الفاعل في اللغة العربية بين المبني للمعلوم والمبني للمجهول
كتبنا في المقال السابق عن المقارنة بين لغتنا واللغات الهندية الجرمانية في موضوع الجملة الاسمية والجملة الفعلية، وأشرنا إلى رأي بعض المستشرقين الذين يعللون غلبة الفعل على الاسم في ابتداء الجمل بالقدرية الشرقية، وانطباع الشرقيين على إبطال كل فعل غير فعل القدر، مع إنكار «الثبوت» على الشخصية الإنسانية … وقلنا في مناقشة ذلك: إن لغة الضاد تستخدم كلًّا من الجملتين الاسمية والفعلية في موضعها، فهي أوفى من غيرها في هذا الباب، وأن الفاعل لا يكون في كل جملة إنسانًا أو كائنًا حيًّا، فلا محل هنا للقول بإنكار «الشخصية الإنسانية».
ونعرض في هذا المقال لمقارنة أخرى بين لغتنا وتلك اللغات، وهي المقارنة بينها في موضوع الفعل المبني للمعلوم والفعل المبني للمجهول، وهو موضوع له اتصال بموضوع الفاعلية، واستعداد اللغة لإثبات الفاعل على حسب درجاته من الأثر، أو درجات العلم به عند السامع.
فالفعل المبني للمعلوم موجود في لغتنا وفي اللغات الأخرى، ولكن صيغة المبني للمجهول كثيرة بين هذه اللغات؛ لأن اللغة العربية تدل على المبني للمجهول بصيغة خاصة في أوزان الفعل الثلاثي والفعل الرباعي أو الخماسي، أو الفعل المزيد على الجملة، ولكن اللغات الأخرى تدل على المبني للمجهول بعبارة لا اختلاف فيها لتركيب الفعل على كلتا الحالتين.
نحن نقول: «فتح الرجل الباب»، ونقول: «فُتح الباب» بصيغة المجهول، ولكن العبارة الأوروبية التي تدل على ذلك تقابل قولنا: «إن الباب يكون مفتوحًا، أو إن الباب صار مفتوحًا»، وهو تعبير يخلو من دقة الصيغة العربية؛ لأنه أقرب إلى وصف منه إلى الإخبار، ولا سيما التعبير الغالب عندهم، وهو ما يقابل قولنا: «إن الباب مفتوح.»
وتزيد اللغة العربية بصيغة لا وجود لها عندهم، وهي صيغة الفعل المطاوع، فيقول القائل: «انفتح الباب»، ويعبر بذلك عن معنًى لا تدل عليه دلالته الدقيقة كلٌّ من صيغة المبني للمعلوم وصيغة المبني للمجهول.
ويظهر الفارق في الدلالة على المعاني المختلفة في استخدام الفعل في الجمل المفيدة على حسب دلالتها.
فإذا قلنا: «فتح محمد الباب» فهذا لمن يهمه أن يعرف مَن الذي فتح الباب، وإذا قلنا: «فتح الباب» فقد يكون الخبر موجهًا — أيضًا — إلى سامع يهمه أن يعلم شيئًا عن الفاعل، ولكن المتكلم يخبره بأنه لا يعرفه، أو يخبره بأنه يعرفه ولا يريد أن يذكره.
ولكن هناك حالة غير هذه وتلك، وهي حالة إنسان ينتظر فتح الباب ولا يعنيه مَن الذي فتحه، كما لا يعنيه أن يقول له المتكلم إنه يجهله أو يسكت عنه.
في هذه الحالة يقول العربي: «انفتح الباب» فيؤدي المعنى المطلوب بغير خلط بينه وبين الحالات التي ينتظر السامعون خبرًا عن فاعل الفتح، معلومًا كان أو مجهولًا أو مسكوتًا عنه، مع علم السامع به تعمدًا لإخفائه أو لإهماله.
واللغة الدقيقة التي استوفت وجوه الدلالة هي اللغة التي تلاحظ مقتضى الحال في كل عبارة من العبارات الثلاث، ولا تستخدم عبارة واحدة لموضعين ملتبسين، بل تستخدم كل عبارة لموضعها الذي لا لبس فيه.
