تقدير الجمال
عجب بعض الناس إذ ذكرت أن الشيخ رفاعة الطهطاوي — الرجل الأزهري الصالح — تغزّل في صوت النواقيس حينما رست سفينته على «نابولي»؛ وعجب صديقي الدكتور إسحاق موسى الحسيني إذ سمع مني لأول مرة إعجابي بجمال عيون سيدة كانت تعلمني، ونقدني بعض إخواني في لجنة التأليف أن أذكر مثل هذا في بيئة أكثر فيها الخلعاء من ذكر الجمال وصور الجمال، حتى استهتر الشباب وانغمسوا في اللهو، وأفرطوا في التهتك. قالوا — فالواجب يقضي أن نصدَّهم عن هذا التيار، ولا نجاريهم في هذا الميدان، ولا يأتي ذكر الجمال على لساننا، فإنهم إذا اتجهوا للجمال لم يقفوا عند حد، وجرفهم التيار حتى يغرقهم. وأرى أن هذا سوء تقدير للجمال، وظلم له؛ وكأن الفضيلة أن يكون الإنسان حجرًا لا يأنس بجمال، ولا ينفر من قبح، وكأن من يقدره يرتكب جريمة يجب عليه أن يتستر منها. وفي رأيي أن شرور العالم كلها تنشأ من سوء تقدير الجمال لا من حسن تقديره، والذين يستهترون ويفرطون في اللهو إنما أتاهم ذلك من قِصَر نظر إلى الجمال، لا من سعة نظر فيه، ومن انحطاط في فهمه لا من سمو في إدراكه — ومن الخطأ أن نعد الجمال من كماليات الحياة، فإنه من ضرورياتها، وأن نعده متعة من متع ساعات الكسل والفراغ، فإنه لا بد أن يملأ حياتنا؛ ومن قصر النظر أن نقصره على أنواع من الزينة، وعلى ضروب من الأشكال، وعلى أنماط من المظاهر، فمداه أوسع من أن يحده حد. وهو أعمق من أن يكتفي فيه بالسطح، وهو أقوم من أن يكون ملهى في لحظات من الحياة.
ما الدنيا إذا فقدت الجمال، وفقدنا شعورنا بالجمال؟! إنها — إذن — لا تستحق الحياة فيها ساعة، فما يقومها ويجعلها تستحق البقاء إلا أن كل شيء فيها مُزج قصد النفع منه بقصد التجميل: «ولكم فيها جَمال حين تريحون وحين تسرحون، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بَالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم، والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة، ويخلق ما لا تعلمون».
لولا الجمال والشعور به لبقيت الكهوف والمغارات هي مساكن الإنسان الآن كما كانت مساكن الإنسان الأول، ففيها كل الفناء في أنها تقي الحر والبرد، وتسد الحاجة، وما طورها هذا التطور البديع إلا القصد إلى التجميل، وعن هذا نشأ فن المعمار وهندسة البناء والمدن، ولولا الجمال لكانت البيوت حجارة مرصوصة في غير نظام ولا ترتيب، ولا فرق بين أعظم المدن وأحقر بيوت الفلاحين إلا الجمال والشعور به والقصد إليه.
ولولا الجمال ما كانت الحدائق والبساتين، ولا كان حب الأشجار والأزهار، ولا كان هناك فرق بين رائحة البنزين ورائحة الياسمين، فما فرَّق بينهما إلا الشعور بالجمال؛ بل ولا كان فرق بين لون الجراد والقنفذ، ولون الطاووس والفراش، ولانعدمت تمامًا مملكة الألوان بما فيها من زينة وإبداع.
ولولا الجمال لاختفى كل فن، فلا أدب ولا تصوير، ولا نقش ولا موسيقى، ولاختفى كل أسماء الفنانين، ولما كان أبو نواس والمتنبي، والجاحظ والحريري، وشكسبير وموليير وجوته، ولا إسحاق الموصلي وبيتهوفن، ولا رفائيل، إلا أسماء ميتة لمدلولات ميتة، ولكانت أصوات سوق النحاسين كموسيقى أشهر الموسيقيين، ولكانت أصوات البوم والغربان كأصوات البليل والكروان؛ ولا كانت كتب إلا كتبًا في التجارة والحياة العملية؛ بل وما كان الإنسان إلا آلة حقيرة، يعمل وينتج ويستهلك كآلة النسيج أو آلة الطباعة، على شرط ألا يكون في نتاجها أثر من آثار الزينة والجمال.
ولولا الشعور بالجمال ما كان في كل ما حولنا من مناظر طبيعية جمال: فشروق الشمس وغروبها، وبريق النجوم ولمعانها، والبحار وأمواجها، والسماء وزرقتها، لا قيمة لها في نظر فاقد الشعور بالجمال، كما لا قيمة لها في نظر العميان.
دقق النظر فيما شئت من مأكلك ومشربك وملبسك ومسكنك، تر أن الاحتفاء فيها بالجمال أضعاف الاحتفاء فيها بالمنفعة، ولولا ذلك لقنع من مأكله ببرشامة، ومن ملبسه بما يقيه الحر والبرد من أي صنف ولون، وعلى أي وضع، وهكذا.
فإن أنت انتقلت من الحسِّيات إلى المعنويات، رأيت جمالًا ساميًا، وحسنًا فائقًا، فللعدل جماله، وللحق جماله، وللتضحية جمالها، وللشجاعة جمالها؛ ولو أنت قدرت كل ذلك بميزان المنفعة وحدها لضاع منها أكبر قيمتها، وكنت كمن يقدر الوردة الجميلة بثمنها، والشجرة الجميلة بغلَّتها.
