الشيخ رفاعة الطهطاوي (٢)
ركب (الشيخ) البحر من الإسكندرية، وقد خاف من البحر خوفين: خوفًا من ركوبه وقد سمع كثيرًا عن البحر وأهواله، وحفظ في الأزهر:
وقرأ في بعض الكتب قول الشاعر:
وسمع قول العامة في البحر: «داخله مفقود وخارجه مولود»، ولكنه استبشر خيرًا بأن بدء الرحلة كان عصر يوم الجمعة، وهو يوم مبارك، وظل يقرأ. وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا، وقرأ بعد ذلك حزب البحر واعتمد على الله واطمأن، وذكر قول الشاعر:
والخوف الثاني من دُوار البحر، وقد سمع عنه كثيرًا، ولكن شيخه العطار — وقد ركب البحر مرارًا — كان قد أوصاه بفائدة مجربة، وهي أن يتجرع عند نزوله البحر جرعات كبيرة من مائه الملح، ففعل.
•••
أول ما لفت نظر «الشيخ» هذا المركب الفرنساوي، وطار خياله، مقارن بين السفينة التي ركبها من القاهرة إلى الإسكندرية، وهذه السفينة الفرنساوية؛ أما الأولى فسفينة قذرة، ولكنه لم يدرك قذارتها إلا لما ركب الثانية، كان يجلس فيها على الألواح، وكان يأكل حيث يجلس، وينام حيث يأكل، ومن حين لآخر يشعل «النوتى» حطبًا فيملأ الجو دخانًا، ويوقد ناره يطبخ فيها عدسه، في ماعون قد اسودَّ خارجه وداخله، وإذا تم تحلَّق هو وصحبه حوله وغاصوا بأيديهم فيه، ثم لعقوا أصابعهم بألسنتهم وحمدوا الله؛ وكانت موسيقى المركب لا تنقطع، فصياح لجمع شراع، وصياح لنشر شراع، وصياح لتحويل الدفة، وصياح للمرور من «هويس»، وأوامر ونواه لا تنتهي، وشتائم وسباب كذلك لا ينتهي؛ والمركب غني غنى مفرطًا بالحشرات والزواحف من كل لون وشكل، تعين العابد على إمعانه في سهره، وطول تهجده، وكثرة استغاثته بالله.
هذا مركب النيل في مصر، وأما مركب البحر في الإسكندرية فأمره عجب، يقول «الشيخ»: «إن أهل المركب — من الفرنساوية — كانوا يحافظون على تنظيفها وإذهاب الوسخ ما أمكن، حتى إنهم يغسلون مقعدها كل يوم من الأيام، ويكنسونها في صف النوم كل نحو يومين، وينفضون الفراش وغيره، ويشممونها رائحة الهواء، ويزيلون أوخامها». و«الشيخ» يعجب من هذا كل العجب، ويثير مشكلة من أصعب المشاكل، وهي «أن النظافة من الإيمان»، والفرنساوية نصارى، «ليس عندهم من الإيمان مثقال ذرة»، وإخوانهم النصارى من قبط مصر أهل وخم ووسخ، فما بال هؤلاء الفرنساوية النصارى نظفاء، وما بال المؤمنين المسلمين غير نظفاء؟ هذه أولى المشاكل.
وقد ظل «الشيخ» متأثرًا بهذه النظرة طول رحلته، يعجب من نظافة الفرنساوية في مراكبهم وفي بيوتهم وفي ملابسهم وفي شوارعهم، ويزداد عبجًا إذا بلغه أن أهل فرنسا — مع هذا — ليسوا أنظف أهل أوربا، وأن «أهل الفلمنك (هولنده) أنظف من الفرنساوية إذ تجد غالب حاراتهم مبلطة بالحجر الأبيض المتعهَّد بالتنظيف، وبيوتهم مجمّلة من خارجها أيضًا، وشبابيكهم القزاز تغسل دائمًا، بل وحيطانهم الخارجية».
ويحز في نفسه أن المصريين ليسوا بذاك في النظافة، ويزعم «أن أهل مصر في قديم الزمان كانوا أعظم أهل الدنيا نظافة، ولكن لم يقلدهم ذراريهم».
وما أظن ذلك، فالوساخة في مصر داء قديم، وهم — مع الأسف — من أقل الأمم عناية بالنظافة، في مآكلهم وملابسهم ومساكنهم وشوارعهم، ولم تبذل الحكومات المتعاقبة أي مجهود جدّي في حملهم على النظافة حتى تصبح عادة، ومحل المقارنة لا يزال الآن كما كان منذ مائة عام في عهد «الشيخ رفاعة» ولا يغرناكم مائة بيت من الطبقة الأرستقراطية في المدن يعيشون في جو نظيف، فالحكم إنما يجب أن ينظر فيه لسائر الشعب؛ وحتى هؤلاء الأرستقراطيون لا يستطيعون أن يعيشوا نظفاء إذا كان من حولهم غير نظيف، فهم مضطرون لمعاملة خدم يخدمونهم، وباعة يبيعون لهم، وركوب ترام أو قطارات يسافرون فيها وهكذا. وكما لا يستطيع بيت أن يعيش نظيفًا في حارة قذرة، كذلك لا تستطيع طبقة مهما احتاطت أن تعيش عيشة نظيفة نظافة تامة في جو قذر. إن الفقر المنتشر والبؤس الشائع يدفعان الأمة إلى إهمال النظافة، ولكن أهم من ذلك عدم تدخل أولي الأمر في نظافة الشعب، وتعويده أن يقوم النظافة قيمتها الحقة؛ فمن نعم الله أن تكاليف النظافة رخيصة إذا وجدت نفوسًا تأنف القذر.
