السوبرمان أو الإنسان الكامل (١)
من قديم أولع الإنسان أن يتصور إنسانًا أعلى، إنسانًا كاملًا، إذ رأى الإنسان الذي يشاهده ويعامله إنسانًا ناقصًا، فصور صورًا مختلفة كمل بها نواحي النقص المختلفة؛ فآلهة اليونان صور للإنسان الكامل في بعض نواحيه، والجن يعملون أعمالًا يتشوق الإنسان أن يعملها ولكنه لا يستطيعها فيتصور الجن تعلمها، والسندباد البحري يقوم برحلات تصعب على الإنسان العادي فيتخيلها سهلة ميسرة لمثل السندباد.
ويأتي الزمان ببطل من ناحية من نواحي العظمة، فيفيض عليه الإنسان من خياله ما يكمل نقصه؛ فعنترة بطل شجاع ولكن البطولة الواقعية لا تشبع شهوة الإنسان، ولا تحقق رغبته كلها في إنسان كامل في الشجاعة، فيخلع عليه من خياله ما يكمل هذا النقص، فهو يبيد قبيلة بأسرها ويقف أمام الأعداء مهما كثر عددهم وتعددت أسلحتهم؛ وكذلك فعل مع الأبطال في النواحي المختلفة، فكمل نقص الفكاهة في «جحا»، والحكمة عند زرادشت وبوذا، والكرم عند حاتم، ولم يقنع بما فعله نابليون في الواقع فنسب إليه أفعالًا من نسج خياله؛ وإذا قرأ أن بعض الناس عمروا مائة سنة أو مائة وعشرين لم يكفه ذلك وغذى شهوته في التعمير بنسبة العمر غير المعقول إلى بعض الأشخاص، فمنهم من عُمر ثلاثمائة عام أو أكثر؛ ولم يرضه طول الإنسان العادي فنسب لآدم وحواء وعوج بن عنق طولًا يبلغ مئات الأقدام حتى كان عوج بن عنق يشوي اللحم في الشمس من إفراطه في الطول وهكذا.
وكان شأنهم في المستقبل شأنهم في الماضي، فلم يرضهم الحاضر كيفما كان، ولم يرضهم الحاكم كيفما كان، فهو مهما عدل لا بد أن يعتريه النقص الإنساني فيظلم ولو بعض الظلم، فتصوروا مدنًا يسود فيها العدل التام، وتخيلوا لذلك ما يسمى باليوتوبيا أو المدينة الفاضلة، وليس هذا موضوع كلامنها، ولكنهم تخيلوا أيضًا إنسانًا كاملًا يأتي فيحكم الأرض بالعدل الكامل كما يؤملون، وعلى هذا نشأت فكرة المهدي المنتظر عند بعض المسلمين، يأتي فيملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا، وكان لها نظائر في الأمم الأخرى.
وهكذا وضع — في كل العصور — صورة لإنسان كامل، إما من جميع نواحي الإنسان، وإما من ناحية من نواحيه كالبطولة والحكمة والعدل والعفة.
وقد وُصف السوبَرْمان أوصافًا مختلفة تبعًا لاختلاف الواصفين وتصورهم له.
وكان الشرق من أكثر الناس ذكرًا وإيمانًا بالسوبَرْمان في إيمانه بالأنبياء الذين هم صورة للإنسان الكامل، اختارهم الله من بين خلقه ليكونوا صلة بينه وبينهم تبلغهم أوامره ونواهيه، وهؤلاء الأنبياء بحكم رقيهم وسموهم يستطيعون أن يتلقوا عن الله ما لا يستطيعه سائر الخلق.
وكان للصوفية مجال كبير في السوبرمان، فدار الإنسان الكامل على لسانهم، وكان أول من استعمله «ابن العربي»، وألف عبد الكريم الجيلاني كتابًا بهذا العنوان «الإنسان الكامل» نحا فيه منحى الصوفية؛ وخلاصة نظرهم أن الإنسان الكامل هو من يرقى بنفسه حتى يتصل بالله الذي خلق الإنسان على صورته، يفنى فيه ويسلك ي حياته الطريق الموصل إلى ذلك، وهذا الطريق هو الذي سار فيه الأنبياء والأولياء والصالحون، وهو إذا وصل إلى هذه الغاية استطاع أن يدرك ما لا يدركه الناس، ويعرف ما لا يعرفون، ويتذوق ما لا يتذوقون، ويتحرر من الحجاب الذي أسبلته عليه الحواس والشهوات، ولهم في ذلك كلام طويل.
وكان الأوربيون قد انغمسوا في دراسة الحياة الواقعة ونسوا الإنسان الكامل، حتى جاء نيتشه فألف كتابًا في السوبَرْمان كان له من القوة والأثر ما أحيا الفكرة في أوربا من جديد، حتى ظنوا الفكرة جديدة.
وكانت قد ذاعت في الأفكار الأوربية نظرية النشوء والارتقاء وما يتبعها من الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح، فتأثرت النظرة إلى السوبَرْمان بذلك وتأثر نيتشه بها فيما كتب عنه.
لقد استنزل نيتشه «السوبَرْمان» من السماء إلى الأرض، وجعله إنسانًا يُكوَّن ويربَّي ويرقى إلى أن يصل إلى الغاية.
كان الإنسان الكامل في نظر «نيتشه» على العكس منه في نظر الصوفية، هو في نظر الصوفية روحاني إلهي سماوي، وهو في نظر «نيتشه» أرضي مادي ملحد.
