الشيخ رفاعة الطهطاوي (٦)
يعود الشيخ رفاعة من السودان إلى مصر في أول عهد سعيد باشا، ولكن لا تعود مدرسة الألسن — فسعيد لم يُعِد نهضة التعليم كما كانت في عهد محمد علي وإبراهيم، وإن توسَّع بعض الشيء عما كان عليه في عهد عباس الأول — وإنما يعود ناظرًا ثانيًا أو بعبارة أخرى وكيلًا لمدرسة حربية كانت بالحوض المرصود، وكان ناظرها سيف باشا أو سليمان باشا الفرنساوي — مؤسس الجيش المصري ومنظمه، وقائد الجيوش في حروب محمد علي وإبراهيم، وصاحب التمثال في الميدان المسمى باسمه — وكان جبارًا عنيدًا، وقف أمام نابليون وهو ضابط فقال له: هل أنت سيف الذي حدثوني عن غطرسته؟ فأجاب: إذا كان هذا كل ما تريد أن تقوله لي عدت إلى فرقتي، ثم أعطى ظهره له ورجع إلى مكانه، فرقاه نابليون لجرأته؛ وهو الذي عمل الأعمال الحربية العظيمة في مصر، من تمرين المماليك ثم تمرين المصريين حتى حذقوا الحرب وتفوقوا على الجيش العثماني؛ هذا هو الناظر الأول الذي عين ناظره الثاني الشيخ رفاعة فاعْجَبْ لهذا الوضع الذي لا مبرر له إلا أن الشيخ رفاعة «ميرالاي».
ومع هذا فقد وسّع «الشيخ» نفوذه العالمي. فقد وضع مشروع مدرسة بالقلعة تدرس فيها الفنون الحربية والمدنية وأقره عليها سعيد باشا، فاختار لها المدرسين، وراعى في كل ذلك ما يشوّق الأهلين للإقبال عليها وإدخال أبنائهم فيها؛ ثم امتد نفوذه فأعيد قلم الترجمة، وهو أشبه شيء بمدرسة الألسن، وجعل مشرفًا عليه؛ وأحيلت عليه نظارة مدرسة المحاسبة والهندسة الملكية والمعمارجية؛ وأحبه سعيد باشا وقربه جدًا إليه، واستمد الشيخ منه نفوذه يوجهه في التعليم ونشره.
وهنا ذكر الشيخ عهده بالمستشرق ده ساسى، والمستشرق كوزن، وما يقوم به المستشرقون من أعمال قيّمة في خدمة اللغة العربية بنشرهم أمهات الكتب، فوضع مشروعًا للعناية بتصحيح الكتب القديمة القيمة، وطبعها بمطبعة بولاق وعرضه على سعيد باشا فأجازه؛ وجرد الشيخ محمد قطة العدوي، والشيخ إبراهيم الدسوقي، والشيخ نصر الهوريني وغيرهم، واشترك معهم في اختيار الكتب التي تطبع والقيام على تصحيحها وطبعها؛ فطبع بإرشاده تفسير الفخر الرازي، ومعاهد التنصيص، وخزانة الأدب، ومقامات الحريري، وغير ذلك من الكتب الدينية والأدبية والتاريخية، فكان هذا دعامة أخرى من دعائم النهضة: تأسيس الكتب بعد تأسيس الرجال؛ وأعانه على ذلك معرفته الواسعة بالكتب العربية غرامه باقتنائها، وإنشاؤه لنفسه مكتبة واسعة غنية بالنوادر.
•••
لم تكن كل الأمور ميسرة كما نراها اليوم، بل كان الطريق لكل عمل وعرًا محفوفًا بالمصاعب، فإنشاء مدرسة أو إلغاؤها منوطان بالوالي نفسه، فلا بد من قصائد مديح ودعوات صالحات وملق أنيق، تُقدَّم للوالي في لفائف من حرير لينشئ مدرسة، ولا بد من أول الكتاب وآخره من ثناء مستطاب، ودعاء للأنجال، وتزلّف لمدير المطبعة ونجله ليتم طبع الكتاب، ولا بد ولا بد في كل شيء، من كل شيء؛ والشيخ ماهر في كل ذلك، يعرف من أين تؤكل الكتف، ويأتي البيوت من أبوابها، فيسهِّل عسيرها ويحلّ عقدتها.
