفسه، أعني أن الشعر قلما كان عندهم من أجل الفن الشعري، بل كان في حالات كثيرة وسيلة لغايات، تتبدل تلك الغايات بين يوم ويوم فتتبدل معه الوسيلة. وهذا من قبيل النشاط العقلي، أكثر مما يكون من دنيا الوجدان، ولو صدق ظني هذا، كان العربي القديم — حتى وهو شاعر — رجلًا يملك العقلُ زمامه.
•••
قد كان لا يطعن في عقلانية النظر عند العرب، ألا ينظروا إلى لغتهم النظرة التي تحاول أن تعلل قواعدها على أسس منطقية؛ لأن اللغة مسموعة منقولة بمفرداتها وقواعد تركيبها، فلا ضير على قوم أن يقولوا عن لغتهم، هكذا سمعناها ونقلناها، فقد نرفع الفاعل وننصب المفعول لغير علة مفهومة إلا أن نجري في ذلك مجرى الأسلاف، دون أن يكون الأخذ بالتقليد في هذا الجانب مأخذًا ينتقص من صفة العقلانية فينا، فما بالك — إذن — أن تجد العرب قد حاولوا — حتى في جانب اللغة وقواعدها — أن يلتمسوا العلل المفسرة؟ إنه إيغال منهم في طلب العلة المعقولة حيثما صادفتهم ظاهرة، اجتماعية كانت أو طبيعية.
وحسبنا أن نطالع في ذلك كتابًا واحدًا، هو كتاب «الخصائص» لابن جِنِّي، لنرى — ونعجب — كيف راح يبحث لكل وضع من أوضاع اللغة عن علة تفسره، فهو يسأل — ابتداءً — عن اللغة العربية أكلامية هي أم فقهية؟ (راجع الخصائص، ج١، ٤٨٨ وما بعدها).
ويعني ذلك ما إذا كانت أوضاعها قابلة للتعليل أو غير قابلة، بحيث يكون علينا أن نأخذ هذه الأوضاع بغير تعليل كما نأخذ — مثلًا — عدد الركعات في الصلاة، ثم يجيب قائلًا: «اعلم أن علل النحويين … أقرب إلى علل المتكلمين، منها إلى علل المتفقهين.» ومن هذا المبدأ ينطلق باحثًا فاحصًا مُعلِّلًا بالمنطق لا بالنقل والتقليد، فلماذا — مثلًا — رُفع الفاعل ونُصب المفعول؟ لأن «الفعل لا يكون له أكثر من فاعل واحد، وقد يكون له مفعولات كثيرة، فرفع العلة لقلته، ونصب المفعول لكثرته. وذلك ليقل في كلامهم مما يستثقلون، ويكثر في كلامهم ما يستخفون» (ج١، ص٦٩). وهو يبين أن الضمة والواو ثقيلتان على لسان العربي، والفتحة والألف خفيفتان عليه ج١، ص٦٩).
ولماذا يكثر الأصل الثلاثي في اللغة العربية، دون الرباعي والخماسي؟ الجواب هو: «لأنه حرف يُبتدأ به، وحرف يُحشَى به، وحرف يُوقف عليه، وليس اعتدال الثلاثي لقلة حروفه حسب، لو كان كذلك لكان الثنائي أكثر منه؛ لأنه أقل حروفًا، وليس الأمر كذلك … وأقل منه (من الثنائي) ما جاء في حرف واحد … فتمكن الثلاثي إنما هو لقلة حروفه — لعمري — ولشيء آخر، وهو حجز الحشو الذي هو عينه، بين فائه ولامه، وذلك لتباينهما ولتعادي حاليهما، ألا ترى أن المبتدأ لا يكون إلا مُتحرِّكًا، وأن الموقوف عليه لا يكون إلا ساكنًا؟ فلما تنافرت حالاهما، وسَّطوا العين حاجزًا بينهما، لئلا يفجئوا الحس بضد ما كان آخذًا فيه» (ج١، ص٥٥-٥٦).
