تيسير على قاعدة
من مقاصد اللغة التي يشتغل بها دعاة الإصلاح ودعاة التجديد تيسيرات كثيرة؛ نذكر منها: تيسير الكتابة، وتيسير النحو، وتيسير العروض، وتيسير التعريب.
والتيسير مطلوب لذاته حيثما تيسر، فلا يحسن بنا أن نستصعب وبين أيدينا باب من أبواب اليسر نطرقه على أمل، قلَّ أو كثُر، فيما هو أيسر وأقرب إلى الإمكان، وإنه على حب الأنفس له لأدب من آداب الإسلام في أمور الدنيا والدين. ويحق لنا أن نذكر أن الكتابة والنحو والعروض والتعريب إنما هي جميعًا في أصل وضعها تيسير لمطلب لم يكن باليسير، وربما كان عمل الأقدمين في تيسير الكتابة — بالنقط تارة، والشكل تارة أخرى، وتقسيم الخطوط وقواعد الرسم تارات متتابعات — أعظم كلفة، وأبعد أمدًا مما نتكلفه الآن لتيسير الرسم والهجاء، أو تيسير أشكال الكتابة والطباعة، أو تيسير كل ما يستصعب من بقايا المشكلة القديمة إلى العصر الحديث.
أما النحو فهو في أساسه صناعة تيسر كسب السليقة، ونجاحه — هذا المركب الصعب — أمر لا يختلف فيه من يطلبون له اليوم مزيدًا من النجاح.
والعروض كالنحو في تيسير الملكة المطبوعة بوسائل الصناعة، ويلحق بهما التعريب في إجرائه للكلام الأعجمي مجرى الكلام العربي بلفظه أو بمعناه.
فلا مشاحة في التيسير، ولا يُعذَر قادرٌ على التيسير يتركه لغير ضرورة ليتجشم الصعب العسير وهو مكتوف اليدين.
لكن التيسير في هذه المطالب الواسعة لن يتيسر على غير قاعدة، وإنما هو جهد ضائع، أو طريق مضلة لا تُعرف لها حدود، ولا تتضح لها غاية إذا أخطأ الوجهة من فاتحة الطريق.
ومن علامات الانحراف البعيد عن الوجهة أن يحسب المجددون أنهم ينتهون يومًا إلى كتابة لا تحتاج إلى التعليم، أو كتابة تكفي وحدها لتيسير القراءة الصحيحة بمعزل عن اللغة، أو بلغة خالية من القواعد والأصول التي يجتهد فيها المعلم والمتعلم في كل مرحلة من مراحل التدريس.
وقد تجسمت علامات هذا الانحراف في أقوال فريقين من طلاب التجديد أو طلاب التبديل:
فريق يقول: إنه يتمنى للغة العربية أن تصبح كاللغات الغربية يقرؤها الطالب المبتدئ كما تُكتب بغير حاجة إلى الحفظ والاستذكار.
وفريق يقول على مذهب بعض فلاسفة التربية في العصر الحديث: إن العلم كله، سواء علم اللغة أو علم الطبيعة أو سائر العلوم الإنسانية، ينبغي أن يساق إلى التلميذ كأنه تجربة يتلقاها من وحي البيئة المدرسية، ومن جهوده المكتسبة؛ ليختفى أثر المعلم ويختفى تكليف التعلم، وتأتي المعرفة إليه طواعية في مرحلة بعد مرحلة من معاهد التعليم.
والفريق الأول ينظر إلى صعوبات اللغة العربية فلا يراها في اللغات الأجنبية، فيحسب أن هذه اللغات خلو من جميع الصعوبات، وهو غير الواقع كما نرى من أقرب نظرة إلى «الأبجديات» الأوروبية، وهي ثلاث على الإجمال: لاتينية يكتب بها سكان أوروبا الغربية على الأكثر، وغوطية يكتب بها الجرمان على الأكثر، وكيرلية يكتب بها مشارقة القارة على الأكثر، ولا يتفق فيها نطق الكلمة المكتوبة على ألسنة أمتين ولو كانت لهما أبجدية واحدة من هذه الأبجديات الثلاث.
