ترجمة المفردات أو العبارات
نبدأ هذا البحث الصغير بسؤال: ماذا نترجم عند النقل من اللغات الأجنبية؟ هل نترجم المفردات أو نترجم العبارات؟ وهل نترجم المفردات بمعناها الأصيل أو نترجمها بالمعنى الذي درج عليه الاستعمال من مجاز أو اصطلاح؟
عاد إلى ذهني هذا السؤال بعد قراءة اللغويات التي كتبها الأستاذ المحقق «محمد علي النجار» في مجلة الأزهر، وعرض فيه العبارة: «توتر العلاقات» التي ترد كثيرًا في كلام المترجمين عن اللغات الأوروبية، فقال: إن اليازجي يرى في مجلة الضياء أن هذه العبارة تفيد عكس المعنى المراد؛ فإنه يقال: وتر القوس إذا شد وترها، وتوتر العصب ونحوه إذا اشتد فصار مثل الوتر، فهي تدل على قوة الصلات ومتانتها لا على ضعفها، والصواب أن يقال: استرخت العلاقات بينها في هذا المعنى.
ويرد الأستاذ النجار على اعتراض اليازجي فيقول: إن تخريج العبارة بما يصح معه المعنى ممكن؛ وذلك أن توتر العصب واشتداده إذا أفرط فيه يشرف به على الانقطاع، وكذلك القوس إذا أفرط في شد وترها أوشك أن ينقطع الوتر.
والذي قاله الأستاذ النجار هو المقصود من العبارة عند ورودها في المصطلحات الأجنبية الحديثة، فإنهم يريدون هذا المعنى، ويريدون معه معنًى آخر يلازم التوتر إذا بلغ من الشدة أن يؤذن بالانقطاع، وذلك أن الخيط إذا توتر أصبح — كما يقولون — «حساسًا» يهتز لأهون لمسة كما يهتز الغاضب للكلمة الهينة التي قد يتقبلها ويغضي عنها ساعة رضاه، وفي هذه الحالة تسوء العلاقات لما يوجب الاستياء ولغيره مما لا يسوء في سائر الحالات.
وموضع الملاحظة أننا نعمد إلى معنًى مستعار في لغته، فننقله بحرفه ونصه مع وفرة الكلمات التي تؤدي هذا المعنى باللغة العربية — أصلًا واستعارة — بكل ما يراد منها في جميع التخريجات.
وعندنا لأداء هذا المعنى كلمات «الحرج والأزم والبرم والعنت والريبة والضيق» … وعشرات غيرها تنصرف إلى المقصودات بكلمة التوتر على كل تصريف وتأويل.
ومن عجيب التوافق في مجازات اللغات أن مادة (برم) عندنا تستخدم للفتل الشديد، كما تستخدم للضجر وقلة الاحتمال، ولكن وجه الاستعارة يختلف بين البرم والتوتر في العبارة الإفرنجية، فإن الضجر عندهم مقرون بالحساسية، وهو مقرون عندنا باللي والتضييق.
ولو نظرنا هذه النظرة إلى مادة الوتر وجدنا فيها معنى النقص، ومقابلة الشفع والائتلاف، كما نجد فيها معنى الشد والإيذان بالانقطاع.
فسبيل المجاز عندنا أوسع من أن نحتاج فيه إلى النقل من اللغات الأخرى، وكلماتنا الأصيلة تؤدي معانيها الأولى وتتسع للمجاز المعقول وللقرائن السائغة على وجوه شتى، وليست هي من الندرة أو الجمود بحيث تضطرنا إلى الاقتراض من الغريب أو الدخيل.
وربما كانت الاستعارة سائغة قريبة في عبارة «التوتر» حين تستخدم لفساد العلاقة بين الدول أو آحاد الناس.
ولكن المترجمين ينقلون أحيانًا عبارات مستغربة لا تقع في الأذواق موقعها الحسن كما تقع هذه العبارة.