ومما هو أدخل في باب العقل، عند النظر إلى اللغة العربية وخصائصها المميزة، ركونها إلى المقاييس المعنوية أكثر مما تركن إلى المقاييس اللفظية (الخصائص، ج١، ص١٠٩)، وأنهم عند اختلاف الرأي ليستمعون إلى البرهان المنطقي الأقوى، حتى ولو خالف ذلك ما أجمع الناس عليه، حتى لو لم يأتِ ذلك على لسان إمام من أئمة اللغة الأسبقين. أمَّا الناس فقد «يجتمعون على الخطأ» (ج١، ص١٨٩)، وأمَّا عن الأئمة كالخليل وأبي عمرو بن العلاء، فكل من اهتدى إلى علة منطقية صحيحة، والتمس في تدليله نهجًا قويمًا «كان خليل نفسه، وأبا عمرو فكره» (ص١٩٠). أعني أنه يوضع في الإمامة لنفسه موضع الخليل وأبي عمره، وليس لأحد أن يحتج على صاحب الدليل العقلي، بأنه إنما أقام دليله على شيء لم يُعرف له نظير فيما قاله العربي؛ لأنه «إذا دل الدليل، فإنه لا يجب إيجاد النظير … لأن إيجاد النظير بعد قيام الدليل إنما هو للأنس به لا للحاجة إليه، فأما إن لم يقم دليل، فإنك محتاج إلى إيجاد النظير» (ص١٩٧).
وأستطيع أن أستطرد إلى ما شاء الله في بيان أن فقهاء اللغة العربية قد حاولوا أن يجدوا لأوضاع اللغة وقواعدها مبادئ عقلية تفسرها، وليس المهم في ذلك أن يوفقوا هنا وأن يخفقوا هناك، بل المهم هو أنهم قد اختاروا الوقفة العقلية المنطقية.
وإذا كانت تلك هي عقلانية العربي القديم فيما لم يكن يلزمه بالنظر العقلي، فمن باب أولى أن نجد هذه الوقفة أوضح وأجل فيما يستوجب عقلانية النظر، كعلم الكلام، والفلسفة، فضلًا عن العلوم، رياضية كانت أو طبيعية، مما نشير إليه هذه الإشارة العابرة ولا نطيل الوقوف.
•••
ونعود إلى ما بدأنا به، وهو محاولة الجواب عن سؤال طرحناه: كيف يُتاح للعربي المعاصر أن يتابع السير على طريق العربي القديم، لتجيء عصريته عصرية وعربية معًا؟ والإجابة المقترحة هنا هي: أن يكون ذلك باتخاذ الوقفة نفسها التي وقفها سلفه، لينظر إلى الأمور بالعين نفسها، ألا وهي عين «العقل» ومنطقة دون الحاجة إلى إعادة المشكلات القديمة بذاتها، ولا إلى الاكتفاء بالتراث القديم لذاته. فإذا كانت قد عرضت للأقدمين — مثلًا — مسألة «الكبائر» ومرتكبيها، أيُعدُّون كُفَّارًا لارتكابهم تلك الكبائر، أم يظلون على إيمانهم برغم ما اقترفوا؟ وذلك بمناسبة موقف الخوارج من جهة، وموقف المرجئة من جهة أخرى، حيال من أخذوا بالتحكيم بين علي ومعاوية، ثم إذا كان المعتزلي واصل بن عطاء قد اختار لهذه المسألة موقف العقل المتروي، قائلًا إن مرتكب الذنب الكبير ليس كافرًا — كما يقول عنه الخوارج — ولا هو مؤمن — كما يقول عنه المرجئة — ولكنه في منزلة بين المنزلتين، فلا هو مؤمن مطلق، ولا كافر مطلق، وتعليل ذلك عنده هو أن الإيمان مجموعة كبيرة من الصفات، فإذا ارتكب المؤمن ذنبًا في إحداها، وبقيت له سائرها، فإنما يكون إيمانه قد نقص ولم يرتفع عنه ارتفاعًا كاملًا … فهل يجوز للعربي المعاصر أن يقف من الأمر عند تلاوة هذا الخبر مرة ومرة وألف مرة، ليزعم أنه بذلك يحيي التراث؟ كلا، بل الإحياء الصحيح هو أن يأخذ العربي المعاصر من موقف العربي القديم صورته لا مادته، فيأخذ مثل هذه الوقفة العاقلة المتزنة المتوسطة بين تطرفين، ليطبقها بعد ذلك فيما يعرض له هو من مشكلات عصره، كمشكلة الفرد والجماعة — مثلًا — أنجعل الفرد محورًا أوَّلًا وآخرًا لنضمن له حريته، أم نطويه في الجماعة طيًّا لنضمن العدل لبقية الأفراد؟ فها هنا قد يقف العربي وقفة عربية أصيلة، ليقول: الصواب منزلة بين المنزلتين. مثال آخر: أنرغم شبابنا على التزام التقاليد في بنائهم لعلاقاتهم الاجتماعية، كالطريقة التي يقيم بها الزواج والأسرة، والتي ينظم بها علاقة الكبير بالصغير، والحاكم بالمحكوم، والغني بالفقير، والمخدوم بالخادم؟ بحجة أن التقاليد عُرْف أجمعت عليه أجيال متعاقبة؟ ها هنا أيضًا قد يقف العربي وقفة عربية أصيلة يأخذ صورتها — دون مادتها — من التراث، فيقول إن مجرد إجماع الناس لا يكفي أن يكون دليلًا مقنعًا؛ لأن الناس — كما قال ابن جني بالنسبة إلى اللغة — «قد يجتمعون على خطأ»، وإنما العبرة بما يقوم على «عقل»، والعقل — كما حددناه — هو القدرة على الانتقال من وسيلة إلى هدف، فإذا كان الهدف المقصود هو أن تزدهر في المجتمع صناعة — مثلًا — ثم إذا كان هذا الازدهار مرهونًا بأن تحطم بعض التقاليد، برغم الإجماع عليها — فلتحطم؛ لتكون وقفتنا حيال المسألة وقفة عقلية، على نحو ما وقف أسلافنا.
ولكنني ألحظ عكس ذلك تمامًا في حياتنا الجارية، ألحظ مقاومة للعقل وأحكامه واستقبالًا حسنًا للوجدان وميوله. لو قيل لنا إن العلماء يحاولون بالعلم — والعلم عقل — أن يُنزِلوا إنسانًا على سطح القمر، رأيتنا وقد لوينا الشفاه امتعاضًا، سواء أفصحنا عن امتعاضنا ذلك بالعبارة أو لبثنا صامتين، كأنما جهاد العقل في هذا السبيل قد داخلته الأبالسة بالشر والخبث والدهاء! أو إذا قيل لنا إن العلماء يحاولون بالعلم — والعلم مرة أخرى هو عقل — أن يحلُّوا قلوبًا سليمةً محل قلوب مريضة، أو ما شابه ذلك، هززنا الأكتاف بالسخرية، وكأن تلك المحاولة فيها ما يشبه الكفر بمنزلة الإنسان وقيمته.
وإنما ضربت هذين المثلين لأنني رأيت بعيني، وسمعت بأذني، عالمين من علمائنا — وأقصد بالعلماء هنا علماء البيولوجيا والفيزياء وما إليها — رأيتهما وسمعتهما (في موقفين مختلفين) يندد أولهما بمحاولة الوصول إلى القمر، قائلًا: إن ذلك قد يزحزح هذا الجرم السماوي عن فلكه الذي أراده له الله، فيكون من الكوارث ما يكون، ويندد ثانيهما بمحاولة استبدال الأعضاء السليمة بالمريضة قائلًا: إن ذلك مُحال لأنه ضد طبائع الأشياء والكائنات! وإذا كان ذلك شأن رجال العلم مِنَّا، فأترك لك أن تتصور مواقف عامة الناس.
كان للعقل أعظم القيمة عند أسلافنا، فذلك ما ينبغي أن يكون له بين المعاصرين، لنقول إن الأمة العربية واحدة، تاريخها الفكري موصول بين الأولين والآخرين.
