أسلوب الدرعيات
يضمن القارئ المعنيُّ بأبي العلاء المعري أنه ينتهي من كل قراءة له أو عنه إلى بحث من بحثين كلاهما أصيل في تحصيل الثقافة الرفيعة؛ وهما: البحث في حقائق النفس الإنسانية، أو البحث في حقائق اللغة.
فإن هذا الأديب الكبير — كان على فرط اشتغاله بالتنقيب عن حقائق الفكر والعقيدة — يفرط مثل هذا الإفراط في استطلاع أسرار اللغة، وتقليب وجوه الألفاظ ومعانيها، والمعارضة بين أقوال البلغاء فيها، ويصحب ذلك بامتحان قدرته على الإتيان بمثل «ما أتى به الأوائل» من بلاغتنا الممتنعة، ومن مواطن الإعجاز فيها، على حد قوله:
وكل ذلك ظاهر في شعره ونثره، وفيما التزم به ببعض قيود اللفظ، أو انطلق فيه من قيوده، ليخلفها ببعض الشرائط التي تستعصي على غيره، كمن يقنعون بالقليل الشائع في باب الثقافة اللغوية.
وقد عرض الباحثون في مؤتمر اللغة العربية لدراسة المعري من غير جانب واحد، وكان آخر هذه الدراسات بحث الأديب السوداني النابغ الدكتور «عبد الله الطيب»، عن درعياته التي ألحقها بديوانه «سقط الزند»، وهي إحدى وثلاثون قصيدة ومقطوعة شعرية كلها في وصف الدرع وما يصح أن ينسب إلى الدرعيات، نظر فيها الأستاذ الطيب من جانب التاريخ واللغة وأسلوب النظم، فاستقصى وجهات النظر في هذه الجوانب، وانتهى من المقابلة والموازنة بين أشعار المعري إلى تقرير هذه الحقيقة عن أسلوبه في هذا الباب من أبواب النظم، فقال: إنه مخالف لأسلوبه في سقط الزند مخالفته لأسلوبه في اللزوميات، ولكنه يميل تارة إلى نهج الشعر العاطفي في قصائد الوصف والغزل، ويميل تارة أخرى إلى نهج الشعر الفلسفي أو الحكمي في اللزوميات … وعلل ذلك بما يفهم منه أن هذا الاختلاف راجع إلى نظم الدرعيات في وقت وسط بين الوقت الذي نظم فيه شعر صباه، والوقت الذي استقر فيه على العزلة، وعكف فيه على نظم اللزوميات.
وفي التعليق على بحث الدكتور الطيب يقول العالم اللبناني الدكتور عمر فروخ: «إنه من قراءة الدرعيات بإمعان نظرٍ يتبين أن المعري أراد أن يلتزم فيها حرفي روي، ولكن ذلك لم يتأتَّ له على الوجه الأكمل … وتتفق الدرعيات مع اللزوميات من حيث الغرض في أن الزهد بارز فيها، وأن ذم الدنيا فيها كثير.»
وفيما نرى أن هذا الاختلاف يفسره لنا اختلاف الموضوع، ولا يفسره لنا كل التفسير على الأقل مسألة اختلاف الوقت، أو مسألة المحاولة الناقصة … لأننا نرجع إلى الحالة النفسية التي هي العامل المهم في تكوين بواعث الشاعر، فنرى أنها تشترك في قصائد من الدرعيات، وقصائد من اللزوميات، كما لاحظ الدكتور عمر فروخ، ولكننا نستبعد أن يكون المعري قد خطر له يومًا أن يعالج التزام ما لا يلزم في القافية، فعجز عنه وتركه ليعود إلى محاولته بعد ذلك عند نظم اللزوميات؛ لأن حظه من المعرفة اللغوية في نحو الأربعين من عمره لا يقصر به عن إتمام قصيدة واحدة على نهج اللزوميات إذا خطر له خاطر الالتزام عند نظمها، وما كان ليرضى لنفسه مظنة الإقرار بالعجز عن نظم قصيدة إلى نهايتها على هذا النهج، فيستقيم له في قصائد اللزوميات.
أما اختلاف الموضوع فهو كافٍ لتفسير الاختلاف بين أسلوب الدرعيات وأسلوب سقط الزند واللزوميات، وهو الذي يفسر لنا اختلاف نظم الشعراء الآخرين في قصائدهم الغزلية أو الوصفية، ونظمهم في قصائدهم «الطردية» حين ينظمون في أغراض الطرديات؛ لأن الطرديات والدرعيات كلاهما موضوع واحد يتردد فيه الكلام على مقاعد متشابهة؛ وهي أوصاف السلاح، وعدة الصيد، والفرس، وطراد الوحوش والحيوان.
ومن خصائص أبي العلاء «النفسية» أن نبحث عن اختياره «الدرعيات» موضوعًا بدلًا من هذا الموضوع الذي عرف عند غيره بالطرديات، وظهر فيه اختلاف الأسلوب عند الشعراء الآخرين حين يطردون، وحين يصفون أو يتغزلون.
