موضوع هذا الكتاب
في هذه الصفحات فصول متفرقة يجمعها غرض واحد، وهو تصحيح بعض الأخطاء في النظر إلى اللغة العربية والحكم على مكانتها بين اللغات العالمية التي تصلح لأداء رسالة العلم والثقافة في هذا القرن العشرين، وهي أخطاء متكررة تعرَّض لها الناظرون في هذه اللغة مرة بعد مرة، منذ ابتداء حركة الترجمة الحديثة من اللغات الأوروبية، وتتلخص كلها في اتهام كفاية هذه اللغة للقيام بأمانة تلك الرسالة.
بدأ الخطأ الأول في النظر إلى اللغة العربية من طبيعة البداءة في كل حركة وكل نهضة، ولم يكن للغة العربية ذنب في هذا الخطأ الباكر … وإنما كان الذنب كله من نقص الاستعداد للترجمة في بداءتها.
فالمترجم المستعد — كما هو معلوم — يستوفي للنهوض بوظيفته عدة كاملة متنوعة تتجمع من العلم باللغتين، ومن العلم بموضوع المعرفة الذي ينقله المترجم من إحدى اللغتين إلى الأخرى، ولا بد له معه من حصة وافية مشتركة بين المعلومات العامة في عصره، وإن لم تكن لها علاقة مباشرة بموضوع الكتاب المترجم.
ويصعب تحقيق هذه الشروط كلها في بداءة الحركة؛ لأن هذه الشروط كلها قد تكون — هي أيضًا — في دور البداءة محلًّا للمراجعة والإعادة.
فلم يكن بين المترجمين في أوائل حركة الترجمة مَن هو أوفى عدة من رفاعة الطهطاوي في مادة اللغة العربية وفي مادة اللغة الفرنسية، وفي محصوله من المعارف العامة، ولكنه — مع هذا — كان يترجم صفة دولة كبيرة بتعريبها كما تنطق باللغة الفرنسية، فكان يترجم الولايات المتحدة باﻟ «أتازيوني» نقلًا عن اللفظ الفرنسي بحرفه، ولم يفعل ذلك لأن اللغة العربية قاصرة عن أداء الكلمة بما يقابلها، ولا لأنه كان يجهل مدلول الولاية وما يرادفها في معجمات اللغة، ولكن الاصطلاحات السياسية والدستورية كلها كانت تبتدئ وجودها في تلك الحقبة، وكان اتحاد المقاطعات في أساسه عملًا جديدًا في قاموس الحكم والسياسة.
أما المترجمون ممن هم دون رفاعة في اللغة والمعرفة، فقد كان منهم من يذكر «البو» و«تجرى» و«أكرة» ليترجم بها «حلب والدجلة وعكا»، ولا ذنب للغة العربية في هذا الخطأ؛ لأنها هي مصدر الكلمات الصحيحة التي تقابل تلك الأسماء، وليس أولئك المترجمون من الجهل بأوطانهم القريبة بحيث يجهلون أسماء تلك البلاد بلغة أمهاتهم وآبائهم، ولكنها بداءة العلم والتاريخ ووقائعه فعلت فعلها هنا، وكشفت بذلك عن خطأ من أخطاء القائلين بقصور اللغة في نقل كتب المعرفة والثقافة.
وإذا انتقلنا بالترجمة من عالم الأسماء والأعلام والمصطلحات إلى عالم المعاني والأفكار والأحاسيس؛ فالبداءة هنا مسئولة عن خطأٍ كذلك الخطأ أو أظهر منه للقراء على اختلاف حظهم من المعلومات العامة.
ذلك هو خطأ الضرورة التي خلطت بين ملكة الأديب، وبين المعرفة «القاموسية» بالكلمات الأجنبية وما يقابلها بلغة الخطاب المداول ولغة القاموس في العربية الفصحى.
فالمترجم هنا طفيلي على الكتابة باللغة التي ينقل منها، واللغة التي ينقل إليها، فليس العجز في قصور الألفاظ العربية عن وصف المعاني أو الأفكار أو الأحاسيس باللغات الأجنبية، وإنما العجز من المترجم الذي لا يستطيع أن يعبر عنها بلغة من اللغات، أجنبية كانت أو وطنية، ولا يستطيع من فهمها فوق ما يستطيعه القارئ الغربي أو الشرقي وهو يتصفح العمل الأدبي من قصة أو مسرحية أو قصيدة منظومة. ولو تولى الأمر أديب يشعر شعور الأديب ويفهم فهمه لما قصرت اللغة العربية بين يديه عن مجاراة اللغة التي ينقل عنها. ولعل الأستاذ البستاني لم يزعم قط بينه وبين نفسه، ولا بينه وبين قرائه أنه يضارع الشاعر الخالد هوميروس في ملكته الشعرية، ولكنه — ولا مراء — قد ترجم الإلياذة من لغتها الأصلية كما ترجمها الأوروبيون إلى لغاتهم المختلفة، لاتينية كانت أو جرمانية.