(ب) ياقوتة العقد للعِلم والعلماء
سُمِّيَ كتاب «العِقد الفريد» بهذا الاسم؛ لأن فصوله تؤلِّف عِقدًا من خمس وعشرين جوهرة، منها اثنتا عشرة في جانب، واثنتا عشرة في الجانب الآخر، وبينهما واسطة العِقد، وقد تكررت الأسماء في المجموعتين الأولى والثانية، فلؤلؤة هنا تقابلها لؤلؤة هناك، وزبرجدة هنا تقابلها زبرجدة هناك، وهلمَّ جرًّا. يقول صاحب الكتاب في مقدمته لكتابه: «وسميته كتاب «العِقد الفريد» لما فيه من مختلف جواهر الكلام، مع دقة السلك وحسن النظام، وجزأته على خمسة وعشرين كتابًا، كل كتاب منها جزءان، فتلك خمسون جزءًا في خمسة وعشرين كتابًا، كل كتاب منها جزآن، فتلك خمسون جزءًا في خمسة وعشرين كتابًا، وقد انفرد كل كتاب منها باسم جوهرة من جواهر العقد» … وأخذ المؤلف بعد ذلك يذكر أسماء تلك الكتب وموضوعاتها، واحدًا واحدًا، فكتاب «اللؤلؤة في السلطان»، و«كتاب الفريدة في الحروب»، وكتاب «الزبرجدة في الأجواد والأصفاد»، وكتاب «الجمانة في الوفود»، وكتاب «المرجانة في مخاطبة الملوك»، وكتاب «الياقوتة في العلم والأدب»، … وهكذا دَوَالَيْكَ حتى يصل إلى كتاب الواسطة في الخطب، ثم ينتقل إلى المجموعة الثانية يكرر بها أسماء المجموعة الأولى، بادئًا هنا بما انتهى إليه هناك، ومنتهيًا هنا بما ابتدأ به هناك، فأول العقد هو كتاب اللؤلؤة في السلطان، وآخره هو كتاب اللؤلؤة الثانية في الفكاهات والْمُلَح — هندسة بديعة في التقسيم والتبويب.
وقضيت ساعة بالأمس مع كتاب الياقوتة الذي خُصص للمختارات التي قيلت في العلم والأدب، وقد قصدت إلى هذا الاختبار عامدًا، في أيام نروج فيها للعلم وللنظرة العلمية وللحياة العلمية وللتخطيط العلمي وللإشادة بالقائمين على الحياة العلمية. أقول إني قد قصدت إلى هذا الاختيار بالأمس عامدًا، لأعيش مع السلف ساعة أستمع إليهم في موضوع هو مشغلة اليوم، لا من حيث مادة الموضوع نفسها، ولكن من حيث القيم التي كانت تضبط عمل العاملين به، فنحن إذ نقول ونعيد — في إصرار وإلحاح، وفي إيمان وعقيدة — إن جهودنا الثقافية اليوم، ينبغي أن تسير بنا نحو ثقافة «عربية معاصرة» تحمل موضوعات العصر واهتماماته، مصوغة في قيم موروثة عن السلف، لنحقق بها معاصرة وطابعًا قوميًّا في آنٍ معًا، ولنجمع خصوصية تاريخنا إلى عمومية الحياة العصرية المشتركة بين سائر الأقوام في نتاج واحد، نحن إذ نقول هذا ونعيده لا يجدر بنا أن نترك القول عند هذا الحد من التجريد والشيوع، بل لا بد أن نضيف إليه محاولات في التطبيق، وها هنا يتبين متى تكون تلك المبادئ معقولة ومقبولة، ومتى لا تكون.
