في الهواء الطلق (٥)
كانت رحلتنا هذه المرة إلى «الأهرام» في ليلة اكتمل فيها البدر، فصبغ العالّم بلونه
الزاهي الجميل، وامتلأ الوادي بفيضان النيل، فكان في ضوء القمر فضة مذابة، وَرَق النسيم
ورَاقَ الجو، فكان كل ذلك متعة النفْس وجلاء القلب.
وكنا أربعة خامسنا عالمنا، قد تخصص في علم النفس، ودرسه في مصر وفي أوربا، وفي المدارس
النظرية والمدارس العملية، وشغف به حتى شغله عن كل شيء؛ فهو قليل الكلام إلا إذا عرض
شيء
نفساني، فهو يتدفق ويتدفق؛ وإذا تحدثنا في شخصية من الشخصيات السياسية أو المالية أو
العلمية، أخذ يحللها نفسيًا، ويرجع مظاهرها إلى عناصرها الأولى، كما نحلل نحن عددًا حسابيًا
كبيرًا إلى عوامله الأولية. وإذا روينا حادثة اجتماعية حدثت، أخذ يشرِّحها وينظر في أعماقها
ودقائقها، كأن هذا العلم وضع على عينيه «مكرسكوبًا» دقيقًا.
قال له أحدنا: يا دكتور، هل لك في هذا الجو الهادئ الجميل أن تحللنا، وتشرح لنا نفوسنا،
وتسلِّط علينا علمك ومكرسكوبك، وتقرأ لنا نفوسنا كما يقرأ عالمِم الكف أكفنا، فهذا درس
عملي
لذيذ، وفرصة سانحة تكشف لنا كثيرًا من نفوسنا، وقد تفيدنا في أخلاقنا.
الدكتور: لا شك أن هذا عمل لذيذ مفيد، وحقيقة إنها لفرصة سانحة، فقد كنتم أصدقائي
منذ
صباي، واطّلعت على نفوسكم وتصرفاتكم في المواقف المختلفة، واختزنت منها الشيء الكثير
في
ذاكرتي، مما يسهل لي الحكم عليكم؛ ولكني أخشى أن أُغضبكم أو أُغضب بعضكم، فكشْف النفس
أمر
لا يستحب ككشف الجسم، وقد يحسن أن يكون ذلك حديثًا منفردًا مع كل منكم، حتى لا يطلع عليه
الآخرون فيألم لذلك؛ والناس جميعًا في كل مكان يودون أن يظهروا بمظهر الكمال، وتعريه
نفوسهم
كشف لعوراتهم، والناس في مصر أشد حساسية في ذلك، فهم يكرهون النقد، ويكرهون الناقد أكثر
من
غيرهم، ولذلك ضعف النقد، ورَكن الناقد إلى السلامة، سواء في ذلك النقد السياسي والأدبي
والاجتماعي. ولما عدت إلى مصر من أوربا أدركت هذا المعنى في وضوح؛ فقد بدأت أنقد في مصر
كما
كنت أنقد في أوربا، فصُدمت صدمة قوية عنيفة جعلتني أتردد في النقد. ولا أدري سبب ما رأيت
من
تأخر النقد، فقد كان النقاد في مصر أقدر وأجرأ منهم اليوم، ولا يصح تعليل ذلك بالحرب
وإعلان
الأحكام العرفية، فإن هذا إذا صدق في السياسة لم يصدق في الأدب والفن، وحتى قُبيل الحرب
لم
نكن في هذا الباب خيرًا منا الآن.
(أ)
:
كيف لا تدري السبب — يا دكتور — وأنت متخصص في علم النفس الفردي والاجتماعي، ولا
شك أنك صادفت مثل هذه الأعراض وحللتها وشرحتها.
