أقدم اللغات
أي اللغات أقدم؟
كان الباحثون في تاريخ اللغات يقصدون بالبحث عن أقدمها أن يصلوا إلى اللغة الأولى التي تفرعت عليها جميع اللغات بعد تفرق الأمم في جوانب العالم المعمور، وكانوا يفترضون أن اللغة الأولى كانت لغة الجنس البشري كله يوم كان له مقام واحد في قارة واحدة، ثم تفرعت هذه اللغة بعد انفصال الناس وانقطاع الصلة بينهم، حتى امتنع التفاهم بين المتكلمين بكل شعبة من شعب اللهجات المتفرعة في مواطنها المختلفة.
إلا أن هذا البحث الطويل لم ينته إلى وحدة بين لغات الأمم غير وحدة «العائلات» اللغوية الكبرى التي يتعذر التقريب منها اليوم بغير الاتفاق في كلمات معدودات، توجد في الكثير منها ولا توجد فيها بأجمعها، فقنع الباحثون، إلى حين، بالرجوع إلى أمهات العائلات اللغوية، كل عائلة منها على حدة، وكادوا أن يتعثروا في هذا الطريق بعقبات كالعقبات التي صادفتهم في بحثهم عن لغة واحدة للجنس البشري بموطنه الأول، وإن تكن عقبات التحقيق في مواضع الاتفاق بين فروع العائلات اللغوية أيسر تذليلًا، وأقرب أمدًا في مراحل التاريخ القديم.
والرأي الغالب بين علماء المقارنات اللغوية أن أصول العربية حديثة بالقياس إلى أصول العائلة الهندية الأوروبية، ولا سيما السنسكريتية والجرمانية.
ولكن هذا الرأي يقابله في العهد الأخير اعتراض شديد من أبناء الهند أنفسهم — من المسلمين خاصة — في معرض المقابلة بين السنسكريتية والجرمانية والعربية، فإنهم يعتمدون على معرفتهم بلغات الهند ومعرفتهم بالعربية وبعض اللغات الأوروبية؛ لتصحيح أخطاء اللغويين الأوروبيين عند المقابلة بين الكلمات، ويصيبون كثيرًا في التنبيه إلى تلك الأخطاء وإثباتها بدلائل المعاني والألفاظ التي لا شك فيها، ولكنهم ينساقون إلى مثل هذه الأخطاء عند المقابلة بين جذور الألفاظ العربية والأجنبية، ويكاد بعضهم أن يرجع بمعظم هذه الجذور إلى أصل عربي يقارنه بحرفين أو ثلاثة حروف من الكلمات القديمة، اعتمادًا على القول الشائع عن نشأة الكلمات العربية جميعًا من حرفين اثنين تلحق بها الحروف المزيدة؛ تارة في أوائل الكلمات، وتارة في أواخرها.
ومن أمثلة هذه المقارنات بحث مستفيض للشيخ «محمد أحمد مظهر» بمجلة الأديان التي تصدر بالإنجليزية في الباكستان، ينشره تابعًا تحت عنوان «العربية أم جميع اللغات»، ويسرد فيه مئات من الكلمات الأجنبية يحسبها من مشتقات العربية على صورة من الصور اللفظية أو المعنوية. وقد وفق كل التوفيق في بعض هذه الكلمات، ولكنه أوغل جدًّا في التخريجات المتتابعة للوصول بالكلمة إلى جذرها العربي فيما يراه.
وعلى هذا النحو تجري المقابلة بين مئات من المفردات تتشابه بالحروف، ولكن هذا التشابه لا يكفي لتحقيق اقتباسها من العربية إلا إذا كانت مادة الكلمة في جذورها غريبة عن لغاتها الأجنبية، وكان استخدامها عندنا سابقًا لاستخدامها عندهم بمعناها، أو ما يقرب من معناها. وهو ما يصعب تحقيقه، أو يظهر من التحقيق أحيانًا أن للمادة أصالة واستخدامًا بتلك اللغات سابقًا لاستخدامها بلغتنا.
ونحن نعتقد أن اللغة العربية أقدم من معظم اللغات الحديثة، وأن شواهد سبقها في القدم تزيد على الشواهد التي يستدل بها على سبق أقدم اللغات الأخرى، ولكننا نحسب أن المقابلة بين الكلمات لا تؤدي إلى نتيجة يحسن السكوت عليها في هذا الباب، وإنما نفضل على وسيلة المقابلة بين الكلمات وسيلة سهلة نرجع فيها إلى كل لغة على حدة، فلا يصعب علينا بعدها أن نحكم على حظها من القدم بالقياس إلى غيرها.
