اللغة العربية بين لغات الحضارة العصرية
حضَرْنا زمنًا — في مطلع الشباب — كنا نستمع فيه إلى خطب المساجد، وخطب المنابر الأدبية والسياسية، ونقرأ الصحف والنشرات، فلا نخرج مما سمعناه وقرأناه بغير معنًى واحد متكرر، يبتدئ وينتهي بالنعي البالغ على الأمة، وتشديد النكير على الحاضرين والغائبين من أبنائها، ووصفهم كافة بالجهل والغفلة، والتخلف عن سائر الأمم في كل حميد مشكور من الأخلاق والعادات: عاداتها وأخلاقها.
وحضرنا زمنًا بعده تبدلت فيه هذه النغمة، وانتقل بنا خطباؤه وكُتابه من غاية الذم إلى غاية الثناء، فنحن أشرف الأمم، وأقدر الأمم، وأصلح الأمم، وغيرنا من الأمم لا يساوينا ولا يلحق بنا في مأثرة من مآثر الشرف والقدرة والصلاح!
وجاء بعدهما زمن وقفنا فيه بين بين! وسمعنا فيه بعض الذم وبعض الثناء في آنٍ، ولعلنا سنقترب مع هذا الزمن إلى حالة صالحة ليست هي إلى الغلو في التبكيت، ولا إلى الغلو في التيه والفخار، ولكنها حالة النقد المميز، والتشخيص الدقيق لما نحن عليه من صحة وسقم، ومن حاجة إلى الإكثار أو حاجة إلى الإقلال.
كل أولئك أدوار لازمة محمودة العاقبة في أوقاتها، فالتبكيت لازم للإيقاظ والإنهاض، والفخر لازم لاستعادة الثقة بالنفس والاعتماد عليها، والاستعداد للحرية بعدتها الصالحة، ويلزمنا بعد الثقة بالنفس أن نقصد فيها، فلا ننتهي بها، ولا تنتهي بنا إلى الغرور الباطل، والادعاء الرخيم.
ومثل هذه الأدوار قد مر باللغة العربية فيما يحسب لها وما يحسب عليها، وما هو من حقها في كلا الحسابين.
عرف الناطقون بالضاد قديمًا أنها أفصح اللغات، وكاد الفخر بها أن يتمادى إلى إنكار الفصاحة على سائر اللغات.
وجاءنا عصر الترجمة الحديث، فرجعنا إلى نقيض ذلك الفخر، وكاد العجزة من المترجمين أن يحيلوا عليها عجزهم، فيهبطوا بها من طبقة اللغات إلى طبقة الرطانات التي حق عليها الركود، وسوف يحق عليها الدثور والنسيان، ثم أفضينا — بعد فترة — إلى أوائل دور الاعتدال بين الأمل فيها واليأس منها، فقال شاعر كبير على لسان اللغة العربية قبل خمسين سنة:
وهذه كتلك أدوار لازمة لها ما بعدها، فلا بد من الشعور بالنقص، ولا بد من علاجه، ولا بد من الثقة المستعادة عن علم أو عن بينة علمية، نعرف بها الحقيقة لننتفع بمعرفتها، ولا نبتغي بها أن نسوقها مساق الفخر الذي لا سند له غير أنه يرضينا.
ومن دواعي الرضا — بحمد الله — أن يسعدنا علم اللغات الحديث فيما نبتغيه من ثقة ومن معرفة بالحقيقة، فإن هذا العلم، الذي تولاه على أيامنا أناس من غير أبناء الضاد، يعطينا معيارًا صادقًا نعرف به مكان هذه اللغة العريقة بين لغاتهم الشائعة، ومنها العريق والمستحدث منذ قرون لا تحسب من الآماد الطوال في أعمار اللغات.
كان نقاد الآداب واللغات عندهم يحسبون أنهم يعطفون على اللغة العربية غاية العطف الذي يقفون عنده ولا يستطيعون الزيادة عليه، حين يقرون لها بأنها لغة جميلة، وينكرون عليها أنها لغة «عالية» في طبقات اللغات الحية، ولكن علوم اللغة التي يقررها نقاد الآداب واللغات تثبت لها «العلو» في الطبقة، كما تؤكد لها صفة الجمال التي لم ينكروها عليها. وبالمعيار المستفاد من هذه العلوم اللغوية نتعرف لها مكانتها بين الألسنة الناطقة، ونقول فيها — بغير لسان الفخر — ما ينبغي أن يقوله الناقد العربي والأجنبي بلسان التحقيق.