الدكتور
:
ليس الأمر أمام العالِم بهذه السهولة، فعالَم النفوس من أعقد العوالم وأدقها، وفي
كثير من الأحيان كانت تُعرَض علينا حالات فردية كنا نحار في تفسيرها — أنا ومن يعمل
معي من أساتذتي وزملائي — ونذهب فيها كل مذهب، وأخيرًا نقرر عجزنا عن حلها. هذا في
حالة نفسية فردية، فكيف في حالة اجتماعية! ولكن — على العموم — يخيل إليَّ أن سبب
ضعف النقد في مصر وغضب المنقودين يرجع إلى أن رقي الثقافة العامة في أوربا جعلتهم
يدركون أن كل فرد له مزاياه وعيوبه، فإذا كشفت عيوب شخص فلا بأس، فهذا أمر طبيعي؛
ثم فشو الروح الرياضي في الأمم جعلتهم في ألعابهم يتلقون الضربات في سماحة، ويتلقون
النقد في سماحة مثلها؛ ثم إن معدل «مركب النقص» في مصر أكبر منه في أوربا، ولذلك
كان النقد يزيد في المنقود هنا شعورًا بهذا النقص، فيغضب ويتألم، ألا ترى أن الرجل
الواثق بنفسه لا يؤلمه النقد كما يؤلم من فقد الثقة بنفسه، وهكذا؟!
(أ)
:
لكن هذا يا دكتور يصح أن يكون سببًا في ضعف النقد في مصر عنه في أوربا، ولكن لا
يعلل ضعف النقد في مصر عنه في مصر أيضًا منذ سنوات.
الدكتور
:
هذا صحيح، وفي ظني أن هذا يرجع إلى أسباب اجتماعية وتاريخية أكثر منه إلى أسباب
نفسية، وإن كانت هذه الأمور مرتبطة ببعضها ارتباطًا كبيرًا، فغلبة الرجعية، وعدم
استجابة جمهور الأمة لدعاة التجديد، وغير ذلك من أسباب ليس هنا موضعها، كانت سببًا
في ذلك.
(ب)
:
قد خرجنا عن موضوعنا بعض الشيء، فحلل نفوسنا، ولك علينا عهدًا لا نغضب، وأنت من
جانبك لا تتعمق في مشرطك، ولا تبالغ في جرحك، واستعمال الإيماء أحيانًا، والكناية
أحيانًا، ففي ذلك كفاية.
(جـ)
:
أما أنا فأنصحك أن تقول كل شيء عني في صراحة من غير تلميح؛ فإن أنت مدحتني وهُديت
إلى محاسني ومزاياي، كان علمك صحيحًا وكلامك صحيحًا، وإن ذممتني ونقدتني كان علمك
سخيفًا وكلامك سخيفًا؛ وأنا راض في الحالين، فالحكم عليك لا عليَّ.
(ضحك الجميع).
الدكتور
:
وليكن، ولكن اسمحوا لي أن أتكلم كلامًا عامًا بعض الأحيان، وكل منكم يطبقه — إن
شاء — على نفسه. ومن محاسن الصدف أنكم الأربعة تمثِّلون أصناف الناس ونماذجهم
الأصلية؛ فأولًا: «أ و ب» من النموذج الذي يسميه علماء النفس
Introversion، ولا أدري كيف أسميه بالعربية،
فمعناه الحرفي «تحويل الظاهر إلى الباطن»، وهذا الصنف من الناس — عادة — من خصائصه
أن يعيش في نفسه أكثر مما يعيش في خارجها، يميل إلى الدرس والبحث، فإذا غلب عليه
هذا المزاج فهو أميل إلى الفلسفة والعكوف على أفلاطون وأرسطو وسبينووا وأمثالهم؛
ومن هذا الصنف أيضًا فريق المتصوفة الذين يغرقون في أنفسهم ويحللونها ويشرحون
مقاماتهم وأحوالهم، هم — عادة — خَجُولون في أوساطهم، يكرهون المجتمعات والحفلات
الصاخبة، يشعرون شعورًا بالغًا بالألم التافه، ولا يشعرون شعورًا عظيمًا بالفرح
العظيم، يفضِّلون أن يجلسوا في حجراتهم يحلون مشكلة اجتماعية أو نظرية رياضية على
شهود ألعاب رياضية أو حفلة موسيقية.
وأما «حـ و ء» فمن الصنف الآخر الذي يسميه علماء النفس أيضًا
Extraversion، ومعناه الحرفي «تحويل الباطن إلى
الظاهر»، وهذا الصنف من الناس — عادة — لا يستطيعون الصبر على الخلو إلى أنفسهم مدة
طويلة، ولا يستطيعون أن يصبروا على البحث العميق الطويل، يحبون الناس واجتماعاتهم،
وقد يشتركون في عمل الحفلات والولائم والإعداد لها، ويحبُّون الاشتراك في النوادي،
يلفتون الأنظار إليهم في تصرفاتهم، ويحبون الظهور، وأن يُكتب اسمهم في الجرائد
دائمًا — يكرهون الفلسفة واسمها، ويكرهون العزلة؛ ويحبون من الروايات الكوميديا
ويكرهون التراجيديا، ويعجبهم من الموسيقى النغمات المرحة ولا تعجبهم النغمات
الحزينة، وهكذا.
