الحياة الروحية (١)١
أعجب ما في الإنسان أنه يحيا حياة واحدة هي مزيج من جملة ألوان، فلا تزال فينا طبائع النبات ومظاهره، نبحث عن غذائنا في الأرض كما يبحث، ونعيش تحت رحمة الرياح والفصول كما يعيش، وفينا أيضًا طبائع الحيوان من شهوات وغرائز؛ وفينا العقل الذي يُسيطر على هذه الطبائع الحيوانية، ولكنه يعجز عن السيطرة عليها سيطرة تامة.
وكما يكون نورًا إلهيًّا يَهدي الطبائع والغرائز، قد يكون نارًا شيطانية تثيرها؛ فتجعله أفرس من أسد وأمكر من ذئب. ورقي الإنسان إنَّما هو في استطاعته أن يوازن الموازنة الدقيقة بين ما في باطنه من عناصر نبات، وعناصر حيوان، وعناصر إنسان، وما أشقه من عمل!
وهو — لما في طبيعته من عناصر مختلفة نباتية وحيوانية وإنسانية — قد واجه مشاكل لا تُحصى لا يزال طوال الزمان يحاول حلها وترقيتها.
هو من ناحيته النباتية يواجه مشكلة البيئة التي تناسبه والتي لا تناسبه؛ وغلة الأرض وحاجته منها بعد أن وُزِّعت في البقاع والأصقاع حسب طبيعتها، والأخطار التي يتعرض لها من حشرات وديدان، وجو وعطش وغرق.
وهو من ناحيته الحيوانية قد ورث دينًا ثقيلًا، من غرائز جامحة، وميل إلى افتراس بعضه بعضًا، فكان لا بد له من تحصين للدفاع والهجوم؛ ودعاه ذلك أحيانًا إلى التعاون لصد العدو، وأحيانًا إلى التفرق لقتال بعضه بعضًا، فألَّف القبيلة، ثم الأمة، وتحارب كما يتحارب جنس من الحيوان مع جنس آخر، وتنازع على الطعام وعلى الشراب وعلى الحب الجنسي كما يتنازع الحيوان؛ وساعده ما مُنح من عقلٍ على تنظيم هذا الاجتماع والافتراق، والتعاون والتحارب؛ وعلى العموم استخدم العقل لتنظيم الغرائز الحيوانية.
ثم كان من عنصره الإنساني شوقه الشديد للعلم والمعرفة، فأخذ من مبدئه يتعلم ويُعلِّم، ويورث ما وصل إليه من يأتي بعده من الأجيال، ويخترع اللغة لإيصال معلوماته. ثم أخذ يُنشئ المعاهد؛ يبث فيها ما وصل إليه العلم من الأجيال السابقة، ويزيد في توسيع دائرة المعلوم، وتقليل دائرة المجهول، ثم يستخدم العلم في حياته النباتية والحيوانية، ويُنشئ الصناعات، وهو كلما تقدم تعقدت مشاكله، وتركبت نظمه، فأوجد الوظائف المختلفة في المجتمعات تنظم شئونها، ويقوم كل بقسطه في ترقيتها. فالأسرة تُربي الطفل؛ ومعاهد التربية تكمل تربيته؛ ومعاهد الصناعة تُخرَّج ما يحتاجه العالم؛ والدولة تشرف على هذه الأنواع المختلفة من النظم، وتوحِّد بينها وتوجِّهها.
ثم في الإنسان عنصر روحي بجانب عنصره النباتي والحيواني والعقلي، أحسه الإنسان منذ وجد، وكما أنَّ عنصر العقل فيه مظهره العلم، فعنصر الروح فيه مظهره الدين.
