الحروف والمعاني في اللغة العربية
كتب إليَّ الشاعر الكبير الأستاذ رشيد سليم الخوري معقبًا على رأيي في دلالة الأوزان ومخارج الحروف باللغة العربية — من كتاب اللغة الشاعرة — فقال حفظه الله: «… قد تنبهت بطول المراجعة إلى أن حرف الفاء هو نقيض حرف العين بدلالته على الإبانة والوضوح: فتح، فضح، فرح، فلق، فجر، فسر، إلخ … مما يعيى إحصاؤه ويندر استثناؤه، وأن حرف الضاد خص بالشؤم يسمُ جبين كل لفظه بمكرهة لا يكاد يسلم منها اسم أو فعل: ضجر، ضر، ضير، ضجيج، ضوضاء، ضياع، ضلال، ضنك، ضيق، ضنًى، ضوى، ضرارة، ضئزَى، وبعكسه الحاء التي تكاد تحتكر أشرف المعاني وأقواها: حب، حق، حرية، حياة، حسن، حركة، حكمة، حلم، حزم، وأرى أنها لهذه المزية ولامتناعها — أو على الأقل مشقتها — دون سائر حروفها الحلقية على حناجر الأعاجم هي أولى بأن تنسب إليها لغتنا؛ فنقول: لغة الحاء، بدلًا من قولنا: لغة الضاد.»
•••
والرأي الذي أوجزه الشاعر الكبير موضوع بحث مفيد يتصل ويتفرق بين المشتغلين بأسرار اللغة العربية أو «بذوقياتها» وطرائف تركيبها، وآخر مناقشة فيها حضرتها كانت بين رجلين من كبار رجال المحاماة؛ وهما: الأستاذ نجيب برادة الذي كان زميلًا لنا بمجلس الشيوخ، والأستاذ إبراهيم الهلباوي — رحمهما الله. وكان الأستاذ برادة يبحث عن أثر الحروف في السمع، وعلاقة ذلك بالفصاحة والإقناع، ويعتقد أن «الحاء» أظهر الحروف أثرًا في الإيحاء بمعاني السعة — حسية كانت أو فكرية — ويعمم الحكم فيسوى بين موقع الحاء في أول الكلمة وموقعها في وسطها أو آخرها، ويتمثل بكلمات الحرية والحياة والحكم والحكمة والحلاوة، وهو — رحمه الله — قد كان في خلائقه مثلًا للحلم والحكمة والأناة، ولم تكن شدته في الدفاع أو المناقشة والمناقضة تحول يومًا دون ابتسامة اللطف والبشاشة على شفتيه.
ولقد كان زميله الهلباوي — على عادته في الفكاهة والدعابة — يسخر من فلسفته «الحائية» كما يسميها، ويقول: إن اسم «الحمار» مبدوء بالحاء، وإن أشيع اللفظات على ألسنة النادبات يتردد فيها حرف «الحاء».
وإن «حسين فلان» … ويسمى صاحبًا لهما باسمه واسم أبيه من أضيق أصحاب العقول والصدر …!
وكنا إذا ضحكنا من هذه الدعابة لا نسمح لها أن تختلط بين النكتة والحجة، ولا ننسى خطر الفكاهة في مقام الاستدلال على الجد والحقيقة، إلا أننا نخالف الأستاذ برادة في تعميم الحكم على الحروف بغير تفرقة بين مواقعه في الكلمات ومواقعه في السماع. وقد ضربنا له المثل بكلمات لا تغيب عن المحامين على التخصيص: وهي كلمات «الحبس والحجر والحرج والحد والحساب والحرس» وغيرها من الكلمات التي تناقض معاني السعة بالحس أو بالتفكير.
ونحب أن نعود إلى هذا البحث بمناسبة الرأي الذي أبداه الأستاذ الخوري فنقول: إن «الحاء» حقًّا من الحروف التي تصور معنى السعة بلفظها ووقعها في السمع، ولكن على حسب موضعها من الكلمة، ومصاحبة ذلك الموضع للدلالة الصوتية، وليست دلالتها هذه مصاحبة للفظها حيث كانت في أوائل الكلمات أو أواسطها.
فالحكاية الصوتية واضحة في الدلالة على السعة حين يلفظ الفم بكلمات «الارتياح والسماح والفلاح والنجاح والفصاحة والسجاحة والفرح والمرح والصفح والفتح والتسبيح والترويح»، وما جرى مجراها في دلالة نطقه على الراحة في الضغط والقيد في مخارج الأصوات.
ولا يمتنع مع هذا أن تكون «الحاء» المنفردة حرفًا سهلًا قليل الحاجة إلى الضغط في مخارج الصوت، ولكن يجوز أن يكون البدء بهما مقصودًا به عند وضع الكلمات الأولى أن تتبعه الحركة التي تناقض معنى السعة لتدل على الحجر والتقيُّد، فإن الجيم الساكنة بعد الحاء أشبه شيء بعلامة الإلغاء التي توضع على صورة الرجل الماشي على قدميه، ليستفاد منها «أن المشي ممنوع في هذا المكان» … وكذلك الباء الساكنة بعد الحاء في اسم «الحبس»؛ فإنها تنفي السعة بعد الإشارة إليها في أول الكلمة. وهذا — كما قدمنا — فرض يجوز أن يخطر على البال قبل رفض القول بدلالة الحاء على السعة في أواخر الكلمات، وهي دلالة يعززها التكرار والإحساس بموقع الكلمات المنتهية بالحاء من الأسماع.