ومنشأ ذلك خلقة وطبيعة وظروف أكثر منها أي شيء آخر.
أتذكر يا فلان (أ) أنك كنت ضعيفًا في صغرك، لا تشترك مع الأطفال في لعبك! أولا
تذكر يوم كنا في المدرسة الثانوية معًا، وكان إخواننا في الفصل يطلقون عليك لقب
«مالك الحزين»، وقد نما هذا الشعور عندك، فطلقت الجمعيات، واحتضنت الكتب، وشعرت
بمركَّب النقص عندك، فمنحتك الطبيعة «التعويض»، وكان هذا التعويض أن تخلق من نفسك
عالمًا غير العالم الخارجي تسمح فيه، ثم نمت عقليتك على حساب الملكات الأخرى، وعلى
حساب الاشتراك مع الأصحاب في الألعاب والحفلات، فتفوقت على زملائك في العالم
والعقل، وضعفت عنهم في المواهب الأخرى: في الألعاب الرياضية، في الحفلات السارة، في
الأعمال الاجتماعية؛ ولتُرضي نفسك بهذا التعويض قوَّمت الحياة العقلية أكبر من
قيمتها، كما قومت الأنواع الأخرى من الحياة أقل من قيمتها، ولم تكتف بذلك، بل سبحت
في عالم من الخيال الفلسفي، وجعلت مَثَلك في الحياة عزلة عن الحياة العملية إلى
حياة فكرية مجردة تسخر فيها بحياة الناس العملية — حتى إنّا لما دعوناك إلى هذه
الرحلة معنا أتيت بضغط يشبه الإكراه. أليس كذلك؟
وعلى العكس من ذلك أخونا (حـ)، فقد نشأ — كما أعرف وتعرفون — في صحة جيدة ووسط
مُوَاتٍ، ولما كان معنا في المدرسة الثانوية كان رئيس فرقة الكرة، وكنا إذا فكرنا
في حفلة فهو منظِّمها، وهو المُهَرِّج فيها، وكان لا يحتبس في بيته للمذاكرة إلا
عند الضرورة القصوى؛ فلما أتم دراسته كان — كما ترون — رجلًا يعرف الدنيا، ويلعب
بالبيضة والحجر كما يقولون، لا يعترف بالهزيمة إذا كانت، يلعب بالحياة كما كان يلعب
الكرة في مدرسته، إذا غُلِبت فرقته مرة ضحك، واستعد أن يغلب في المرة القادمة؛
وبينما أخونا «أ» يُحَضِّر درسًا في حجرته في نظرية «الأوساط» عند أرسطو، إذا
بأخينا «حـ» يُطِّبق نظرية «الأوساط» في حفلة رقص.
(ضحك من الجميع).
(أ)
:
إذن فما رأيك في أخينا «د»، وأخينا «ب»، فقد نسيتهما وصببت كل كلامك على «أ»
و«حـ».
الدكتور
:
الواقع أني لم أنسهما، ولكن بدأت بالكلام في «أ» و«حـ» لأنهما نموذجان متقابلان
يشرحان فكرتي في وضوح، وباقي إخواننا ليسوا إلا صورة مكبرة أو مصغرة منهما، أو
ملوَّنة لونًا آخر غير لونهما، ولكن الأساس واحد.