ومسائل العلم نفسها عسيرة كمسائل الولاة والأمراء، فالعلم الحديث قد تقدم، والعلم العربي قد وقف منذ سبعة قرون، وهو إذا أراد ترجمة كتاب حديث اصطدم بالمصطلحات: ماذا منها عرفه القدماء وماذا منها لم يعرفوه؛ وماذا يضع من الكلمات لما لم يُعرف، هل يضع الكلمات الأجنبية كما هي بعد صقلها صقلًا عربيًا، أو يبحث لها عن لفظ عربي؟
لقد حيَّره ذلك منذ كان في باريس وعندما عُهد إليه ترجمة كتاب في «الفولكلور» أو عادات الشعوب، سماه «قلائد المفاخر، في غريب عوائد الأوائل والأواخر»، يتمرن فيه على الترجمة، فاصطدم بأسماء البلاد الإفرنجية والرجال والأشياء، وكان هو لم يعرفها فيرجع إلى المعاجم التي تشرحها، فبم يترجمها؟
لقد اهتدى إلى فكرة لطيفة، هي أن يجعل للكتاب ملحقًا يضمّنه كل الأسماء الإفرنجية التي وردت في الكتاب ويرتبها على حسب حروف المعجم، ويضع لها اسمًا مأخوذًا من اللفظ الإفرنجي، ويصقله صقلًا عربيًا: فللبرازيل «إبرزيلة» بسكون الموحّدة وكسر الراء بعدها مثناة تحتية فزاي مكسورة فلام فتاء تأنيث، ثم يأخذ في شرحها وتاريخها؛ وأوميروس أو هوميروس، ويضبط الكلمة ويعرِّف به؛ وكذلك البارومتر، والسبكتاكل ويقال له التياترو اسم للعبة ببلاد الفرنج يلعب فيها تقليد سائر ما يقع، ويأخذ في شرحها في نحو صفحة، وهكذا.
ويود أن كل مترجم كتاب يجرد هذه المصطلحات ويعربها كما فعل، ويجمعها في أول الكتاب أو آخره حتى يكون للغة العربية بعد ذلك معجم جامع لكل المصطلحات الإفرنجية، وأسماء البلاد والأشخاص والأشياء؛ وهذا نص كلامه العجيب: «وقد شرحنا الكلمات الغريبة التي توجد في هذا الكتاب وعرَّبناها بأسهل ما يمكن التلفظ به، حتى يمكن أن تصير على مدى الأيام دخيلة في لغنا كغيرها من الألفاظ المعرَّبة عن الفارسية واليونانية؛ ولو صنع نظير ذلك في كل كتاب ترجم في دولة أفندينا ولي النعم الأكرم لانتهى الأمر بالتقاط سائر الألفاظ المرتبة على حروف الهجاء، ونظمها في قاموس مشتمل على سائر غريب الألفاظ المستحدثة التي ليس لها مرادف أو مقابل في لغة العرب، فإن هذا مما يفيد التسهيل على الطلاب، وبه تحصل الإعانة على فهم كل علم أو كتاب».
أُمنية تمنّاها، وخطة أملاها منذ ١١٦ سنة، لو سرنا عليها لحللنا أكثر مشاكل التعريب التي نعانيها اليوم.
وظل يكافح في هذا الباب كفاح الأبطال، فقد عُهد إليه منذ عودته بأعمال مختلفة تتصل بعلوم مختلفة، فأخذ في كل منها يواجه مشكلة مصطلحاتها، ويضع ما ندين له ببعضها اليوم — يترجم في الهندسة ويضع بعض مصطلحاتها، وكذلك في الطب، والجغرافيا، والتاريخ؛ ويترجم القانون الدني الفرنساوي ويضع مصطلحاته، وهكذا.
•••
بلغ «الشيخ» أوْجَه في عهد إسماعيل لما عادت الحركة العلمية قوية نشيطة؛ بلغ أوْجَه المالي، فقد منحه إسماعيل ٢٥٠ فدانًا أخرى، فبلغ مجموع ما مُنحه ٧٣٦ فدانًا، واشترى هو ٩٠٠ فدان أخرى، فكان ما يملكه ١٦٣٦ فدانًا، غير العقارات العديدة في القاهرة وطهطا؛ فقد كان في عهد يكافأ فيه الرجل النافع بما يوسّع رزقه، ويوفر جهده لعمله؛ ومع ذلك فهذا الباب أتفه مقوّماته، فقد ذهب الشيخ رفاعة وأصبحت أطيانه الموقوفة مصدرًا لنزاع لا ينتهي، ولم يخلِّده إلا مجهوده العلمي وآثاره الباقية.