قد اشتق «نيتشه» صورة الإنسان الكامل من القوة، فالقوة عنده كل شيء، والإنسان الكامل أكبر فضائله الرجولة والشجاعة والإقدام، لا التواضع ولا الرحمة ولا تأنيب الضمير، وأسمى ما في الإنسان الكامل قوة إرادته وثبات عاطفته، فهو إذا أراد غامر وجاهد ولم يرحم، وإذا نفّذ ما أراد لم يندم؛ إن الإنسانية الكاملة تتجلى في النشاط والقدرة والقوة في كل أشكالها، والإنسان الكامل لا يحتقر الجسم بل لا بد أن ينميه ويقويه، إذ لا روحًا قوية في جسم ضعيف، وفلسفة الإنسان في الحياة نتيجة حالته الجسمية ونتيجة نوع مأكله ومشربه وقوة هضمه. قوة الجسم وقوة العقل وقوة العاطفة هي مقومات الإنسان الكامل، ويجب أن يكون بين هذه القوى توازن تام، فلا تطغى إحداها بل تتوازن وتنسجم، ولا يكون ذلك حتى يكون هناك غرض يسعى إليه الإنسان الكامل، فهذا الغرض هو الذي يشرح مقدار الاعتدال بين القوى الثلاث أو الطغيان.
لهذا وجب في نظره أن يقضي على كل دعوة دينية أو فلسفية تدعو إلى الرأفة والرحمة والعطف على الفقراء والمجرمين، فالعاجز والمريض والجاني والضعيف والذليل والمتواضع كل هؤلاء رقع في ثوب الأمة يجب أن يعمل على إزالتها لينسجم الثوب.
ويجب أن تكون غاية الأمة العمل على إيجاد هذا الإنسان الكامل، وأن تجعل نفسها جسرًا يخطو عليه، ولا تهتم بالأوساط والضعفاء بمقدار ما تهتم بالسادة، فإذا رأينا من تظهر عليه مخايل القوة والإنسانية الكاملة تداخلنا في زواجه ممن تظهر عليها أيضًا مخايل القوة، حتى يكون النتاج قويًا كما نفعل في انتخاب الحيوان واستيلاده، ثم يجب أن تتربى هذه الصفوة من الأناسِيِّ الكاملين في مدرسة قاسية عنيفة، يتحملون فيها الأعباء الثقال، ولا ينعمون فيها بالترف والرفاهية ويتعلمون فيها قوة الإرادة، وكيف يطيعون إذا أُمروا، وكيف يطاعون إذا أَمروا ويجب ألا يكون في المدرسة تنسُّك ولا زهد ولا احتقار للجسد.
ولا بأس أن يضحَّي العدد من العامة إذا اقتضى الأمر إيجاد هذه الصفوة الممتازة، فهم الذين سيخلقون الأمة بعد — ولهذا كانت دعوته دعوة أرستقراطية، ودعوة سيادة طبقة لا دعوة مساواة في الحقوق والواجبات، فيجب أن تتعاون الأمة على إيجاد غايتها، وغايتها هي الإنسان الكامل، ولذلك مجَّد الحرب لأنها وسيلة من وسائل وجود الإنسان الكامل، وهي خير لأن الخير في نظره ما يزيد الشعور بالقوة، والذي يميز الإنسان الكامل حبه للمغامرة والجهاد، ولا شيء تتجلى فيه هذه المظاهر كالحرب.
لقد كان «نيتشه» وهو يصف الإنسان الكامل يستملي صورته من الإسكندر الأكبر ونابليون وأمثالهما، ويستكمل ما فيهما من نواحي الضعف، ولهذا أشاد بذكر نابليون في كتابه «هكذا قال زرادشت» أكثر من مرة فيقول: «ما أروع منظر نابليون وقد وهب الملايين أنفسهم له كي يتخذ منهم وسائل لأغراضه، فإذا ما سقط منهم جندي تغنى باسم نابليون قبل أن يسلم الروح»، ويقول في موضع آخر: «ولقد أنتجت الثورة الفرنسية «نابليون» على عبئها وفوضاها».
ولكن هل هذه الصورة هي صورة الإنسان الكامل حقًا؟ لقد يظهر أن تعاليم نيتشه سادت في ألمانيا، واتخذتها إنجيلًا، وصبغت التربية بصبغتها، فمجدت الحرب كما مجَّدها نيتشه، واتخذت ملايين البشر قنطرة للإنسان الكامل، وآمنت بالقوة وجعلتها غرضًا، فكانت هذه كلها مقدمة نتج عنها وعن أمثال هذه النزعات في الأمم الأخرى ما يعانيه العالم اليوم.
فهذا «السوبرمان» كما وصفه نيتشه ومن جرى على أثره لم يحقق أنشودة الإنسانية.
عيب هذه النظرة أنها اشتقت صورة الإنسان الكامل من الواقع، من نظرية النشوء والارتقاء، من البحث في علوم الاجتماع، وبنت حكمها على أن الإنسان قد تم بناؤه على هذا الشكل، وليس قابلًا للتشكل أشكالًا أخرى جديدة غير هذه الأشكال المألوفة، مع أن نظرة إلى ماضي الإنسان وحاضره ترينا الفرق الكبير في تشكله، وعلى هذا فسيختلف مستقبله اختلافًا كبيرًا عن حاضره.
وعيب هذه النظرة أيضًا أنها اقتصرت على الجانب المادي والاجتماعي والاقتصادي في الإنسان، وعالجته كما يعالج العلماء الحجر والنبات والحيوان، وتجاهلت أن فيه عنصرًا آخر روحيًا ناميًا غير هذه العناصر المادية؛ وكلما ارتقى الإنسان أحس أن له جانبين، جانبًا ماديًا يشارك فيه الجماد والنبات والحيوان، وجانبًا آخر روحيًا يحققه كلما رقى، وسيتحقق في مستقبله أكثر من ماضيه، ولهذا سيكون «الإنسان الكامل» في نظره غير الذي رسمه نيتشه.