وقد ينفعنا الالتفات إلى دلالة الحكاية الصوتية للتفرقة بين حروف الهجاء في خصائصها المعنوية؛ إذ ليست كل الحروف سواء في حكاية الأصوات من أصوات الأحياء أو أصوات الجمادات، وإنما يقع بينها الاختلاف بمقدار صلاحها لحكاية الأصوات المسموعة، فلا يلزم من مصاحبة بعض المعاني لبعض الحروف أن يكون ذلك شرطًا ملازمًا لجميع حروف الهجاء.
فالميم — مثلًا — في أواخر الكلمات تدل دلالة لا شك فيها عند الاستماع إلى كلمات «كالحتم والحسم والجزم والحطم والختم والكتم والعزم والقضم والقطم والكظم» وأمثالها، كلمات لا تخلو من الدلالة على التوكيد والتشديد والقطع الذي يدل على المعاني الحسية، كما يستعار أحيانًا لمعاني القطع بالرأي والإصرار على العزيمة.
وحرف السين على نقيض الميم؛ لدلالته على المعاني اللطيفة كالهمس والوسوسة والنبس والتنفس والحس والمساس والاقتباس، ولكنه يتغير إذا تغير موقعه من الكلمة، كما يلاحظ في المشابهة اللفظية والمعنوية بين «السد والشد والصد» … ولعله سريان العدوى المقاربة بين الألفاظ يتسرب مع طول الاستعمال إلى المعاني والدلالات.
وربما فعلت المجاورة فعلها عند نقل الحروف من الدلالة على المعاني اللطيفة إلى الدلالة على غيرها، كما يحدث في كلمات الكسر والقسر والعسر والأسر والخسر ومشتقاتها وفروعها، وهي غير مجاورة الياء والفاء في التيسير والتفسير.
وقد تكون الدلالة الصوتية مطردة متماثلة بين جميع الكلمات، ولكنها تحسب من الاستثناء عند النظر إلى المعنى على اعتبارين غير متماثلين.
فالكتمان من الكتم شبيه بالكظم والقطم في الحركة الحسية التي تتصورها عند الإكراه على كتمان الصوت والنفس، ولكن الكتمان يوحي إلى الذهن بالمعنى اللطيف حين نريد به الخفاء والسكوت، ولا شذوذ هنا في الدلالة الصوتية أو الدلالة الحسية، وإنما يعرض للذهن وهم الشذوذ عند النظر إلى المعنى على اعتبارين مختلفين.
كذلك يتشابه السطر والشطر بصوت القطع ومعناه، ولكننا إذا نقلنا السطر إلى المعنى: الخط المكتوب، فقد يوحي إلى الذهن معنًى من معاني النحافة واللطف والنحول، ويتباعد المسطور والمشطور على هذا الاعتبار وهما في الأصل متقاربان.
ومن الأصوات ما يلوح لنا أنها متناقضة وهي لا تتناقض في لبابها، ولكنها تتناقض في التقدير؛ لأنها بطبيعتها متوافقة على المعاني التي تقترن بها، وليست لها معانٍ ثابتة بالنسبة إلى ذواتها.
ومن هذا القبيل كلمة الجيل وكلمة القبيل؛ فإننا إذا نظرنا إلى اعتبار اللفظ فيهما وجب أن يكون معناهما واحدًا؛ لأن القاف لا تقل في التفخيم وبروز اللفظ عن الجيم، ولكن العبرة بالشيء الذي تضاف إليه القلة أو الكثرة، لا باللفظ الذي تسمعه الأذن من إلقاء الكلمة على انفراد.
فالقليل من القوة مثلًا كثير من الضعف، والكثير من المرض قليل من الصحة، والخطب إذا جل قل الصبر على احتماله، والجليل إذا غطى الشيء فالذي يظهر منه قليل.
وليس من العجيب إذن أن يأتي وصف الجلل بمعنى الجسامة كما يأتي بمعنى الهوان على الضدين.
•••
والنتيجة بعد هذه الملاحظات السريعة قد تكون كبيرة الجدوى مع التوسع فيها، وتعدد الناظرين إليها من جميع جوانبها، وخلاصتها:
أولًا: أن هناك ارتباطًا بين بعض الحروف ودلالة الكلمات.
وثانيًا: أن الحروف لا تتساوى في هذه الدلالة، ولكنها تختلف باختلاف قوتها وبروزها في الحكاية الصوتية.
وثالثًا: أن العبرة بموقع الحرف من الكلمة لا بمجرد دخوله في تركيبها.
ورابعًا: أن الاستثناء في الدلالة قد يأتي من اختلاف الاعتبار والتقدير، ولا يلزم أن يكون شذوذًا في طبيعة الدلالة الحرفية.
ولا نعرف بين اللغات الكبرى لغة أصلح من لغتنا العربية لهذا الباب من أبواب الدراسات اللغوية؛ لأن مخارج حروفها مستوفاة متميزة خلافًا لأكثر اللغات التي تُعوزها الحروف الحلقية أو تلتبس فيها مخارج حروف الهجاء.