•••
إنني لعلى وعي كامل بمدى الاختلاف البعيد بين معنى «العلم» وصورة «العالم» على أقلام الكُتَّاب الأقدمين، وبين ذلك المعنى وهذه الصورة على أقلامنا اليوم، فلم يكن الكاتب القديم وهو يتحدث عن العلم والعلماء يعني إلا قليلًا جِدًّا مما نعنيه اليوم، كما أننا لا نعني اليوم حين نتحدث عن العلم والعلماء إلا قليلًا جِدًّا مما كان يعنيه كاتب الأمس، فكاتب الأمس إنما أراد بحديثه — على الأعم الأغلب — علوم الدين وعلماء الشريعة، وكاتب اليوم إنما يريد بحديثه — على الأعم الأغلب كذلك — علوم الطبيعة والإنسان، فبين الكاتبين — كاتب الأمس وكاتب اليوم — هامش ضيق من الاتفاق في الموضوع، ثم يختلفان بعد ذلك في موضوع الحديث ومادته، ولكن هل يتحتم أن يختلفا بالضرورة في معايير التقويم، ما داما قد اختلفا في مادة الموضوع؟ لا أظن ذلك، فإذا تحدث كلاهما عن منزلة العلم في حياة الناس، وعن مكانة العلماء، وعن قيمة الحق، وعن أهمية الشك حتى نبلغ اليقين، وعن حرية العالم في الوصول إلى ما يؤديه إليه تفكيره من نتائج، وما إلى هذه الجوانب من ضوابط، كان كلاهما على اتفاق، مهما اختلف موضوع البحث عند كليهما، وإلا، فلو كان اختلاف الموضوع العلمي يستتبع اختلافًا في هذه الضوابط التقويمية، لجاز لنا اليوم أن نطالب علماء الكيمياء بما لا نطالب به علماء طبقات الأرض.
أمَّا بعد، فإلى القارئ صورة لساعة عشتها مع كتاب الياقوتة من العقد الفريد، وهو الكاتب الذي خُصص — كما قلنا — للحديث في العلم والأدب، على أنني قصرت اهتمامي في هذه المرة على العلم وحده، ومع ذلك لم أتجاوز بضع صفحات، تفاعلت فيها مع المادة المقروءة أخذًا وردًّا، وقبولًا ورفضًا.
•••
ويبدأ المؤلف — ابن عبد ربه — كتاب الياقوتة هذا، كما يبدأ سائر الكتب، بما يسميه «فرشًا»، أي مقدمة يمهد بها لموضوعه، وفي «الفرش» للياقوتة، وهو لا يزيد على صفحة ونصف صفحة، لمحات هي أنفذ اللمحات، وقفت إزاءها متسائلًا في عجب وإعجاب، أتكون هذه هي الأصول والمبادئ عند أسلافنا، ثم نجد بيننا اليوم من يعد مثل هذا الحديث خروجًا يكاد يبلغ عندهم حد الإلحاد والكفر؟ وأعني هنا بصفة خاصة ذلك المبدأ الذي يوجزه ابن عبد ربه ليكون أساسًا لكل معرفة علمية، ألا وهو أن تبدأ المعرفة بإدراك الحواس، ثم تتدرج من هذه البداية الضرورية، بحيث تنتقل من المحسوس إلى التصور الذهني، ومن التصورات الذهنية وما يربط بينهما يكون ما نسمِّيه فكرًا، فإذا ما ترويت في مضمون هذا الفكر وجدته مثيرًا للإرادة، وما دامت الإرادة استُثيرت، فلا بد عندئذٍ من الأخذ بأسباب العمل.
إنني لأوجه الدعوة إلى قارئي ألا يتعجل، وأن يقف هنا لحظة، ليشبع وليرتوي بهذا المبدأ المنهجي، وها أنا ذا أعيد أمامه أركانه الأساسية: لا معرفة مما يصح أن يُسَمَّى علمًا إلا إذا بدأت بتجربة الحواس، أي بضرورة أن ترى بالعين شيئًا وأن تسمع بالأذن شيئًا، وبعبارة أخرى فإن العلم لا ينبثق من باطن الإنسان كما تندفع حمم البركان من جوف الأرض، بل هو يجيء إلى الإنسان من خارجه، من الدنيا التي حوله، عن طريق الحواس، وإذا أنت قد شبعت من هذا المبدأ وارتويت، رفضت بعد ذلك القبوع في عقر الدار تستنزل رحمة العلم من السماء، وأخذت تسعى في دنيا الشهادة وفي معامل التجربة والاختبار.
