الظرف في اللغة العربية
يستخدم الظرف في اللغة — كما يدل عليه اسمه — لبيان الظروف التي تحدث فيها الأفعال، والتمييز بين «كيفيات» وقوعها أو توقيعها.
ويستدل علماء اللغات — بكثرة الظروف في لغة من اللغات — على أن المتكلمين بها يدركون الحوادث على كل صورة من صورها، ويديرون النظر على كل وجه من وجوهه، ولا يقصرون إدراكهم للحادث على صورة واحدة يكتفون لها، ثم لا يخطر لهم أن يحيطوا بها على حسب تعدد جوانبها وتفاوت وجهات النظر إليها.
وقياسًا على هذا يقارنون بين كثرة الظروف في اللغات الهندية الجرمانية وقلتها في اللغات السامية، وعلى رأسها اللغة العربية، فيرجعون بذلك إلى اختلاف أصيل بين المتكلمين بهذه اللغات في النظر إلى الأمور، والإحاطة بجوانب الحوادث، واحتمال الظروف الممكنة لكل حادث منها غير ظرفها الواقع الذي هي فيه.
ولا جدال في كثرة الظروف في اللغات الهندية والجرمانية وقلتها في اللغة العربية، أو الصواب، على الأصح، أن تكوين الظروف في اللغات الهندية الجرمانية سهل مستطاع لكل متكلم بها ولو لم تكن لتلك الظروف كلمات خاصة بمعناها، فإن الظرف يتكون من الاسم أو من الصفة بإضافة مقطع صغير إليه، ويوشك أن يكون عدد الظروف من ثمَّ مساويًا لعدد الأسماء والصفات.
وليس الأمر كذلك في ظروف اللغة العربية، فإن الكلمات التي تسمى ظرفًا محدودة معدودة للزمان والمكان، ولا خلاف في قلة الظروف بالنسبة إلى الظروف التي يتيسر للمتكلم أن يستخدمها في بعض اللغات الهندية الجرمانية.
ولو وقف الأمر عند ذلك لصحَّ — فعلًا — أن قلة الظروف دليل على ضيق أفق التفكير، وعجز العقل عن تصور «الكيفيات» والأشكال التي تحيط بالحادث، وتجعله قابلًا لكثير من الأوضاع تختلف قوة وضعفًا، وظهورًا وخفاءً، واستقامةً والتواءً، واطرادًا وشذوذًا، على حسب الفاعلين وحسب الأوقات، وحسب الأحوال على الإجمال.
ولكن هل حق ما يقررونه من الفارق الكبير بين عدد الظروف في لغتنا وعدد الظروف في اللغات الهندية الجرمانية؟
ونقول — عن ثقة: إنه غير حق، وإن الخطأ هنا في أسلوب المقارنين لا في قواعد المقارنة الصحيحة بين اللغات. وقد أشرنا في بعض مقالاتنا إلى علة الخطأ في أساليب بعض المقارنين بين الأديان، ونرى من الفرصة الحسنة أن نشير بهذا المقال إلى خطأ يماثله عند بعض المقارنين بين اللغات، وكلاهما يرجع إلى سبب واحد، وهو الأخذ بالظواهر والعناوين، وإغفال الجوهر الثابت وراء الأعراض والقشور.
إن الكلمات التي تسمى ظروفًا في إعراب اللغة العربية قليلة بالقياس إلى اللغات الهندية الجرمانية ما في ذلك خلاف، ولكن الوسائل اللغوية التي تؤدي معنى الظرف أوفر وأوسع في لغتنا العربية من كل لغة هندية جرمانية نعرفها أو نستطيع مراجعتها.
إحدى هذه الوسائل أن اختلاف كيفيات الفعل ودرجاته متحقق من وفرة الأفعال التي تؤدي معنى كل فعل على أشكاله.
فإذا تحدث المتحدث عن هبوب الريح، ففي وسعه أن يقول: إنها نسمت أو خفقت أو سرت، أو هبت، أو عصفت، أو قصفت، أو تهزمت إلى أشباه هذا الترتيب في القوة والتأثير … فيستغنى عن قول القائل بلغة هندية جرمانية: إنها هبت بقوة، أو هبت بلطف، أو هبت بصوت عنيف، سواء أدى هذا المعنى بإضافة علامة الظرف أو بإلحاق الجار والمجرور.
وإحدى هذه الوسائل أن التضعيف والزيادة عندنا يؤديان معنى الفعل على درجاته وأشكاله يستغنى بها المتكلم عن الظروف، فعندنا مثلًا فتح وفتَّح بتشديد التاء، وافتح واستفتح وفاتح وما يلحق بها من الأفعال المطاوعة، تغني المتكلم العربي عن أداء درجات الفعل وأشكاله بإضافة علامات الظرف إلى الصفات أو إلى الأسماء.