وهذه هي صفة اللغة العربية في وفائها بالمعاني المقصودة على حسب إرادة المتكلم والسامع، أو حسب ضرورة التفاهم بين الاثنين.
على أن درجة الفاعلية في الاسم في اللغة العربية باستخدام صيغ أخرى تتمم هذه الصيغة من صيغ البناء للمعلوم، أو البناء للمجهول، أو فعل المطاوعة.
فهناك صيغة المبالغة من مادة الفعل نفسه بغير حاجة إلى مادة مستعارة من غيرها.
ففي اللغة العربية صيغ للمبالغة تعطينا من مادة الفتح كلمة «فتاح»، بمعنى الكثير الفتح والمقتدر على الفتح على السواء، ولا مقابل لهذه الصيغة في اللغات الهندية الجرمانية إلا باستخدام جملة أو عبارة مركبة من عدة كلمات.
وفي اللغة العربية صيغة من صيغ المبالغة تحكي الصفة المشبهة باسم الفاعل؛ لأنها تدل على حالة ملازمة بغير اعتبار للحدث والزمان.
ومنها في فتح كلمة «فتوح» بمعنى المطر في أول موسمه، فإن لها دلالة غير دلالة كلمة (فاتح) وغير مجرد المبالغة؛ لأن الفاتح لا يلزم منه التكرار كما يلزم من الفتوح.
أما الصفة المشبهة — عمومًا — فهي أعجب من ذلك في دقة الفهم، ودقة الوضع وجريان الأوزان والمشتقات في هذه اللغة على أساس عميق يدل على عراقتها، كما يدل على بعد عهد أبنائها بالتفرقة بين المفاهيم الذهنية.
ومن هذه الدقة: أن اسم الفاعل لا يوجد في مواد الكلمات التي لا يقصد بها الحدث في الزمان، وإنما توجد الصفة المشبهة وحدها؛ لأنها أوفق لأداء معنى الصفات الملازمة في صيغة الفاعل أو صيغة الإحداث.
ولهذا تجري على الألسنة كلمة «كريم» ولا تستخدم كلمة «كارم» مع سهولتها على اللسان في وصفها المطرد؛ لأن الكرم صفة لا تحدث في كل عطاء، أو كل منحة، أو كل صنيع معدود من الصنائع الكريمة، ولكنه صفة ملازمة ولو لم يحدث فعل الكرم غير مرة واحدة أو مرات معدودة، فإن الذي يعمل عمل الكرماء «كريم» ولو لم تتحدد أعماله، أو هباته ومروءاته، ومن قيل إنه «كرم» فأفعال الكرم منتظرة منه على الدوام، وليست كالحادث المرتهن بزمان محدود ولو تكاثر أو تعدد حينًا بعد حين.
والمطابقة بين الأحكام والمعاني سر من دقائق أسرار النحو والصرف العربيين يخفى على المتعجلين الذين يحسبون اختلاف الأحكام جزافًا يؤخذ بالسماع والتوقيف ولا محل فيه للقياس.
وأظهر ما تظهر هذه المطابقة في باب الصنعة التي تقتضي الموافقة بين معاني النعوت على حسب المقصود منها، والصفة المشبهة آية الآيات في توضيح هذه الدقة التي لا نظير للغة العربية فيها عند التفرقة بين الصفات بفروق لفظية تحيط بأعمق ما بينها من فروق المعنى.
فالكريم معطاء، والمعطاء كريم، ولكن صفة الكريم تأتي من فعل لازم، وصفة المعطاء تأتي من فعل متعدٍ إلى مفعولين؛ لأن الكرم يعبر عن الخلق الثابت الذي لا يتوقف على حدث في زمن محدود، ولكن المعطاء يفعل أفعالًا تجعله موصوفًا بالمبالغة في الإعطاء، ويستغني المتكلم عن صيغة اسم الفاعل مع وجود الصفة المشبهة؛ لأن صيغة «الكارم» لو وجدت لا تؤدي المقصود من فعل «كرم» الذي هو صفة دائمة، وليس بعمل متكرر كذلك التكرار المقصود من صيغة المعطاء. ومن الجائز مع ذلك أن يتكرر الإعطاء ولا كرم، وأن يكرم الإنسان بخليقته ولا يتكرر منه الإعطاء، أو لا يقدر على الإعطاء. ومثل هذا الفارق الدقيق بين الصيغ في الفعل والاسم والدلالة هو منطق اللغة الذي يفهم بالقياس، كما يفهم بالسماع والتوقيف.