وانقضى هذا الدور — أو كاد — ولما تفرغ من ذلك الخطأ الشائع عن قصور اللغة العربية في مقاصد التعبير عن خوالج النفس البشرية، ولكننا — فيما نحسب — قد فرغنا من إحالة هذا الخطأ من كنف اللغة إلى كنف التطفل على الكتابة الأدبية من غير أهلها.
ويقولون في أمثالهم: إن الأخطاء لا يعجل إليها الموت، فربما كان من بقايا هذا الخطأ الباكر أن بعض النقاد عندنا لا يزالون يحيلون خلو الشعر العربي من الملاحم المطولة إلى قصور اللغة العربية، أو قصور أوزان العروض فيها، أو قصور الخيال في السليقة السامية على التعميم، ومنها السليقة العربية.
لكنه خطأ يصححه سؤال واحد عرضنا له في بعض هذه الفصول، وهو: هل وجد موضوع الملحمة عند العرب الأقدمين لأسبابه التاريخية ولم توجد عندهم القصيدة المنظومة في هذا الموضوع؟ هل وجدت عندهم حروب الأرباب والأبطال من أنصاف الأرباب، والتواريخ الخالية التي غابت في ظلمات الأساطير، والمعارك التي يصطرع فيها الفخار القومي، وتصطرع فيها العصبيات السماوية والأرضية، ثم اختفت ملاحم الشعر التي لا تدور في أمة أخرى على سواها؟
إن بداءة النقد العلمي هي المسئولة هنا عن هذا الخطأ بين سائر البداءات الباكرة، وقد مضى على النقد العلمي عندنا زهاء سبعين سنة قبل أن يخطر على المشتغلين به أنهم محتاجون إلى مثل ذلك السؤال.
ولقد كان للمستشرقين سهمهم الوافر من هذه الأخطاء في تحميل اللغة العربية أوزارهم وأوزار نظراتهم العجلى إلى أساليبها وتعبيراتها، فإنهم في جملتهم — ما عدا القليل النادر منهم — لغويون أو حفاظ قاموسيون، وليسوا من محبي الأدب والفن بلغاتهم، فضلًا عن اللغة العربية التي تعلموها ولم يعيشوا بها أو يعيشوا فيها، فوقفوا من ثمة بفنون البلاغة المجازية في هذه اللغة عند المرحلة الشكلية منها، أو المرحلة التي يصح أن نسميها بالهيروغليفية، وراحوا يزعمون واحدًا بعد واحد أن الشعر العربي خليط من الأشكال المتنافرة، لا يخلص الذهن منها إلى صورة مرسومة أو عاطفة واضحة، وماذا يفهم القارئ من قمر على غصن على كثيب؟ … إنها خليط أغرب في رأيهم من خليط الرسوم التي عرفت عندهم بالكاريكاتور.
ولكن هؤلاء «النقاد» الواثقين جدًّا من أصالة نقدهم ينسون أنهم يقرءون الحروف بأشكالها بعد أن وصلت إلى طورها الأخير من المقاطع والأجزاء، فهم ينظرون اليوم إلى عنق الجمل بدلًا من النظر إلى حرف الجيم، وينظرون إلى الكف المبسوط بدلًا من النظر إلى حرف الكاف، وهكذا ينظرون إلى القمر في لغة الفلك، والغصن في لغة النبات، والرمل في لغة طبقات الأرض، بدلًا من نظرتهم كما ينظر العربي إلى ذلك التشبيه؛ فلا يرى فيه غير إشراق على اعتدال على فراهة يتحرك بها قوام رشيق!
•••
ثم تتفتح أبواب الأخطاء على جميع مصاريعها حين يعمد المقارنون إلى المقارنة بين البلاد الغربية في إبان ازدهارها وبين بلادنا العربية، ويجعلونها مقارنة بين هذه اللغة وبين لغات البلاد جمعاء، بل يُمعنون في الشطط فيجعلونها مقارنة بين استعداد اللغة العربية واستعداد جميع اللغات الأخرى في أصل التكوين.
ولابد من توارد الأخطاء الكثيرة في كل مقارنة من هذا القبيل، فلو أننا قارنا — مثلًا — بين اللغة الإنجليزية في القرن العشرين، وبين اللغة الإنجليزية نفسها في القرن الخامس عشر؛ لظهر فيها نقص المئات من أسماء المخترعات الحديثة، ولم يكن ذلك مُسوِّغًا للحكم عليها بنقص الاستعداد للوفاء بمطالب المصطلحات العلمية، وإنما عرف هذا الاستعداد فيها بعد ظهور الحاجة إلى تلك المصطلحات، وظهور الوسائل التي تيسرها في اللغة، ومنها الاقتباس الكثير من السكسونية القديمة ومن اللاتينية والإغريقية القديمتين، ومن الفرنسية المعاصرة وسائر اللغات الأوروبية في عصرها، بل سائر اللغات؛ حيث كانت في بلاد الغرب والشرق كلما وجدت لها صلة بالمخترع الحديث. وقد يكتفى في تسمية المُخترَع بنسبته إلى صاحبه أو إلى البلدة التي اختُرع فيها، وليس التوسل بأمثال هذه الوسائل متعذرًا على اللغة العربية من طريق الاقتباس أو التعريب أو التوليد أو الاشتقاق، أو المحاكاة الصوتية، أو النقل بالألفاظ والمعاني والمناسبات.