ومن وسائلنا أن صيغ التفضيل عندنا معرفة بأوزانها، ولا حاجة بها إلى العلامات التي تؤدي معانيها باللغات الهندية والجرمانية.
وعندنا الفرق بين مفضول تغني عن بعض الظروف كما يغنينا عن بعضٍ كلُّ فرقٍ عندنا بين اسم المفعول والصفة المشبهة، وبين الفعل الذي يدل على الأخلاق الملازمة، والفعل الذي يدل على التخلق أو الأخلاق العارضة.
ومن وسائلنا «الحال» مفردًا أو جملة، أو جارًا أو مجرورًا متعلقين بمحذوف أو مذكور؛ فأنت تقول: أقبل مبتسمًا، وأقبل يبتسم، وأقبل وهو يبتسم، وأقبل في ابتسام، وتترقى بالابتسام مع قوة الفعل من ابتسم إلى هش، إلى استبشر، إلى تهلل، إلى ضحك إلى قهقهة، إلى أغرب ضاحكًا، كما تستطيع أن تحقق هذا التعبير في ألوف من الكلمات غير كلمات هذه المادة قابلة مثلها للتعبير عن مختلف الظروف والدرجات والأشكال.
ومن وسائلنا «المفعول معه»، وهو ظرف بكل معاني الظرفية في اللغات الهندية والجرمانية، وقولك: «سار والجبل» أو «سار والليل» هو تعبير عن ظرفية المكان والزمان يؤديه أبناء اللغات الهندية الجرمانية بظروف عدة لا تزيد على معنى هذا المفعول.
ومن وسائلنا المفعول المطلق موصوفًا وغير موصوف؛ ففي وسعنا أن نقول: «اندفع اندفاعًا» لتوكيد قوة الاندفاع، وأن نقول: «اندفع اندفاعًا شديدًا»، أو «اندفع اندفاعًا مُوفقًا أو مُطردًا أو مُتلاحقًا» للتعبير عن معاني الظروف التي يعبرون عنها بالمقاطع والإضافات.
وليس باللازم في لغة من اللغات أن يكون للظرف باب واحد من أبواب الأجرومية، أو علامة واحدة من علامات النحت والاشتقاق، وكل ما يلزم اللغة ويحسب عليها أن تؤدي معنى «الظرفية» بعبارة من عباراتها الصحيحة، وأن تعطي العربي كلامًا بلغة أخرى فينقله إلى العربية نقلًا سليمًا يطابق مدلوله ولا يقصر عنه، وقد تكون سعة الوسائل وتنويع الأدوات والعلامات أدل على ثروة اللغة ومرونتها ومطاوعتها لمواضع التعبير على مقتضى الحال.
ولست أذكر في اللغة الأجنبية التي أفهمها فهمًا أفضل من فهمي لغيرها، وهي الإنجليزية، أنني قرأت عبارات الظروف نثرًا أو شعرًا ولم أجد لها مقابلًا يطابقها أحسن مطابقة بوسيلة من الوسائل التي أشرنا إليها.
فالمعول إذن على قوة التعبير اللغوي وليس على عنوان باب من الأبواب في كتب الأجرومية، وقد نرى أن نظرة عاجلة إلى قصة يقصها عربي عن إنسان أو حادث أو مكان تكفي لتصحيح الخطأ السريع في مقارنات بعض اللغويين الآخذين بالقشور والعناوين … فإننا لا نقرأ إحدى هذه القصص إلا أدركنا من كلماتها الأولى مبلغ حرص الرواية على تحقيق «الظرفية» بجمع ملابساتها وعوارضها الزمنية أو المكانية أو النفسية، فهو يتكلم عن بطل القصة، ويذكر هيئة لقائه ومنهج حديثه وملامحه، وهو يقبل أو يعرض أو يتجهم، أو يطرق إطراق التأمل أو الارتياح، ولن نذكر أن قصة رويت بلسان عربي لم تشمل على جملة من الكلمات التي إذا نقلت إلى اللغات الأجنبية نقلت «ظروفًا» كأحسن الظروف في تلك اللغة دلالة على الأحوال والأشكال.
وضمان المقارنة الصحيحة في هذه الحالة أن تترجم الكلام العربي إلى كلام أجنبي، فترى أن «الظروف» طرأت على الترجمة لتحل فيها محل المعاني العربية، ولا تزيد عليها بشيء أصيل في لباب الكلام.
وعلى مثل هذه المقارنة «الجوهرية» يصح الكلام على نقد اللغات والموازنة بين القواعد والأجروميات، ولا لوم على المقارنة بين اللغات ولا بين الأديان، وإنما اللوم على المقارنين كلما تركوا الحقائق ووقفوا عند العناوين.