تلك الوسيلة هي اشتقاق أسماء الحيوان فيها؛ فإن اللغة التي ترجع الأسماء فيها إلى مصدر مفهوم من مصادرها تسبق اللغات التي تتلقى هذه الأسماء جامدة أو منقولة بغير معنًى يؤديه لفظها الدال عليها في أحاديث المتخاطبين بها.
فأسماء الأسد والكلب والنسر والصقر والغراب والفرس والحمار والبغل والجمل والخروف، وعشرات غيرها من أسماء الحيوان هي كلمات ذات معنًى يفهمه المتكلمون بها، ويطلقونه أحيانًا إطلاق الصفات عند المشابهة بين هذه الحيوانات وبين غيرها في إحدى صفاتها.
يقال: أسد الكلب للصيد: أغراه به، وآسد عليه: اجترأ، وآسد بين القوم: أفسد بينهم. ومعنى هذا على كل احتمال في سبق الكلمة اللغوية أو سبق الاسم أن العرب عرفوا هذا الحيوان وهم يتكلمون بلغتهم هذه، ويستخدمونها للوصف أو للاشتقاق والمجاز.
وكذلك معنى الكلب من العض أو القبض وسائر معاني التكالب وألفاظه.
والنسر من الجرح والنقض والتمزيق لفظ أصيل في اللغة على الحقيقة وعلى المجاز.
والصقر من الحدة في الحرارة أو في اللمس أصل صالح لإطلاقه على الطائر المسمى باسم الصقر، أو الموصوف بهذه الصفة.
والغراب من الغربة والإيذان بها؛ حيث يعيش هذا الطائر ويتشاءم الناس بنعيقه في الأماكن التي هجرها سكانها وتخلفت بها البقايا التي يحوم عليها.
والفرس من حدة النظر والاستعانة به على الافتراس.
والحمار من لونه الأحمر الذي يشبه رمال الصحراء؛ حيث عرفه العرب قبل انتشاره في سائر الأقطار.
والبغل من مادة في اللغة العربية أصيلة في معنى الخلط والنسب المدخول، وكل ما هو مدخول غير خالص أو صريح، ويشبههن الدغل والزغل والنغل والوغل. والغين واللام بمعنى الغل الذي يخامر الصدور.
والجمل من مادة الجمل بمعنى الضخامة، والخروف منسوب إلى موعده في الخريف، وهكذا عشرات الأسماء التي تدل على وجود هذه اللغة في أقدم عهد عرفت فيه الأمة العربية هذه الحيوانات. وهو عهد بعيد في القدم لم يعرف قبله عهد لهذه اللغة نقلت عنه تلك الأسماء بغير هذا اللفظ وغير هذا الاشتقاق.
ويقابل هذا في اللغة الإنجليزية أسماء كلها منقولة من غيرها، أو مقصورة على تسمياتها التي لا يعرض لها التصريف في لهجات الخطاب.
ومثلها بقية الكلمات التي ذكرناها وأشرنا إلى جذور اشتقاقها بالعربية، فإنها منقولة من أسماء جامدة ليس لها اشتقاق متداول في لغة الخطاب، فلا حرج إذن من الحكم بسبق اللغة العربية لجميع اللغات التي تخلفت عن زمان التسمية الأولى لثلث الحيوانات بأسمائها المشتقة، وعلى العلم بما تعنيه من وصف وتشبيه.
والعلم بالحيوان المستأنس أو الحيوان المتوحش أقدم شيء في لغات بني الإنسان، فلا نستطيع أن نتخيل أمة — بادية أو حاضرة — عاشت زمنًا طويلًا قبل التاريخ بغير حيوانات مستأنسة أو حيوانات وحشية تسميها وتتحدث عنها، فليس في تواريخ اللغات عهد أقدم من هذا التاريخ، وفيه الكفاية للدلالة على انتشار اللغة، وشيوع قواعد الاشتقاق والتسمية بين أبنائها في ذلك العهد السحيق، وربما تساوت اللغة العربية في القدم وبعض المنقول كان له لفظه المشتق في الأصل القديم … ولكنه إذا رجع إلى أصل جامد غير مفهوم باشتقاقه في لغة الخطاب؛ فهو لاحقٌ الزمن بنشأة اللفظ المشتق والوصف المفهوم.
ولا خلاف في دلالة أسماء الحيوان بألفاظها المشتقة على قدم اللغة العربية عند المقابلة بينها وبين اللغات الأوروبية من أقدم عهودها التاريخية، ويبقى بعد ذلك محل للنظر بين العائلات اللغوية التي سجلت فيها ألفاظ مشتقة لأسماء حيواناتها، ولم تزل لها في معجماتها المحفوظة معاني المشتقات والصفات.