فأخونا «د» عكس أخينا «أ»، أخونا «أ» بمركب النقص، وأخونا «د» مصاب «بمركب
التسامي»، وكلاهما عيب، ومركب التسامي في نظر علماء النفس ليس إلا دخانًا كثيفًا
يلُفّ مركب النقص. فالمصاب بمركب التسامي تظهر عليه أعراض معينة، فهو يشعر بنقصه،
ولكنه يمنع الناس أن يدركوها كما يدركها هو، ووسيلة ذلك الظهور بالتسامي والظهور
بمظهر العظمة، ألا ترى أن الكلب الكبير حقًا، العظيم حقًا، لا ينبح إلا عند
الضرورة، وأما الكلب الصغير الحقير فينبح ويقفز لأتفه الأشياء يعلن بذلك عن نفسه،
ويغطي شعوره بنقصه؟! كذلك الرجل العظيم حقًا لا يفخر بعظمته، لأنه يشعر أن أعماله
كافية في التعبير عنه؛ والمرأة الواثقة بجمالها لا تبالغ في حيلها وزينتها كما
تبالغ من شعرت في نفسها بشيء من العيب أو القبح؛ والغنيّ الكبير العريق في الغنى لا
يتظاهر بما يتظاهر به «المُحدَث في الغنى»؛ وهكذا كل شاعر بنقص في ناحية من النواحي
يحتاج إلى عمل إشارات كثيرة تجعل الناس يؤمنون به ولا يطلعون على عيبه، شأنهم في
ذلك شأن الطفل الصغير يشعر بالخوف فيأتي بإشارات وحركات يتظاهر فيها بشجاعته. الا
ترون أن صاحبنا يحاول أن يفرض رأيه علينا فرضًا، ولا يسمح لأحد أن يقترح رأيًا
بجانبه، ويريد أن يشعر دائمًا بشخصه، وهو الذي اقترح رحلتنا اليوم ونفذها، لا يحاسب
نفسه كثيرًا على تصرفه ولا على من اجتاحهم أثناء سيره، يضحينا دائمًا لطموحه، ويشك
في قيمة الناس فيكتسحهم؟!
(د)
:
كلب في عينك قليل الأدب، لم يبق إلا أن تمثلني بالكلب، وما الكلب إلا أنت وعلمك
الفارغ، كلمات تحفظها وتطبقها على ما يصلح لها وما لا يصلح، وشقشقة ألفاظ من مركب
النقص ومركب التسامي لا حقيقة وراءها؛ إن كنت متكلمًا حقًا، فحلل لنا نفسك وبيّن
علاقتها بالكلب.
الدكتور
:
آسف كل الأسف، وهذا ما كنت أخشاه من أول الأمر، ولكن ما كنت أتوقع أن يبلغ الأمر
هذا المبلغ، فما ذنب طبيب إذا عُرِض عليه مريض فرأى عنده سرطانًا؟ أيكون منصفًا إذا
قال إنه ورم بسيط، ولكني نسيت أمرًا تعلمته، وهو أن الإنسان لا يسمح لطبيب النفس أن
يشرحه ويعين مرضه كما يسمح لطبيب الجسم، ولهذا سبب ليس محله الآن، وكل ما أقوله إني
آسف ومعتذر.
(أ)
:
غلطتك يا دكتور ليس في التشخيص، ولا في الشرح، ولكن في أنك قد فاتك التعبير
الرقيق والتشبيه الفنَّي، فقد كان يمكنك التعبير عن هذا المعنى تعبيرًا أرق؛ وأنت
يا «د» ليس لك الحق في الغضب، فقد تعاقدنا أول الأمر على ألا تغضب، والجو أمامنا
فسيح، وفيضان النيل أمامنا بالغ منتهاه، فخذ من الدكتور ما يعجبك، وارم ما لا يعجبك
في النيل أو في الهواء الطلق.
(الجميع)
:
وهو كذلك فأكمل لنا «ب»، وبذلك ينتهي الحديث في صفاء.
الدكتور
:
أما أخونا «ب»، فهداه الغرق في نفسه إلى النزعة الدينية. فنشأ مرهف الحس في وسط
كثير التدين، ولست أنسى والده وصلاحه وكثرة صلاته وصيامه، وامتلاءه عقيدة بحقارة
الدنيا ونعيمها، وكثرة ذكره للموت. وتطلعه لحياة أخرى فيها الكمال المطلق؛ وفي هذا
الوسط نشأ أخونا «ب» فنما شعوره القوي بالدين، وضعف اعتماده على وسائل الدنيا فقوي
اعتماده على الله. يعتقد أنه بَيْدَقٌ في يد القدر. يرى أن النفس دائمًا أمارة
بالسوء، فهو يتطلع إ الاستعداد من قوى روحية أخرى تعينه على السلوك المستقيم، فهو
ينال ملاذ الحياة بحذر، ويخاف من النسيم أن يجره إلى الإثم، ومن الإثم أن يجره إلى
النار، فحيى ضميره وشعوره من هذه الناحية حتى تسلط على كل أفعاله! فمقياس العمل
عنده دائمًا الجنة والنار، أضعف نفسه الخوفُ فهرب من أداء الواجبات الدنيوية، وركز
نظره إلى الحياة الأخرى يضع فيها آماله. ولا أريد أن أطيل حتى لا يغضب
أيضًا.