من طبيعة الإنسان الطموح إلى كل ما هو حق وخير وجميل، وقد وَجد مصداق ذلك كله في الدين فاعتنقه، ومن طبيعته الشعور بقوَّة تسيطر على نفسه وعلى العالم؛ ومن طبيعته الشعور بأنَّ هناك روحًا عُليا ليست روحُه إلا شرارة منها وقبسًا من نورها، وأنها تتجاوب معها، فكان ذلك هو الدين على اختلاف مناحيه ومذاهبه وأنواعه وأسمائه وشعائره، لقد شعر — منذ نشأته في بداوته إلى منتهى ما وصل إليه من حضارة — أنَّ في باطنه شيئًا ليس ماديًّا وليس من جنس الأرض. ولما تقدم العلم كل هذا التقدم لم يهتد إلى حلِّ العلاقة بين العقل والحياة، وبين المادة ومظاهرها، ولما فرغ العلماء لعلمهم، وبحثوا واكتشفوا القوانين، وآمنوا بالعلم كل الإيمان، ظل كثير منهم يشعرون بفراغ في أنفسهم، وهذا الفراغ لا يملؤه إلا إيمان بقوة فوق المادة، وروح تسيطر عليها وتبعث فيها الحياة والروح، وأنهم بهذا الإيمان يشعرون بقوة عظيمة، لاتساع نفسهم واندماجها في العالم أجمع، وأنهم والعالم مشمولون بروح عليا تسيِّرهم.
وكما يختلف الناس في مقدار العناصر التي يتكونون منها، فبعض الناس أكبر عناصره العنصر الحيواني، فهو أقرب شيء إلى أن يعيش بغرائزه كالحيوان، لا همَّ له إلا مأكله ومشربه وملبسه؛ وبعضهم العنصر العقلي، كما يتجلى ذلك في العلماء المتخصصين للبحث والمعرفة؛ كذلك بعض الناس يغلب عليهم العنصر الروحي، وهؤلاء يشعرون بنقص في أنفسهم، ويشعرون أن روحًا عليا تشرف عليهم، فيجهدون أن يتحرروا من نقص نفوسهم، ويوسعوا ترقيها بالاتصال بالروح العليا، فتنشرح صدورهم، ويشعرون أن قبسًا من نور أضاء قلوبهم. ويحدث هذا عند نضوج الروح، فيدركون العالم على نحو غير الذي يدركه العالم. ثم يرون التشابه في الموجودات والوحدة فيها رغم اختلاف الأسماء والأشكال؛ وهم لا يقفون عند الظواهر، فيرون الإنسانية في المذكر والمؤنث، ويرون وحدة الإنسان مع اختلاف الألوان والأجناس؛ وهكذا تتسع روحهم حتى يروا الوحدة في الوجود، والله في كل شيء، فيتجاوب العالم معهم ويتجاوبون مع العالم، وتتسع نفوسهم لا إلى حد، ويرون في ذلك سعادة دونها أي سعادة؛ ويشعرون أن الظلام الذي كان يحيط بنفوسهم أخذ ينجذب شيئًا فشيئًا حتى صار نورًا ساطعًا، كالذي ينظر إلى خريطة العالم فلا يدرك منها شيئًا حتى يقع نظره على بلدته فيتعرَّفها ويتعرَّف البلدان الأخرى بالنسبة إليها، فإذا الخريطة كلها مفهومة وإذا هي ذات معنى. يرون أن المادة خيال، والشهوات والرغبات أعراض زائلة، ولكن امتزاج روحهم بروح العالم هو الحق الذي لا يزول ولا يفنى. ويبلغ من شعورهم بوحدة الأشياء أن يشيع الحب في نفوسهم لكل شيء، فألم إنسان ألمهم، وسعادة إنسان سعادتهم، ونجاح الإنسان نجاههم، وفشله فشلهم، حتى ليبغ الأمر ببعضهم أن يأملوا أن تبلغ الإنسانية من الصحة والنضوج مدَى تتمازج فيه أرواحها، حتى يشعروا بالوحدة وبالسعادة ينالها بعضهم، وبالألم يصيب بعضهم، ويعملوا ليبلغوا السعادة جميعًا.
قد كان علماء النفس في حداثة عهدهم يهزءون بهذه الحالات النفسية ويرونها ضربًا من الخيال، وسبحًا في الوهم، فلما نضجوا آمن بها بعضهم، واعترفوا بها في كتبهم، وسجلوها في تجاربهم.