وإذا جاءت الصفة المشبهة على وزن «أفعل» كان بها الغنى عن أفعل التفضيل؛ لأنها تدل كذلك على صفة ملازمة لا تختلف في صاحبها بمرات الحدوث ولا بدرجاته، إلا أن تكون المفاضلة بين موصوفين اثنين، فإنها في هذه الحالة تدل على التفضيل بزيادة في نوع الصفة لا في المرات والدرجات، فيقال: هذا أشد بياضًا من ذاك، أو أوضح بياضًا من ذاك، ولا يقال: هذا أبيض منه بهذا المعنى إلا لضرورة من ضرورات الشعر ينص عليها.
لا جرم أن اللغةَ التي تُثبت للفاعل درجاته وأنواعه بهذه الدقة جديرةٌ أن تعلو على منال النقد من هذه الناحية، إن لم نقل إنها أعلى من منال الناقدين من نواحٍ شتى، فلا يقال فيها: إن تعبيراتها مقصورة على الجملة الفعلية؛ لأنها تبطل «الثبوت» للفاعل ذهابًا مع «القدرية» أو ذهابًا مع سواها.
•••
ونحن بصدد الكلام على المبني للمعلوم والمبني للمجهول لا يفوتنا أن نعرض للأفعال التي ترد على الدوام مبنية للمجهول، وتدل في الأغلب الأعم على الإصابة بالعلل والطوارئ التي لا عمل فيها لإرادة المصاب، أو التي يكون المصاب فيها أبدًا بمقام نائب الفاعل، ولا يكون فاعلًا مريدًا لفعله. من هذا القبيل كلمات «زكم، وصرع، وهزل، وفلج» وما جرى مجراها.
ومن اللغويين من يقول: إن هذه الأفعال بنيت على المجهول اجتنابًا لنسبة المرض إلى فاعله في هذا المقام، وهو الله.
ولكنه سبب غير صحيح؛ لأن العربي قبل الإسلام يقول في الدعاء: «قاتله الله، وأهلكه الله، وأبعده الله» ولا يتجنب نسبة الفعل إلى الله، مع أن القتل والهلاك والإبعاد أشد من الزكام، وأولى بالتحرز من ذكر الفاعل — إن كان هو السبب — أن يقع التحرز فيما هو أشد من تلك العلل جمعاء، وهو الموت.
ولقد نزل القرآن الكريم وفيه آيات النكال والنقمة مقصودة بنسبة هذه الأفعال إلى الله جل وعلا؛ لأن نسبتها إليه هي العبرة والتذكير.
فليس بناء تلك الأفعال على المجهول تجنبًا لذكر الفاعل من عهد الجاهلية، ولكنها ترد بهذا البناء على قدر عمل المصاب بها، وليس عمل المصاب بها إلا كعمل نائب الفاعل أو عمل المفعول الواقع عليه فعل الإصابة.
وإننا لنزداد علمًا بالدقة في تكوين هذه اللغة إذا لحظنا أن كلمة «مات» تأتي على غير البناء للمجهول؛ لأنها فعل لازم لا مفعول له غير المصاب به؛ ولأن الإصابة بالموت سواء في كل من مات، ولا اختلاف فيه بين المرات والدرجات.
ولمثل هذا السبب ترد الصفة المشبهة من اللازم في غير الثلاثي كالمطمئن والمستقيم وما في معناهما؛ لأن اللازم أقرب من المتعدي إلى صفة اللزوم، وأبعد منه عن الحدث المتكرر.
وهذه إحدى المقارنات التي تثبت للغة العربية فضلًا لا يثبت لغيرها من لغات الحضارة، فلعله شفيع لها عند أبنائها الذين يحتاجون منها إلى شفاعة؛ جهلًا منهم بذنوبهم، وجهلًا منهم بفضائلها وحسناتها.