فلعلكم ترون من هذا هذه الفرصة السعيدة التي جمعتنا؛ وكان اجتماعنا أشبه باجتماع
النماذج البشرية كاملة، فمنا اثنان محكومان بعقلهما، أحدهما محكوم بعقل منطقي
فلسفي، والآخر بعقل عملي، ومنا اثنان محكومان بعواطفهما أحدهما محكوم بعواطف دينية،
والآخر بعواطف دنيوية.
ولكن أرجو أخيرًا ألا يكون أخونا «د» لا يزال غاضبًا.
(د)
:
لا! هذه فورة وقتية وزالت.
الدكتور
:
لعلي أستطيع في فرصة أخرى أن أُحَدِّثك وحدك عن سيكولوجية الغضب، والأسباب التي
تدعوك إليه.
(د)
:
كلا، لا أريد سيكولوجيتك ولا تحليلك، فأنا أعرف بنفسي منك.
(أ)
:
ولكن يا دكتور، هل هذه العناصر الأربعة أساسية غير قابلة للتحول، أو يمكن تحويل
عنصر إلى عنصر؟
الدكتور
:
أرى أنه لا يمكن ذلك، فلا يمكن تحويل «أ» إلى «د»، ولا «ب» إلى «جـ»، ولو استحال
النحاس إلى ذهب. وكل ما في الأمر أن هذه العناصر الأربعة ضرورية في الحياة، نافعة
للمجتمع، ولكلٍ غرض، وكل يتخذ لإدراك غرضه أدوات وآلات ووسائل وما يصبو إليه
الأخلاقي والمصلح الاجتماعي ليس أن يحول الإنسان من عنصر إلى عنصر، ولكن أن يُبقى
على غرضه وعنصره، ويحاول أن يجعله يتخذ من الوسائل ما يتفق وصالح المجتمع؛ فقد يتخذ
صاحب الغرض وسائل خسيسة ضارة بمجتمعه لتحقيق غرضه، فيأتي المصلح ويهيئ الفرص للناس
أن يتخذوا لغرضهم وسائل شريفة تفيد المجتمع. فغرض الشهرة — مثلًا — والقصد إلى
التسامي ليس شرًا في ذاته، ولكن يتفق في هذا العنصر بعض العظماء جدًا وبعض المجرمين
جدًا: الأول اتخذ وسائله في الشهرة الإتيان بأعمال تنفع أمته، والثاني اتخذ وسائله
الإجرام، وشتان ما بينهما وإن اتحد العنصر. والنبي الذي يُبعث، والمصلح الذي ينبغ،
من أكبر الرجال الذين يعرفون نفسيات الأتباع، فيعرفون كيف يرشدون كلا إلى الناحية
التي خُلق عليها من غير أن يغيروا من تكوينهم الأساسي، وعنصرهم الأولي.
(أ)
:
ولكن يا دكتور كيف تسنَّى لهذه العناصر المتباينة أن تتصادق؟ فنحن كما حللتنا ماء
ونار، وحرارة وبرودة، وعذوبة وملوحة، ومع ذلك نحن أصدقاء متحابون لا يستغني بعضنا
عن بعض، ونشعر كأننا عروة لا تنفصم، ووحدة لا تتجزأ؛ إذا غضب أحدنا لا يلبث أن
يصفو، وكان مقتضى الظاهر أن نتخاصم وأن نتعادى، لا أن نتصافى.
الدكتور
:
لهذا أيضًا سبب سيكولوجي عميق يرجع إلى أصول أبانها علماء تحليل النفس، فهل أنتم
على استعداد للبقاء هنا إلى الصباح؟
(أ)
:
لا، ولكن على أن تعدني أن نتقابل غداْ وحدنا إذا علق الآخرون عائق فتحدثني عن سر
ذلك!
الدكتور
:
وهو كذلك.
وكانت الساعة قد بلغت الثانية صباحًا، وقد تسلطن القمر في عرشه، فركبنا سيارتنا وعدنا
من
حيث أتينا.
ولما عدت إلى بيتي أبيت إلا أن أقيد أهم ما كان، حتى لا يطويه النسيان.