الأدب العربي القديم أدى رسالته ويؤديها
كثرت في العصر الحاضر دعوات التغيير والتبديل في مذاهب الفن والفكر والعقيدة وسائر المذاهب التي تشترك فيها الجماعات البشرية.
وعمت هذه الدعوات أقطار العالم وأجناس الأمم، ولم تخصنا نحن في بلادنا الإسلامية أو العربية.
ولا يستغرب انتشار هذه الدعوات في العصر الحاضر؛ لأن أسبابه كثيرة منتظرة قد نجملها في سببين جامعين: «أحدهما» تلك الرجة العنيفة التي زلزلت أركان العالم بعد الحربين العالميتين، فلم تدع أمة من أممه على حالة كانت عليها، و«ثانيهما» شيوع حرية الرأي بين مئات الملايين من الخلق بعضهم حسن الثقافة، ومعظمهم جهلاء في حكم الأميين، ولكنهم جميعًا ينزعون إلى الاستقلال بالرأي والذوق، ويقابلون التعليم أحيانًا بالتحدي والمقاومة إلى أن يبلغ منهم مبلغ الإقناع أو الطاعة والقبول.
وليست دعوات التغيير كلها نهجًا واحدًا أو سواء في قيمتها، فمنها الصالح المستحسن، ومنها المتعجل المردود، ولكنه يصدر عن نية حسنة، فلا يستر وراءه باطنًا غير الظاهر المتكشف للأبصار والأسماع، ومنها ما هو من قبيل المكيدة المبيتة لترويج مذاهب الهدم، وتقويض الدعائم التي تقوم عليها المجتمعات الإنسانية.
والغالب على الدعوات الصالحة أنها إحياء للقواعد السليمة يزيدها قوة ومنعة، ولا يمسها في أساسها بغرض من أغراض الهدم والتقويض، فهي في جوهرها محاربة للجمود، وخروج بالعقول الإنسانية من سنن الآلات إلى سنن الأحياء الذين يطبقون القواعد في زمانهم على بصيرة علم بما يقتضيه اختلاف الأزمنة والأحوال. وكل دعوة من هذه الدعوات الصالحة خليقة أن تترك بعدها قواعد قائمة تضيف إلى ما تقدمها أو تعززه وتقويه، فهي من عوامل التدعيم والتقويم، وليست من معاول الهدم والتقويض.
أما الدعوات المتعجلة، فإنها تحمل على وجهها طابع العجلة الذي يكشف عن حقيقتها لأيسر نظرة وأقرب رؤية، ومثلها في كل عصر مثل الأزياء التي يقبل عليها طلاب التغيير والتسلية، ويعرضون عنها، كما أقبلوا عليها بغير سبب مقنع غير «اتِّباعهم كل ناعق»، وإيثارهم الناعق الطارئ على الناعق المألوف، وليس أهون من شأن هذه الدعوات المتعجلة على ناقد يعرفها ويعرف أمثالها، ويستطيع أن يبطل لغوها بمجرد الإشارة إليه؛ لأنه من السخف والتهافت بحيث تدفعه إشارة عارضة تنبه الأذهان إلى مواضع الخطأ فيه.
وأصعب من الدعوات علاجًا دعوات الهدم والتقويض التي تتراءى للناس في أثواب النفاق، وتموه عليهم المكيدة باسم الدعوة إلى الحق والغيرة على الإصلاح؛ فإن مهمة الناقد هنا مضاعفة مشتبكة؛ لأنها مهمة الكشف عن الخطأ، ومهمة الكشف عن سوء النية، ومهمة التغلب على الأهواء النفسية التي يثيرها دعاة الهدم والتقويض لتخدير العقول، واجتذاب الأسماع للإصغاء والاقتناع.
وليست هذه الدعوات خاصة بنا في بلادنا الإٍسلامية أو العربية؛ لأن مذاهب الهدم تلقي شباكها حول العالم كله، ولا ترى أنها تنجح في بلد واحد ما لم تتردد وتتجاوب في غيره من البلدان.
