كلمة ختامية
من الملائم لهذه المقالات المتفرقة في اللغة أن نتبعها بكلمة ختامية في مسائل جامعة من مسائل النحو، وهي مسألة العامل وتقديره على حسب مواقع الإعراب، وهي أجمع مسائل النحو لبحوثه المختلفة؛ لأن النحو كله قائم على اختلاف الحركات على أواخر الكلمات، بحسب اختلاف عواملها الظاهرة أو المقدرة.
والرأي الذي انتهينا إليه، بعد مراجعة الأقوال المتعارضة في المسألة، أن الحكم الصواب فيها وسط بين الطرفين، كأكثر ما يكون حكم الصواب بين الأطراف المتباعدة.
فالمنكرون للعامل — ظاهرًا ومقدرًا — مخطئون؛ لأن الشواهد لا تحصى في الشعر المحفوظ في عصر الدعوة الإسلامية على اتفاق حركة الإعراب مع اتفاق الموقع، وشواهد ذلك في قوافي القصائد أظهر من الشواهد الأخرى في الكلمات التي تتخللها، وليست قواعد هذا الشعر بنت جيلها، ولا بنت جيل محدود منذ نشأة اللغة العربية. وهذا فضلًا عن الشواهد المطردة من آيات القرآن الكريم ومن الأحاديث النبوية على تعدد روايتها؛ لأن الروايات التي نقلت بها الأحاديث تضيف إلى الشواهد، ولا تتنقص منها أو تنفيها.
ويقابل هذا الخطأ من الطرف الآخر تعميم العوامل على حسب مدلولاتها اللفظية، كتعميم حكم الرفع وتأويله بتأويل المعنى المفهوم من لفظ الارتفاع، أو تعميم معاني الجزم والكسر على هذا المثال، ثم ضبط مفعول العامل في مواضعه المختلفة على هذا القياس.
وإنما يتوسط الرأي الصواب بين هذين الطرفين؛ فلا جدال في دلالة العامل على معنًى متصل بما تفيده الكلمة في موقعها، وليست الحركات جزافًا بغير دلالة غير دلالة الشيوع والتواتر؛ لأن ذلك واضح في الحالات التي يتفق فيها موقع الكلمة ويختلف المعنى، وأظهر ما يكون ذلك في حكم جواب الطلب أو الشرط مع اتفاق أوضاع الجملة في تركيب أفعاله.
فالجزم لازم في الجواب إذا فهم منه الجزاء، ولكنه لا يلزم إذا وضح للفعل معنًى آخر غير جزاء الشرط أو جزاء الطلب.
وفي القرآن الكريم أمثلة للمواضع التي يرفع فيها الفعل في أمثال هذه الحالات كقوله: فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي (مريم: ٤، ٥)، وقوله: وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (الأعراف: ١٨٦)، وقوله: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَىٰ (طه: ٧٧).
فليست «يرثني» في الآية الأولى جزاء متعلقًا بهبة الولي، ولكنها صفة للولي الموهوب للطالب أو الموهوب لغيره، وليست «يعمهون» جوابًا للأمر بالترك، ولكنها حال يؤدي معناه أن يقال: «عَمِهِين»، وليست «لا تخاف» نتيجة لضرب البحر أو فتح الطريق فيه؛ لأن الكلام بعد الأمر جملة أخرى في معنى أن يقال: «أنت لا تخاف ولا تخشى.»
ومثل هذا اختلاف الإعراب في جواب الشرط باختلاف زمنه كما في قول زهير بن أبي سُلْمى:
فإن «يقول» لم تجزم في الجواب؛ لأن إتيان فعل الشرط بصيغة الماضي يتحول بالمعنى من الاشتراط إلى بيان عادة معهودة من الممدوح في كل زمن غير معلقة بفعل واحد يفعله بعد ذلك.
وقد كنا ننكر على المشتغلين بالنحو اعتبار الشرط معلقًا بموقع الفعل من الجملة دون موعده من الزمن؛ لأن الجزم المعلق بالشرط يزول إذا بطل الاشتراط، وحلَّت محله عبارة تفيد الإخبار عن حالة حاصلة في جميع الأحوال.
ولهذا انتقدنا الأستاذ مصطفى صادق الرافعي حين خطَّأ أحمد شوقي في قوله:
فقال: إن صوابها «تمل»؛ إذ هي جواب «إن» الشرطية، فكتبنا نصحح هذه التخطئة، وقلنا من مثال في مجلة المقتطف (عدد ديسمبر سنة ١٩٣٢): إن الخطأ إنما هو في هذا التصحيح؛ إذ كان رفع جواب الشرط المسبوق بفعل ماضٍ جائزًا.
