السوبرمان أو الإنسان الكامل (٢)
لم يوفق نيتشه في هذا التصوير، وإن وفق في إثارة هذا الموضوع، وفي ثورته على الأخلاق القديمة، وتوجيه الأنظار إلى البحث في صفات الإنسان الكامل، فإنه لا بد أن يكون للناس مثل أعلى يَصْبون إليه، ويطمحون أن تكون نفوسهم قريبًا منه، والأديان كلها عُنيت بتصويره في أشخاص أنبيائها.
وكل من صوَّر السوبرمان انتزعه من مخيلته، ومنحه من الصفات ما يحب، وجرَّده مما يكره، وكانوا يختلفون في تصويره بساطة وتركيبًا، ويختلفون كذلك في تصويره حسب ثقافتهم ورقي عقولهم، فالناس في حالتهم الأولى تصوروه ماردًا عملاقًا طويل العمر، وهي نظرة ظاهرة البطلان، وآخرون، وإن تقدموا بعض الشيء، منحوه كل صفات المدح الإيجابية ونفوا عنه كل صفات الذم السلبية، وهذا التصوير أيضًا لا يمكن أن يوافق الواقع، فقد أثبت علم النفس أن ذلك غير ممكن، وأن العبقرية إنما تنمو في بعض الفضائل على حساب فضائل أخرى، وليس يمكن أن تنمو الفضائل كلها إلى درجة العبقرية في خطوط متوازية متساوية.
ثم إن صفات الإنسان الكامل يجب أن تنحصر في صفات الإنسان من حيث هو إنسان، فالصفات التي يشاركه فيها غيره لا تصح أن تكون من خصائص الإنسان الكامل؛ فالطول لا يصح أن يكون ميزته، فمهما بلغ الإنسان لم يبلغ طول الجبال؛ ولا طول العمر يصلح، فهو مهما طال لا يبلغ طول عمر الأحجار وبعض الأشجار؛ والقوة الجسمية لا تصلح، فهي مهما بلغت لا تبلغ قوة الأسد.
فصفات السوبرمان إنما يجب أن يبحث عنها في حياته النفسية الباطنة، في ضميره، في نحو ذلك مما لا يشاركه فيه غيره.
يرى الأستاذ «أوسبنسكي» أن من أول شروطه أن يكون روحيًا لا ماديًا، أن يكون فيه شيء من غموض التصوف، أن يكون متصلًا بنفسه بما وراء المادة، فذلك يجعله ينظر إلى العالم المادي نظرة غنية خصبة، فلا يصح أن يكون «السوبرمان» مجرد رجل أعمال كبير، ولا فاتح عظيم، ولا سياسي قدير، ولا عالم متبحر؛ بل يجب أن تكون فيه نفحة من الأولياء والقديسين، أن يكون ملهمًا، أن يكون متصلًا بدائرة الخفى والغيب والمجهول، أن يكون فيه ميزات غير مألوفة وغير عادية — أن يكون بعيدًا عما يقرره أصحاب نظرية النشوء والارتقاء من نظرهم للإنسان على أنه قرد راق، ولا على أنه تاريخ متطور.
ويرى أن هذه النظرة الروحية حقة وجميلة، وشرط أساسي للسوبرمان، ولكن صد عنها الناس وصدفت عنها المدنية الحديثة والعلم الحديث، لما شوهت به من عفاريت وخرافات؛ ولكن هذا ليس عيبًا في الفكرة، فالشر — دائمًا — هو تحويل الشيء العظيم إلى شيء صغير حقير، وليس هناك شر عظيم، وليس الشر ولا الرذيلة إلا شيئًا عظيمًا أفسده الناس بتخيلهم الباطل، فخيالهم الباطل وتصورهم الفاسد هو الذي أفسد الدين العظيم، والمدنية العظيمة، والعلم العظيم، ونشأ من هذا الخيال الفاسد دين فاسد، ومدنية فاسدة، وعلم فاسد.
ويقول: إن هذا الفساد يأتي على وجهين: إما من وضع الفاسد موضع الحق، كوضع ز السمك؛ وإما من تزيين الباطل وزخرفته، حتى يرى الناس جماله المزيف ويفترون به، ويغريهم جماله به فيظنونه حقًا.
إن هذا الاتصال بالمجهول صعب تصوره وصعب التعبير عنه، إنما قارب التعبير عنه الفن من شعر وموسيقى وتصوير، كما قارب التعبير عنه الدين والتصوف. وإذا كان من مقومات السوبرمان هذه النزعة الإلهامية أو التصوفية أو ما شئت فسمها، كان من الواضح ألا يكفي في تكوينه قوة العقل وقوة المنطق، بل يجب أن يضاف إلى عقله الواسع الكبير عواطفه الواسعة العظيمة الراقية، على شكل يصعب تصويره والتعبير عنه — ومن أجل هذا نراه ينزع إلى نوع من الحياة غير العادية وغير المألوفة للإنسان العادي، كما نقرأ في سيرة محمد والمسيح، وبوذا، يشغل تفكيرهم وعواطفهم أشياء لا تشغل الناس، ويقدرون ويسرون ويألمون مما لا يأبه الناس له في العادة.
ومن أجل هذا يساء فهمه ويساء تقديره، فيرمى تارة بالجنون، لأن فيه هذه النزعة المجهولة، وبأنه ساحر أو مسحور، ولا يستطيع أن يفهمه ولا يؤمن به من قصر نظره على المادة، ولو كان عالمًا ماديًا، أو أخلاقيًا ماديًا، أو عالم نفس ماديًا، أو رجل أعمال لا يفهم من الحياة إلا المال والربح والخسارة أو نحو ذلك؛ ولا يؤمن به إيمانًا حقًا إلا من آمن بهذه النزعة الروحية، وكان لديه استعداد لفهمها أو لديه أثارة منها.
