أوزان الشعر العربي
نشأت دعوة النظر في تعديل أوزان الشعر العربي والاستغناء عن القافية بعد اطلاع قراء العربية على تاريخ الأدب المقارن بين اللغات، وابتداء حركة الترجمة من اللغات الأوروبية عند منتصف القرن التاسع عشر.
ففي تلك الفترة كثرت المقارنة بين موضوعات الشعر في لغات الغرب وموضوعاته في لغتنا العربية، وقيل: إن المسرحية الشعرية ومعها ملاحم الأبطال والأرباب قد ظهرت في اللغات الأوروبية القديمة والحديثة، ولم تظهر عندنا قديمًا أو حديثًا لسهولة النظم في تلك اللغات، وصعوبة النظم في اللغة العربية مع التزام القافية وأوزان العروض.
ولو كانت للعرب شعائر تمثيلية كهذه الشعائر لوجدت عندهم المسرحية الشعرية بقافية أو بغير قافية، أو وجدت مسجوعة تارة، ومرسلة تارة أخرى على وتيرة واحدة يرددها الكهان وأصحاب القرابين.
ومن المحقق كذلك أن المسرحية الشعرية لم تكن لتوجد في الغرب على صورتها الأولى، أو على صورها الحديثة لو لم يتطلبها العرف الديني، ولم يألفها جمهرة الناس في مراسم العبادة ولو كان نظمها من أسهل المطالب الفنية خلوًا من كل قاعدة مرعية في أشعار الأمم، بل في كلامها المنثور.
على أن خطأ الدعوة إلى الاستغناء عن القافية وتعديل أوزان العروض ظاهر لمن يكلف نفسه قليلًا من البحث في حقيقة الصعوبة التي يتوهمونها للأوزان العربية، ويحسبونها حائلًا دون الشاعر وما يختاره من موضوعات النظم، على اختلافها بين آدابنا وآداب الأمم الغربية.
فإن أوزان العروض العربية على إحكامها وإتقانها سهلة الأداء، قابلة للتوسع والتنويع إلى الغاية المطلوبة في كل موضوع يتناوله الشعراء.
وتتبين هذه السهولة من مراجعة التاريخ، كما تتبين من مراجعة التطور الأدبي في العصر الحديث منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى أواسط هذا القرن العشرين؛ فقد اختار شعراء اللغات الفارسية والعبرية والأوردية أن يَنظُموا بلغاتهم في أوزان العروض العربية، وفضلوها على أوزانهم القديمة لأنها أسهل منها وأجمل في موقعها من الأسماع والنفوس.
وقد رأينا أن شعراء العامة لم يتعذر عليهم أن ينظموا الملاحم، أو يتخللوها بالقصائد الموزونة المقفاة في القصص المطولة، من قبيل قصص الزير سالم والغزوات الهلالية وأخبار النبي أيوب عليه السلام، وحكايات البطولة والغرام في اللهجات الدارجة، وكلها تنظم في بحور العروض وتلتزم فيها القافية، ويقدر عليها شعراء أميون لم يدرسوا الأدب، ولم يتعلموا وزن الشعر، ولم يرجعوا في منظوماتهم وموضوعاتهم إلى غير السليقة والسماع.
ولو جمعت أناشيد الأعراس والمآتم التي تنظم على الوزن وتلتزم فيها القافية لامتلأت بها المجلدات، وظهر أنها جميعها أو أكثرها من نظم النائحات الجاهلات في القرى الريفية التي لا تتلقى أناشيدها من معلمي الآداب أو أساتذة العروض.
وقد نظمت المسرحيات وترجمت الإلياذة وغيرها من أشعار الملاحم، فاتسع لها الشعر العربي بعروضه وقوافيه، ولم يكن نقص الترجمة — حيث يوجد النقص — راجعًا إلى عيب في أوزاننا وقواعد عروضنا، كما توهم المتعجلون من نُقَّاد هذه الأوزان والقواعد، ولكنه كان شبيهًا بالنقص الذي يعرض للشعر المترجم من لغة إلى لغة، ولو تُرجِم من اليونانية إلى الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية؛ وكلها تجري على قواعد متشابهة في الأوزان، وفي الاستغناء عن القافية أو التزامها؛ حيث يلتزمونها من أناشيد الرقص والغناء.
والثابت من تجربة الناظرين في تعديل الأوزان منذ ستين سنة أن إلغاء القافية كل الإلغاء يفسد الشعر العربي، ولا تدعو إليه الحاجة، وهي تجربة اشتراك فيها ثلاثة من أعلام الأدب العربي الحديث في القاهرة وبغداد والإسكندرية؛ وهم: توفيق البكري، وجميل صدقي الزهاوي، وعبد الرحمن شكري، وهم من أقدر أدباء عصرهم على الموازنة بين محاسن النظم في اللغة العربية وبعض اللغات الشرقية والغربية … ومنهم من كان يقرأ الشعر بالتركية والفارسية عدا ما يعلمه من أشعار الإفرنج المحدثين والأقدمين.