لقد جنى على الحياة الروحية كثرة ما أحاط بها من تخريف وتمويه، فكان بجانب الأنبياء المتنبشون الكاذبون، وبجانب الصوفية الحقة الدجالون الخداعون، وبجانب الملهمين الحشاشون. وكان ما أصيب به الجانب الروحي أكثر ما أصيب به الجانب العقلي، لأن معيار العلم يمكنه في سهولة أن يعرف زيفه، وليس بهذه السهولة الجانب الروحي.
والإنسان بتنميته جانبه الروحي يستطيع أن يدرك من الحق ما لا يدركه العلم، وأن يقوَّي نفسه بما لا يقويها العلم. ومن الخطأ الاستناد على العلم وحده دون الروح.
قد يكون مصلحو الشرق معذورين في دعوتهم القوية إلى البحث العلمي، ونشر المنهج العلمي ووجوب الاعتماد عليه، لأننا في الشرق نعيش على التقليد والتخريف، حيث يجب أن نعيش على العلم في الزراعة والصناعة والتجارة ووسائل التربية وما إلى ذلك؛ ولكن مع التسليم بهذا كله يجب ألا نهمل الروح في دائرتها. ولعل الشرق إذا اتجه إلى هذا الجانب الروحي بجانب اهتمامه بالجانب العلمي فاق الغرب في ذلك؛ لأن له تاريخًا قديمًا في الروحانيات، وهو مُلهِمها الغرب.
إن العلم له دائرته التي يجب أن نعترف له بها، ونؤسس حياتنا عليه في حدوده، ولكن بجانب العلم الروح، وبجانب العقل القلب، وبجانب المنطق الإيمان، ولكل وجهة هو مولِّيها، وما أحسنهما إذا اجتمعا، وما أشقاهما إذا افترقا.
تعجبني قصة طريفة للأديب الكبير «هـ. ج. وِلز» سماها «مملكة العميان»، خلاصتها — فيما أذكر — أن جماعة من العميان طوّح بهم القدر حتى أنزلهم واديًا بعيدًا منعزلًا، تحيط به من كل الجوانب الجبال الشاهقة الوعرة، فعاشوا فيه، ونسلوا عميانًا مثلهم؛ وقد عوّضتهم الطبيعة عن فقدان أعينهم قوة في حِدَّة آذانهم، وبذلك استطاعوا أن يكوِّنوا لأنفسهم مدينة توافق حالتهم وطبيعتهم، ووثقوا كل الثقة بمعارفهم ومداركهم، وآمنوا كل الإيمان أن العالم كله محدود بحدود أربعة هي سلسلة جبالهم، وشاء القدر أيضًا أن ينزل بواديهم رجل بصير، فحدثهم يومًا عن السماء الزرقاء فوقهم وجمالها، والنجوم الساطعة وضيائها، والثلوج المعمِّمة للجبال وبياضها ولمعانها، فلم يشكّوا أنه مجنون، وجزموا أن ما يحدثهم به عن قوة عينيه ورؤيتها لهذه الأشياء ليست إلا ضربًا من الخداع والوهم. وحاول بكل ما يستطيع من قوة وبيان أن يفهمهم أنهم عميان فاقدوا البصر، وأنه بصير، فلم يزدهم ذلك إلا عتوًا وضلالًا، وإمعانًا في الضحك منه والسخرية به؛ وقالوا لو كان في رأس هذا الرجل عقل لتخلى عن هذه الأحلام والأوهام، ووجه همته إلى الحياة الواقعية، والأشياء العملية، وقوي سمعه حتى يبلغ مبلغنا، واتبع الطريقة التي سلكنا، وسار على المنهج الذي عليه أجمعنا. فلما أعياهم أمره قرروا أن سبب مصائبه وفساد عقله يرجع إلى هاتين النافذتين في وجهه التي يزعم الإبصار بهما، وأن لا شفاء له إلا بفقئهما؛ ولكن كان من حسن حظه أن يجد منفذًا للهرب من هذا الوادي.