ولكن الأمر الذي يخصنا نحن أن الحملة على اللغة في الأقطار الأخرى إنما هي حملة على لسانها، أو على أدبها وثمرات تفكيرها على أبعد احتمال، ولكن الحملة على لغتنا نحن حملة على كل شيء يعنينا، وعلى كل تقليد من تقاليدنا الاجتماعية والدينية، وعلى اللسان والفكر والضمير في ضربة واحدة؛ لأن زوال اللغة في أكثر الأمم يبقيها بجميع مقوماتها غير ألفاظها، ولكن زوال اللغة العربية لا يبقي للعربي أو المسلم قوامًا يميزه من سائر الأقوام، ولا يعصمه أن يذوب في غمار الأمم، فلا تبقى له بقية من بيان ولا عرف ولا معرفة ولا إيمان.
•••
آخر هذه الدعوات التي تعجل بها المتعجلون ودسَّها معهم الدَّسَّاسون: أن الأدب العربي القديم أدب عتيق لا يصلح للبقاء؛ لأنه كان أدبًا «شخصيًّا»، ولم يكن أدبًا اجتماعيًّا يخدم الأمم ويمثل حياتها لها، أو لمن يقرأ تاريخها من بعدها.
ويكفي أن نعلم أثر الأخذ بهذه الدعوة لنعلم أنها لا تبرأ من شبهة الكيد والنفاق وإن تعجل بها أناس من المخدوعين بها على غير علم بعقباها، أو استخفاف بهذه العاقبة.
فإن انقطاع الصلة بيننا وبين ماضينا في اللغة والأدب أشبه شيء بتجريد الإنسان من الذاكرة، وتركه في أيدي المسخرين له أداة طيعة منقادة لكل ما تقاد إليه، بل الأمر أخطر من ذلك وأوخم عقبى؛ لأن فاقد الذاكرة يبقى له قوام آدمي ينتفع به على حسب استعداده للنمو والتعلم، ولكن فقدان اللغة والأدب عندنا يشل ذلك الاستعداد، ولا يبقي بعده «قوامًا إنسانيًّا لهم قوام».
أما جانب التعجل من هذه الدعوة فخطبه هين كما تقدم، وخطؤه ظاهر لا يحتاج إلى أكثر من سطر واحد للإشارة إليه، وليس له بعد الإشارة إليه من قدمٍ يَثبتُ عليها.
فنقول أولًا وآخرًا: إنه لا يوجد في العالم أدب يثبت بين قومه جيلًا بعد جيل دون أن يكون فيه ما ينفعهم، ويعبر عن حياتهم، ولو كان مداره كله على الموضوعات التي يسمونها بالشخصيات، وهي لا تقبل الثبات بعد جيلها لو لم تكن من صميم «العموميات».
أي موضوع — يبدو أنه من مواضيع «الشخصيات» ألصق بها من موضوع المديح أو موضوع الهجاء، أو موضوع الغزل أو الرثاء؟
قد يبدو للمتعجل أن قصيدة المدح كلام لا يعني أحدًا غير السيد الممدوح، والشاعر المادح، ولا فائدة فيها لأحد بعد ذلك غير كاسب المدح وكاسب العطاء.
وليس أظهر من هذا الوهم عند أقرب نظرة؛ فإن قصيدة المدح لو كانت كذلك لما استحقت من الممدوح نفسه أن يبذل فيها درهمًا واحدًا، ودع عنك المئات والألوف مما يذكره الرواة في أحاديث الجوائز والهبات، فلولا أن المجتمع يستفيد شيئًا من القصيدة، ويحفظها لهذه الفائدة؛ لما احتفى بها الممدوح ولا جاشت بها ملكة التعبير في الشاعر.