هذه واحدة، والأخرى أنك بعد أن تبني لنفسك بناءً فكريًّا من حصيلة المحسوسات هذه، كان المقياس الذي تُقاس به سلامة البناء، هو مدى استطاعتك تحويله إلى إرادة تريد وإلى عمل يعمل. وأكررها مرة أخرى، المعرفة العلمية هي في صميمها مخططات لأعمال، وليست هي بناءات تُبنى في الذهن ليتأملها الإنسان ثم يأوي إلى مخدعه ليستريح.
ويمضي ابن عبد ربه في «فرشه» الموجز الدقيق العميق، الذي يقدم به لمختاراته الخاصة بالعلم والعلماء، يمضي ليقول: «والعقل متقبل للعلم، لا يعمل في غير ذلك شيئًا» — انظر! العقل لا يولِّد العلم من جوفه كما يولِّد العنكبوت خيوطه من معدته وأمعائه، بل إنه «يتقبل» حصيلته من الخارج، من الدنيا بكائناتها الحية والجامدة، من معطيات الحواس سمعًا وبصرًا ولمسًا، لا، بل إن هذه العملية هي نفسها تعريف للعقل عند المؤلف، فهو — أي العقل — يتقبل العلم من المحسوسات الآتية إليه، ثم لا يحاول الخروج عن هذه الدائرة المعطاة ليتبرع من عنده بشيء آخر، وإلا لبطل أن يكون عقلًا، العقل مقيد بالمشاهدة والتجارب، مقيد بالواقع المحسوس، مقيد بالظواهر وإنه ليكفر برسالته وبوظيفته إذا هو مزق هذه القيود ليشطح بلا قيود ولا حدود.
هذا هو الفكر العلمي، على أن «العلم علمان» — كما يقول ابن عبد ربه — «علم حُمل، وعلم استعمل»، وهو يفرق هذه التفرقة ليقرر أن مجرد حمل العلم بغير استعماله أمر لا طائل وراءه، بل إنه مجلبة للضرر. ولا بدَّ لكي يكون العلم جديرًا باسمه هذا، أن ينتقل من مرحلة التحصيل إلى مرحلة التطبيق العملي، فكأنما أراد المؤلف أن يقول — لو تكلم بلغة عصرنا — إن العلم لا يكون لذات العلم نفسه، بل إنه يكون لمنفعة الناس في تدبير معاشهم وفي حل مشكلاتهم.
هذه إذن خصائص ثلاث يتميز بها العلم عند ابن عبد ربه، أكتفي بها حتى لا تطول وقفتي عند التمهيد الموجز الذي قدم به لكتابه الياقوتة. والخصائص الثلاث هي: العلم تجريبي، والعلم برجماتي، والعلم للناس. وإني لأستأذن القارئ في أن أرتكز على المبادئ الموجزة عند المؤلف، لأنطلق منها شارحًا ومتحدِّثًا بلغة هذا العصر، لأمحو — ما استطعت — الهوة بين الماضي والحاضر، فكرًا وتعبيرًا.