ويبلغ أوجه العلمي، فهو عضو من أعضاء «قومسيون المدارس»، يضع برامجها، ويشرف على التعليم والامتحان فيها، ويقول فيه علي باشا مبارك: «كانت مجامع الامتحان لا تزهو إلا به»، وهو ينشئ أول مجلة مصرية هي «مجلة روضة المدارس»، يلتف حوله في تحريرها أدباء مصر وعلماؤها.
ويرى أن ليست هناك كتب للمدارس تصلح لمواجهة النهضة الجديدة والعقلية الحديثة؛ فالكتب الأزهرية لا تناسب الطلبة، والكتب الأدبية القديمة مملوءة بالغث والسمين، والدنيا كلها تؤسس تعليمها على النعرة الوطنية، والتعريف بمزايا الوطن وتاريخه، وتستنهض همم الناشئين لخدمته، ولا شيء من ذلك في الكتب العربية.
إذن فليقم هو بكل هذه المهمات.
يؤلّف كتابًا في النحو على نمط جديد، محتذيًا فيه حذو الفرنسويين في تسهيل أجروميتهم، ويسميه «التحفة المكتبية» في القواعد والأحكام والأصول النحوية بطريقة مرضية، ويضع بعض القواعد في شكل جداول يسهل حفظها.
ويضع لمطالعة المدارس كتاب «مباهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية»، وهو أول كتاب عربي ينزع إلى الناحية الوطنية، فيذكر معنى الوطن، ومصر ومزاياها؛ وتشغل ذهنه المنافع العامة فيخصص لها أكثر الكتاب، فيذكر كيف تؤدَّى في البلاد المتمدنة، ونبدأ مما قام به بعض رجال المسلمين في سبيل المنفعة العامة، وواجب الأغنياء، وكيف يربي الأولاد، وفصولًا في الاقتصاد المصري: من منابع الثروة وتقسيم الأعمال إلى منتجة للأموال وغير منتجة؛ ويعود إلى المنافع العامة ويقسمها ويبين تاريخها في الأمم وتاريخ مصر إزاءها إلى عهد محمد علي، ويذكر الإصلاحات التي عملها، ثم يذكر الآمال التي يأملها في المنافع العامة في المستقبل.
ثم خاتمة فيما يجب للوطن الشريف على أبنائه من الأمور المستحسنة.
وهو — في كل ذلك — يجمع بين ثقافته الإسلامية وثقافته الفرنسية.
وينزع إسماعيل إلى تعليم البنات، وتنشأ أول مدرسة لهن في مصر، ولا يرضى عن ذلك الرأي العام المصري المتدين، فيقف الشيخ رفاعة في كتبه يحبذ تعليم البنات، ويرد حُجج المعارضين، فيقول: «ينبغي صرف الهمة في تعليم البنات والصبيان معًا لحسن معاشرة الأزواج، فتتعلم البنات القراءة والكتابة والحساب ونحو ذلك، فإن هذا مما يزيدهن أدبًا وعقلًا، ويجعلهن بالمعارف أهلًا، ويصلحن به لمشاركة الرجال في الكلام والرأي، فيعظُمن في قلوبهم … وليمكن للمرأة عند اقتضاء الحال أن تتعاطى من الأعمال والأشغال ما يتعاطاه الرجال على قدر قوتها وطاقتها … وهذا من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة، فإن فراغ أيديهن عن العمل يشغل ألسنتهن بالأباطيل، وقلوبهن بالأهواء، وافتعال الأقاويل؛ فالعمل يصون المرأة عما لا يليق، ويقربها من الفضيلة؛ وإذا كانت البطالة مذمومة في حق الرجال، فهي مذمة عظيمة في حق النساء، فإن المرأة التي لا عمل لها تقضي الزمن خائضة في حديث جيرانها، وفيما يأكلون ويشربون، ويلبسون ويفرشون وفيما عندهم وعندها، وهكذا. وأما القول بأنه لا ينبغي تعليم النساء الكتابة، وأنها مكروهة في حقهن ارتكانًا على بعض الآثار، فينبغي ألا يكون ذلك على عمومه؛ ولا نظر إلى من قال إن من طبعهن المكر والدهاء والمداهنة، فتعليم القراءة والكتابة ربما حملهن على الوسائل الغير المرضية … فمثل هذه الأقوال لا تفيد أن جميع النساء على هذه الصفات المذمومة، وكم من نهي وردت به الآثار كمقاربة السلاطين والتحذير من الغنى، وقد حمل كل ذلك على ما يعقبه شر وضرر محقق؛ وتعليم البنات لا يتحقق ضرره، وكيف ذلك وقد كان من أزواجه صلى الله عليه وسلم من يكتب ويقرأ، كحفصة وعائشة. الخ الخ.