ومن ناحية أخرى، هذا السوبرمان بهذه النزعة الروحية عرضة لأن يقلَّد تقليدًا مزيفًا عن طريق الشعوذة، كما قص علينا من سحرة فرعون، وكما روى التاريخ من ادعاء مسيلمة، ونحوهم في التاريخ كثير في كل الأمم وفي كل الأديان. والتفرقة بين الصحيح والمزيف في هذا الباب من أعقد الأمور، لأن المزيفين يستغلون جهل الناس بالمجهول فيكثرون من ادعائهم، ويتقنون دعاويهم وتقليدهم.
هذا العنصر من الروحانية ومن الاتصال بالمجهول، أو كما يسميه المسلمون الاتصال بالغيب، يجعل فهمنا للسوبرمان من أعقد الأمول وأصعبها، كما أن ما لحق بالفكرة من التزييف جعلت الفلاسفة المحدثين من الغربيين يعتبرون هذه الأفكار ضربًا من السخف والتخريف، ولكن ظهرت بوادر فلسفة تؤمن بها وتدرسها، وترى ما ورد في الأديان من المعجزات ورموزًا لمعان نفسية.
ثم يجب ألا ننظر إلى السوبرمان على أنه فرد ترقى حتى صار إنسانًا كاملًا؛ إنما يجب أن ننظر إليه من حيث هو خلاصة للإنسانية، ومظهر لوجوهها المختلفة، هو كثمرة الشجرة، نتيجة لكل شيء فيها، من جذورها وساقها وأغصانها وزهورها.
هو بطبيعة تكوينه وبطبيعة نزعاته ينظر إلى الأشياء على غير ما ينظر الناس، قد أضيئت له الدنيا حين أظلمت أمام الناس، كأنما منح عينًا جديدة لها خاصية في النظر جديدة، أو كأنما عيناه قد منحتا من الخواص ما لم تمنحه عيون الناس.
قال بعض المفكرين: هب أن السوبرمان كما ذكرت، وأنه خلاصة حياتنا، فما قيمته لنا، وما نفعنا به، وما علاقتنا بوجوده؟ إننا على هذا الأساس لسنا إلا أرضًا ينبت فيها زهره، وطينًا يصاغ منه تمثاله، وفقراء ننظر إلى قصره البديع، وفي ظلام ننظر — عن بعد — إلى ضوئه المحيط به، نصرف حياتنا في جمع معلومات عن هذا العالم وشؤونه، ونرقى العلم في جميع نواحيه بعد الكد والعناء، ثم يأتي السوبرمان ويقول: إن علمكم ليس إلا ضلالًا وتافهًا وقليل القيمة، وأنه ينظر إلى العالم فيرى حقيقته بعينه الجديدة وملكاته الخاصة؛ ثم تأتون وتشايعونه على رأيه!
ولكن مع إقرارنا بصعوبة إدراكنا للسوبرمان وفهم حقيقته، فليس يعيش منفصلًا عنا، وعلاقتنا به علاقتنا بالشمس تسطع علينا، وبالنور يضيء ظلامنا بشرط أن يكون لنا عيون تنتفع بضوئه، وإذا عميت العيون فليس الذنب ذنب الضوء، وهو ليس يحتقر العلم وصنوف المعارف، بل يؤمن بها ويشجعها، ولكنه يرى أن الجانب العلمي وحده — مهما صح واتسع — ليس يكفي لتفسير هذا العالم، وأن العقل العلمي المنطقي على أحسن حالاته إنما يكفي في وضع تصميم بيت وبنائه، في تحصيل الغذاء ونحوه، في معرفة أن اثنين واثنين أربعة، ونحوها ومركباتها، في الأرض وجيولوجيتها وجغرافيتها ونحو ذلك، في المعلومات السطحية للظواهر الطبيعية والكيماوية، في كل ذلك يكون العقل المنطقي محقًا ومفيدًا، ولكن إذا تخطى هذه الدائرة المحدودة وأراد أن يحل المسائل الكبيرة من مشكلات هذا العالم: هل يسير العالم ويخبط في سيره خبط عشواء، أو هو سائر على نظام مرسوم؟ هل هو وحدة مترابطة متناغمة، أو هو مجموعة من الأشياء المختلفة غير المتناغمة وإن كانت متلاصقة؟ ما الحياة؟ هل هي عارض من عوارض المادة كإفراز المعدة، أو هي شيء وراء المادة؟ هل الإنسان حر الفكر مختار أو هو مجبور مقيد بإرادة فوقه؟ ما حقيقة هذا الكون، وهل للكون وجود أو هو من نسج حواسنا وعقلنا؟ هذه الأسئلة ومئات أمثالها حيّرت الإنسان قديمًا وحديثًا، وحاول أن يحلها بشتى الحلو فعجز، وبالعقل المنطقي وحده ففشل؛ فكان ذلك لا بد أن يكون «السوبرمان» مسلحًا أيضًا بأكثر من سلاح المنطق، ومزودًا بقوى للإدراك غير القوي العادية المألوفة، إن الحجرة يمكن رؤيتها من أوضاع مختلفة وأشكال مختلفة يختلف معها مقدار فهمنا لها. فكذلك نظر الناس إلى الحياة، بعضهم لا ينظر إليها إلا بحواسه، وبعضهم يضيف إلى الحواس عقله المنطقي، وبعضهم يضيف إلى ذلك كله ما منحه من قوة مدركة غير الحواس وغير المنطق، هي قوة الإلهام أو ما شئت فسمها، وهذا من أهم العناصر في «السوبرمان».
وسأتحدث عن بعض مميزات أخرى «للسوبرمان» في فرصة أخرى إن شاء الله.