إن المجتمع يستفيد من القصيدة أنها تحيي فيه أخلاقًا لا قوام له بغيرها في قيادته وسياسته ومعاملاته المتبادلة بين أفراده. وتلك هي أخلاق الشجاعة والرأي والحزم والكرم والمروءة والحياء، وشمائل النبل والفداء، ولم يخطئ أبو تمام حين قال:
فهذا على التحقيق هو «دور» الشعر في بناء المجتمع، والمحافظة على قوامه وأسس تكوينه والدفاع عنه، وإنه لمن الفهاهة أن يقال: إن الشاعر قد يمدح من لا يستحق المديح، وقد يسكت عن إسداء الثناء إلى من يستحقه، فهكذا يمكن أن يقال عن الخطأ والانحراف في تطبيق القانون، ولا يقول أحد — من أجله — بإلغاء المحاكم وإسقاط القوانين.
وربما سلَّم الناقد المتعجل بدور المدح في المحافظة على قوام المجتمع، ولم يسهل عليه أن يسلم بمثل ذلك لشعر الهجاء، فإنه أقرب إلى سقط القول من شعر المديح باستحقاق أو بغير استحقاق.
إلا أن الناقد المتعمق في دراسة المجتمعات قد يُحكِمُ على شعر الهجاء حَكَمَة «الأخلاق» كما يشاء، ولكنه لا يستطيع أن يهمله في الاستدلال على المجتمع وأخلاق خاصته وعامته، وأخلاق شعرائه وأدبائه، ووظيفة الأدب والثقافة المعترف بها بين جملة أبنائه.
فمن شعر الهجاء نعرف الصفات التي تحقر صاحبها بين أبناء عصره … ومن الاعتدال في الذم أو المبالغة في الفحش نعرف كيف كان المجتمع سليمًا يكفي فيه القليل من اللوم للمساس بمنزلة الملوم، أو نعرف كيف كان المجتمع موبوءًا ملوثًا بالعيوب لا يهان فيه المهجو بما دون الإفحاش البالغ في اتهامه بالرذائل والشبهات، فلا يكفي فيه اللوم القليل لإسقاط الرجل الرفيع في أنظار عامة قومه، بل لا بد من الهبوط بذلك الرجل إلى الحضيض ليزدريه من يوقره ويرعاه. وقد نعرف من الهجاء هل يهان الرجل لاتصافه بالرذائل المنسوبة إليه، أو يهان لاجتراء الشاعر عليه، واستخفافه بسطوته وقدرته على الانتقام والتنكيل بأعدائه؟ ونعرف — بعبارة أخرى — أن استبداد الحاكم أهم عند هذا المجتمع من صفاته الصحيحة أو المكذوبة في معايير الأخلاق.
ولا ريب أن وظيفة الأديب تتمثل لنا من مقدار تعويله على المدح والذم في تحصيل رزقه، ومن مروءته أو سقوط مروءته في التوسل بالوسائل المقبولة أو المحظورة لاستدرار الرزق واستخفافه من الممدوحين، جزاء للبلاغة والإجادة وحسن التقدير، أو خوفًا من البذاء وحياءً ممن لا يبالي الحياء.
•••
ولو كلف نقادنا المتعجلون أنفسهم مؤنة النظر إلى أقوال النقاد الغربيين الذين ينتحلون آراءهم؛ لعرفوا شيئًا عن أثر الغزل العربي الذي زعموه لغوًا ذاهبًا بغير أثر، ولغطًا كاذبًا لا يعبر عن عاطفة إنسانية صادقة، ولا عن حياة اجتماعية صحيحة، فإن مؤرخي الآداب الأندلسية قبل الفتح العربي وبعده قد أوشكوا أن يتفقوا على أثر هذا الغزل في تحول آداب الفروسية وشئون المرأة والبيت التي تتصل بهذه الآداب، وقد نسبوا إلى الغزل العذري الصوفي آثارًا متغلغلة في تقاليد القوم وخواطرهم الدينية، ويتواتر هذا الرأي في كتبهم، فلا يتكلف ناقدنا المتعجل جهدًا في مراجعته حيث التمسه من تواريخ الآداب الأندلسية التي تعد بالعشرات.