إن الفوارق الفكرية أصعب من فوارق الجغرافيا والثروة تعليلًا بأسباب الارتقاء والتطور، ولكن معيار اللغة — وهي تتدرج في أطوار التكوين — أبرز من الفوارق الفكرية جميعًا؛ لأنها قابلة للضبط والتقسيم، وأدنى إلى التقسيم بالضوابط والعلامات من فوارق التفكير والبواعث النفسية، وقد تكون علامات اللغة مما يستعان به جلاء الفوارق عند التباسها على نقاد الفوارق النفسية والاجتماعية.
واللغات في تصنيف بعض علمائها تنقسم على حسب الأجناس والسلالات التي تتكلمها، ولكنه تقسيم يعتريه الاختلاط لاشتراك الأمم في لغة واحدة، أو عائلة لغوية واحدة مع انتمائها إلى أصول متباعدة. وخير منه أن نقسم اللغات على حسب تكوينها وتكوين قواعدها وعوامل التصريف في مفرداتها وتراكيبها. وهو تقسيم يضبط الفوارق ضبطًا كافيًا للموازنة بينها، والمقابلة بين عوامل الفهم والاختيار، وعوامل التقليد والاضطرار في تراكيبها وتعبيراتها.
وتنقسم اللغات من حيث التكوين إلى لغات النحت ولغات التجميع ولغات الاشتقاق.
أما لغات الاشتقاق فهي اللغات التي يعم فيها الفعل الثلاثي في كل مادة، وتجري قواعد الصرف فيها على المخالفة بين الأوزان بحسب معانيها، ويكثر فيها اختلاف الحركة في أواخر الكلمات اتباعًا لموقعها من الجملة المفيدة.
ويشيع النحت في اللغات الهندية والجرمانية، كما يشيع التجميع في اللغات المغولية ولغات القبائل الأمريكية الأصيلة. أما الاشتقاق فهو من خصائص اللغات السامية، وتكاد اللغة العربية من بينها أن تنفرد بعموم الاشتقاق واطراده، مع تحريك أواخر الكلمات حسب مواقعها من الجمل المفيدة.
وربما اتفق اللغويون على قواعد عامة عملت في تطور هذه اللغات جميعًا، ولم تختص بها لغة دون سواها.
ويريدون بالكلمات الإدارية الفكرية كل ما يقصده المتكلم، ويجري فيه على القياس والاستعارة، وإطلاق القاعدة الواحدة على المتشابهات لفظًا، أو المتشابهات لفظًا ومعنًى.
ثم يضاف إلى الظواهر الصوتية في قياس تطور اللغات ظاهرة التمييز والتخصيص في الصفات إجمالًا، وفي المفردات على التعميم؛ كالتمييز بين المذكر والمؤنث والجماد، وبين المفرد والمثنى والجمع، وبين جمع القلة وجمع الكثرة، وبين الصفات العارضة والصفات الملازمة. وهي جميعًا من المزايا التي تمت للغة العربية على مثال لم تسبقها إليه لغة من لغات الحضارة.
فقيام اللغة على القواعد الفكرية دليل يثبت به السبق على لغات الارتجال الجزاف في وضع الكلمات، سواء بالمحاكاة الصوتية أو بالتكرار على غير قياس.
وشيوع القاعدة في فعل كل مادة وفي الأسماء والصفات منها دليل على سبق التفكير في التعبير، وتعميمه على الأحداث والمعاني غير موقوف على أصوات الانفعال والمحاكاة، ويتبع ذلك شيوع الاستعارة وإمكان الجمع بين الوضع الحقيقي والوضع المجازي في كلام المتكلم، لتوسيع وبناء الكلمات على المضاهاة بين المدلولات.
إن دلائل التطور العريق الذي امتازت به لغة الضاد تحقيق علمي يقرره غير أبناء اللغة، وليس بالفخر القومي الذي يعلنه أبناؤها وحدهم بغير دليل.
ومن قبل بسطنا القول عن صلاح الحروف العربية لكتابة اللغات من شتى العائلات اللسانية؛ لأنها صلحت لكتابة اللغات السامية واللغات الطورانية واللغات الهندية والجرمانية، ولم تؤخذ عليها عيوب لم توجد نظائرها وأعيب منها في الحروف الأجنبية.
ولولا أن العادة تدفع الناس وراء الكلام المردد إلى التسليم السريع، وتوهمهم أنهم في غنًى عن تحقيق ما يسمعون وتكرار أصدائه على الأسماع لما ظهر لأحد أن هذه الحقائق المقررة مُفاجأة للأسماع تدهشها كما تدهشها أعجب المفاجآت.