أما العرب فقد جعلوا القافية واحدة، فأصبحت الإجادة في الشعر عندهم، أو البلوغ به إلى التعبير عن المقاصد المختلفة من أصعب الأمور …
وللعرب نوع من نظم الشعر يشابه ما قلناه عن شعر العجم، وهو نوع المسمى بالمسمط … وهو ما قفي أربع بيوته وسمط في قافية مخالفة …
والرجز أيضًا من هذا القبيل، وقد أراد المؤلف — حفظه الله — بهذه القصيدة التي أسماها بذات القوافي إيجاد مثال للشعر المتعدد القوافي في العربية، وفك هذا القيد الشديد المانع للشعر من الارتقاء.
وهذا رأي أديب يجاري القائلين بصعوبة القافية العربية على رأيهم، ويذلل هذه الصعوبة بتعديد القافية في القصيدة الواحدة.
أما جميل صدقي الزهاوي، فقد عالج النظم بغير قافية، وترك لنا قصائد مطلقة، ولكنها على أوزان العروض؛ كقوله في واحدة منها:
ولكنه أراد أن يبرئ ذمته، ويكل الأمر إلى حكم التاريخ؛ فأبقى هذه التجربة تمضي في طريقها حيث يستقر بها قرارها، وقال في مقدمة الديوان: «ولا أرى مانعًا من تغيير القافية بعد كل بضعة أبيات من القصيدة عند الانتقال من فصل إلى آخر، كما فعلت في عدة قصائد، لا دفعًا لملل السامع من سماع القافية الواحدة في كل بيت كما يدعي بعضهم، فتلك حجة من يعجز عن إجادتها، وإلا لملَّ الناظر وجوه الناس لوجود ألف بارز في وسط كل وجه، بل إراحة للشاعر من كد الذهن لوجدانها، فإن الإتيان بها متمكنة ليس في قدرة كل شاعر. وأجيز للشاعر أن ينظم على أي وزن شاء، سواء كان من أوزان الخليل أو غيره.»
وهذه وجهة نظر أخرى لعلاج هذه الصعوبة، وهي وجهة نظر الشاعر الذي يرى أنه يتورط في اختيار القوافي القلقة إذا أطال النظم على قافية واحدة، ويرى أن يخرج من هذه الورطة بالوقوف عند الحد الذي تنتهي عنده قدرته على القافية المتمكنة، والاحتيال على ذلك بتغيير القافية من فصل إلى فصل في القصيدة الواحدة، ولا ضرورة عنده لإلغاء القافية كل الإلغاء، ولا لإطلاق الشعر من أوزان العروض وإن جاز عنده أن ينظم على غير الأوزان التي أحصاها الخليل.
أما عبد الرحمن شكري، فمن أمثلة شعره المرسل قوله:
ومن أمثلة قوله في نظم القصة من قصيدة نابليون والساحر المصري:
إلى آخر القصيدة التي ينفرد فيها كل بيت بقافية، ولا يخفى على ناظمها موضع الضعف فيها من الوجهة الموسيقية — وهي قوام فن الشعر — ولكنه كان يعتقد أن مصير الحكم في ذلك لألفة السماع، ويترك الحكم الأخير لصقل الأسماع كما قال أبو العلاء، ثم يقرن هذا التصرف المطلق القافية بالتصرف المحدود في الرباعيات والمزدوجات، أو المقطوعات من فصول متعددة تتغير قافيتها بعد عشرة أبيات أو اثني عشر بيتًا، أو ما شاء الشاعر من تقسيم الفصول على حسب الأبيات.
وخلاصة التجارب الواقعية — في الزمنين القديم والحديث — أن القافية لم تكن سببًا لاختفاء المسرحية الشعرية من الأدب العربي القديم، ولم تحل في الزمن الحديث دون ترجمة الملاحم أو وضع الروايات المسرحية في شتى الموضوعات من حوادث الحاضر أو حوادث التاريخ، وأن كل صعوبة تُعزى إلى القافية العربية لم تكن لتعجز العامة الجهلاء عن الملاحم والقصص، ونظم الأمثال والعبر على الأسلوب الذي يتداولها جمهرة الأميين، فضلًا عن الشعراء والدارسين.
فإذا تجددت الدعوة إلى النظر في القوافي والأعاريض؛ فالذين يطلبون إلغاءها يثبتون بذلك عجزهم عن موازنة النظم الذي يستطيعه العامة والأميون، ولا خير للآداب العربية في عمل فني يتصدى له من لا يقدرون عليه، ومَن لم يُخلقوا له، ومَن ليس عندهم فيه استعداد فطري يضارع استعداد شعراء الربابة وناظمي القصص الهلالية وما إليها.
فإن لم يكن طالب القضاء على فن العروض العربي عاجزًا هذا العجز المعيب في مقاصده الفنية، فهو طالب هدمٍ صريحٍ لغرض غير صريح، ولكنه كذلك غير مجهول؛ لأنه يلحق في هذا العصر بمن يهدمون كل تراث، ويقتلعون كل أساس، ولا يقنعون بشيء دون فوضى الآداب والعقائد والأخلاق.