من المقارنة بين اللغات الجملة الاسمية
وبعض الغربيين من أصحاب نزعة التصوف والتحليل النفساني الحديث يردون تأخير الفاعل في لغتنا إلى نوع من «القدرية» الشرقية التي تحيل كل شيء إلى الغيب، ومنهم من يقول: إن الاختلاف بين الأوروبيين وأبناء اللغة العربية في مسألة الجملة الاسمية إنما هو اختلاف في درجة الشعور «بالثبوت» للشخصية الإنسانية، فإن «ثبوت» هذه الشخصية ملازم للتفكير الأوروبي، ولكنه ضعيف عند الشرقيين يسري ضعفه من الفكر إلى اللسان، كما تظهر غلبة الجملة الاسمية على ألسنة الأوروبيين، وغلبة الجملة الفعلية على ألسنة الناطقين بالضاد.
وقد سمعنا هذا الرأي الأخير من مستشرق معروف بالقاهرة يميل إلى التصوف ويكتب في موضوعاته.
ولا يخفى أن هذا الاختلاف بين لغة الضاد واللغات الأوروبية له دلالته التي لا ريب فيها، ولا يمكن أن يحدث لغير سبب يقبل التعليل كما تقبله جميع الظواهر اللغوية، على حسب نصيبها من الجلاء أو الغموض في مراحلها التاريخية.
إلا أن التعليل الذي يرتضونه لهذا الاختلاف غير مقنع، وقد يكون مناقضًا للواقع عند التأمل فيه من بعض نواحيه.
وأول مواضع الخطأ فيه أن القول بتغليب الفاعل على الفعل في اللغات الأوروبية غير صحيح، فإن مكان الفعل في تلك اللغات أثبت من مكانه في لغة الضاد، ويجوز أن يخلو مكان الفعل الظاهر من الجملة العربية، وتفيد معناها المستقل مع تقديره أو تقدير ما ينوب عنه، فيجوز مثلًا أن يقال: «رجل في الدار»، ويفهم منها ما يفهم من قولهم باللغات الأوروبية: «رجل يوجد في الدار»، أو ما يفهم من قولنا بلغتنا العربية: «رجل موجود في الدار.»
بل يجوز أن نفهم من الجار والمجرور بلغتنا ما يفهم من معنى الصفة، وحيث نقول: «رجل في الدار خير من ألف رجل في الطريق.»
فغير صحيح إذن أن اهتمام الأوروبيين بالفعل دون الفاعل أضعف من اهتمام الشرقيين أو اهتمام الناطقين بالضاد.
وشبيه بهذا أن الصفة عندهم متقدمة على الاسم الموصوف، ولا يخفى أن الصفة تشبه الفعل على وجه من الوجوه، وهو وجه الإخبار عن الاسم الموصوف.
فالعربي يقول: «كلام جميل» أو «فضل عظيم»، فيلحق الصفة بالموصوف، ويجعل عنايته بالاسم مقدمة على عنايته بالإخبار عنه، ولكن الأوروبي يعكس وضع الكلمتين على نحو لا يسيغه العربي.
ويجب أن نذكر أن الفاعل لا يكون دائمًا «شخصية إنسانية» يدل تقديمها على ظاهرة «الثبوت» لهذه الشخصية، بل يتفق كثيرًا أن يكون الفاعل جمادًا أو نباتًا، أو بمعنًى من المعاني التي يضعها العقل العربي بموضعها الصحيح من الإدراك ومن الإعراب.
فالقول في الذهن العربي هو اسم يقابل الفعل المسبوق بعلامة المصدر، ومن هنا يتساوى «القول» و«أن نقول» في الإدراك الصحيح.
وإذا جاء الأوروبي فقال بلغته مثلًا: «إن القول يناسب المقام»، فليس هنا ظاهرة من ظواهر الثبوت للاسم؛ لأن الاسم المصدري في حقيقته بديل من الفعل مسبوقًا بالعلامة المصدرية.