ومن ذلك قولهم: إن هذا أو ذاك «يلعب دورًا خطيرًا في السياسة أو التاريخ أو شئون الحياة العامة»، وقد يقبح الذوق في اختيار المواضع لهذه العبارة حتى يقول القائل: «إن الدين يلعب دورًا جديًّا في المسائل الاقتصادية»، أو يقول قائلهم: «إن ذاك البطل العظيم لعب دورًا هامًّا في تشريع زمانه» إلى أمثال هذا السخف الذي يتحرج منه أصحاب اللغة الأجنبية أنفسهم عند استخدام هذه العبارات. ولو أنهم أخذوا مادة «اللعب» بحرفها كما وضعت أصلًا لم يكن لهذا الموقع المعيب عند سامعيها من العارفين بمعانيها؛ لأن أصل المادة عندهم يشمل «الاشتغال»، ويشمل «الحركة» التي تحمل الإنسان وراء مشيئته، ومنها جاءت حركة الرقص، وحركات اللعب والطرب وأشباه هذه الحركات التي تدخل فيها حركة اللعب الهازل وغير الهازل.
ولكن الأصل في مادة «اللعب» عندنا يرجع إلى المهازل الصبيانية، ويأتي — على ما نرجح — من قولهم: (لعب الصبي) أي سال لعابه، و(لعب فلان) أي صنع صنيع الصبيان، وليست الكلمة على معنًى من معانيها الأصلية أو الطارئة بالتي تصلح للاقتران بمعاني التقديس ومعاني الخطر والتعظيم.
ومن قبيل هذا النقل المعيب قولهم: «إنهم أقاموا مأدبة على شرف فلان!» … كأنما كان شرف فلان هذا مائدة أو بساطًا أو سفرة للطاعمين الشاربين. ولو كانت ضرورة التعبير عن المعنى المقصود تستدعي التقيد بحرف العبارة المترجمة لكان لهم عذرهم من حكم الأمانة والاضطرار، ولكننا قد نؤدي المعنى المقصود بكلمات الحفاوة والتكريم والترحيب والتحية وما إليها، فلا تقصر هذه الكلمات عن معنى المأدبة التي تقام على الشرف … فلا تشرفه لفظًا ولا معنًى، وهي مقامة عليه!
ويبدو لنا أن الضرورة لا تقضي علينا بترجمة كاملة من الكلمات الأجنبية في مصطلحاتهم الشائعة غير الكلمات التي تدل على الأعيان والأشياء، وإننا نتكلف عناء لا يساوي كلفته إذا نقلنا ألفاظهم بأصولها واستعارتها، وهي مفهومة عندنا بما وسعته لغتنا من معنًى أصيل أو معنًى مستعار، ولا حرج — مع ذلك — من نقل الاستعارة المجازية حيثما وجدت على وفاق بين أذواقهم وأذواقنا، وبين قواعدهم وقواعدنا، ومن قبيلها استعارة «التوتر» واستخدامها لحرج العلاقة أو فسادها، وتعرض للغضب السريع والاستفزاز المريب، فربما كنا نحن أولى بهذا المجاز وأقدر على تخصيصه بمدلوله؛ لأننا نتلقاه بأسماع ألفت التفرقة بين أصل الكلمة ومجازها، وبين التشبيه الطارئ والشبه القديم.
ومن المنقولات الحرفية المائعة التي تسمعها من الإذاعات الأجنبية كثيرًا في الأيام الأخيرة قولهم: «إن هذه القضية تشكل خطرًا دائمًا على السلام»، أو «إن هذه المسألة تشكل موضوعًا للبحث»، أو «هذا العمل يشكل أزمة من أزمات الأمم المتحدة» … إلى نظائر هذه التشكيلات التي لا شكل لها في قوام لغة الضاد.
فما ضرورة نقل الكلمة بحرفها من اللغات الأجنبية وهي تنقل بجميع معانيها في كلمات لا تحصى من كلمات اللغة العربية.
لم لا نقول: «إن هذه القضية تؤدي إلى خطر دائم على السلام»؟ ولم لا نقول: «إن هذه القضية بمثابة خطر دائم على السلام»؟ ولم لا نقول: إنها ينجم عنها الخطر، أو إنها تتراءى في صورة الخطر، أو إنها ماثلة في صورة الخطر، أو إنها تُؤلِّف أو تُحدِث أو تخلق الأخطار أو ما يشاءون من الأخطار؟ وكم ورد على الأذهان وعلى الألسنة من هذه التعبيرات؛ فلم ينتظر بها قائلوها مئات السنين حتى يخرجها العي والفهاهة من صفحات قاموس يقرؤه صغار تلاميذ؟
إن أشباه هذه المفردات وما تدخله من العبارات والمصطلحات هي التي نريد أن نسأل عنها: هل نترجمها على مثال تلك الترجمات القاموسية التلميذية»، أو نقابلها بما عندنا من اللفظ الأصيل واللفظ المستعار وهو كثير؟