الشيخ رفاعة الطهطاوي (١)
حقًا إن «الله أعلم حيث يجعل رسالته»، هذه ألوف الطلبة في المدارس، وهذه ألوف المجاورين في الأزهر، من منهم سيكون النابغة العظيم، والزعيم الكبير، والمصلح الخطير؟ لا ندري، كلهم يتعلمون وأكثرهم يجدّون، ولكن الحكم بالنبوغ والقيادة والزعامة عسير على المتنبئين. تقيس بمقاييس الامتحان ثم يظهر خلل حكمك، فقد يكون أول ناجح في الامتحان أول خائب في الحياة؛ وتقيس بمقاييس الذكاء، فتحكم بأن هذا أذكى من امتحنت، ثم يخبو هذا الذكاء شيئًا فشيئًا، حتى ينعدم أو يكاد، أو يظل الذكاء حادًا ومع ذلك فلا نبوغ؛ وتحكم بالخمول على طالب، ثم يتطور فيكون قائدًا أو زعيمًا. إنما عملنا أن نؤرخ النابغ بعد أن ينبغ، ونعلل نبوغه بأسرته أو أساتذته أو بيئته أو نحو ذلك من أسباب، ولكن كم من أسرة خير من أسرته لم تنجب؛ وكم من أساتذة خير من أساتذته لم يُخرجوا مثله؛ وكم بيئة أصلح من بيئته لم تنجح في إعداد شبيه له، وكم كلها مجموعة لم تعدّ للحياة نابغة. في بيتي شجرتا مانجو، أما إحداهما فقالوا احفر لها فحفرت، وأت لها بتربة صالحة فأتيت، طعِّمها فطعَّمت، واختر لها الجهة المناسبة فاخترت؛ وأخرى رميت بذرتها رميًا، وتركتها للمصادفة تركًا، ولم أُعن بها أي عناية، ثم خابت الأولى حيث نجحت الثانية — إنما تنجح القواعد العامة — في التربية والاقتصاد والزراعة ونحو ذلك — في جمهرة الأشياء وعاديِّها، أما النوابغ فشواذ خرجوا من القواعد وندُّوا عن التعليل.
هذا «رفاعة» من أسرة مثلها كثير، وهو مجاور في الأزهر مثله كثير، وتهيأت له من الظروف ما تهيأ لكثير، ولكن لم يجر على يد أحد من الخير لأمته في ناحيته ما جرى على يده، ما السر في ذلك؟ علمه عند الله.
من أسرة في «طهطا» تعتز بشرف نسبها للرسول، ويعزُّها الناس لذلك، عُرف كثير من أفرادها بالعلم وتولى القضاء والإفتاء، وديارهم منازل الحكام ومورد القصّاد، والحكومة على نظام ذلك العهد تمدُّهم بالأراضي يستغلونها ولا يملكونها، وبالأرادب الكثيرة من القمح كل عام في نظير فتحهم بيوتهم للضيوف وذوي الحاجة؛ ولكن هذا العطاء لم يكن — كما نقول اليوم — حقًا مكتسبًا، ولكن منحة عارضة، تتبع رغبة الوالي وشهوته، فهو إذا شاء أطلقها، وإذا شاء منعها — وكان من سوء حظ «رفاعة» أو من حسن حظه، لا أدري — أن قبض الوالي يده عما كان يعطي أهله، فوقعوا في الفقر واضطر أبوه أن ينزح من البلد، ومعه رفاعة صبي صغير. ولكن ما لبث والده أن مات فقيرًا، فعاد الصبي إلى طهطا، ونزل في أخواله، وشاء الله أن يكون في هؤلاء الأخوال من يعلّمه ويعدّه للأزهر، فحفظ بعض المتون بعد أن حفظ القرآن ودرس شيئًا من الفقه والنحو، ثم أرسل إلى الأزهر.
درس في الأزهر كما يدرس كل مجاور، وعاش فيه كما يعيش المجاور الفقير، يقنع بالجراية ويأتدم أكثر الأوقات بالفول على اختلاف أنواعه ومشتقاته، ولكنه مع هذا يعتز ببيته ونسبه.
شيء واحد ميزه عن كثير من المجاورين هو اتصاله اتصالًا وثيقًا بالشيخ حسن العطار، وكان هذا رجلًا ممتازًا واسع النظر، خبيرًا بالدنيا على قلة الخبيرين بها من علماء الأزهر في ذلك العصر، ولم يعجبه طريقة الأزهريين في الاقتصار على كتب النحو والفقه والتفسير والحديث، فضم إلى ذلك نظرته في كتب التاريخ والأدب، وعُني عناية كبرى بالأدب الأندلس يدرسه ويحاكيه، ويأسف على انحطاط الأدب في عصره، ويصف شعراء زمنه بأنهم «اتخذوا الشعر حرفة محترف، وسلكوا فيه طريق معتسف، فصرفوا أكثر أشعارهم في المدّح لاستجلاب المِنَح، حتى مدحوا أرباب الحرف لجمع الدراهم في الأسفاط، وكان منهم من يصنع القطعة من الشعر في مدح شخص ثم يغيرها في آخر، وهكذا، حتى يمتدح بها كثيرًا من الناس، وهو لا يزيد على أن يغير الاسم والقافية، وما أشبهه في ذلك إلا بمن يفرق أوراق الكُدْية، بين يدي صفوف المصلين يوم الجمعة في المساجد، وهكذا كان حال الشاعر، فلا يكاد أحد يتخذ وليمة، أو ختانًا، أو عرسًا، أو يبنى بناء أو يُرزأ بموت محب إلا وبادره بشيء من الشعر، قائمًا بالشيء النزر».