إن تقدم الإنسانية في المدنية والحضارة، والدين والعلم، والاختراع والخلق، يدين للشعور بالجمال أكثر من أي شيء آخر، فلولاه ما تحرر الإنسان من سيطرة الطبيعة عليه، ذلك أنه لما استيقظ في نفسه الشعور بالجمال نظر إلى العالم حوله نظرة عجب وإعجاب، فكان هذا مفتاح بحثه، ومفتاح عليه، ومفتاح فك القيود التي قيدته بها الطبيعة، بل ومفتاح تحرره من القيود الثقيلة التي قيده بها النظام الاجتماعي من استبداد وظلم واعتساف. لقد تنبه شعور الإنسان بالجمال رويدًا رويدًا، فرأى وجه الظالم قبيحًا فنفر منه، ووجه الرق ذميمًا فاشمأز منه، بقدر ما استجمل العدل والحرية والإخاء والمساواة، فهانت عليه التضحية في سبيل جمالها؛ ولولا شعوره بهذا الجمال لكان هو والحيوان سواء. فلئن كانت السلطات المختلفة — دائمًا — تنسج جمال الأغلال، فالشعور بالجمال يعمل — دائمًا — على نقض ما أبرمت، وفك ما غلَّت.
والفرق بين أمة راقية وأمة منحطة هو الشعور بالجمال، هو ينظفها، وهو يمدِّنها، وهو ينظم مدنها، وهو يرقِّي عقلها، وهو الذي يحقق العدل فيها، وهو الذي يحسن العلاقة بين أفرادها، وبين أفرادها وحكوماتها؛ فامنحني الشعور بالجمال تمنحني كل شيء، واحرمنيه أحرم كل شيء — ولو أنصف رجال التربية لملئوا برامج المدارس بما يربي الشعور بالجمال، كما ملئوه بما يربي العقل — في زعمهم — ورحم الله مربيتي الإنجليزية، فقد كان أكبر همِّها أن تزين حجرتها بالأزهار الجميلة والصور البديعة، ومن حين لآخر تغير أوضاعها حتى تجدِّد ذوقها؛ فإذا دخلت الحجرة ولم ألحظ ذلك التغيير، ولم أبدأ الحديث بتحبيذه أو نقده، صرخت فيَّ قائلة: «يجب أن يكون لك عين فنيَّة، وأذن موسيقية».
قد يفسد الدين رجال الدين، فيضطهدون العلماء، ويعذبون الفلاسفة، ويقيمون محاكم التفتيش، ويشعلون نار الحروب الصليبية، ويتعصبون تعصبًا زريًا، ولا ينقذ الإنسانية من هذا كله إلا الشعور بالجمال، يستقبح العصبية، ويستجمل التسامح، ويسمو بالدين عن السفاسف.
لقد تأسست الأديان — فيما تأسست — على شعور الإنسان بالجمال، فالكنائس الفخمة البديعة بما فيها من فن ونقش وتصوير وموسيقى، والكتب السماوية — بما فيها من شعر — كانت عاملًا كبيرًا من عوامل الاستجابة للدين. والإسلام — مع بعده عن التصاوير والتماثيل ومحاربته لها — استخدم الشعور بالجمال من واد آخر، فقد لفت النظر إلى مناظر الطبيعة الجميلة على أنها آية من آيات قدرة الله وعظمته وجلاله وجماله: أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ. وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. الخ.
ومعجزة الإسلام الكبرى تتوقف على الشعور بجمال أسلوب القرآن، وفنِّه في أداء أغراضه وحسن تصويره لمعانيه، وقصده مع هذا جمال البساطة؛ وكم للبساطة من جمال!
ولما تقدم المسلمون في الحضارة غذَوا شعورهم بالجمال من الناحية الدينية أيضًا، فجمَّلوا المساجد، وأدخلوا الموسيقى في الأذان وقراءة القرآن.
ثم الصوفية من كل دين جعلوا أسمى أغراضهم الفناء في الحب، وهل هناك حب إلا لجمال؟ إذا رقى الشعور بالجمال في أمة ثارت على كل قبيح في مادة أو معنى، ولم تقنع إلا أن يحيط بها الجمال في نفسها وفي بيتها وفي قوانينها وفي نظام حكومتها، وفي كل شيء حولها.
وإذا سما الشعور بالجمال في إنسان أدرك أن الفضيلة فضيلة لجمالها، لا لأي صفة أخرى. فالجمال انسجام، والقبح نشاز؛ جمال الأدب في انسجام لفظه مع معناه، وانسجام ذلك كله مع الكاتب والقارئ؛ وجمال الموسيقى في انسجام الأصوات، وانسجام الأصوات مع النفس، والشعور المرهف بالجمال يرى الفضيلة إنما كانت فضيلة لجمالها، وجمالها أتى من انسجامها مع المجتمع، وسيرها معه في طريق الرقي.
قد تصدر الفضيلة عن عرف وعادة، فتكون عرضة للخطأ والفساد، ككل عرف وعادة؛ وقد تصدر عن عقل فيحسب العقل ما في العمل من خير وشر، ولذة وألم، ومنفعة ومضرة، فيكون شأنها شأن كل أحكام العقل فاترة جامدة، عرضة لأن يلعب بها المنطق الذي يستطيع أن يبرهن على الشيء ونقيضه؛ إنما القيمة الحقة للفضيلة في أنها تصدر عن عشق وهيام، ولا عشق ولا هيام إلا عن شعور بالجمال — أمثال هؤلاء هم الذين ضحوا بأموالهم وأنفسهم لعقيدتهم وفضيلتهم وحريتهم، ولولا العشق ما كانت التضحية، ولولا الجمال ما كان العشق.
أفبعد هذا كله — يا أخي — تنكر على شعوري بالجمال، وتنصحني بستره؟!