ألست ترى معي أن هذه نظرة صادقة، ودعوة جريئة كانت قبل «قاسم أمين» بنيّف وثلاثين عامًا؟! وقد ملأ «الشيخ» هذا الفراغ بتأليف كتاب للمطالعة يصح أن يوضح في يد الفتى والفتاة سماه «المرشد الأمين للبنات والبنين».
•••
وقد يكون «الشيخ» في شعره ضعيفًا أشبه ما يكون بشعر الفقهاء، وقد لا يبلغ في نثره مبلغًا عاليًا، فكثيرًا ما يتعثر في السجع المتصنّع، ويشد أنواع البديع شدًا؛ وينبو ذوقه أحيانًا في كتابه «المرشد الأمين للبنات والبنين» في تعرضه لموضوعات لا يصح أن توضع في يد البنات، كفصله في «البكارة والثيوبة» ونحو ذلك؛ ولكن من العدل إذا قسناه أن نقيسه بزمنه، وبمن قبله لا بمن بعده — فقد نشأ في زمن يُعَدُّ فيه «مَن فك الخط» كاتبًا، وعالم الأزهر الذي يقرأ «المطوّل» و«الأطول» في البلاغة لا يحسن أن يكتب خطابًا لأمِّه أو أبيه.
على أن قيمة «الشيخ» الكبرى ليست في أسلوبه، أو شاعريته أو ناثريته، إنما هي في أنه نشر العلم في أوساط فسيحة، وأسس نهضة علمية متوثِّبة، وفتح للمتعلمين آفاقًا واسعة لم يكن لهم بها عهد، وذوَّقهم معنى العلم الصحيح، وشوّقهم للاستزادة منه، وبصَّرهم بعيوبهم، وأبان المناهج لتكميل نقصهم؛ وليس ذلك بقليل على رجل.
•••
أربعة وأربعون عامًا تقريبًا منذ عاد من باريس وهو في هذا العمل الدائب والحركة التي لا تنقطع في التعليم والتأليف والترجمة والنشر، حتى أوفى على الخامسة والسبعين، وقد دهمه الدهر الذي لا يرحم، فلفع بالشيب رأسه، وأحنى قوسه.
وفي ليلة فاجأه مرض «البروستاتا» أو التهاب المثانة فعولج حتى شفي، ثم عاوده واشتد عليه؛ وفي أول ربيع الثاني سنة ٢٩/١٢٩٠ مايو سنة ١٨٧٣ حصر بوله، تسمم دمه، أسلم لخالقه روحه — سرى البرق بنعيه — اهتزت مصر لموته، احتشد لتشييع جنازته الألوف المؤلفة من رجال المعارف والأمراء والنبلاء وتلاميذ المدارس. وازدحمت الشوارع بالناس يردون بعض جميله: يذكره الأزهريون على أنه ابنهم، والمتعلمون المدنيون على أنه أبوهم، والجالية الفرنسية على أنه أخوهم، والمصريون كلهم على أنه مؤسس نهضتهم؛ وكلهم بتوجع لفقده، ويشيد بذكره. وسار المشهد من منزله بالمهمشا، حتى إذا قارب المدينة كان ينتظره شيخ الأزهر وعلماؤه وطلبته، فاشتركوا في تشييع الجنازة، ووضع النعش في القبلة الجديدة، ولا يكون ذلك إلا لعظيم، وأخذ الأفاضل في رثائه بالقصائد والخطب، ثم حمل إلى «بستان العلماء»، حيث طويت صحيفته، وبقيت آثاره خالدة تعظم وتتزايد وتتوالد — رحمه الله، فقد صنع لأمته كثيرًا.