وفي وسعهم بغير الرجوع إلى أولئك النقاد الغربيين أن يدركوا أن غزلنا العربي يعلمنا — بين الكثير مما نتعلمه من الشعر البليغ — كيف كان ناظموه ومنشدوه ينظرون إلى محاسن المرأة الجسدية والنفسية، وكيف كان الرجل في العصور المتوالية يكسب عطف المرأة وإعجابها، ويكسبها عطفه وإعجابه، وكيف كانت خلائق الجنسين في علاقات التحية، وعلاقات المعيشة، وكيف كانت علاقات البيت والزواج إلى جانب علاقات الجنسين في الحياة العامة، وكيف كانت عواطفهم القويمة وعواطفهم المنحرفة بين عهود الفطرة وعهود الترف وعهود الاختلاط بالأمم الأجنبية، ولا يطلب من فن من فنون الشعر في اللغة العربية أو سواها أن يُصوِّر لنا العالم الذي يشيع بين أبنائه تصويرًا أصدق من هذا التعبير.
•••
ومن لم يفهم من شعر الرثاء في اللغة العربية إلا أنه شعر بكاء ينتهي بانتهاء مأتمه؛ فليس له أن يتصدى لفهم أدب، ولا يستخلص أحوال الناس عامة من أقوال الشعراء أو أقوال المؤرخين.
فنحن قد ننسى أسماء الموتى المبكين في دواوين شعرائنا الأقدمين، ثم نخرج منها بالفائدة الأدبية والفائدة الاجتماعية التي تستفاد من كلام جدير بالاطلاع عليه كيفما كان.
فمن هذا الشعر نتبين قيم الحياة الفانية وقيم الحياة الباقية عند ناظميه والمستمعين إليه، ومنه نتبين عواطف الحزن ودواعيه التي تنم عن مآثر الأموات والأحياء، ومنه نتبين كل خلق يتجلى في موقف الفراق الأخير، ويحمده الناس في مقام العزاء والوفاء، ولا نتبين دلالة الرثاء العربي على «الحياة العربية» من شيء كما نتبين من تخصصه بالناطقين بالضاد، وقلة المشابهة بينه وبين أشعار الأمم في رثاء موتاها، وإن كان الموت قضاء على الأحياء في كل أمة وكل لسان.
فالأدب الذي يصح أن يسمى بالأدب «الشخصي» لا وجود له؛ حيث يعيش الأدب جيلًا بعد جيله، ولا نقول جيلين ولا ثلاثة أجيال. وقد عاش الأدب العربي كما نعلمه الآن أكثر من خمسين جيلًا إذا حسبنا أن الإنسان الواحد تتلاقى في حياته ثلاثة أجيال.
إن خطب النقد المتعجل هين، كما أسلفنا في صدر هذا المقال؛ لأنه يحمل طابع الخطأ على وجهه، فلا يحتاج إلى أكثر من الإشارة إليه، وهذه الإشارة تقول في كلمات معدودات: إن الأدب الذي يعني شخصَ قائلِه ومشتريه بالمال لن يعيش يومًا واحدًا في عُمر أصحابه، فإن عاش خمسين جيلًا فهو أدب أناس آخرين غير القائلين والمشترين.
وخطب الناقدين المغرضين عسير لما يبديه من ظاهر خادع، وباطن مستور، ولكنه قد يكون في هذه القضية أهون من نقد المتعجلين؛ لأن الغاية منه تحقق مآرب العاملين عليه خفية وجهرة، ولا شك في وجود هؤلاء العاملين عليه، ولا في الغاية التي يقصدون إليها، وحسبنا هذا وذاك من تحذير غني عن التوكيد والتكرار.