لقد رمز «ويلز» بهذا إلى ضيق نظر القادة السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين وجمودهم على الآراء العتيقة البالية، ووقوفهم على ما ورثوه من تقاليد من قبلهم، وعدم إصغائهم إلى صوت كبار المصلحين الذين يدعون إلى بناء عالم جديد أساسه التفكير الحر وسعة النظر. ولكن قصته كذلك تصلح مثلًا لمن يريد أن يُخضع كل شيء في هذا العالم للمادة وقوانينها وعلومها، وينكر الروح والله والدين والإيمان، فهو لا يريد أن يعتقد في شيء إلا ما يعتقده سكان هذا الوادي، ولا يؤمن بما يرى هذا الشعب بعينيه — هو يسمع ويرى، ولكن قلبه لا يرى، وروحه لا ترى، ثم هو يزعم أن ما يشعر به المؤمنون ليس إلا ضربًا من الخيال والوهم.
إن الناس يتفاوتون في المعرفة تفاوتًا بيِّنًا، فمن الناس من إذا أراد أن يعلم حجرة وما فيها نظر من ثقب الباب فرأى بساطًا هنا وكرسيًا هناك، ثم زعم أنه عرفها؛ ومنهم من علا درجة عن هذا ففتح الباب ووقف في زاوية من زوايا الحجرة في ضوء قليل وزعم أنه رآها، وهذان موقفهما موقف العامة وأشباههما؛ ومنهم من تعمد أن يدخلها في وضح النهار، ويقف في جميع الزوايا، ويفحص ويمتحن كل ما فيها، وهذا هو العالِم؛ ومنهم من يفعل ذلك ثم لا يكتفي به، بل يحاول أن يعرف شأن الغرفة من المنزل، وموضع المنزل من الشارع، ومكان الشارع من المدينة، ومنزلة المدينة من القطر، ومكان القطر من العالم، وذلك هو الفيلسوف من جانب، والروحي الحق من جانب.
إن في الإنسان ملكات عدة ليس العقل وطريقه العلمي إلا إحداها؛ وخطأ العالم الغربي في القرن الماضي كان تقوية الناحية العلمية على حساب الملكات الأخرى. ويعجبي تعبير طريف قرأته لأحد كتاب الغرب إذ يقول: «لقد أسرع العلم في السير حتى جاوز القلب بمراحل، فواجبنا أن نمنح العلم إجازة حتى يدركه القلب» — لقد نجح العلم نجاحًا عظيمًا حتى استطاع أن ينفذ إلى أدق أعماق المادة، وحتى كاد يجعل العالم المادي شفافًا واضحًا، وحتى أخضع كثيرًا من قوانينه لإرادته وهذا حسن وجميل. ولكن بجانب ذلك جعل حياة الإنسان مصطنعة سطحية، إلاهها السرعة والعجلة والآلات والأدوات، فكسب أذنه وخسر عينه؛ وما ضره لو كسبهما جميعًا، إذن لوجد روحه التي فقدها في هذه الضوضاء والسرعة، وأحس الراحة والهدوء في نفسه ساعة ينعم فيها بالطبيعة والعالم وربهما.
وكما أن كل إنسان له نوع من الاستعداد والملكات للفن والموسيقى والشعر والعلم، كذلك عنده استعداد ما للإجابة الروحية، وهي أرقى من سائر كل الملكات. وكما أن كل إنسان له قدر من الفن ولكن ليس كل إنسان فنانًا، وكل إنسان يُغنّي ولكن ليس كل إنسان يجيد الغناء، كذلك كل إنسان روحي إلى حد ما، ولكن الروحيين حقًا قليل. ويعجبي شاعر هندي في قوله: «الجواهر أحجار، ولكن لا توجد في كل مكان؛ والصندل أشجار، ولكن لا توجد في كل غاية — والفيلة كثيرة، ولكن فيلًا واحدًا هو فيل الملك؛ كذلك ما أكثر الناس ولكن قل بينهم الإنسان الحق». والنبوغ في كل ملكة موضع إعجاب، ولكن أعجب العجب هو النبوغ الروحي. وكما قال القائل: «إن المصلح وليد المدنية، ولكن النبيِّ أبوها».