أما قواعد النحو والصرف، فالطالب مضطر إلى حفظ مئات الأفعال لشذوذها عن قواعد الجمع، وإلى حفظ مئات الصفات والظروف لأنها تجري على قاعدة مطردة في اشتقاق الصفة والظرف من الاسم، أو من الفعل، أو من صفة أخرى.
ولا حيلة للطالب في التفرقة بين صيغ الكلمات المنقولة إلى الإنجليزية من اللاتينية، أو من الإغريقية، أو من السكسونية، أو من سائر اللغات القديمة أو الحديثة، والغربية أو الشرقية؛ فإن طريقة الإنجليز في (نجلزة) الأعلام والكلمات أصعب من طريقتنا في التعريب.
فمن ضياع الجهد إذن أن نحاول التيسير بمحاكاة الأبجديات الأوروبية، أو بمحاكاة قواعدها في التركيب والاشتقاق والإعراب.
ولا بد أن نسلم — أولًا وآخرًا — أن معرفة الحروف وقواعد الإملاء لا تغني الطالب عن الحفظ والاستذكار.
أما طريقة التربويين في تيسير التعليم بإخفاء عمل المعلم، أو إسقاط الشعور بواجب التعلم، فهي في الواقع تجاهل لحقائق الحياة، وهدم لمعنى الواجب في أول الواجبات المقدسة التي تصادف الطفل منذ نشأته الأولى.
فمن وقائع الحياة التي لا سبيل إلى محوها: أن التعلم ضرورة لازمة من ضرورات الحياة لكل فرد ينشأ بين أبناء نوعه، ولا يستطيع — مهما يبلغ من جهده — أن يستوعب محصول المعارف النوعية خلال الأجيال المتعاقبة، وليست له مصلحة في جهل هذه الحقيقة وهو يتوجه إلى المدرسة لينفي عنه الجهل بما هو أبسط من هذه الحقيقة، ويدرك عمل العقل والفهم، وحدود الفكر الإنساني بين الفرد الواحد والنوع الكامل من ماضيه البعيد إلى مستقبله البعيد.
وشرُّ زادٍ يتزوده الطالب الناشئ من معاهد التعليم أن يتعلم منها الاستخفاف بواجب التعلم، وهو أول واجب يصادفه في حياة الطفولة، ولن يستقر عنده رأي هو أسوأ أثرًا في تربيته وتكوين أخلاقه من أن يستكثر الجهد على المعرفة، وأن يسقط عن كاهله تذليل الصعاب، أو يخطر له أن تذليلها مطلوب في كل مقصد غير تثقيف العقل، والاعتراف بالفضل لمن يتولى تثقيفه ومعونته على تنمية عقله وهو أحوج ما يكون إلى تلك المعونة.
وإلى أمثال هذا الرأي الوخيم يرجع اللوم في مقال مَن يسأل مثل هذا السؤال: هل يتعلم الإنسان ليتكلم؟ هل يتعلم لينطق؟ هل يتعلم ليقرأ ما هو مكتوب أمام عينيه؟
فإن السائل الذي يفوه بهذا السؤال يخيل إليه أنه سؤال غني عن الجواب، وأن جوابه إذا تكلف أحد أن يجيبه هو: كلا، بكل توكيد!
ومن سخرية المفارقات أن يفوت سائلًا أن الإنسان لا يُطلَب منه أن يتعلَّم شيئًا قط كما يُطلَب منه أن يتعلم ليتكلم، وأن يتعلم ليحسن الكتابة، فيحسن القراءة بغير عناء، وأن يؤمن بواجب التعليم على «الحيوان الناطق» ليكون حقًّا حيوانًا يحسن النطق بجميع معانيه.
وسيضيع كل جهد يبذله طلاب الإصلاح والتجديد إن لم يكن معلومًا من خطواته الأولى أن التيسير مطلوب حيثما استطاعه المستطيع، ولكنه لا يستطيع بعد طول العناء أن يسقط واجب الاجتهاد في تعلم اللغة، وأن يحسب الجهد فيها أكثر مما تستحقه من المعلمين والمتعلمين.