ومما لا شك فيه أن المخترعات الحديثة لو تهيأت لها أسبابها في القرن الثالث أو الرابع للهجرة بين المتكلمين باللغة العربية لظهرت بأسماء لها توافقها، وتأسست — من ثم — أصول الدلالة عليها، وتفريعات هذه الدلالة في جميع نواحيها. وقد اتسعت اللغة العربية قبل ألف سنة لمئاتٍ من أسماء الأعيان والمصطلحات لم تكن مألوفة بين أبنائها قبل ذلك، وحكمها في استعداد اللغة لاستخدامها كحكم المخترعات الحديثة وحكم العناوين العلمية التي تقترن بها؛ فلا موجب للقول بقصور الاستعداد في اللغة العربية لسبب من هذه الأسباب العريضة، ولا سبيل إلى تحقيق كفاية اللغة العربية للنهوض بأمانة العلم والثقافة من طريق هذه المقارنات التي لا تقوم واحدة منها على أساس صالح للمقارنة.
إنما المقارنة الصحيحة التي تسفر عن تحقيق كفاية هذه اللغة بين سائر اللغات هي المقارنة على أساس ثابت من علم الألسنة الحديث، وهو العلم الذي يبحث في تطور اللغة من حيث هي كيان حي نامٍ صالح لأداء وظائفه، ومجاراة أمثاله في معترك البقاء.
فإذا قيس اللسان العربي بمقاييس علم الألسنة، فليس في اللغات لغةٌ أوفى منه بشروط اللغة في ألفاظها وقواعدها. ويحق لنا أن نعتبر أنها أوفى اللغات جميعًا بمقياس بسيط واضح لا خلاف عليه، وهو مقياس جهاز النطق في الإنسان، فإن اللغة العربية تستخدم هذا الجهاز الإنساني على أتمه وأحسنه، ولا تهمل وظيفة واحدة من وظائفه كما يحدث ذلك في أكثر «الأبجديات» اللغوية … فلا التباس في حرف من حروفها بين مخرجين، ولا في مخرج من مخارجها بين حرفين، وقد تصححت فيها الحركات الصوتية الثلاث بين الفتح والضم والكسر، فمضت فيها فصاحة النطق على إبطال الإمالة بين هذه الحركات، وإخراجها كلها مستقيمة مميزة كما يشاء معنى «الإفصاح»، وهو في جوهره إزالة اللبس في الأصوات والحركات. ولم يحدث لأبجدية أخرى غير الأبجدية العربية أنها جربت زمنًا طويلًا في كتابة اللغات من كل أسرة لسانية، فلم تقصر في هذه التجربة عن شأو الأبجديات الأخرى؛ إذ كتبت بها العربية والفارسية والتركية والأردية والإسبانية، وهي تنتمي إلى الأصول السامية والطورانية والهندية الجرمانية. وقد وجد فيها الكاتبون ما ينوب عن الحروف الملتبسة، ولم يوجد في الأبجديات المختلفة ما ينوب عن حروف العربية الصريحة في مخارجها، بما استوفته من جهاز النطق الإنساني في كل آلة من آلاته.
وإذا قيست قواعد النحو العربي بهذه المقاييس في علم الألسنة؛ فالمزية البينة في هذه القواعد أنها تابعة لأغراض التعبير والدلالة، وليست هذه الأغراض تابعة لها في أصولها أو فروعها. وقد وضعت فيها الفروض بين صيغ الأسماء والصفات على حسب معانيها وعلاقاتها بأغراض المتكلم والسامع، فإنما يجري فيه الاختلاف بين الأوزان والصيغ لبيان الاختلاف في مدلول الكلمة، أو في قوة الدلالة ودرجتها، وقد تشاركها اللغات في بعض هذه المزايا، ولكنها لا تجمعها كما جمعتها، ولا تفوقها في واحدة منها.
وعلى هذه المقاييس من علم الألسنة نعتمد في تصحيح النظر إلى مزايا لغتنا، وتصويب أخطاء الناظرين إليها. وقد يكون من هؤلاء أبناء لها يظلمونها ولا يسيئون النية، ولكنهم يسيئون القياس، أو يعتمدون في المقارنة بينها وبين سائر اللغات على غير أدواتها.
وقد تفرقت المباحث التي عرضنا لها في الفصول التالية، وفي أمثالها من الفصول التي قصرناها على مباحث النحو والصرف والعروض وما إليها من القواعد اللغوية، ولكنها تجتمع في الطريق كما تجتمع في الغاية. وطريقها وغايتها معًا هذه المحاولة الجادة في إثبات فضل اللسان العربي بمقاييس علم الألسنة، واجتناب المقاييس التي لا تصلح للمقارنة على سوائها؛ لأنها مقارنة تفصل فيها النتائج عن مقدماتها.