وكذلك قوله: «الماء عذب، والهواء طلق، والنور ساطع» وغير ذلك من قبيله حين يكون الفاعل غير إنسان، فهذه كلها أسماء لا يدل تقديمها على توكيد ظاهرة «الثبوت» للشخصية الإنسانية، ولا فرق فيه بين «القدرية» الشرقية وبين «الواقعية» الأوروبية بالنسبة إلى الفاعل الظاهر أو الفاعل المستور.
وقد نسي أصحاب التعليلات التي قدمناها أن اللغات الهندية الجرمانية تتكلم بها أمم كثيرة مختلفة الأمزجة والأفكار، ومن أقصى حدود الهند إلى أقصى حدود القارتين الأمريكيتين، فليست تراكيبها اللفظية دليلًا صالحًا لتعليل الاختلاف بالعقول والأفهام، أو بقواعد النحو والبلاغة.
وليست التعليلات التي أشرنا إليها بصالحة إذن لتفسير الاختلاف بين هذه اللغات وبين لغتنا العربية، ولا بد من علة أخرى تفسر هذا الاختلاف، ويوافق تفسيرها الواقع على نحو أقرب إلى الإقناع.
هذه العلة الأخرى بسيطة سهلة على الذهن وإن تكن من جانب الأوروبيين عسيرة على العصبية القومية.
علة هذا الاختلاف أن اللغة العربية أوفى وأكمل من اللغات الأوروبية، وأن اللغات الأوروبية انتقلت من أطوارها الأولى إلى أطوارها التي ازدهرت فيها قبل أن «تتنوع» فيها أوضاع الكلمات والجمل على حسب موضوعات التفكير والإدراك.
ويغنينا عن الإطالة في هذا الباب أن نذكر أن الجملة الاسمية موجودة في اللغة العربية، وليست مع وجودها قليلة الاستعمال في مواضعها، فليس تقديم الفعل على الفاعل فيها عجزًا عن التركيب الذي يتقدم فيه الفاعل على الفعل، ولكنه تقسيم للكلام على حسب مواضعه، وتصحيح لموقع الفعل وموقع الفاعل من إرادة المتكلم وفهم السامع.
ومتى ثبت لنا الفرق بين موقع الفعل والفاعل في الجملتين الاسمية والفعلية، فالاكتفاء بالجملة الاسمية — كما تقع في كلام الأوروبيين — نقص منتقد، وليس بالمزية التي تدل على الكمال والارتقاء.
وليس في وسع من يفهم مواقع الكلم أن يجهل الفارق بين قولنا: «محمد حضر» وقولنا: «حضر محمد».
فإننا نقول: «محمد حضر» إذا كنا ننتظر خبرًا عن محمد أو عن حضوره على الخصوص، ولكننا نقول: «حضر محمد» لمن يسمع خبرًا من الأخبار على إطلاقه، ولا يلزم أن يكون الخبر عن محمد ولا عن الحضور، بل لعل السامع كان ينتظر كلامًا عن حسن وعن علي كما ينتظره عن محمد، أو لعله خبر سفر وليس بخبر حضور منتظر أو غير منتظر.
وأوسع من ذلك في وسائل التفرقة أن اللغة العربية تسمح بابتداء الجملة بحرف الجر، وتؤدي بذلك معنًى تحسبه الأجرومية الأوروبية مجردًا من الكلام المفيد.
فإذا قال العربي: «في الدار رجل» فهو كلام مفيد، وتقديم الجار والمجرور فيه مقصود؛ لأنه يشتمل على تنبيه لا يؤديه هذا الأداء قول القائل: «رجل في الدار».
•••
وبعد، فهذه مزية من المزايا التي تكشف عنها المقابلة بين لغة الضاد واللغات الأجنبية، وهي مزية من مزايا كثيرة في الألفاظ وفي التراكيب تستحق التنبيه إليها في زمان يكثر فيه من يتحدثون من العرب أنفسهم عن اللغات التي تصلح أو لا تصلح للتعبير السليم أو الفصيح في أبواب العلوم والآداب.