أما الشيخ العطار فجريا على رأيه لم يحتفظ بشعره في المديح والهجاء مما قاله اضطرارًا، ورجا ألا يحفظ عنه إلا «ما لطف من النسيب، وعذُب من التشبيب، مما قد ولعت به أيام الشباب، حيث غصن الشبيبة غض، والزمن من الشوائب محض، ولأعين الملاح سهام بالفؤاد راشقة، وتثني قدود تظل لها أعين الأحبة رامقة.
وكان الشيخ حسن العطار قد أداه ظرفه ومعرفته بالدنيا أن اتصل بالفرنسيين حين دخولهم مصر، ودرّس لبعضهم اللغة العربية، وأداه اختلاطه بهم أن يقف على كثير من معارفهم الواسعة فيبهره ذلك منهم، ويتعجب مما «وصلت إليه تلك الأمة من المعارف والعلوم وكثرة كتبهم وتحريرها وتقريبها لطرق الاستفادة» ويقارن بين ذلك وحالة العلم في الأزهر. ويرثي لحال مصر ويتوقع حصول ثورة علمية فيقول: «لا بد أن تتغير حال بلادنا ويتجدد لها من المعارف ما ليس فيها» ويزيد «العطار» سعة في عقله رحلته إلى الشام وإلى الآستانة، وقد أقام بها مدة طويلة وسكن في «اسكودره» وتزوج بها ثم عاد إلى مصر.
هذا هو الشيخ العطار الذي صار فيما بعد شيخ الأزهر، وهذا هو أستاذ الشيخ رفاعة الذي أثر فيه أثرًا غير شائع عند الأزهر بين إذ ذاك، من ميل إلى الأدب واطلاع على الكتب غير المتداولة، وكان التلميذ المحبوب عند شيخه العطار في بيته وفي قراءته الخاصة وفي دروسه العامة.
وفي الحق أن الأزهر كان فيه نبع صغير متسلسل يُعني بالتاريخ والأدب، بجانب ذلك النبع الكبير الذي يعني بعلوم اللغة والدين فقط، وكان من هذا النبع الصغير الشيخ الجبرتي المؤرخ الكبير، وتلميذه العطار، وتلميذه رفاعة.
ظل رفاعة يتلقى دروسه في الأزهر حتى أتمها وتصدى للتدريس فيه، ثم عين في منصب صغير هو واعظ للعسكر، ثم حدثت الحادثة الكبرى التي غيرت مجرى حياته ورسمت طريق نبوغه، ومكنته من أن يتولى زعامة النهضة، وهي بعثته إلى باريس.
تولى مصر محمد علي باشا وأراد أن ينهض بمصر في جيشها حتى يساوي جيش تركيا ويفوقه، ونهوض الجيش يحتاج إلى تعلم الفنون الحربية وإلى الهندسة وإلى الطب وإلى الصناعة؛ وأراد أن ينهض بالإدارة في تنظيم مالية الدولة وإدارتها وضبط دخلها وخرجها، ونهوض الإدارة يحتاج إلى رؤوس تضع النظام وأيد متعلمة تنفِّذه؛ ونظر فرأى أن كل ناحية من نواحي الإصلاح تصطدم بالحاجة إلى العلم والعلماء والمتعلمين، وأن ليس في البلاد من ذلك إلى الأزهر وملحقاته، فلم يكن إلا الكتاتيب في القرى والبلدان تُحفِّظ القرآن وتعلِّم القراءة والكتابة على نمط عتيق، وهذه الكتاتيب تُسْلم إلى الأزهر، وقد يكون في بعض المدن كالإسكندرية وطنطا معاهد هي صورة مصغرة من الأزهر، والأزهر لا يعلم إلا الدين واللغة العربية على نمط القرون الوسطى، وليس في البلاد كلها مدرسة تعلم الجغرافيا والتاريخ والرياضة والطب والهندسة والزراعة والطبيعة والكيميا. المهندس هو المعمار الذي يتخرج من ممارسته للبناء؛ والطبيب هو الذي قرأ شيئًا من تذكرة داود، ومنهاج الدكان، ومارس الصناعة مع المجربين؛ والرياضي هو من حفظ «سورة الفدان»، وتعلم على الصراف أو نحو ذلك؛ وكل هذه أدوات لا تكفي لبناء نهضة، فما الحل؟
- (١)
إصلاح الأزهر وهو مركز التعليم والتعلم في البلاد، وتوسيع اختصاصه، فتجعل الدراسة الدينية شعبة، وبجانبها شعبة للرياضيات والطبيعيات، وشعبة للطب، وشعبة للهندسة الخ، وقد يبدو أن هذا الحل هو الحل الطبيعي، وفيه بقاء على مركز التعليم وإصلاحه وتوسيعه، ولكن دون ذلك أهوال، فالرأي العام الأزهري لا يرضى عن هذا التغيير، ويعده إفسادًا للأزهر، وإفسادًا للدين، والرأي العام الشعبي يتبعه ويؤيده، فيحدث ذلك ثورة في البلاد لا حاجة إليها، ثم إن هذا الطريق طويل، فإذا أعدت العدة لهذا التغيير، وانتظرت النتيجة، كان لا بد من مرور سنين، والإصلاح يتطلب السرعة — آه — ما كان أنفع هذا الوجه لو اتسع صدر الأزهر؛ وعقَل الناس!