وإنما كان سبيلنا دائمًا منذ اشتغلنا بتدريس النحو أن نُفهم الطلاب أن الالتفات إلى معنى الجملة واجب قبل الإعراب، ولم يحل رأينا في شعر شوقي دون التمثيل ببيته هذا عند شرح «باب الشرط». وقد كان معنى البيت — كما فسرناه لتلاميذنا يومئذ — أن الشاعر يخبر عن حالة مضت، ثم عن عادة تتكرر في كل حالة، ولا يصح أن يقول في هذا المقام: إن المعشوقة ستفعل ذلك بعد رؤية ستكون، فليس هذا هو المعنى المقصود، ولا يستقيم الحكم النحوي إذا فُهم على غير معناه.
فإذا تقررت صحة العامل في النحو، وتقرر اختلاف الحكم النحوي باختلاف معناه؛ فإنما الخطأ بعد ذلك في تقديره بحسب لفظه أو حسب الإعراب الذي يلزم من تركيب ذلك اللفظ، كقولهم في الاختصاص: «إني أخص كذا»، فلا يقع المختص على هذا القول إلا منصوبًا؛ لأنه مفعول!
ولكن ألا يجوز أن تنوه بالاسم وهو مرفوع بعد المنصوبات، فيكون معناه أنه «مخصوص بالتنويه»، أو أنه يجب أن يكون كما تقدمه خلافًا للمظنون؟
بلى: ذلك جائز كما جاء في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (المائدة: ٦٩).
فالمعنى المقصود هنا أن الصابئين والنصارى أيضًا كالمؤمنين والهائدين في أمانهم من الخوف متى آمنوا إيمانهم، وعملوا مثل عملهم، ونحن نفهمه على هذا المعنى كما نفهمه إذا قيل: «وكذلك الصابئون والنصارى.»
والمعنى الوحيد الذي لا يجوز لذي فهم أن يفهمه في هذه الحالة، أن هناك خروجًا على قواعد اللغة في هذا النسق، أو في قوله تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ (البقرة: ١٧٧).
فإن الذي يفهم هذا الفهم مطموس البصيرة على جميع وجوهه؛ إذ ليس لقواعد الكلام العربي مصدر غير أولئك الذين حفظوا هذه الآيات من النبي عليه السلام إلى الصحابة والتابعين من حفاظ القرآن، ومهما يخطر على بال الناقد المتعجل من جواز الخطأ عليهم، فإن أحدًا من الناس لا يخفى عليه الفرق بين «الموفون» و«الصابرين» من مجرد الاستماع إلى الكلمتين، فلا يتأتَّى النطق بهما إلا عن قصد له معناه.
ونستفيد إذن من هذا القصد الذي لا ريب فيه، أن العوامل حقيقة لا تنفصل عن أثرها في حركات الإعراب، وأن تصحيح الإعراب قد يعين على فهم الكلام، كما يعين فهم الكلام على تصحيح الإعراب، وأننا إذا أحسنَّا تقدير العامل دفعنا اللبس عن العبارة بألفاظها ومعانيها، وقد نخطئ التقدير فلا نلغي وجود العامل؛ لأن احتمال الخطأ لا يمنع احتمال الصواب.
ويبقى أن نسأل: لماذا يكون الرفع أثرًا لهذا العامل، ويكون النصب أو الخبر أثرًا لغيره؟
فكل ما نستطيع من جواب أننا نملك اليوم أن نكتشف من حركتين بين الحركات بعض السبب لارتباط العامل بأثره، وهما: حركة الجزم وحركة التنوين بما فيهما من دلالة على التوكيد، أو دلالة على الإطلاق، ولكننا لا نستطيع اليوم أن نفهم جميع الأسباب في جميع الحركات وعواملها، إلا إذا استعدنا الزمن السحيق الذي كان فيه نطق الكلمة مقرونًا بالإيماء من اليدين، والإشارة من الملامح، والتغيير في قوة الصوت ونغمة التوقيع والتمييز — بغير الكتابة — بين الخطاب في الظلام والخطاب في النور، أو استعدنا الزمن الذي كانت اللغة فيه تركيبًا جامعًا في فن التمثيل وفن الموسيقى، وفن التصوير المنظور والمسموع.