فأبو العلاء كان يعارض البلغاء، ويحب أن يأتي بما لم تأتِ به الأوائل كما قال، ولا يستهويه باب من أبواب المعارضة كما يستهويه ذلك الباب الذي اختاره الشعراء لإظهار علمهم بغريب اللغة، ودرايتهم بالحياة «الأعرابية» أو حياة الفروسية البدوية، وهو باب «الطرديات».
فهل كان من المعقول — وهو على غرامه بمعجزات اللغة — أن يقرأ للشعراء الأولين منظوماتهم الطردية ولا يخطر له أن يعارضهم فيها؟
ولكن هل كان من المعقول — مع هذا — أن ينظم في الطرديات كما نظموا؟ وأن يقصد القصيد ليقول لنا: إنه ركب الفرس، وسدد السهم، وعدا خلف الطريدة، وأصاب وأدمى وعاد بقنائص الطير، ومصائد الوحش، وصرائع الحيوان؛ ليدخل بها على حليلة تنتظره في الخباء كما ينتظر فرسان الهيجاء؟
وهل يأذن للمعري وقاره المطبوع — الموروث — أن يتقبل السخرية التي تُخامر نفوس قرائه وهم يتخيلونه على حاله ويتخيلونه على دعواه؟
إن الفزع من هذه السخرية في ذهن المعري تمثله لنا لمحة عابرة نقرؤها في رسالة الغفران، وهو يتخيل ابن القارح على ظهر فرس من أفراس الجنة، بعد أن عرض عليه أن يركب فرسين من خيل الجنة فيبعثهما على صيرانها، وخيطان نعامها، وأسراب ظبائها، وعانات حمرها.
فيقول الشيخ كما ألقى المعري على لسانه: «إنما أنا صاحب قلم، ولم أكن صاحب خيل؛ ولا ممن يسحب طويل الذيل … وما يُؤمِّنني إذا ركبتُ طرفًا … رتع في رياض الجنة … وأنا كما قال القائل:
أن يلحقني ما لحق … صاحب المتجردة لما حمل اليحموم … وكذلك ولدك علقمة حلت في العاجلة به النقمة لما ركب الصيد، فأصبح كجده زيد …»
فالمعري يتخيل الوهم الذي يوقع صاحبه ابن القارح في سخرية أهون من سخرية الناس برهين المحبسين، وهم يتمثلونه راكبًا للطراد، فيستكثر هذه الصورة الهازلة عليه … فهل يُسلم مقاده للساخرين بيديه، لينظم لهم في الطراد، ويبتذل للماجنين عجزه وسكونه، وهو الذي كان يستر طعامه عن الناظرين مخافة أن يبصروه على غير ما يرضاه …
إذن لا سبيل إلى النظم في أغراض الطراد، ولا سبيل كذلك إلى اجتناب هذا الباب الوحيد الذي أولع به أناس من الشعراء أقل منه علمًا بغريب اللغة وأخبار الفروسية البدوية، فليكن له إذن باب غير باب الطراد، ولكنه شبيه به في أغراضه، وفي اتساعه لغرائب اللغة وأحاديث الفروسية البدوية! وهو باب الدرعيات.
فالدرعيات هي «طرديات» أبي العلاء، وعدوله عن «الطرديات» إلى الدرعيات إنما كان على سنته في كل معارضته للأقدمين، وهي سنة الإتيان بما لم يأت به أولئك الأقدمون الأولون.
إن الطرديات كانت تنظم في بحر الرجز، فلينظمها هو في سائر البحور، وليملأها من غرائب الأخبار بما لم يعلمه قبله أحد من السابقين إلى هذا الباب؛ لأن أبا العلاء كان يستخف بالرجز ويحسبه طبقة من طبقات النظم دون طبقة القصيدة في سائر أوزان العروض، ومن هنا جعل للرجاز جنة خاصة في رسالة الغفران دون جنة الشعراء.
ولم يكن وقار أبي العلاء الذي أخافه من سخرية الركوب للصيد خلقًا طارئًا عليه من أخلاق الهرم بعد الشباب، أو أخلاق الحلم بعد الجهل، أو أخلاق القناعة بعد الأشر والطماح … بل هو خلقه الذي لازمه في عهد سقط الزند كما لازمه في عهد اللزوميات، وبهذا الوقار رثى أباه، فاستعظم أن يتوهمه مهرولًا في موقف الحشر كما يهرول المبعوثون حول الحوض:
فلا جرم يختار لطردياته مجالًا غير مجال الطراد والسباق، وغير المجال الذي يقحمه على الفروسية إقحام المدعي لأمر يركبه مركب السخرية والمجون.
ودراسة الأبواب الشعرية هي في جميع الشعر دراسة لغوية نفسية، ولكن المعري — خاصة — بين هؤلاء الشعراء أجدرهم أن يعطينا من تفسيرات علم النفس أضعاف ما يعطينا من تفسيرات علوم اللغة كافة، على وفرة غريبة من هذه التفسيرات.