- (٢)
والطريقة الثانية أن نترك الأزهر وشأنه، وننشئ مدارس مدنية من كتاتيب نظامية ومدارس ابتدائية وتجهيزية وخصوصية كالطب والهندسة، ونقلد فيها المدارس الأوربية ولا يكون لهذه المدارس أية صلة بالأزهر إلا بالمدرسين الذين يؤخذون منه لتعليم الدين واللغة العربية، ونستعين بالأوربيين من فرنسيين وإيطاليين وإنجليز نأتي بهم ونضع في يدهم قيادة الحركة العلمية والصناعية، ونجعلهم يمرنون المصريين حتى ينهضوا بالعبء. ولكن عيب هذه الطريقة أن كثيرًا ممن نستوردهم من هؤلاء الأوربيين قد لا يخلصون في عملهم، وقد ينظرون إلى مصلحة أممهم لا مصلحة من يعلمونهم، وقد يضيفون إلى تعليمهم قيامهم بوظيفة التجسس لأممهم؛ ثم المصريون المتعلمون على يدهم محال أن يبلغوا مبلغهم، فكلما طالت السلسلة بعدت عن الأصل.
- (٣)
وثالث الوجوه أن ننشئ المدارس التي ذكرنا ونأتي بأروبيين يعلمون، ولكن نجعل هذا ضرورة نتخلص منها في أقرب وقت، فنبعث البعوث لأوربا في مختلف العلوم والفنون، فيتلقونها من مصادرها؛ فإذا عادوا حلوا بالتدريج محل الأوربيين، وبذلك نكسب السرعة ونكسب الإصلاح ونتقي خطر تغلغل الأجانب.
وعلى هذا الرأي الأخير استقر الرأي، فأرسلت أول بعثة هامة سنة ١٨٢٦ إلى فرنسا؛ وهم أربعون طالبًا، بعضهم لدراسة الإدارة المدنية، وبعضهم لدراسة الإدارة الحربية، ومنهم لدراسة العلوم السياسية، ومنهم لقوة المياه، والعلوم الميكانيكية، والهندسة والمدفعية، وصب المعادن، وصنع الأسلحة والكيميا والطب، والتاريخ الطبيعي، والمعادن.
واختير معهم عضو محافظ، يذكِّرهم دائمًا بالتقاليد القديمة ويصدهم عن الاندفاع في تيار المدنية، فيكون إمامًا لهم في الصلاة، ومظهرًا من مظاهر التقاليد القديمة فكان ذلك هو «الشيخ رفاعة» رشحه لهذا أستاذه العطار.
وهل فكروا حين عيَّنوه أن يكون عضوًا أصيلًا يُعَد لشيء، أو مجرد إمام تابع للرحلة يسد خانة من خاناتها؟ الظاهر أنهم أرادوه أولًا إمامًا للبعثة، وهذا عمله الأساسي، فإن تعلم وجاء بشيء فلا بأس وليكن الترجمة، ولكن أراد الله أن يكون الإمام في الصلاة للبعثة إمامًا للحركة العلمية في مصر.
في عصر يوم الجمعة ٨ من شعبان سنة ١٨/١٢٤١ من مارس سنة ١٨٢٦، كان شاب ملتح معمم سنة خمس وعشرون، ويقدره من رآه بأربعين، لأن حياته وحياة أمثاله لم تعرف الشباب، يظهر عليه الخشوع الديني، والتواضع وطيبة القلب وخفة الروح، يسافر مع أعضاء البعثة من مصر إلى الإسكندرية، ولا تظن أنهم اتخذوا قطار الاكسبريس، فوصلوها بعد ثلاث ساعات، ولكنهم أخذوا زوارق صغيرة كل جماعة منهم في زورق، وسارت بهم في النيل أربعة أيام بلياليها حتى وصلوا إلى الإسكندرية، إذ لم تكن مصر عرفت «الوابور» بعد.