مما يُعجب حقًا حساسية «الشيخ رفاعة» بالنظافة، وتقويمه قيمتها الحقة، والتفاته الشديد الدائم إلى هذه الناحية — ولو خصصت الأمة نصف ميزانيتها أو أكثر لتأسيس الحياة الاجتماعية في مصر على أساس النظافة لعقلت.
•••
هذا «الشيخ رفاعة» في السفينة الفرنسية «بعمته وجبته وقفطانه»، يتوضأ ويصلي إمامًا ببعض الطلبة المصريين، ويستظرف الشبان الفرنسيون هذا المنظر، فيجتمعون لمشاهدته؛ ويرون «الشيخ رفاعة» قسيسًا يصلي بالمسلمين ويؤمهم، فيحترمونه احترام قسيسهم، ويمنحونه قدرًا من إجلالهم، ويخصونه بمزيد عنايتهم.
ويزيدهم استظرافًا له أنهم يرونه عاكفًا على دراسة اللغة الفرنسية، بيده أجرومية فرنسية يقرؤها كما يقرأ كتاب الأجرومية في النحو العربي، ويحفظ ويمعن في الحفظ، وينطق ببعض كلمات تستخرج ضحك الفرنسيين من أعماق صدورهم، وأصعب شيء على «الشيخ» حرف U الفرنسية فهي ثقيلة النطق على لسانه، فلا هي بالواو التي يعرفها، ولا هي بالياء التي يألفها، ولكنها وسط عجيب بين الواو والياء، يستصعبها فيتجمع لها قبل النطق بها، وإذا وقع نظره عليها من بعيد وهو يقرأ أدرك علامة الخطر. ولقد أذكرني ذلك حكاية ظريفة، فقد كنت أتبادل مع سيدة إنجليزية جميلة تعلُّم الإنجليزية والعربية، وكان لها عينان تشعان الثقة والإخلاص والأمانة، وكان يصعب عليها النطق بالعين، فكانت تقول: «إن عينكم هذه تقتلني»، فأقول في نفسي: «وعينكم أيضًا تقتلني».
•••
سارت السفينة بالشيخ أربعة أيام، والبحر هادئ والجو جميل، وطمع الشيخ أن تكون رحلته كلها من هذا القبيل، ولكن ما هو إلا أن عصفت الرياح، واضطربت السفينة، وأخذتها أمواج كالجبال تعلو إلى أعلى القمة وتهبط في لمحة إلى أسفل القاع، ولعبت نفوس الراكبين لعب الأمواج، فثارت ثورتها وهاجت هياجها. قال الشيخ: «فلازم أكثرنا الأرض، وتوسل جميعنا بالشفيع يوم العرض».
بعد مرور خمسة عشر يومًا، والبحر يهدأ ويهيج، والسفينة تسير وتلعب، والشيخ يصلي ويقرأ الأجرومية الفرنسية، وقفت السفينة على جزيرة صقلية (سيسليا)، ففرحوا بمنظر الأرض الباسم بعد منظر البحر العابس، وتذكر الشيخ قول الشاعر:
ولكن أهل صقلية لم ينيلوه ظهر الأرض، ولم يمكنوه من النزول، إذ كانوا لا يسمحون بدخول البلد إلا بعد الحجْر الصحي خوف الوباء، وإنما كانوا يسمحون بالتعامل بالبيع والشراء، على شرط أن النقود التي يأخذها البائعون تغمس في إناء مملوء بالخل، حتى لا تنتقل العدوى.
وظلت السفينة خمسة أيام تتزود حاجتها من ماء وفاكهة وخضر.
لقد كان «الشيخ رفاعة» ظريفًا حقًا، أتدري ماذا أعجبه من كل ما حوله؟ صوت النواقيس ورناتها الموسيقية، وكانت الأيام أيام عيد، والنواقيس تدق فيدق لها قلب الشيخ. لو غيره سمعها من رجال الدين المتزمتين لاستعاذ بالله من صوتها وحوقل، وسمع منها صوتًا من أصوات الكفر يقبض صدره ويُعتم نفسه، ولكن شيخنا رحب الصدر، يتعشق الجمال حيث كان في عفة ودين.
ففي إحدى هذه الليالي الخمس دعا صديقًا من أصدقائه من أعضاء البعثة، ممن يعرف فيه الظرف والأدب، واقترح عليه أن يشتركا في إنشاء مقامة كمقامة البديع والحريري، ولكن ليس موضوعها التكدي ونصب الحيلة لاقتناص مال، وإما موضوعها ثلاثة أشياء، الأول حوار حول أن «الطبيعة السليمة تميل إلى استحسان الذات الجميلة مع العفاف»، والثاني «سكر المحب من عيني محبوبة»، والثالث «تأثر النفوس، بضرب الناقوس» إذا كان من يضربه ظريفًا. هكذا صبا الشيخ وظرُف، وأخذ ينشئ الشعر في مقامته في هذه المعاني، فقال في المعنى الأول:
وقال في المعنى الثاني:
وفي المعنى الثالث يقول:
ثلاثة وثلاثون يومًا قضاها «الشيخ رفاعة» في البحر بين الإسكندرية ومرسيليا، منها خمسة أيام وقوفًا في صقلية، ويوم في نابلي، فكم نجح الإنسان أثناء قرن واحد في السرعة ولما يقنع.