على أن هذه الخصائص المنهجية، التي استخلصتها من أسطر وردت في «الفرش» الموجز، الذي قدم به صاحب العقد الفريد لكتاب الياقوتة في العلم والأدب، ليست هي ما يهمني قبل سواها مما أردت أن أقوله، إنما تهمني القيم، التي هي بمثابة المسطرة والفرجار، نرسم بهما الخطوط والدوائر، مهما اختلفت الأغراض التي من أجلها رسمت تلك الخطوط والدوائر، فمن هذه القيم ما قد حدد به أسلافنا مكانة العلماء من مجتمعهم، أيتبعهم الناس أم هم الذين يتبعون؟ فانظر إلى هذا الحديث النبوي الشريف، في أي منزلة يضع رجال العلم، حين يقول: «لمداد جرت به أقلام العلماء خيرٌ من دماء الشهداء في سبيل الله»، فهل يجوز بعد ذلك ألا تكون الكلمة العليا في المجتمع المؤمن برسالة الإسلام، لغير ما خطه العلماء بمدادهم الطاهر النبيل؟ وليست هي بالثورة الهينة تلك التي تغير من أوضاع المجتمع بحيث تكون لأصحاب العلم الصدارة والريادة، فلم تكن الثورة التي أرادها أفلاطون بالهينة، حين جعل للفلاسفة في «الجمهورية» مكان التوجيه والحكم، وأخذ الرجل في غضون المحاورة يسوق المثل تلو المثل، والحجة في أعقاب الحجة، بأن صاحب الفكر يجيء أوَّلًا ثم يأتي صاحب التنفيذ، وماذا يكون التنفيذ إلا تنفيذًا لفكرة، وماذا تكون الفكرة إلا تخطيطًا لعمل ينفذ فيسعد البشر؟ وليست هذه الأسبقية أسبقية في القيمة الإنسانية للأفراد بل هي أولوية منطقية تحدد ماذا يجيء قبل ماذا في تدبير الحياة، وإلا فالقيم الإسلامية لا تدع مجالًا للشك في أن لكل إنسان ما لكل إنسان من رتبة، لا يرفع أحدًا عن أحدٍ إلا العمل الصالح. وها هو ذا عليُّ بن أبي طالب يقرر لنا — وهو قول يورده ابن عبد ربه في كتاب الياقوتة الذي نحن الآن بصدد الحديث عنه — يقرر لنا أن «قيمة كل إنسان ما يحس»، ومعنى ذلك في حياة العلم والعلماء، أنه لا فرق من حيث القيمة بين القائمين بالجوانب المختلفة من العملية الفكرية الواحدة، والمهم هو أن يحسن كل منهم ما يتصدى للاضطلاع به، فالمسألة فرض على الفريق، والنتيجة فضلها للفريق، والنفع للجماعة بكل أفرادها.
وللنبي — عليه السلام — حديثٌ آخر يورده المؤلف في هذا الموضع نفسه من السياق، وهو يحدد لنا خصيصة من أهم ما يميز العالم؛ إذ يقول: «لا يزال الرجل عالمًا ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم، فقد جهل.» وهو قول يقطع بأن العلم طريق يُسار عليه، وليس نهاية يوصل إليها، فالعلم منهاج قبل أن يكون نتيجة مقطوعًا بصوابها، العلم تيار متدفق، كل موجة فيه تتبعها موجة، في حركة تدوم ما دام للعقل نشاطه. العلم لم يقصره الله على فرد ولا على جيل ولا على عصر ولا على أمة، ففرد من الناس يكمل ما أنجزه فرد آخر، وجيل يواصل طريق الجيل الذي سلف، وعصر يصحح عصرًا، وأمة تتكامل بنتاجها العلمي من نتاج سائر الأمم. إن للكون كتابًا صفحاته تُعَدُّ بالملايين، فما عليك — أنت العالِم — إلا أن تقلب في صفحاته ما تستطيع، وأنت أنت العالِم ما أخذت تسأل وتستطلع وتبحث وتقع على جواب جزئي هنا وعلى جواب جزئي هناك، ثم يمضي عهدك ليتابع خلفك السير على الطريق، فإذا ظن أنه قد أتم العلم بفرع من المعرفة كان ذلك بُرهانًا على أن بصره قد قصر عن رؤية الأبعاد والأعماق، أفيكون هذا هو تراثنا، ثم نتلفت حولنا في حياتنا العلمية فنرى أدعياء العلم يُعَدُّون بالألوف، ولا نكاد نقع على العالم الذي أُشرب بتراث السلف، بحيث يزن قيمته العلمية بميزان متابعته لطلب العلم، لا بالقليل الذي حصله، ومحال أن يكون قد حصل إلا القليل.
لقد قرأت منذ أعوام طويلة مقالة لأديب هندي، لا أذكر اسمه ولا عنوان المقالة ولا أين قرأتها، لكني أذكر مضمونها، ولعل ما قد حفظته في ذاكرتي شدة غرابته في تقديري عندئذٍ، فقد كان الكاتب يبحث في الصفة الهامة التي تجعل من المثقف مثقفًا على أرفع مستوى، وبعد أن طفق يفرض الفروض ويفندها، رسا على فرض لم يجد عنده ما يفنده، وذلك هو أن صفة المثقف الأساسية الأولى هو أن يكون طلعة دائمًا، متسائلًا دائمًا، طالبًا للحقيقة في هذه المسألة أو تلك، فهو مثقف بمقدار ما تؤرقه هذه الجذوة التي تدفعه إلى طرح الأسئلة ومحاولة العثور على إجابات لها. كان هذا الرأي غريبًا عليَّ عندئذٍ — وربما لبثت معي غرابته حتى هذه الساعة — لكني إذا ما ترجمت هذه الصفة إلى لغة أخرى تساويها في المعنى، وإن اختلفت عنها في الأداء، هي اللغة التي سبق بها الحديث الشريف الذي أسلفناه وهو الحديث الذي يحدد رجل العلم بصفة الطلب للعلم لا بصفة الوصول إلى نتائج بعينها يحسبها مقطوعًا بصوابها. أقول إني إذا ما ترجمت فكرة الأديب الهندي إلى لغة الحديث الشريف، ألفيت الأمر قد بات أوضح من أن يُثير الدهشة والتعجب، فالمثقف هو من ظل يلح في السؤال، والعالم هو من لبث يلح في البحث، بل إن الحياة نفسها حين تغزر أغوارها في نفس الإنسان، إن هي إلا هذا الإلحاح في السؤال والإلحاح في البحث. وها هنا نورد نقلًا عن كتاب الياقوتة من العقد الفريد قولًا لأبي عمرو بن العلاء، حين سأله سائل: هل يحسن بالشيخ أن يتعلم؟ فأجاب قائلًا: «إن كان يحسن به أن يعيش، فإنه يحسن به أن يتعلم.»
لقد اشتملت مجموعة الأقوال التي أوردها ابن عبد ربه عن العلم والعلماء — على قلة صفحاتها — خطوطًا رئيسيةً تصلح أن تكون دستورًا للحياة العلمية كلها، منهجًا ومعيارًا، فهذا هو يروي فيما يروي، قولًا عن ضرورة الشك لمن التمس اليقين في أية مسألة يطرحها للبحث، فقد سُئل عالم لماذا يكثر من الشك؟ فأجاب: «محاماة عن اليقين». وسُئل عالم آخر عن حديث، فقال: «أشك فيه»، فقال السائل: «شكك أحب إليَّ من يقيني.» فماذا تريد للروح العلمية الصحيحة معيارًا أصلح من هذا المعيار، وكيف يكون هذا ما رسمه الأسلاف طريقًا، ثم نفغر أفواهنا من الدهشة حين يقول لنا قائل إن أعلام المنهج العلمي في الغرب يطالبون بأن نشك أوَّلًا حتى يأتي اليقين مَحْضًا؟ انظر فيمن حولك تجدهم — حكمًا بما يقولون وما يفعلون — يطمئنون إلى صاحب التصديق السريع، ويقلقهم أن يقف متشكك ليتساءل قبل أن يجزم بالصواب، فسريع التصديق عندنا أقرب إلى الملائكة، والمتشكك أقرب إلى الشياطين، وما هكذا روح الحياة العلمية، وما هكذا تراثنا في تحديده للقيم.
إننا إذ نقول: يجب أن نحيي تراثنا لنحياه، ابتغاء التميز بطابع يصل حاضرنا بماضينا، فليس المراد هو أن نعيد طباعة الكتب لتوضَع على الرفوف، بل المراد هو أن نعيش مضمونها على نحو يحفظ لنا الأصالة، ولا يفوت علينا روح العصر، وإن لنا لتراثًا عن العلم والعلماء، يكفل لنا أن نتقدم في ثقة مع المتقدمين، موضوعنا علم حديث، وخصالنا من إرث عزيز.